الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المستشرقون
…
والاستعمار
مدخل
…
المستشرقون
…
والاستعمار:
الصورة الثانية من صورتي اتجاه حماية الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية: يحكمها عمل المستشرقين، وتصوراتهم للإسلام وشرحهم لمبادئه، وبعثهم لخلافات المسلمين الماضية، وخلقهم خلافات أخرى لا يلتفت إليها المسلم، بعد ما صهر الإسلام علاقته بأخيه المسلم، وكون منها وحدة عديدة الحلقات والروابط.
وينطوي عمل الدارسين للإسلام من المستشرقين على نزعتين رئيسيتين:
- النزعة الأولى:
تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وتمهيد النفوس بين سكان هذه البلاد لقبول النفوذ الأوربي والرضاء بولايته.
- النزعة الثانية:
الروح الصليبية في دراسة الإسلام، تلك النزعة التي لبست ثوب البحث العلمي، وطلاها خدمة الغاية الإنسانية المشتركة.
النزعة الأول:
أما مظهر
النزعة الأولى
فيتجلى:
أولا: في إضعاف القيم الإسلامية.
ثانيا: في تمجيد القيم الغربية المسيحية.
- وإضعاف القيم الإسلامية:
عن طريق شرح تعاليم الإسلام ومبادئه شرحا يضعف في المسلم تمسكه بالإسلام، ويقوي في نفسه الشك فيه كدين، أو على الأقل كمنهج سلوكي يتفق وطبيعة الحياة القائمة.
فهذا "رينان" الفرنسي
…
يصور عقيدة التوحيد في الإسلام بأنها عقيدة تؤدي إلى حيرة المسلم، كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك، على
حين أن عقيدة التوحيد مزية الإسلام، وآية على أنه الرسالة الكاملة الواضحة لخالق الكون في كونه، كما أنها الطريق السليم والوحيد إلى رفع شأن الإنسان وتكريمه؛ لأن صاحب هذه العقيدة لا يخضع في حياته لغير الله، ولا يتوجه في طلب العون إلى غير الله سبحانه وتعالى.
ولكن رينان يقول، متحدثا عن عقيدتي القدر والاختيار: المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر، والمغفرة والحساب وهي كلمات ثلاثة مصبوغة بصبغة دينية تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة المسلك في تفهمها. مع أنها من الأمور التي ينبغي الوقوف عليها والعلم بها مهما صعب منالها وتعذر مرامها. إن الدين هو الوسيلة التي تمهد للإنسان طريق الوصول إلى الحضرة الإلهية، أو بعبارة أخرى الواسطة في وقوف المخلوق بين يدي الخالق".
"إذا تقرر ذلك، فهل الخالق بقدرته المطلقة يودع في نفس المخلوق استعدادا للعمل بمقتضى إرادته السرمدية، بحيث لا يحيد عما تأمره به هذه الإرادة؟ أم للإنسان متى تم خلقه إرادة خاصة يعمل بحسبها، واختيار مستقل لا يستمد من اختيار أسمى منه؟ وهل للإنسان الذي خلقه الله وسواه إرادة مطلقة من نفسه وتصرفه مطلق في ذاته؟ أم تجرع جميع أعماله من خير وشر إلى القدرة الربانية القابضة على زمام الكون، والمسببة لوجوده فيه؟ ".
وفي دائرة هذا البحث، تنحصر الخلافات الدينية والفلسفية التي لم يوفق دين من الأديان ولا مذهب فلسفي إلى حسمها بكيفية يقتنع بها الإدراك ويرضاها العقل، ومع أن البحث فيها لإصابة هذا الغرض السامي لم يكن بالأمر الحديث، إذ طالما بحث فيها فلاسفة الأقدمين فلم يجدوا لها حلا، وكان حظهم منها كحظ فلاسفة المتأخرين وعلمائهم.
