الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حركة أحمد خان:
تذكر مجلة "العروة الوثقى" -للسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وقد صدر العدد الأول منها في 11 مارس سنة 1884 وصدر العدد الأخير "وهو الثامن عشر" في 17 أكتوبر سنة 1884- في أحد
أعدادها وصفا لهدف الحركة التقدمية التي قام بها السيد أحمد خان1 في الهند فتقول:
"
…
لما استقرت أقدامهم -الإنجليز- في الهند وألقوا به عصاهم، ومحيت آثار السلطنة التيمورية "نسبة إلى تيمورلنك مؤسس دولة المغول في القرن السادس عشر الميلادي"، نظروا إلى البلاد نظرة ثانية فوجدوا فيها خمسين مليونا من المسلمين، كل واحد منهم مجروح الفؤاد بزوال ملكهم العظيم، وهم يتصلون بملايين كثيرة من المسلمين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وأحسوا أن المسلمين ما داموا على دينهم، وما دام القرآن يتلى بينهم، فمحال أن يخلصوا في الخضوع لسلطة أجنبي عنهم، خصوصا إن كان ذلك الأجنبي خطف الملك منهم بالخديعة أو المكر تحت ستار المحبة والصداقة، فطفقوا -الإنجليز- يفتشون بكل وسيلة لتوهين الاعتقاد الإسلامي، وحملوا القسس والرؤساء الروحانيين على كتابة الكتب ونشر الرسائل، محشوة بالطعن في الديانة الإسلامية، مفعمة بالشتائم والسباب لصاحب الشريعة -برأه الله مما قالوا- فأتوا من هذا العمل الشنيع ما تنفر منه الطباع، ولا يمكن معه لذي غيرة أن يقيم على أرض تنتشر فيها تلك الكتب، وأن يسكن تحت سماء تشرق شمسها على مرتكبي ذلك الإفك العظيم!!
"وما قصدهم بذلك إلا توهين عقائد المسلمين: وحملهم على التدين بمذهب الإنكليز! هذا من جهة، ومن جهة أخرى أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم من كل وجه فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة، وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس، ونفوا علماءهم وعظمائهم إلى جزيرة "أندومان" رجاء أن تفيدهم هذه الوسيلة -إن لم تفدهم الأولى- في رد المسلمين عن دينهم بإسقاطهم في أغوار الجهل بعقائدهم حتى يذهلوا عما فرضه الله عليهم!
"فلما خاب أمل أولائك الحكام الجائرين في الوسيلة الأولى، وطال عليهم الأمد في الاستفادة من الثانية، نزعوا إلى تدبير آخر في إزالة الدين الإسلامي من أرض الهند أو إضعافه؛ لأنهم لا يخافون إلا من المسلمين
1 17 أكتوبر سنة 1817- 1898م. وله مؤلفات "حياة محمد" سنة 1870، و"تفسير القرآن" 1880 - 1895 إلى سورة الكهف، وتفسير الإنجيل وقد سماه "تبيان الكلام" سنة 1862.
أصحاب ذلك الملك المنهوب والحق المسلوب! فاتفق أن رجلا اسمه "أحمد خان بهادور" -لقب تعظيم في الهند -كان حوم حول الإنكليز لينال فائدة من لديهم، فعرض نفسه عليهم وخطا بعض خطوات لخلع دينه، والتدين بالمذهب الإنجليزي، وبدأ الأمر بكتابة كتاب1 يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين لينال بذلك الزلفى عندهم! ثم راجع نفسه فرأى أن الإنجليز لن يرضوا عنه حتى يقول: إني نصراني، وأن هذا العمل الحقير لا يؤتى عليه أجرا جزيلا، خصوصا وقد أتى بمثل كتابه ألوف من القسس والبطارقة، وما أمكنهم أن يحولوا من المسلمين عن الدين أشخاصًا معدودة! فأخذ طريقا آخر في خدمة حكامه الإنجليز، بتفريق كلمة المسلمين وتبديد شملهم، فظهر بمظهر الطبيعيين الدهريين ونادى بأن لا وجود إلا للطبيعة العمياء، وليس لهذا الكون إله حكيم "إن هذا إلا الضلال المبين! " وأن جميع الأنبياء كانوا طبيعيين لا يعتقدون بالإله الذي جاءت به الشرائع. "نعوذ الله! " ولقب نفسه بالطبيعي، وأخذ يغري أبناء الأغنياء من الشبان الطائشين، فمال إليه أشخاص منهم، تملصا من الشرع الشريف وسعيا خلف الشهوات! فراق الحكام الإنجليز مشربه، ورأوا فيه خير وسيلة لإفساد قلوب المسلمين، فأخذوا في تعزيزه وتكريمه وساعدوه على بناء مدرسة في "عليكره" وسموها مدرسة "المحمديين" لتكون فخا يصيدون به أبناء المؤمنين ليربوهم على أفكار هذا الرجل "أحمد خان بهادور".
وكتب أحمد خان" تفسيرا2 على القرآن الكريم، فحرف الكلم عن مواضعه وبدل ما أنزل الله!
"وأنشأ جريدة باسم "تهذيب الأخلاق" لا ينشر فيها إلا ما يضلل عقول المسلمين ويوقع الشقاق بينهم، ويلقي العداوة بين مسلمي الهند وغيرهم -خصوصا بينهم وبين العثمانيين- وجهر بالدعوة لخلع الأديان كافة، لكن لا يدعو إلا المسلمين!! ونادى: الطبيعة الطبيعة، ليوسوس للناس بأن أوروبا ما تقدمت في المدنية وما ارتفعت في العلم والصنعة
1 اسمه: تبيان الكلام" أخرجه في سنة 1862، وفسر فيه الإنجيل.
