الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد عبده:
يصور الشيخ "محمد عبده" أهداف تفكيره بقلمه الخاص فيما يلي:
"وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين:
- الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفها إلى ينابيعها الأولى، واعتباره -الدين- ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه. وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلال علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم.
- أما الأمر الثاني: فهو إصلاح اللغة العربية.
- وهناك أمر آخر: كنت من دعاته، والناس جميعا في عمى عنه، وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه
…
وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة، نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها. دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم -وأن وجبت طاعته- هو من البشر الذين يخطئون، وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يوقف طغيان شهوته إلى نصح الأمة له بالقول والفعل!
"جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له، أي عبيد!!
"نعم، إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع!! غير أني كنت روح الدعوة. أصبت نجاحًا في كثير مما عنيت به، وأخفقت
في كثير مما وجهت عزيمتي إليه، ولكل ذلك أسباب: بعضها مما غرز في طبعي. وشيء منها مما دار حولي"1.
محمد عبده في طريق جمال الدين:
لم يشذ الشيخ محمد عبده في حركته الفكرية، عن أن يسير في ذات الطريق الذي سلكه جمال الدين الأفغاني، ولا عن الغاية التي وضعها هدفا له. كما اعتمد على نفس السند الذي اعتمد عليه أستاذه من قبل.
وليس من شك في أن الشيخ محمد عبده واحد من أولئكم الزعماء الذين وصفوا بالزعماء الوطنيين. وهم في واقع الأمر زعماء مقاومة الاستعمار الغربي، ومعارضة النفوذ الأجنبي في دائرة العالم الإسلامي "العربي"!! وهو لا يقل في التأثير على التوجيه القومي عن مواطن معاصر له مثل "مصطفى كامل"، صاحب تلك الحركة التي اتجهت إلى مقاومة الاستعمار الإنجليزي مباشرة في مصر، ورئيس الحزب الوطني السياسي في السنوات العشرة الأخيرة، من حياة الشيخ محمد عبده.
وإذا كان الشيخ محمد عبده قد ابتعد في الفترة الأخيرة من حياته التي تزعم فيها مصطفى كامل الحركة الوطنية في مصر، وإذا كان لم يشاركه في التوجيه السياسي القومي ضد الاستعمار الغربي في ذلك الوقت، مؤثرا تركيز نشاطه الخاص في الجانب العلمي والديني. فإن ابتعاده عن مجال هذا التوجيه السياسي القومي طوال هذه الفترة لا يحول دون أن يؤرخ له كصاحب دور رئيسي في توجيه الحركة الوطنية المصرية، التي برزت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
أما سبب اعتكافه وتوفره على الجانب العلمي والديني، فلعله رأى أن العمل في هذا الجانب ليس متوفرًا لكثير من أصحاب النشاط في الجانب القومي والسياسي إذ ذاك، لعدم توسعهم الكافي والعميق في فهم المبادئ الإسلامية، والمصلحة الوطنية نفسها تقضي عندئذ بتوفره هو على ذلك. أو لعله رأى من تجاربه في الصراع الوطني السابق على الاحتلال البريطاني الرسمي 1882م. ومن اختلافه مع عرابي وبعض رفاقه في طريقة الصراع
1 تاريخ الإمام محمد عبده ج1 ص11، 12.
وأسلوب الكفاح، أن الأولى له -لعدم تبديد نشاطه وقوته- أن يتوفر على الجانب الذي توفر عليه أخيرًا، وهو الجانب الإسلامي الفكري والتربوي.
ومنذ هذا الحين الذي اعتزل فيه الشيخ عبده الإسهام في قيادة الجانب القومي وترك الزعامة فيه لغيره، واحتضن الجانب الإسلامي -تفكيرا، وتعليما، وإحياء- منذئذ عرف في تاريخ الحركات الإسلامية في العالم العربي خاصة، أن لكل من الجانبين: الوطني والديني زعماء باشروا قيادته وتوجيهه:
- عرفت "للشيخ محمد عبده" مدرسة، وعرف له أتباع وتلاميذ.