"وغاية ما عرف منذ الأعصر السابقة إلى الآن أنه وجد مذهبان تشاطرا فيما بينهما العقائد البشرية من تلك الوجهة المهمة: فالأول منهما يقول بتناهي الربوبية في العظمة والعلو وجعل الإنسان في حضيض الضعف ودرك الوهن، ويذهب الثاني إلى رفع مرتبة الإنسان وتخويله حق القربى من الذات الإلهية بما فطر عليه من إيمان وإرادة وبما أتاه من أعمال صالحات وحسنات.
"والنتيجة الطبيعية للاعتقاد بمذهب الفريق الأول هي: تحريض الإنسان على إغفال شئون نفسه وبث القنوط في فؤاده وتثبيط همته وإيهان عزيمته، بينما تسوقه نتيجة الاعتقاد بمذهب الفريق الثاني إلى ميدان الجلاد والعمل وتلقي به في غمرات التنافس الحيوي، ومن الأمثلة على الفريقين: البوذيون الذين يتدينون بدين يقضي عليهم بالتجرد. إذ من قواعده أن الإنسان والكون يفنيان في الذات الإلهية
…
وقدماء اليونان الذي يدينون بدين من قواعده تشبيه الإله بالإنسان في أوصافه المادية، ويقضي عليهم هذا الدين بالعمل والحياة لاعتقادهم بأن الإنسان أو "البطل" يمكنه أن يصير في عداد الآلهة بحسناته وخيراته.
"وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمائة عام من انقضائه ديانتان: إحداهما ربانية، والثانية بشرية، تمثلان ذينك المذهبين المتناقضين، ولكن بتلطيف في التناقض. أما الأولى "الديانة الربانية": في الديانة المسيحية الوارثة بلا وساطة آثار الآريين1 والمقطوعة الصلات بالمرة مع مذهب السامية وإن كانت مشتقة منه وغصنا من دوحته، ومن خصائص هذه الديانة "المسيحية" ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية "البشرية" وهي الإسلام، المشوبة بتأثير مذهب السامية، تنحط بالإنسان إلى أسفل الدرك وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له.
"هذان الميلان المختلفان يظهران ظهورا واضحا في الاعتقاد الأساسي لكلتا الديانتين: وهو أصل الألوهية، أما المسيحي: فيذهب في الأصل إلى الثالوث أي: إن الإله الأب أوجد الإله الابن واتصل الاثنان بصلة هي روح القدس، وعليه فكون يسوع المسيح إلها وبشرًا..هذا الثالوث السري، المشتقة أصوله من ضرورة إله بشري يمحو ذنب الجنس البشري ويفديه من الخطيئة التي اقترفها: يرفضه المسلم الذي يعتقد بوحدانية الرب، ويتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا شديدًا حيث يقول: لا إله إلا الله!!
"غير أن إدراك المسيحيين من هذا القبيل هو أخف وأعلى وأجلب للثقة، إذ هو يحملهم على إتيان الأعمال التي تقربهم إلى الله حيث الوسائط بينهم وبين ذاته العلية موصولة، في حين أن المسلمين تجعلهم ديانتهم كمن
1 أليست البوذية ديانة الآريين؟
يهوي في الفضاء بحسب ناموس لا يتحول ولا يتبدل ولا حيلة فيه سوى متابعة الصلوات والدعوات والاستغاثة بالله الأحد الذي هو مستودع الآمال! ولفظة الإسلام معناها: "الاستسلام المطلق لإرادة الله".
"ترى الديانتين، أو بعبارة أخرى المدنيتين: المسيحية والإسلامية، إحداهما بإزاء الأخرى، وتتصل الاثنتان بعضهما ببعض من حيث المنشأ العام لهما إذ هما مشتقتان من الأصول اليونانية والسامية، ومنهما استمدتا جانبا من العقائد والمذاهب والآداب، فهما إذن متداخلتان من وجوه عدة، ولكن مسافة الخلف بينها شاسعة في الحقيقة: من حيث البحث في القدرة الإلهية والحرية البشرية"1.
