الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحكام الكفالة بالمال
الكفالة بالمال هي ما يسمى بالضمان، وهي: أن يلتزم إنسان أداء ما في ذمة من مال إذا لم يؤدّه المدين. وهي أحد نوعي الكفالة كما سبق.
وهي مشروعة كما علمنا، لما ذكرنا من الأدلة عند الكلام عن مشروعية الكفالة العامة، فيدخل فيها الضمان دخولاً أولياً، وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعيتها.
ولقد علمت الصيغة التي تنعقد بها هذه الكفالة، كما علمت أركانها وشروطها فيما سبق، وإليك الآن بعض أحكامها:
1 -
مطالبة الكفيل والمكفول عنه:
إذا ضمن شخص ما في ذمة غيره ثبت لصاحب هذا الدَّيْن حق مطالبته به، ولا يعني ذلك براءة ذمة المدين الأصيل المكفول عنه، بل لصاحب الحق مطالبته أيضاً، لأن ذمته هي المشغولة بالدَّيْن أصلاً، وانضم إليها انشغال ذمة الضامن به، ولأن الضمان وثيقة للدَّيْن كالرهن والصك، فلا يتحول من ذمّة المدين الى الوثيقة إذا وجدت.
ولهذا لو شرط في عقد الضمان أن يبرأ الأصيل من الدين لم يصحّ الضمان، لأن الضمان توثيق للدَّيْن، وهذا الشرط ينافيه، لأن التوثيق يحصل بضمّ ذمّة أُخرى إلى ذمّة الأصيل، لا ببراءتها.
وقد دلّ على هذا ما جاء في حديث أبي قتادة رضى الله عنه: فتحملهما أبو قتادة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيوم:"ما فعل الديناران؟ " قال: إنما مات
امس، ثم أعاد عليه بالغد، قال: قد قضيته. قال: "الآن بردت عليه جلده". (اخرجه احمد في مسنده: 3/ 330 من حديث جابر رضى الله عنه).
فقوله: "الآن بردت عليه جلده" يدل على ان الدَّيْن لم يتحوّل عن المدين ولم تبرأ منه ذمته بمجرد الضمان، ولو كان كذلك لبردت عليه جلده من حين الضمان. وإذا لم تبرأ ذمة المدين الأصيل من الدين فلصاحبه مطالبته به، كما يطالب الضامن لأنه التزم ذلك، فإذا حضر الكفيل الضامن والأصيل المضمون عنه، وكلاهما موسر، فلصاحب الدَّيْن أن يطلبه ويأخذه من أيّهما شاء، لأن الأصيل الدَّيْن ثابت في ذمته أصلاً، وأما الكفيل: فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم". والزعيم هو الكفيل، فيغرم الدين ويطالب به اذا لم يؤدّه المدين:(الحديث اخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في ان العارية مؤداة، رقم: 1265 وغيره).
2 -
براءة الكفيل ببراءة الأصيل:
إذا أبرأ صاحب الحق المدين الأصيل من الدَّيْن برئ الضامن من المطالبة به، لأنه تبع للأصيل، وضمانه توثيق للدَّيْن، فإذا سقط الدَّيْن بالإبراء فقد سقطت الوثيقة.
وأما إذا أبرأ صاحب الحق الكفيل من ضمانه، أو من الدَّيْن والمطالبة به، فإنه لا تبرأ بذلك ذمة المدين الأصيل، وإنما تبرأ ذمة الضاضمن وحده. لأن إبراء الكفيل إسقاط لوثيقة الدين من غير قبض له، فلا يسقط الدَّيْن بإسقاط الوثيقة، كتمزيق الصك وفسخ الرهن.
ويتعلق بهذا ما إذا ضمن الضامن ضامن آخر، وهو ضمان صحيح، لأن الدين المضمون لازم وثابت في ذمته، فصحّ ضمانه، وعليه: يعتبر الدين ثابتاً في ذمم ثلاثة: الأصيل والضامن الأول والضامن الثاني، ولصاحب الحق أن يطالب أيّهم شاء.