- كما عرف لـ"مصطفى كامل" أنصار وأشياع.
ولكن هذا الفصل بين الجانبين، يرجع إلى تنظيم الجهود الوطنية في مقاومة الاستعمار الغربي، أكثر من أن يهدف إلى تحديد مناطق نفوذ بأن تكون للدين منطقته وللسياسة منطقتها، ولم يعرف لأي اتجاه قومي أصيل في العالم العربي خاصة، منذ أخريات حياة الشيخ محمد عبده حتى الآن، أنه يحاول قصر الإسلام على "ضمير الفرد" وإبعاده من علاقة الفرد بالفرد في الجماعة، أو في علاقة الأفراد بالدولة، أو في علاقة الدول بعضها ببعض!
ولقد أسس "مصطفى كامل" حركته لمقاومة الاستعمار البريطاني في مصر على أمرين رئيسيين:
- على خلق الوعي الوطني.
- والوعي الإسلامي.
وكان من رأي "مصطفى كامل" أن التعليم العالي، والتعليم الجامعي على الأخص، هو وسيلة إيجاد الوعي الوطني.
أما إيقاظ الشعور الإسلامي، وربط مصر بالعالم الإسلامي الخارجي على أساس من التذكير بتعاليم الإسلام، فقد وكل أمره إلى الصحافة. على أن تسهم أيضا في تقوية الوعي الوطني المصري.
وقد اختلف مصطفى كامل مع الشيخ محمد عبده فترة من الوقت. ولكن لم يكن مرجع هذا الاختلاف إلى أن الشيخ عبده كان يدعو إلى التمسك
بالإسلام ويدعو إلى العودة للقرآن على نحو ما دعا؛ بل لأنه توفر على ما سماه بـ"الإصلاح الديني"، وابتعد كلية عن الإسهام في التنوير السياسي العالم.
- وإن الحركة القومية التي عرفت في مصر سنة 1919 برئاسة "سعد زغلول" إنما نشأت ونمت داخل جدران الأزهر، واعتمد خطباؤها على المنابر في المساجد، والمجتمعات العامة السياسية، كما اعتمد كتابها في الصحافة على كثير من آيات القرآن. وهي الآيات التي تنصح بالتعاون والتماسك، وتدعو إلى نبذ ولاية الأجنبي، ومقاومة نفوذه في التوجيه، وتصريف شئون الجماعة الإسلامية.
- كما أن مقاومة السلطة البريطانية المنتدبة من قبل عصبة الأمم في جنيف بعد الحرب العالمية الأولى على العراق وفلسطين، تأسست على تمجيد الإسلام، والدعوة إلى التمسك به في مقاومة النفوذ الأجنبي. وقد كان "مفتي فلسطين" -في ذلك الوقت- رمز الزعامة الوطنية السياسية الفلسطينية!!
- وكذلك صدرت مقاومة النفوذ الفرنسي في سوريا الممثل في سلطة الانتداب أول ما صدرت عن "الجامع الأمور" في دمشق، وقاد علماء المسلمين هناك المظاهرات الشعبية ضد هذا النفوذ وتولوا الكتابة عنه في الصحف!
ومع ذلك فقد وضح في تاريخ الاتجاهات الفكرية داخل العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين أن هناك فصلا -في الظاهر على الأقل- بين النشاطين: القومي "السياسي" في الحركات الإسلامية لمقاومة الاستعمار الغربي بعد جمال الدين الأفغاني، بتأثير من جمال الدين نفسه، فإن الشيخ محمد عبده بتوفره على ما عرف منسوبا إليه باسم الإصلاح الديني قد خلق مدرسة.. مدرسة فكرية، ودينية، وعلمية، وتربوية تتجه لمقاومة الاستعمار الغربي نفسه اتجاها غير مباشر، ولا تقل وزنا في تحقيق هذا الهدف عن ذلك النشاط القومي السياسي.