كتب هذا رينان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان يظن أن العقلية العلمية أو الطريق العلمي -الذي تدعي العقلية الغربية المعاصرة أنه من مفاخر القرن العشرين؛ لأنها تزعم أنها لا تخضع في بحث المسائل، وإصدار الأحكام لأثر حزبي أو مذهبي أو عاطفي، أو نحو ذلك مما يتأثر بها الإنسان العادي أو البدائي في أحكامه- كان يظن أن هذا القرن العشرين لا يصدر فيه تصوير مثل تصوير رينان للتثليث المسيحي مرة، وللتوحيد الإسلامي مرة آخرى!
ولكن مجلة "The Muslim World"2 تردد هذا المعنى في شرح آية {إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فتقول ما ترجمته:
"إن إله الإسلام متكبر جبار مرتفع عن البشرية يطلب أن يسير العابد نحوه بينما إله المسيحية عطوف متواضع يتودد للناس، فظهر في صورة بشر -وذلك هو الإله الابن- فعقيدة التثليث في المسيحية قربت الإنسان من الإله: وأعطته نموذجا رفيعا واقعيا في حايته يسعى ليقترب منه
…
أما عقيدة التوحيد فباعدت بين الإنسان والإله، وجعلت الإنسان متشائما من شدة الخوف منه، ومن جبروته وكبريائه
…
"!
1 تاريخ الإمام: ج2 ص407 -409.
2 عدد أكتوبر سنة 1955، التي يصدرها دكتور Crayg مدير مؤسسة Hartford للدراسات الدينية والشرقية بالولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا مبدأ "الزكاة".. يفسره مستشرق على النحو الآتي:
"إن الأموال المادية - في نظر الإسلام- هي من أصل شيطاني نجس ويحل لمسلم أن يتمتع بهذه الأموال شريطة أن يطهرها، وذلك بإرجاع هذه الأموال إلى الله"1.
ويظهر أن الشارح أخذ من قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} 2 أي: إن الأموال نجسة في أصلها، وإذن فالزكاة وسيلة تطهيرها وبذلك فهم التطهير فهما حرفيا أو حسيا!
وهذا الفهم الذي ذكره صاحب هذا الكتاب لمعنى الزكاة هنا، وبالتالي لموقف الإسلام من المال على أنه رجس، يردده غيره من المسيحيين القائمين على الدراسات الإسلامية في الوقت الحاضر، ففي العدد رقم 80 للسنة الثامنة والثمانين لصحيفة "The Montreal Star" بتاريخ 5 إبرايل سنة 1956م، تحدث أب دومنيكاني يقيم في مصر -وكان يقوم بإلقاء محاضرات عن علم الكلام الإسلامي بجامعة منتريال- عن النظرة الإسلامية في الحياة فقال:"إن المسلمين يتجنبون الناس الذي يشتغلون بالمال، ويعتبرونهم أقرب للكلاب منهم للبشر".
ومثل هذا التصوير لموقف الإسلام من المال، في شعب كالشعب الأميريكي مادي النزعة، يسيء للإسلام والمسلمين أيما إساءة.
ويشرح الاستشراق المبدأ الإسلامي عن الزوجية -وهو مبدأ "قوامة الرجل على المرأة"- بفكرة التفوق "Superiority" ويجعل منه أمارة على نظرة الإسلام إلى وضع كل من الرجل والمرأة في الحياة، فهو يسمو بالرجل إلى ذروة الرفعة بينما يهبط بالمرأة إلى هاوية الضعة!! أما "طاعة" المرأة للرجل فتعرض على أنها نوع من الإزلال، وسبب لغرض الرق والعبودية على نصف البشرية
…
إلى غير ذلك مما يترتب على هذا الشرح المغرض.
1 كتاب: دراسة عن الإسلام في إفريقيا السوداء: لمؤلفه فليب فونداسي.
2 التوبة: 103.
