الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شركة العِنان
علمنا مما سبق ان شركة العِنان هي النوع المشروع من الشركة باتفاق الفقهاء، وهي - في الحقيقة - النوع الشائع والمتعارف لدى الناس في الشركات، وهو الأصل فيها، لما فيه من معنى الاشتراك فعلا، إذ إن مال الشركة في الأصل مشترك بين الشركاء، وهذا هو الأصل في الشركة، سواء اكان الاشتراك بالعمل ام لم يكن، وان كان الغالب هو الاشتراك به ايضاً.
وقد علمت أنها اتفاق اثنين فأكثر على ان يشتركوا بمال من الجميع، يتاجرون به، على أن يكون الربح لهم.
وسمِّيت شركة عِنان تشبيهاً لكلٍّ من الشركاء براكب الدابة، الذي يمسك بإحدى يديه عنانها ويعمل بالأُخرى، وذلك أن كل شريك يجعل للشركاء غيره أمر التصرّف - الذي يشبه بالعنان - في بعض ماله، بينما يستقل هو بالعمل في بعضه الآخر، او لأن كلا من الشركاء يملك بها ان يتصرف بمال شريكه في الشركة كما يملك الراكب التصرّف بالدابة بواسطة عنانها.
شروطها:
يُشترط لصحة هذا النوع من الشركة شروط هي:
1 -
الصيغة: وهي لفظ صريح من كلٍّ من الشركاء للآخرين، يدل على الإذن في التصرف بالبيع والشراء ونحوهما من متعلقات التجارة، ويكفي في ذلك ما يدلّ على هذا المعنى ويشعر به، مما تعارفه التجار فيما بينهم من ألفاظ.
والأصح أنه لا يكفي الاقتصار على قولهم اشتركنا، لاحتمال ان يكون هذا إخبار عمّا حصل لهما من الشركة في المال كشركة الأملاك، كما لو ورثا مالا من مورِّث واحد، فلا يلزم من ذلك جواز التصرّف.
وقيل يكفي ذلك، لدلالته على الشركة وفهم المقصود منه عرفا.
2 -
أهلية الوكالة في الشركاء: بأن يكون كل منهما عاقلاً بالغاً غير محجوز عليه التصرّف في ماله، لأن كل واحد من الشركاء يتصرف بمال الشركة: أصالة في ماله ووكالة - أي بالإذن - في مال غيره، فكل منهم وكيل وموكل.
3 -
أن يكون مال الشركة مثليا: بحيث إذا خلطت الأموال لا يتميز بعضها عن بعض، كالعملات المتعارفة اليوم، وكالموزونات والمكيلات اذا كان مال كل من الشركاء من جنس مال الآخرين، كالبرّ والشعير والحديد اذا كانت الأموال على صفة واحدة.
فإذا كان رأس مال الشركة - او مال احد الشركاء - عروضاً، أي اعياناً متميزة غير مثلية لم تصحّ الشركة، لأنها لا يمكن خلطها بحيث لا تتميز، وقد يتلف مال أحدهم او ينقص فلا يمكن ان يعوض عنه من مال الآخرين.
وطريقة تصحيح الشركة في حال كون راس مالها عروضا: ان يبيع كل منهم جزءا من عروضه للآخر بجزء من عروضه، فيصيرا شركاء في العروض كلهم، فيأذن كل منهم للآخر بالتصرّف، فاذا باعها كان الثمن بينهما.
وكذلك اذا كان مال أحدهما نقداً ومال الآخر عروضا: باع صاحب العروض جزءاً منها بجزء من نقد الآخر واشتركا في الجميع.
وعلى هذا لو ملكا عرضاً - إرثاً أو شراءً أو غيرهما - واذن كلٌ منهما للآخر بالتصرف في نصيبه تجارة تمت الشركة بينهما.
4 -
خلط اموال الشركة: بعدما يتفق الشركاء على الشركة، لا بدّ وان يحضروا الأموال التي تصح فيها الشركة على النحو الذي سبق، وأن تخلط هذه الأموال - إن لم تكن مشتركة - بحيث لا يتميز بعضها عن بعض، ثم يجري عقد الشركة بعد ذلك، فإن جرى العقد قبل خلط المال لم تصح الشركة ولو خُطلت
الأموال في مجلس العقد بعد اجرائه، ولابدّ من إعادة التعاقد بعد الخلط لتصحّ الشركة.
وهذا إذا أخرج كلٌ من الشركاء مالاً وحصل العقد على ذلك، فإذا ملك الشركاء قبل عقد الشركة مالاً بالإشتراك بينهم - إرثا او شراء او هبة او نحو ذلك - ثم حصل عقد الشركة فإنه يصح، ولا يشترط اقتسامهم له ثم خلطه، لأن المقصود من الخلط - وهو عدم تمييز مال كلٍّ منهم على حدة - حاصل.