الشيخ محمد عبده..القروي، المصري، الأزهري:
عرفت بيئة الشيخ محمد عبده في القرية بأنها بيئة الرجل الفقير.. وعرفت قريته بأنها مثل من الأمثلة العديدة لمستوى الحياة المصرية الخالصة،
وهي حياة الكادحين المكروبين المستذلين، والمؤمنين بالله، الذي يرون في الآخرة العوض لهم عن حياتهم الحاضرة.
نشأ الشيخ عبده في هذا الجو. واتصل في تربيته بـ"كتاب القرية" ثم بالأزهر. و"كتاب القرية" والأزهر، كلاهما يعني بالإسلام الأول يعنى بتحفيظ القرآن وهو المصدر الأول للإسلام، والثاني يعنى بتدريس شروح القرآن وبمدارس المسلمين الفقهية والكلامية والأصولية، كما يعنى باللغة العربية في قواعد إعرابها وفي وصف أسلوبها، والأزهر في عنايته بالمعرفة الإسلامية التي تدور حول القرآن الكريم، إنما كان يعنى بها على النحو الذي وصلت إليه هذه المعرفة في الحلقة الأخيرة من تاريخ الفكر الإسلامي والتأليف العربي:
- منحى الجدل العقلي، الذي يجري لأجل الدربة الذهنية، أكثر من استخدامه لمعرفة قيمة الحجة.
- ومنحى المناقشات اللغوية التي تدور حول اللفظ أو التركيب المفرد. أكثر مما تدور حول المعنى والهدف العام للأساليب!!
- وهو منحى التزام أحكام فقيهة خاصة صدرت في وقت معين من مؤلفين معينين، أكثر من التزام منهج لتقدير هذه الأحكام ثم البناء عليها!!
وبحكم ظروف خاصة بالشيخ عبده، أضاف إلى هذا اللون من المعرفة -في تنشئة نفسه- لونا آخر تأتى له عن طريق خال والده الشيخ درويش خضر. ذلك "الشيخ" الذي اتصل بـ"الزاوية السنوسية" وتعلم فيها وسيلة صفاء القلب، وعرف عن طريقها ما يجب أن يتبع في فهم الإسلام وذلك بالاحتكام إلى القرآن والسنة الصحيحة، وعدم التعصب لما سواهما من أقوال أرباب المدارس والشروح والمؤلفين المسلمين، وهذا الذي كان يمارسه الشيخ درويش خضر من الإسلام العملي، وما كان يعرفه من الإسلام، ومن مقاييس فهمه، هو ما يعرف بالنظام الصوفي الفكري الإسلامي "للسنوسي الكبير" وهو نظام يهدف إلى سمو الروح، وتهذيب النفس، وتوكيد أواصر الأخوة الإسلامية، وإجادة فهم الإسلام.
بهذين اللونين من المعرفة: ما كان عن طريق الأزهر، وما كان عن طريق الزاوية السنوسية
…
تكونت لدى الشيخ محمد عبده:
- معرفة عقلية للإسلام.
- ومباشرة عملية لتهذيب النفس.
- ثم تقدير للثقافة الإسلامية القائمة في الأزهر إذ ذاك.
- وفي ضوء ذلك كله ابتدأ -بعد تلمذته على الشيخ خضر- يتخير أساتذته في المرحلة الأخيرة من مراحل دراسته في الأزهر.
- فتخير "الشيخ حسن الطويل" لدراسة الفلسفة السينائية، والمنطق الأرسطي.
- والشيخ "محمد البسيوني" لدراسة الأدب العربي.
- وبعد أن علم بقدوم "جمال الدين الأفغاني" إلى القاهرة اتصل به، وصحبه في مجالسه وندواته، وجمال الدين هو السياسي الثائر على استعمار الغرب للبلاد الإسلامية.
- وكما ابتدأ يتخير أساتذته بين علماء الأزهر ابتدأ ينقد الطابع العام لتفكير رجال الأزهر، وكتب الدراسة فيه، وطرق التدريس المتبعة هناك.