ويفترض اللورد كرومر في كتابه "مصر الحديثة": أن الرجل المسلم يتمسك بالإسلام أشد من تمسك المرأة المسلمة بالإسلام! ويعلل هذا الافتراض -على أنه ظاهرة في الحياة الإسلامية- بأنه يرجع إلى اختلاف وضعية كل من الرجل والمرأة في الإسلام، على النحو المشار إليه من قبل.
ويشرح المستشرقون مبدأ الإسلام في "عدم قبول المسلم لولاية الأجنبي" بفكرة عدم التعاون مع الشعوب الأخرى، أو بفكرة النفرة من رياسة غير المسلم ولو كان ذا كفاية أو أهلية للرياسة والتوجيه أكثر من المسلمين أنفسهم!
أما "الجهاد": فهو عند هؤلاء فكرة الاعتداء نفسها، أعطاها الإسلام صبغة شرعية ودينية، كي يدفع بها السلم لمهاجمة غير المسلم في وقت أمن فيه على نفسه وعرضه وماله! إنها فكرة الغدر أو تشجيع العدوان، ولهذا الشرح أثر سيئ إلى أقصى حد في علاقة الشعوب الغربية بالمسلمين، وفي تصورهم لحياة المسلم وأهدافه في الحياة.
وهكذا يرى القوم في مبدأ "عدم زواج المسلمة بغير المسلم" فكرة العنصرية القائمة على تمييز الشعوب بعضها على بعض، بدافع العصبية الكريهة أو بدافع الغرور، دون أن يكون هناك مبرر واقعي أو منطقي لهذا التمييز!
وفكرة "العودة إلى القرآن الكريم".. التي نادى بها ابن تيمية، وتابعه فيها غيره من المصلحين بعده
…
لدفع ما ساد من عصبية جاهلية للمذاهب الكلامية والفقهية، وما ترتب على ذلك من انقسام المسلمين إلى طوائف انقساما واضحًا! نادى ابن تيمية بها تطبيقا لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1. وهذه الفكرة ترمي في نظره أولا إلى عدم تحكم الخلافات المذهبية والشروح العديدة المختلفة لتعاليم الإسلام من ظاهرية وباطنية وصوفية وفقهيه إلى غير ذلك في توجيه المسلمين، وترمي ثانيا إلى العودة إلى صفاء التعاليم الإسلامية وبساطتها قبل تعقيدها بالشروح المغرضة أو القائمة على تعسف وعدم استقامة في تخريجها
…
وبهذا وذلك
1 النساء: 59.
يمكن للجماعة الإسلامية أن تعود إلى الوحدة أو على الأقل إلى التماسك أو عدم التضارب في الآراء والسياسة.
ولكن المستشرقين عندما وقفوا على هذه الفكرة ورأوا أثرها الإيجابي في حياة الجماعة الإسلامية المقبلة لو سارت في طريقها الصحيح المرسوم لها، مالوا بها عن هذا الطريق، وشرحوها بأن معنى العودة إلى القرآن وإلى عصر الصحابة الأول -رضوان الله عليهم- هو الرجوع إلى الحياة البدائية التي كانت للجماعة الإسلامية الأولى: فهي عندهم ليست سوى جماعة بدائية! ثم تراهم ينكرون على من يقول بهذه الفكرة أن يدعو إلى الإصلاح، إذ الإصلاح في نظرهم هو التطور، هو الأخذ بأساليب المدنية الحديثة والقوانين المعاصرة وأسلوب الحكم الحديث، فإذا طلب إنسان العودة إلى العهد البدائي والأساليب البدائية باسم الإصلاح، فهو إما مدع للإصلاح، أو غير فاهم لمعنى الإصلاح!