5 -
أن يكون الربح والخسران على قدر المال: لأن الربح نماء المال، وكذلك الخسارة نقصان له بمقابل الربح. فلا يصح ان يشرط لأحد الشركاء زيادة في الربح عن قدر نسبة ماله من رأس المال، كما لا يصح ان يشرط عليه زيادة في الخسارة أو نقص عن ذلك، ولا يشترط التساوي في المال لكل الشركاء، فلو اشترك أحدهم بالربع والآخر بالنصف والثالث بالربع صح، وكان الربح ربعه للأول ونصفه للثاني وربعه للثالث، وكذلك توزع الخسارة، سواء أشترك الجميع بالعمل أم لم يشترك بعضهم، وسواء تساوَوْا في العمل حين الاشتراك أم اختلفوا.
فإن شُرِط تفاوت في الخسارة كانت الشركة باطلة باتفاق الفقهاء، وان اشترط تفاوت في الربح عن قدر رأس المال لم تصحّ الشركة ايضاً، فلو حصل البيع والشراء من الشركاء نفذت تصرفاتهم لوجود الإذن منهم بالتصرّف، وكان لكل منهم الربح بقدر نسبة رأس ماله، ويرجع على الآخرين بأجرة المثل.
وأجاز الحنفية والحنابلة رحمهم الله تعالى ان يكون للشريك ربح اكثر من نسبة ماله من رأس مال الشركة، وذلك في الصور التالية:
1 -
أن تتساوى اموال الشركاء، كأن يكون من كلٍّ منهم الثلث مثلا، ويكونوا جميعا قائمين بالعمل، فيصحّ أن يشرط لأحدهم زيادة في الربح عن نسبة رأس ماله، لأنه قد يكون مهارة في عمله من غيره، فتكون الزيادة مقابل عمله ومهارته.
2 -
أن يتساوى الشركاء في المال ويكون العمل على بعضهم، ويكون للقائمين بالعمل زيادة في نسبة الربح عن نسبة أموالهم.
3 -
ان يتفاوت الشركاء في نسبة الاشتراك بالمال، كأن يكون من احدهم الثلث ومن الآخر الثلثان مثلا، ويشتركا في العمل، جاز ان يكون لأحدهما زيادة في نسبة الربح عن نسبة ماله، كأن يتساويا في الربح او يزيد احدهما عن الآخر، لاحتمال ان يكون عمله اكثر ومهارته افضل، فتكون الزيادة مقابل ذلك.
4 -
ان يتفاوتا في رأس المال كما سبق في الصورة قبلها، ويكون العمل على مَن كان رأس ماله أقل، على ان يتساويا في الربح او تزيد نسبة ربح من كان قائما في العمل، فيصح ايضا، وتكون الزيادة مقابل عمله.
وينبغي ان ينتبه الى ان الزيادة تصحّ لمن صحّت له اذا كانت في ضمن نسبة الربح المخصَّصة له، كأن يكون نصيبه كله نسبة مئوية من الربح العام، خمسين بالمائة مثلا او ستين او اكثر او اقلّ، أما أن يعطي نسبة مستقلة من الربح مقابل عمله، او ان يعطي قدراً معيناً - كألف مثلا كل شهر ونحو ذلك - فلا يصح باتفاق الفقهاء.
وعلى هذا يتبين لنا فساد الكثير من عقود الشركات التي يقوم بها الناس، والتي يخصِّصون فيها لبعض الشركاء - سواء أكان مستقلاً بالعمل أم شريكا مع غيره من الشركاء - راتباً شهرياً مقطوعاً من الشركة غير نصيبه من الربح، او نسبة متميزة من الربح، كالربع - مثلا - او النصف مقابل عمله، ثم يقاسم بعد ذلك الشركاء فيما تبقى بنسبة رأس ماله. وليحذر هؤلاء المخالفون من عقاب الله تعالى، وليعلموا ان الكسب من عقد فاسد كسب خبيث لا يبارك الله تعالى فيه.
هذا ولا نرى مانعا من العمل بما قاله الحنفية والحنابلة رحمهم الله تعالى، لاسيما في هذه الأزمان التي اصبح الناس لا يرضون فيها بالقليل، ولا يقنعون بربح يتوافق وما آتاهم الله تعالى من مال، وان كان الأورع ان يكون العمل متفقا عليه لدى فقهاء الأمة، وهو الأحوط في دين الله عز وجل.