- وباتصاله بجمال الدين الأفغاني ابتدأ يدرك الحالة الداخلية في مصر: من سوء معاملة الحكومة للفلاحين، ومن الاستبداد السياسي القائم في الحكم. وهي حالة انطبعت في نفسه منذ أن نشأ في قريته. ولكنه ربما لم يستطع أن يدركها، ويعبر عنها تعبيرا واضحا قبل أن يتصل بجمال الدين. وباتصاله بجمال الدين، ابتدأ يدرك أيضا زيادة على ذلك: التعقيد السياسي والاقتصادي في مصر، وتسرب النفوذ الأجنبي في المشاكل المصرية، وتسربه باسم الإصلاح القومي، أو باسم المصلحة الأوروبية!!
وهكذا جمع الشيخ "محمد عبده" في معرفته:
- بين بيئة القرية، وبيئة المدينة التي هي مقر الحكم في مصر.
- وبين المعرفة العقلية، والتهذيب الروحي الصوفي المتزن.
- وبين تفكير القرون الوسطى والتفكير المعاصر في وقته.
- كما عرف الجمود في التفكير، والثورة فيه.
ولقد حرص الشيخ عبده على ماضيه.
كما حرص على أن يعيش في حاضره، ولكن على سند من الماضي وفي أسلوب الحاضر.
الشيخ محمد عبده المفكر:
تناول الشيخ محمد عبده في تفكيره عدة جوانب رئيسية:
- الجانب القومي والوطني.
- والجانب الاجتماعي.
- وجانب الاعتقاد.
- وأخيرا
…
الجانب التربوي والتوجيهي العام.
الجانب القومي:
تناول محمد عبده في الجانب القومي: حدود الوطن، وضرورة شعور المواطن بوطنه، والصلة الوثيقة بينهما يقول:
"وجملة القول إن في الوطن من موجبات الحب والحرص والغيرة، ثلاثة تشبه أن تكون حدودا:
- الأول: إنه السكن الذي فيه الغذاء، والوفاء والأهل، والولد.
- الثاني: إنه مكان الحقوق، والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية وهما حسيان ظاهران.
- والثالث: أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان ويعز، أو يستغل ويذل.. وهو معنوي محضا"1.
ثم يستطرد فيقول:
"ولقد كان بعض الناس يحاولون خلع الشعار الوطني عن ذوي الحقوق والواجبات في مصر، وإلباسهم جميعًا لباس الجهالة والذل، ولكن
1 تاريخ الإمام: ج2 ص195.
أبت الحوادث إلا أن تثبت لنا وجودا وطنيا، ورأيا عموميا، ولو كره المبطلون
…
على أن منهم فئة لا يزالون يؤلمون أسماعنا بما يكررون من سفساف القول، من مثل: أننا تعودنا احتمال الظلم والحيف، ،ألفنا الخدمة والرق، فلن يستقل لنا رأي، ولن نهتدي سبيل الحرية!! كأنهم لا يعلمون أن أهل الغرب أجمعين تعودوا مثل ذلك الحيف أعصرا، وكانوا في قديم الأيام على ضروب من الرق وانخفاض الجناح!! ولئن كان من فضل هذه المائة "القرن التاسع عشر" أن يكتب في صدر تاريخها تحرير أرقاء العصر السالف، فقد رجونا أن يختم ذلك التاريخ بتحرير الذين كانوا في هذا العصر"1.
كما تناول في هذا الجانب نظام الشورى في الحكم، ووجوبه على الحاكم والمحكوم سواء:
"وإن لنا لدليلا على ما قدمنا -من وجوب نظام الشورى- فيما فعل سيدنا عمر وقومه رضي الله عنهم، حيث قام بينهم خطيبا فقال: يا أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه! فقام رجل أعرابي فقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا! فقال عمر: الحمد الله الذي جعل في المسلمين من يقوم عوج عمر بسيفه. إذ ليس معنى تقويم الاعوجاج في هذا إلا التنبيه على الحق، والإرشاد إلى الطريق المستقيم!!