2 عمل في هذا التفسير من سنة 1880 إلى 1895م وانتهى فيه إلى سورة الكهف.
وما فاقت في القوة والاقتدار، إلا برفض الأديان، والرجوع إلى الغرض المقصود من كل دين -على زعمه- وهو: بيان مسالك الطبيعة
…
قد افترى على الله كذبًا!
"ولما كنا بحيال الدين في الهند -في سنة 1879- أحسسنا من بعض ضعاف العقول اغترار بترهات الرجل وتلامذته، فكتبنا رسالة في بيان مذهبهم الفاسد وما ينشأ عنه من المفاسد، وأثبتنا أن الدين أساس المدنية وقوام العمران، وطبعت رسالتنا في اللغتين الهندية والفارسية "اسمها: الرد على الدهريين".
"هؤلاء الدهريين ليسوا كالدهريين في أوربا، فإن من ترك الدين في البلاد الغربية تبقى عنده محبة أوطانه، ولا تنقص حميته لحفظ بلاده من عاديات الأجانب، ويفدي مصلحتها بروحه. أما أحمد خان وأصحابه، فإنهم كما يدعون الناس لنبذ الدين، يهونون عليهم مصالح أوطانهم ويسهلون على النفوس تحكم الأجنبي فيها، ويجتهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية
…
لا لأجر جزيل ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دنيء ونفع زهيد، وهكذا يمتاز دهري الشرق عن دهري الغرب: بالخسة والدناءة، بعد الكفر والزندقة!! "1.
ويقول السيد جمال الدين الأفغاني في عدد آخر من أعداد هذه المجلة2:
"
…
من هذا -من أسباب السياسة الأوروبية -لما سلك الإنجليز في الهند لما أحسوا بخيال السلطنة يطوف على أفكار المسلمين منهم، لقرب عهدها بهم، وفي دينهم ما يبعثهم على الحركة إلى استرداد ما سلب منهم، وأرشدهم البحث في طبائع الملل إلى أن حياة المسلمين قائمة على الوصلة الدينية، وما دام الاعتقاد المحمدي والعصبية الملية سائدة فيهم فلا تؤمن بعثتهم إلى طلب حقوقهم، فاستهووا طائفة ممن يتسمون بسمة الإسلام ويلبسون لباس المسلمين؛ وفي صدورهم غل ونفاق وفي قلوبهم زيغ وزندقة، وهم المعرفون في البلاد الهندية "بالدهريين والطبيعيين"! فاتخذهم الإنجليز أعوانا لهم
1 "العروة الوثقى" ص572-575.
2 ص 96.
على إفساد عقائد المسلمين، وتوهين علائق التعصب الديني ليطفئوا بذلك نار حميتهم، ويبددوا جمعهم ويمزقوا شملهم، وساعدوا تلك الطائفة على إنشاء مدرسة عليكرة، ونشر جريدة لبث هذه الأباطيل بين الهنديين، حتى يعم الضعف في العقائد، وتهن الصلات بين المسلمين فيستريح الإنجليز في التسلط عليهم
…
".
فحركة السيد أحمد خان، كانت تقوم على الافتنان بالعلم الطبيعي والحضارة الغربية المادية، كما يفتتن في عصرنا الحاضر بعض المفكرين بما يمسى "العلم" Science" وبالمركبات الحضارية التي قامت عليه. والافتتان بالعلم الطبيعي أو بالطبيعة كما يقال يؤدي إلى خفة وزن القيم الروحية والمثالية، وهي القيم التي تقوم عليها رسالة الأديان السماوية التي يمثلها الإسلام أوضح تمثيل، وقد يصير الافتتان بهذا العلم الطبيعي إلى إنكار كل قيمة أخرى مما لا يشاهد في الطبيعة ويدرك بالحس الإنساني. ومن هنا ربط السيد جمال الدين الأفغاني بين إلحاد السيد أحمد خان ومذهبه الدهري أو الطبيعي، مع بقاء انتسابه إلى الإسلام، ونعته بالإلحاد
…
رغم ما كان يكرره "السيد أحمد خان" من القول بأنه يدافع عن الإسلام، وأنه يبغي أن يوجد طريقا للمسلم المعاصر، يوفق فيه بين إسلامه وتقبله الحياة العصرية التي قامت إثر نهضة العلم الطبيعي!!
وقد نهج السيد أحمد خان في تفسيره القرآن الكريم، على تطبيق آياته على أساس طبيعي، مما يناقض تماما القول بالمعجزات وخوارق العادات، ولهذا جعل "النبوة" غاية تحصل وتكتسب عن طريق الرياضة النفسية، فهي غاية إنسانية طبيعية، وطريقها طريق إنساني غير خارق للعادة! ولكنه مع ذلك يقر ختم الرسالة الإلهية ببعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وفي شرحه لآيات القتال، أضعف من فرضية "الجهاد" في الوقت الحاضر. كما أنه في الآيات الأخرى الخاصة بـ"أهل الكتاب" عبر في غير لبس عن توهين الفجوة بين أهل الكتاب من جانب والمسلمين من جانب آخر!! وطلب التعاون بين المسلمين والغربيين، ودعا إلى ما أسماه "إنسانية الأديان" أي: المعنى الإنساني العام الذي تدعو الأديان السماوية إلى اعتباره وحفظه! وهو ما يشبه اليوم فكرة "العالمية" التي تتبناها اليهودية الرأسمالية والشيوعية الدولية؛ وقد كانت من قبل تلقب بالفكرة "الماسونية"! وفي هذه الفكرة تنمحي كل الفوارق بين الأوطان والقوميات والأديان والمذاهب!!