وإذا ترك أصحاب الدراسات الإسلامية من المستشرقين دائرة شرح المبادئ الإسلامية بما يحرفها ويشوه هدفها على هذا النحو، فإنهم يتركونها إلى جانب آخر رئيسي في الحياة الإسلامية وفي صلات المسلمين بعضهم ببعض.. إنهم يتركون هذه الدائرة لينتقلوا إلى مجال العلاقات بين الشعوب الإسلامية، ليذكوا الفرقة القائمة، وليثيروا أسباب أخرى للقطيعة وعدم الاتصال. فيتحدثون عن الكرد والعرب في العراق، وعما بين الجنسين من فوارق في تصور الحياة وفهم العقيدة والأماني القومية. وعلى هذا النحو يتحدثون عن المفارقات بين العرب والبربر في شمالي إفريقيا، وبين سكان الشمال وسكان الجنون في السودان، وبين السنة والشيعة في بغداد أو في إيران والبلاد الإسلامية الأخرى، وعلى الأخص يتحدثون عن العداء بين شعب الجزيرة العربية، وما يسود فيها من مذهب محمد بن عبد الوهاب من جانب، وشعبي العراق وإيران وما يسود فيهما من اتجاه شيعي من جانب آخر.. يتحدثون عن الفجوة بين الحكومات والسياسات في الدول الإسلامية
…
إلخ إلخ.
وإذا أكدوا ذلك باسم علم الأجناس، أو باسم طبيعة الشعوب، فإنهم يخلقون هوة أخرى في الإسلام باسم تباين البيئة الجغرافية والعوامل الثقافية القديمة للشعوب الإسلامية، فالإسلام في نظرهم ليس واحدا وإنما هو متعدد،
كان واحدا أيام الفترة البدائية -هكذا يقولون- التي نزل فيها الوحي وتوقف فيها المسلمون عن الشرح وسلموا أمرهم لمبدأ "التفويض" وركزوا جهودهم للإيمان والطاعة، ولكن بعد أن تدخل المسلمون بالشرح، وأدخلوا ثقافتهم القديمة ونزعاتهم الموروثة في شرح القرآن وتعاليم الإسلام، لم يعد الإسلام دينا واحد1. بل هو ديانات إسلامية متعددة، وكلها ديانات ليس لها الطابع الإسلامي بل ليس لها الاعتبار الديني الإسلامي كذلك فهناك إسلام الهند، وإسلام تركيا، وإسلام البربر في شمالي إفريقيا، وإسلام مصر، وإسلام الملايو، وإسلام أندونيسيا وإسلام الصحراء الكبرى وإفريقيا السوداء.. وكل إسلام يختلف عن الآخر، ولكل اعتباره، والجميع مسلمون، وأفهامهم في الإسلام أفهام صحيحة، إذ كلهم أخذ بالمصادر الإسلامية وآمن بالرسالة المحمدية..هكذا يستطرد منطقهم.
وفي هذا الشرح يدخل -بجانب إيجاد ثغرات وفجوات بين المسلمين بعضهم البعض- عامل آخر: وهو عامل التأثر بالمسيحية وبالاتجاه المسيحي. فكثير من العلماء المسيحيين يرون أن المسيحية دين فردي، أو دين شخصي، أو أنه يتكيف حسب الفرد ويتأثر بشخصه، أي: ليست المسيحية دينا يتكون من مبادئ، وإنما هي شعور فردي، وإحساس شخصي بالأصول المقدسة. إن الوحي المسيحي ليس كتابا يتلى ويشرح، بل هو "عيسى" نفسه تستحضر صفاته ويقتدى به في نفس المؤمنين حسب اختلافهم في إدراك هذه الصفات، وحسب اختلافهم في تحديدها، فالمسيحية -لأنها إحساس وشعور فردي- ليست واحدة في التصور والتبعية، ومع ذلك فالمؤمنون بعيسى جميعا مسيحيون مهما اختلفوا فيما بينهم.