"فما يدل على وجوب التشاور مع الحاكم: هو طلب عمر رضي الله عنه تقويم اعوجاجه".
"وما يدل على وجوبه على المحكوم: هو إجابة الصاحبي بقوله: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا"، فإنه لا يجوز استعمال القوة إلا بعد الإعذار بالإرشاد والهدى.
"وكأني بمن يقول: إن لنا فيما كان عليه السلف من طريقة التشاور لغنى عن سلوك هذه الطريقة الحالية. فأقول في جوابه: إن هذه الطريقة الحالية قد صارت -دون سواها- ذات الواقع العظيم والتأثير القوي في النفوس، ربما اتصفت به من كونها مناطا للعدل، ومظهرا للاستقامة في سائر الممالك، وحينئذ فالغاية المقصودة من التشاور لا تترتب إلا عليها، وأما
1 تاريخ الإمام: ج2 ص196.
طريقة السلف فقد كانت كافية في الغرض، لما أنها هي المستعملة في زمنهم. على أن هذه الهيئات ليست إلا وسائل غير مقصودة لذاتها، فإذا انقطعت الرابطة بينها وبين الغايات كانت مهملة غير مقصودة، وتحول القصد إلى ما صار بينه وبين الغاية ارتباط ووفاق"1.
"وأن الشورى لا تنجح إلا بين من كان لهم رأي عام يجمعهم في دائرة واحدة، كأن يكونوا جميعا طالبين تعزيز مصالح بلادهم فيطلبونها من وجوهها وأبوابها، فما داموا طالبين هذه الوجوه فهم طلاب الحق ونصراؤه، فلا يلتبس عليهم بالباطل، ولا لوم عليهم إذا لم يأت مطلوبهم على غاية ما يمكن من الكمال.. وإن استعداد الناس لأن ينهجوا المنهج الشوري غير متوقف على أن يكونوا مندوبين في البحث والنظر على أصول الجدل المقررة لدى أهله، بل يكفي كونهم نصبوا أنفسهم، وطمحت أبصارهم للحق وضبط المصالح، على نظام موافق لمصالح البلاد وأحوال العباد"2!
وإذا وجبت الشورى على الحاكم والمحكومين سواء، فإن وظيفة الحكومة بعد ذلك في الأمة تمكين الأفراد من العمل في حرية، وبالوسيلة الصحيحة، لخير أنفسهم وجماعتهم.
"إن شأن الحكومة ليس إلا أن تطلق للناس عنان العمل، فيعملوا لأنفسهم ما يعلمونه خيرًا. فإن أية حكومة قيل إنها عادلة حرة، لم يكن لها إلا أن أباحت للناس، أن يدخلوا في أي باب من أبواب المنافع، ويطلبوا الخير الحقيقي بكل وسيلة"3.
ولم يفت محمد عبده أن يتناول في الجانب القومي كذلك: الصلة بين ما يشرع من قوانين، وبين أحوال البلاد القائمة، وهو يرى ضرورة الصلة القوية بينهما، ولو كانت أحوال البلاد وعاداتها غير سليمة كل السلامة يقول:
"ولا يتوهم أن القانون العادل، المؤسس على الحرية، هو الذي يكون منطبقا على الأصول المدنية والقواعد السياسية في البلاد الأخرى انطباقا
1 تاريخ الإمام: ج2 ص199، 200.
2 تاريخ الإمام: ج2 ص203، 204.
3 تاريخ الإمام: ج2 ص149.
تاما: فإن البلاد تختلف باختلاف المواقع، وتباين أحوال التجارة والزراعة، وكذلك سكانها يختلفون: في العوائد، والأخلاق، والمعتقدات إلى غير ذلك: فرب قانون يلائم مصالح قوم لا يلائم مصالح آخرين، فينفع أولئك ويضر بهؤلاء! إذ على مؤسس القوانين أن يراعي اختلاف الناس على اختلاف طبقاتهم وأحوالهم، وطبيعة أراضيهم، ومعتقداتهم، وكافة عوائدهم، ليتسنى له أن يحدد مصالحهم ويربط أعمالهم بحدود تجر إليهم جلائل الفوائد، وتسد عليهم أبواب المفاسد. وحينئذ لا يسوغ لأرباب الشورى أن يجاروا غير بلادهم في سن القوانين"1.