فإذا أبرأ الاصيل برئت ذمم الجميع، وإذا أبرأ الضامن الأول برئت ذمة الضامن الثاني أيضاً معها ولم تبرأ ذمة الأصيل، وإذا أبرأ الضامن الثاني برئ وحده، ولم تبرأ ذمة الضامن الأول ولا ذمّة الأصيل.
3 -
مطالبة الكفيل الاصيل بتخليصه:
إذا طالب الدائنُ صاحب الحق الكفيلَ بالدَّيْن، فهل للكفيل أن يطالب الأصيل المكفول بأداء الدين، ليخلصه من المطالبة؟ يُنظر:
فإن كان الضمان بإذن الاصيل المضمون عنه كان للكفيل الحق في أن يطالبه بتخليصه من المطالبة بأداء الدَّيْن، لأنه لزمته المطالبة والأداء عنه بإذنه وأمره، فكان له حق مطالبته بتبرئة ذمته.
وإن كان الضمان بغير إذن الأصيل لم يكن للضامن الكفيل حق مطالبته بذلك، لأنه لم يلتزم ما غرِّم به بإذنه، فلا يلزمه تبرئته وتخليصه منه.
هذا إذا طالب صاحب الحق الكفيل بالدَّيْن، فأما إذا لم يطالبه به: فالأصح أنه ليس له مطالبة الاصيل بتخليصه من التزاه طالما أنه لم يطالب بذلك.
4 -
حلول الدَّيْن المؤجل بالموت:
إذا مات الكفيل أو المكفول عنه حلّ الدَّيْن المؤجّل في حقه، وبقى الأجل في حق الطرف الثاني، لأن الموت مبطل للأجل، وقد وجد في حق أحدهما ولم يوجد في حق الآخر، والأجل منفعة له فلا يبطل في حق.
فإن كان المتوفّي هو الأصيل: فللضامن الكفيل أن يطالب صاحب الدَّيْن بأخذ الدَّيْن من تَرِكَته قبل أن يقتسمها الورثة، أو إبرائه من الكفالة، لأن التَرِكَة قد تذهب إلى أن يحين الأجل، فيغرّم هو.
وإن كان الميت هو الكفيل، وأخذ صاحب الدَّيْن دينه من تَركَته، فليس لورثته الرجوع على المكفول عنه قبل حلول أجل الدَّيْن، لأن الأجل باقٍ في حقه.
5 -
رجوع الكفيل على المكفول بما أدى عنه:
إذا أدّى المكفول عنه الدَّيْن برئت ذمته منه، كما تبرأ ذمة الكفيل، لأن ذمته شُغلت وثيقة بحق صاحب الدَّيْن، فانتهت الوثيقة بقبض الحق.
وكذلك تبرأ ذمتهما من حق المكفول له صاحب الدَّيْن إذا قضاه الكفيل، لأن صاحب الحق قد استوفاه من الوثيقة وهو الكفيل، فبرئت ذمة مَن عليه الحق وهو الأصيل، وتبرأ ذمة الكفيل تبعاً له، كما علمت.
وفي هذه الحالة: هل يرجع الكفيل على الاصيل بماأداه عنه ام لا؟ يُنظر:
أ- فإن كان الضمان والأداء بإذن المضمون عنه رجع الكفيل عليه، لأنه ضمن وغرم بإذنه.
ب- وإن كان الضمان بإذن من المضمون عنه، والأداء بغير إذنه: فالأصح - ايضاً - أنه يرجع عليه بما أدّاه عنه، لأن الضمان سبب الأداء، وقد أذن فيه.
ج- وإن كان الضمان والأداء بغير إذن المضمون عنه لم يرجع الكفيل عليه بشئ مما أدّاه عنه، لأنه قضى دَيْن غيره بغير إذنه، فهو متبرِّع، والمتبرِّع لا يرجع مبما تبرّع به.