وبهذا التصور للمسيحية تأثر هؤلاء في الحكم على الإسلام، بالإضافة إلى الرغبة في إضعاف القيم الإسلامية وتفريق المسلمين، ولذلك لم يروا أن تاريخ الجماعة الإسلامية هو تاريخ لعلاقة المسلمين في أزمنتهم المختلفة بالإسلام الذي تحددت أصوله واستقرت مبادئه بانتهاء الوحي المحمدي:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 2 ولم يفهموا أن الزمن الذي يمر بالمسلمين هو زمن يمر على علاقتهم بالإسلام
1 يروج هذه الفكرة المستشرق الكندي Wilfred Smith في كتابه: "الإسلام الحديث في الهند" باللغة الإنجليزية في سنة 1946.
2 المائدة: 3.
وليس على الإسلام كدين وكرسالة من رسالات السماء.. بل جعلوا الإسلام نفسه يتطور، ويضيف جديدا إلى مبادئه بمرور الزمن، تحت تأثير الأحداث المحلية والعالمية، ومن هنا ينصحون المسلمين بعد التمسك بالماضي البعيد أو القريب في تاريخ الإسلام، وإنما عليهم أن يصوغوا الإسلام صياغة جديدة، ويبلوره في صورة تلائم المدنية الإنسانية القائمة، إذ ما صلح للماضي لا يصلح للحاضر؛ لأن صلاحيته كانت مؤقتة ومقيدة بظروف العهد الذي ولى!! والمدنية الإسلامية في تطورها هي التي تملي على المسلمين تكييف الإسلام. ومعنى ذلك أن الإسلام الأول -ومنه فهم المسلمين الأول للقرآن- قد انتهى اعتباره، والزمن وحده هو العامل الأساسي في صياغة الإسلام صياغة جديدة، وفي جعل المسلمين يسايرون المدنية الحديثة، بما فيها من قانون، ومثل عليا للحياة، ونظم للحكم، وأسس لبناء الجماعة وعلاقة الشعوب بعضها ببعض، والإسلام كدين ليس مبادئ إذن، بل هو مجرد نزعة إلى تحسين الإنسان والعمل على صفاء نفسه.
وكما أن الإسلام ليس واحدا، إنما هو متعدد حسب تعدد شعوبه وحسب اختلاف العوامل الثقافية التي تأثر بها مسلمو هذه الشعوب في فهم القرآن. كذلك هو متعدد حسب طوائف المسلمين، فهناك إسلام المتصوفة وإسلام الفقهاء، ومتعدد حسب مصادره، فهناك إسلام القرآن الذي يختلف عن إسلام الحديث والسنة، ويجب أن يمنح الاعتبار للجميع، مع ما قد يكون -وكثيرا ما يكون- بين بعضها بعضا من اختلاف يصل إلى درجة التناقض، إذ إن جميع هذه الأنواع من الإسلام حقائق تاريخية سجلها التاريخ للمسلمين في صلتهم بدينهم وهو الإسلام.
وهاتان الفكرتان: وهما فكرة تجدد الإسلام تبعا لأحداث الزمن وتوقيت بعض أحكامه ومبادئه، وفكرة تعدده كديانات حسب الشعوب المؤمنة به أو حسب طوائفه ومصادره، فكرتان لهما كثير من السيادة والسلطان على اتجاه كثير من المسلمين اليوم في مصر وخارج مصر في البلاد الإسلامية، وبلغ من تأثيرهما على متعلمي الشرق الإسلامي أن وجدنا عددا من المشتغلين بعرض الثقافة الإسلامية يروج لهما، ويدعو إليهما بطرق متعددة.
وتكييف المستشرقين الإسلام على أنه نزعة روحية إلى تحسين الإنسان والعمل على صفاء نفسه، يستتبع أيضا إبعاد الإسلام عن مجال علاقات الأفراد بعضها ببعض في نظام عام، يعبر عنه بالدولة أو الأمة
أو الحكومة، ولو وجد اليوم بين الكتاب المسلمين من يقرر أن الإسلام بعيد عن أن توجد فيه هيئة للإرشاد الديني توفرت على دراسة الإسلام؛ لأنه دين شخصي لا هيمنة فيه لشخص على آخر، لو وجد في هذا النوع من الكتاب لم يكن إلا مرددا لفكرة دعا إليها الاستعمار وتسربت من الفهم المسيحي بوساطة بعض الدارسين للإسلام من المستشرقين.