ثم يضيف قائلا:
"وقد جرت عادة المشرعين في كل زمان أن يراعوا في وضع القوانين درجة عقول الذين يراد وضعها لهم، حتى لا تكون مبهمة عليهم، فلا يتيسر لهم فهمها ولا معرفة الغرض منها، وأن يلاحظوا العوائد والأخلاق ملاحظة تامة، فلا يخرجوا في تأسيس القوانين عما تقتضيه من الشدة والتخفيف، فرب طائفة من الناس ينفع فيهم الزجر الخفيف، ويردعهم الوعد بالجزاء الهين، إذا كانت طباعهم سهلة الانقياد
…
ورب أمة فطرت أفرادها على الغلظة، ومجافاة الرقة، وكانت بواطنهم منطوية على الخسة والسفالة، ونفوسهم بعيدة عن خصال الشرف، فهؤلاء لا يردعهم عن غيهم إلا القوانين الصارمة، المؤسسة على الجزاءات الشديدة"2.
وبالجملة فليست هيئة النظام المدني لأمة من الناس سوى صورة لمادة الملكات التي اكتسبها أفرادها من مألوفاتها وعوائدها التي نشأت عليها، سواء أكانت ممدوحة أو مذمومة، وإن اختلاف قوانينها في معارج صعودها، ومدارك هبوطها، لا ينفك عن هذه الملكات، مهما تغيرت أصنافها، وتبدلت شئونها، وهذا ما جعل عقلاء الناس يجتهدون أولا في تغيير الملكات، وتبديل الأخلاق عندما يريدون أن يضعوا للهيئة الاجتماعية نظاما محكما، فيقدمون التربية الحقيقية على ما سواها ليتسنى لهم أن يحصلوا على هذه الغاية، بل يجعلون في نفس القوانين النظامية فصولا وأبوابا لضبط الأخلاق، وحفظ
1 تاريخ الإمام: ج2 ص203، 204.
2 تاريخ الإمام: ج2 ص159.
الملكات الفاضلة، فتصبح الأخلاق فاضلة، والعادات حسنة، وتسير الأمة في طريق الاستقامة إلى خير غاية"1.
والقانون على هذا النحو، يجب أن يمكن له في التطبيق، وأن تكون له وحدة السيادة. يقول في ذلك:
"فإذا أرادت تلك الأمة أن تعيد مجدها الأثيل، وعزها الأول، فلا بد لها من إعادة شأن القانون، فتشيد منه ما هدمته يد الغرور، وبددته سطوة الفجور، وتأخذ الوسائل النافعة لاستمالة قومها إلى التمسك بقواه وهداه"2.
وبهذه النقط الثلاث الرئيسية التي أثارها الشيخ محمد عبه بتفكيره في الجانب القومي وهي: الوطن، والشورى في الحكم، وصلة التشريع بالأسس المقومة لسكان الوطن من لغة ودين وعادات وأخلاق، وضع أمام المواطن الحقائق التي يجب عليه الحرص عليها، والدفاع من أجلها. وهي تلك الحقائق التي تحدد شخصيته كإنسان ومواطن. فلا ينبغي له أن يفرط في وطنه مهما كان حال هذا الوطن، ولا أن يفرط في لغته، ودينه، وأخلاقه، وعرف مواطنيه، كما يجب أن يتمسك بالشورى في الحكم، حاكما أو محكوما إذا تكون للأمة رأي عام يجمع المواطنين في دائرة واحدة، ولم تقسمهم الأهواء والشهوات إلى أغراض مختلفة.
