الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر
…
العالم الإسلام في نظر الغرب المستعمر:
نشرت جريدة "المؤيد" في تمام القرن التاسع عشر "1317هـ" ترجمة لمقال كتبه "هانوتو" المستشرق الفرنسي ومستشار وزارة الاستعمار الفرنسية، يصف فيه المسلمين وعقيدتهم، ويضح المقترحات الضرورية في نظره لتوجيه سياسة فرنسا في مستعمراتها الإفريقية الإسلامية تحت العنوان التالي:
"قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية".
وكان مما جاء في هذا المقال:
"اخترق المسلمون أبناء آسياء شمال القارة الإفريقية بسرعة لا تجارى، حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدن البيزنطيين "يونان الشرق" تم تراموا بها على أوروبا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدينة يرجع أصلها إلى آسياء بل أقرب في الوصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم، ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبتت أقدامهم أحقابا متعاقبة، ولكن لا يزال الهلال ينتهي طرفاه: من جهة بمدينة القسطنطينة، ومن أخرى ببلدة فاس في المغرب الأقصى، معانقا بذلك الغرب كله.
"
…
في تلك البقعة الإفريقية التي أصبحت مقر ملك الإسلام، جاءت الدولة الفرنسية لمباغتته، جاء القديس لويس -الذي ينتمي إلى إسبانيا بوالدته- ليضرم نيران القتال في مصر وتونس، وتلاه لويس الرابع عشر في تهديده الإمارت الإفريقية الإسلامية، وعاود هذا الخاطر نابليون الأول، فلم يوفق إلى تحقيقه الفرنسيون إلا في القرن التاسع عشر، حيث أخذوا على دولة الإسلام التي كانت لا تني في متابعة الغارات على القارة الأوربية، فأصبحت الجزائر في أيديهم منذ سبعين عاما، وكذلك القطر التونسي منذ عشرين عام.
"
…
إذن فقد صارت فرنسا بكل مكان في صلة مع الإسلام، بل صارت في صدر الإسلام وكبده، حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطواتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين! وهي تدير اليوم شئونه وتجبي ضرائبه، وتحشد شبابه لخدمة الجندية، وتتخذ منهم عساكر يذبون عنها في مواقف الطعان ومواطن القتال".
"إن شعبا جمهوري المبادئ "شعب فرنسا" يبلغ عدد نفوسه أربعين مليونًا لا مرشد له إلا نفسه: لا عائلات ملوكية فيه يتنازعن الحكم، ولا رؤساء يتناولون الرياسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلد زمام إدارة شعب آخر لا يلبث أن ينمو حتى يساويه في العدد، وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمتبع لتقاليد وعادات غير التي نحنوا لها ونحترمها.. هو الشعب الإسلامي السامي الأصل، الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن ملح المدنية وروحها"!!.
"ليس الإسلام في داخلنا فقط، بل هو خارج عنا أيضا
…
قريب منا في "مراكش" تلك البلاد الخفية الأسرار، التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه، قريب منا في "طرابلس الغرب" التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر الأبيض المتوسط وبين الطوائف في باطن القارة الإفريقية، قريب منا في "مصر" حيث تصادمت معنا الدولة البريطانية فصادمنا إياها في الأقطار الهندية، وهو موجود وشائع في آسيا حيث لا يزال قائما في بيت المقدس وناشرا أعلامه على "مهد الإنسانية مقر المسيح"، ويحسب أنصاره وأشياعه في قارات الأرض القديمة بالملايين، وقد انبعثت منه شعبة في بلاد الصين فانتشر فيها انتشارًا هائلا، حتى ذهب البعض إلى القول بأن العشرين مليونا من المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون، فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء "لساكياموني" وليس هذا بالأمر الغريب، فإنه لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرًا في الآفاق.
"فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس له زمرا وأفواجا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه، ففي البقاع الإفريقية نرى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل البيضاء، يحملون إلى الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار قواعد الحياة ومبادئ السلوك في هذه الدنيا، كما أن أمثالهم في القارة الأسيوية ينشرون بين الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي، ثم
هو -أي: هذا الدين- قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها، أعني في الآستانة العلية، حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع الذي يحكم منه على البحار الشرقية ويفصل الدول الغربية، بعضها عن بعض شطرين.
"وخلاصة القول: إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة. بها يديرون أعمالهم ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي يبتغونها، وهذه الرابطة تشبه السبب المتين الذي تتصل به أشياء تتحرك بحركته وتسكن بسكونه، ومتى اقتربوا من الكعبة: من البيت الحرام، من زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس، من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة، من الركن الذي يقولون عنه إنه سرة العالم، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام اشتعلت جذوة الحمية الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفا.. وتقدمهم الإمام مستفتحا العبادة بقوله: "بسم الله" فيعم السكوت والسكون وينشران أجنحتهما على عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف. ويملأ الخشوع قلوبهم ثم يقولون بصوت واحد: "الله أكبر"، ثم تعنوا جباههم بعد ذلك قائلين "الله أكبر" بصوت خاشع يمثل معنى العبادة.
"لا تظنوا أن هذا الإسلام الخارجي الذي تجمعه جامعة فكر واحد، غريب عن إسلامنا "في تونس والجزائر" ولا علاقة له به؛ لأنه وإن كانت البلاد "الإسلامية" التي تحكمها شعوب مسيحية ليست في الحقيقة بـ"دار إسلام" وإنما هي "دار حرب"، فإنها لا تزال عزيزة وموقرة في قلب كل مسلم صحيح الإيمان! والغضب لا يزال يحوم حول قلوبهم كما تحوم الأُسد حول قفص جلست فيه صغارها، ربما كانت قضبان هذا القفص ليست متقاربة ولا بدرجة من المتانة تمنعها عن الدخول إليهم من بينها.
"لا يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح وعلى أفكار المقهورين الذي أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم يثبط هممهم. نعم ليس لمقاومتهم رؤساء يشدون هذه المقاومة. ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرياسة.. ففي مسألة علاقتنا مع الإسلام تجد المسألة الإسلامية والمسألة الدينية والمسائل
الداخلية والخارجية شديدة الاتصال بعضها ببعض، وهذا ما يجعل حلها صعبا ومتعذرًا -كما سنبينه"1!!
فـ"هانوتو" يعرض -في هذه المقدمة لمقاله الطويل -لثلاث عناصر رئيسية:
أولا: أن ما لدى المسلمين من معرفة وثقافة هي بعض بقايا تمدن البيزنطيين "يونان المشرق"
…
وليست ثقافة أصيلة ابتدعوها!
ثانيا: أن رسالة فرنسا بين المسلمين الذين خضعوا لسطوتها هي: "ملح المدنية وروحها"، التي يحملها شعب آري مسيحي جمهوري إلى شعب إسلامي سامي الأصل
…
له تقاليد وعادات تغاير عادات وتقاليد المسيحيين الآريين!
ثالثا: أن المسلمين الذين وقعوا تحت سيطرة النفوذ الفرنسي ليسوا منقطعي الصلة عن بقية المسلمين في الخارج، بل تربط بعضهم بعضا رابطة قوية، وديار المسلمين التي تحتلها فرنسا يعتبرها المسلمون القاطنون فيها والخارجون عنها "دار حرب"، وليست "دار إسلام"
…
ولذا فالخطر موجود في الداخل والخارج.
هذه الروح التي تجلت عند هذا المستشرق الفرنسي، هي نفس الروح التي يصفها المستعمر الفرنسي والإنجليزي والهولندي في نظرته إلى المسلمين في آسيا وإفريقيا، وفي توجيهه إياهم، وفي سلوكه معهم
…
وهي ليست للمسلمين أصالة في الثقافة، فليست لهم قيمة ذاتية!