- أن فكرة إبعاد الإسلام عن مجال العلاقات بين الأفراد
…
من وحي الاستعمار.
- وأن فكرة توقيت الجهاد بعهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته، أو فكرة إلغائه اليوم
…
فكرة استعمارية.
- وأن فكرة أن الظروف الدولية تدعو المسلم إلى الولاء لغير المسلم، وإلى رضائه بحكومته فكرة استعمارية.
- وأن فكرة أن الإسلام نفسه يتجدد ويخضع لعامل الزمن في تطوره
…
فكرة استعمارية.
وتستتبع هذه الفكرة عدم التقيد بتعاليم الماضي جملة في تكييف الحاضر.
- وأن فكرة أن الإسلام -كدين- يتعدد بتعدد شعوبه وأجناسه.. بتعدد مصادره
…
فكرة استعمارية.
- وأن فكرة أن الإسلام دين فردي شخصي لا يصح أن يتدخل في علاقات الأفراد بعضهم ببعض.. فكرة مسيحية استعمارية.
وهي تستتبع ما يقال من وجوب الفصل بين ما يسمى دينا وبين ما يسمى دولة.
- وأن تأسيس مبدأ الإسلام في عدم زواج المسلمة بغير المسلم على فكرة العنصرية.. ومبدأ الجهاد في سبيل الله على نزعة الميل إلى الاعتداء والغزو.. ومبدأ قوامة الرجل على المرأة في الأسرة على فكرة التفوق الجنسي.. وأمثال ذلك من صنع الاستعمار، وأثر من آثار التمهيد
الرضاء بحكمه، بعد ضياع الشخصية الإسلامية، وصهر مجموعة الشعوب الإسلامية فيما يسمى "بالعالمية" أو الإنسانية الدولية.
هذا بعض ما كان من شأن إضعاف القيم الإسلامية والتيئيس من التضامن والتكتل الإسلامي، كمظهر من مظهري النزعة الأولى في الفكر الإسلامي في صلته بالاستعمار الغربي، وهي نزعة تمكن للاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية.
أما المظهر الآخر لهذه النزعة، وهو مظهر تمجيد القيم الغربية المسيحية في الفكر الإسلامي الحديث نتيجة لصلته بالاستعمار الغربي. فالسبيل إلى الوقوف عليه ما تراه من إبراز التفوق الغربي في الصناعة، وزيادة الدخل الخاص والعام الناشئ عن هذا التفوق
…
تلك الزيادة التي ترتب عليها رفع مستوى المعيشة وتيسير أمر الحياة الإنسانية لدى الغربيين.
هذا التقدم الصناعي هو المنفذ، أو النقطة التي يبتدئ منها الغربيون في التدلل على رجاحة التوجيه الغربي، وعلى سمو مقاييس الحياة الغربية في السلوك الفردي والعادات الاجتماعية، وعلى أصالة القيم المسيحية، وقوة صلتها بتحرير الإنسان من الجهل والفقر والمرض، وقوة صلتها كذلك بانطلاق الإنسان في الحياة من غير خوف أو وجل!
والحضارة المادية الصناعية
…
هي إذن عنوان هذه القيم!!
ومنطق ذلك: أن تخلف المسلمين في مجال هذه الحضارة دليل على تخلف الإسلام في قيمه ومبادئه، وعلى إذلاله الإنسان، وتقييده في السير في هذه الحياة، طبقا لعقيدة الجبر فيه!
ما هي القيم المسيحية ذات الأثر الإيجابي في هذه الحضارة الصناعية؟ أين هذه المبادئ والقيم المسيحية في عرف كثير من هؤلاء العلماء الدارسين للثقافة الإسلامية؟
ليست إلا "شخص عيسى" يستوحي منه السلوك الخلقي في هذه الحياة.