الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعليه: فما يترتب على الإكراه موضوع، أي غير معتبر، والحديث يشمل الحكم الدنيوي والحكم الأُخروي.
النوع الثاني: ما يرخَّص فيه بالإكراه
من التصرفات الحسيّة:
أ- قول أو فعلُ ما ظاهره الكفر:
كأن يُجْري ألفاظ الكفر على لسانه، أو يسبّ النبي صلى الله عليه وسلم أو يسجد لصنم أو يعظّم ما يعظِّمه الكفّار تعظيم عبادة وتقديس، فمثل هذه الأقوال أو الأفعال يرخَّص له الإقدام عليها - وقلبه مطمئن بالإيمان - بسبب الإكراه.
ودليل ذلك قوله تعالى: "مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه إلا مَن أُكره وقلبُهُ مطئمنُّ بالإيمان ولكن مَنْ شَرَح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم""النحل: 106".
وروى الحاكم عن محمد بن عمّار بن ياسر، عن أبيه رضى الله عنه قال: أخذ المشركون عمّار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما وراءك؟. قال: شرٌ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير. قال: "كيف تجد قلبك؟ ". قال: مطئمنٌّ بالإيمان. قال: "إن عادوا فعد" قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك: كتاب التفسير - تفسير سورة النحل - باب: حكاية اسارة عمار بن ياسر بيد الكفار: 2/ 357).
وإنما رُخّص بذلك ولم يُبَحْ لأن الكفر لا يحتمل الإباحة بحال، فالحُرمة قائمة، إلا أن المؤاخذة سقطت بسبب الإكراه، فأَثَرُ الرخصة في تغيّر حكم الفعل - أي ما يترتب عليه من المؤاخذة وغيرها - لا في تغيّر وصفه وهو الحرمة.
ولما كانت الحرمة قائمة، وكان التصرّف في هذا مرخّصاً فيه وليس مباحاً، كان الامتناع عن ذلك أفضل.
وإن أدى امتناع المستكرَه عنها الى قتله أُثيب ثواب المجاهد في سبيل الله تعالى، لأنه جاد بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، وإظهاراً لإعزاز دينه.
وقد دلّ على ذلك:
? ما روى البخاري عن خباب بن الأرتّ رضى الله عنه قال:
شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردة له في ظل الكعبة - قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيشقّ باثنين، وما يصدُّه ذلك عن دينه. ويمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم او عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله لَيَتَّمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". (اخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة، رقم: 3416).
ووجه الاستدلال بالحديث: أنه صلى الله عليه وسلم وصف الأُمم السالفة بالصبر على المكروه في ذات الله تعالى حتى أصابهم ما أصابهم، وأنهم لم يتظاهروا بالكفر ليدفعوا عن أنفسهم العذاب والقتل، وصفهم بذلك على سبيل المدح لهم وبيان فضيلتهم ومقامهم عند الله عز وجل، فدلّ ذلك على أن الصبر والاحتمال أفضل من التخلّص بالرخصة.
? وروى ان مسيلمة الكذّاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: وأنت ايضاً، فخلّى سبيله وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنا أصم، لا أسمع، فأعاد عليه ثلاث مرات، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له".
? وكذلك ما ثبت من قصة خبيب رضى الله عنه، وأنه حين أخذه الكفار وباعوه لأهل مكة، أخذوا يعذِّبونه ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء فلم يفعل، فقتلوه، فبلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر صبره وعدم ترخّصه، بل روى أنه قال فيه:"هو سيد الشهداء وهو رفيقي في الجنة".
والذي سبق فيما يتعلق بأحكام الآخرة.
وأما ما يتعلق بأحكام الدنيا من أثر الإكراه على الكفر: فإن المستكرَه على ذلك لا يُحكم بكفره، ولا يُعامل معاملة المرتد. قال الشافعي رحمه الله تعالى في معرض الكلام عن قوله تعالى:"إلاِّ مَن أُكره .. ": وللكفر أحكام، كفِراق الزوجة، وأن يُقتل الكافر ويُغنم ماله، فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس ما هو أصغر منه وما يكون حكمه بثبته عليه.
الإكراه على الإسلام:
إذا أُكره إنسان على الإسلام فأسلم اعتُبر إسلامه صحيحاً، وعومل معاملة المسلمين، لأنه إكراه بحق، ولا سيما في المرتد والحربي، وإن احتمل الكفر في قلبه، ترجيحاً لجانب الإسلام، لأن في ذلك إعلاءً للدين الحق، وإعلاء الدين الحق واجب.
ب-إتلاف مال المسلم أو النَّيْل من عرضه:
فلو أُكره على إتلاف مال المسلم رُخص له بذلك، ولا يأثم بالإقدام عليه، لأن مال غيره يرخص له باستهلاكه حال الاضطرار إليه، لدفع الهلاك عند شدة الجوع ونحوه، فكذلك حال الإكراه لأنه نوع اضطرار.
وكذلك لو أُكره على شتم المسلم والطعن في عرضه وما إلى ذلك.
ولو امتنع المستكرَه على الإتلاف أو الطعن كان أفضل، وإذا أصابه أذى في سبيل ذلك أُثيب عليه، لأن حُرمة مال المسلم وعرضه ثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم:"كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". (اخرجه مسلم في البرّ والصلة والآداب،