د- وإن كان الضمان بغير إذن من المضمون عنه، وكان الأداء بإذن منه: فالأصح أنه لا يرجع الكفيل على الأصيل بما أدّى عنه، لأن سبب وجوب الأداء هو الضمان، وهو لم يأذن فيه، فكان في معنى المتبرّع بوفاء دَيْن غيره.
وفي حال الرجوع على المكفول عنه، فبماذا يرجع عليه؟
لا شك أنه لو أدى عنه الدَّيْن الذي كان في ذمته بنفس صفته فإنه يرجع به عليه، لأنه هو الذي برئت به ذمّة المكفول عنه، وهو الذي غرمه الكفيل في نفس الوقت.
وإذا أدّى عنه غير ما ثبت في ذمته: فالأصح أنه يرجع عليه بما أدّاه إذا كان أقل من الدَّيْن، لأنه هو الذي غرمه وبذله، فإن كان أكثر من الدَّيْن رجع بمقدار الدَّيْن، لأنه هو الذي كان ثابتاً في ذمة الأصيل، وبرئت منه بالأداء عنه، فلو كان له في ذمته ألف صحيحة مثلاً، فأدى عنها ألفاً معيبة، رجع بالمعيبة، ولو صالح عن الألف بخمسمائة رجع بخمسمائة فقط.
ولو صالح عن الألف بسلعة تساوي ثمانمائة رجع بها أيضاً.
ولو كان الشئ الذي صالح عليه يساوي الفاً ومائة - مثلاً - رجع بالألف وحده.
6 -
دعوى الضامن قضاء الدَّيْن:
إذا ادّعى الكفيل الضامن قضاء الدَّيْن عن الأصيل، فإما أن يقرّ بذلك المكفول له أو ينكر ذلك:
فإن أقرّ المكفول له بذلك رجع الضامن بما أدّاه على الأصيل المكفول عنه، لتبرئته لذمته وسقوط المطالبة عنه بإقرار صاحب الحق، ولو أنكر المضمون عنه ذلك لم يُلتفت إلى إنكاره، لأن ما في ذمته حق للمضمون له، فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق الذي كان له قد صار حقاً للضامن، فيقبل إقراره لكونه في حق نفسه.
وإن أنكر المكفول له ذلك ينظر:
- فإن كان للضامن بيّنة على الأداء قضى بها، ورجع على المضمون عنه بما أدّاه.
- وإن لم يكن له بيِّنة على الأداء فالقول قول المكفول له بيمينه، لأنه منكر للقبض، والأصل عدمه، والكفيل مقصِّر بترك الإشهاد، فإذا حلف كان له أن يطالب مَن شاء من الضامن أو الأصيل، لأن حقه ثابت في ذمّتهما، فإذا طالب الكفيل وقضاه الدَّيْن يُنظر:
- فإن كان قضاه في غَيْبة المكفول عنه: فلا رجوع له على الأصيل قولاً واحداً إنْ كذّبه في دعواه، لأنه منكر للأداء، والأصل عدمه، وكذلك إنْ صدّقه، فلا رجوع له عليه في الأصح، لأنه لم ينتفع بأدائه عنه، ولم تسقط المطالبة، فلا رجوع عليه طالما أنه لم يُبرئ ذمته، لأنه هو المقصّر في عدم إشهاده على القضاء.
- وإن كان قضاءه في حضور المكفول عنه رجع عليه في الأصح، وإن كان قضاء الكفيل لم يبرئ ذمته من الدَّيْن ولم يسقط المطالبة عنه، لأنه في هذه الحالة هو المقصِّر في ترك التحفّظ لحقه وطلب الإشهاد على الدفع، فكان عليه ان يحتاط لنفسه، فهو المقصّر إذن دون الضامن.