ولذا يجب على المسلمين أن ينتقلوا إلى الحضارة الأوروبية الآرية المسيحية!! ويجب على شعوب أوروبا المسيحية الآرية أن تتعاون فيما بينها على دفع الخطر الإسلامي الكامن ضمن الوحدة الإسلامية: الفكرية، والروحية، والغائية!
ولا يغفل "هانوتو" هنا أن يذكر -أو يتذكر- بواعث الحروب الصليبية في القرن: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فيقول:
1 تاريخ الإمام - ج2 ص401: 407.
"وهو -الإسلام- موجود وشائع في آسيا، حيث لا يزال قائما في بيت المقدس وناشرا أعلامه على "مهد الإنسانية ومقر المسيح""!
فأهداف الحروب الصليبية قديما تركزت في استرداد بيت المقدس من المسلمين البرابرة "! " ولا يزال مما يزعج الغرب الآري المسيحي الآن بقاء لواء الإسلام منتشرا على "مهد الإنسانية"!! وهذا لا يقل خطرا على الغرب عن اجتماع المسلمين ونطقهم جميعا في لحظة واحدة قائلين: "الله أكبر"، إذا ما اتجهوا لعبادة الله سبحانه وتعالى!!.
وبهذا تتضح سياسية الاستعمار في الشرق الإسلامي.
إنها سياسة تقوم على إضعاف المسلمين
…
في إسلامهم أولا وبالذات!!
وسائل الاستعمار لإضعاف المسلمين في إسلامهم:
ووسائله لذلك تنحصر في توجيه الفكر الإسلامي نحو تحقيق هذه الغاية، وقد برز هذا التوجيه في صورتين تنم كلتاهما عن هذه الغاية:
- الصورة الأولى: قيام بعض مفكري المسلمين بحركة تقدمية في الإسلام: تبغي تقرير سلطة المستعمر وتثبيت ولايته على المسلمين من الوجهة الإسلامية، أو بعبارة أخرى تبغي عدم تحديه ومعارضته، سواء في مباشرة سلطته على المسلمين، أو في إدخاله ما يسميه بنظم الإصلاح الحديثة بينهم!
- الصورة الثانية: قيام بعض الغربيين الآرييين المسيحيين بإبراز الخلافات المذهبية، وتأكيد الفجوات والثغرات. بين طوائف المسلمين وشعوبهم، من الوجهة الشعوبية، أو الجغرافية، أو نظام الحكم
…
مع شرح كثير من مبادئ الإسلام شرحا يشوهها وينحرف بها عن أهدافها الأصلية! وذلك كله بالإضافة إلى تمجيد القيم المسيحية، والحضارة الغربية؛ والنظام السياسي، والسلوك الفردي للشعوب الغربية!
- وفي مقابل هاتين الصورتين برز اتجاه إسلامي فكري آخر وهو حركة المقاومة للاستعمار الغربي: سواء في مظهره السياسي أو فيما يستبطنه ويخفيه من الهجوم على الإسلام وإضعاف المسلمين. وهذا اتجاه يعتبر كرد
فعل مباشر لتوجيه الاستعمار الغربي للتفكير الإسلامي في صورتيه السابقتين.
ويدخل في هذا الاتجاه الأخير: تلك المحاولة الفكرية لتجديد المفاهيم الإسلامية، بغية الملاءمة بينها وبين تطور الحياة وأحداثها المتلاحقة، حتى تطبع سلوك هذه الشعوب أفرادا وجماعات بطابع إسلامي.. كتلك المحاولة التي قام بها الشيخ محمد عبده في مصر، ومحمد إقبال في الهند.
وبذلك يكون الاستعمار الغربي للشعوب الإسلامية قد خلق اتجاهين فكريين متقابلين:
- اتجاها لحمايته.
- واتجاها آخر لمقاومته.