ويشير هنا حديثه عن ضرورة الربط بين التشريع وأحوال البلاد، إلى نظرته إلى القانون فهو ينظر إليه على أنه حافظ لحال قائمة، دون أن تكون له هو نفسه إمكانية أن يحدث فيها تغييرا. وإنما مرجع التغيير في عادات الأمة وأخلاقها وتوجيهها، إلى "التربية" دون التشريع!! وهكذا: تكون التربية في نظره هي التي تمهد وتدفع، والقانون هو الذي يحفظ ويحرس.
تاريخ الإمام: ج2 ص163.
2 تاريخ الإمام: ج2 ص92.
ويزيد الشيخ محمد عبده في توضيح ذلك يقوله:
"ليست القوانين التي تفرض العقوبات على الجرائم، وتقدر المغارم على المخالفات، وهي التي تربي الأمم وتصلح من شأنها، فإن القوانين لم توضع في جميع العالم إلا للشواذ، والهفوات، والسقطات.. أما القوانين المصلحة، فهي نواميس التربية الملية لكل أمة"1.
- الجانب الاجتماعي:
وتناول الشيخ محمد عبده في الجانب الاجتماعي:
- الروح الجماعية.
- عيوب المجتمع.
- الاقتصاد الوطني.
الروح الجماعية:
تناول محمد عبده ضرورة تقوية الروح الجماعية في الأمة، مع إضعاف الفردية أو الانفصالية. وطريق ذلك في نظره التربية الحقة. والتربية الحقة هي التي تقوم على رعاية التعاليم الإسلامية. يقول:
"إن التغالب في هذه الأوقات أصبح معظمه -إن لم أقل جميعه- تغالب الأفكار والآراء، فالأمة ذات البسطة في الأفكار، والمهارة في المعارف، هي الأقوى سلطانا، والأقوم سياسة، وهي الغالبة على ما سواها من الأمم2.
إن الإنسان لا يكون إنسانا حقيقيا إلا بالتربية، وليست هي إلا عبارة عن اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحكم والتعاليم. تعلم الإنسان الصدق، ومحبة نفسه، فإذا تربى الإنسان أحب نفسه أجل أن يحب غيره، وأحب غيره لأجل أن يحب نفسه!!
1 تاريخ الإمام: ج2 ص469.
2 تاريخ الإمام: ج2 ص144.
"إذا تربى الإنسان أحس في نفسه أنه سعيد بوجود الآخر معه، ولكن نحن في وسط لا يحس فيه أحدنا إلا أنه شقي بوجود غيره، وقد ذهبت الثقة بيننا أدراج الرياح، وخلفتها الشكوك والريب، والظنون الأثيمة، المولدة للوساوس والأوهام، ولا شقاء للمرء أعظم من وجود ضميره في هذا الشقاء!
"ولو كنا متربين لانبث فينا إحساس واحد، يؤلف بين شعورنا وحاجتنا، وحينئذ يحس كل فرد منا بأن عليه وظيفة يؤديها لنفسه، وغيره.
"إن العلم الحقيقي هو الذي يعلم -الإنسان- العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من الأفراد في جامعته، فهو إذن يعلم الإنسان: من هو؟ ومن معه؟ فيتكون من ذلك شعور واحد وروابط واحدة، هي ما يسمونه بالاتحاد.
"ألا إن الاتحاد ثمرة لشجرة ذات فروع، وأوراق، وجذوع، وجذور هي الأخلاق الفاضلة بمراتبها! فعلى المسلمين أن يربوا أنفسهم تربية إسلامية حقيقية ليجنوا تلك الثمرة. وبغير ذلك كل أمل باطل، وكل الأماني أحلام وأوهام، وكل احتجاج بغير سعي عجز!!
"الناس في كل الأمم أكفاء في التمثيل، ولا نقص في الدنيا إلا من جهة العقول والأخلاق. هي لا تكمل إلا بالتربية، وما وراء ذلك من العلوم لا يبث فيها غير القلق والهذيان"1.
"والسبب في فقر البلاد: عدم سريان روح التربية الشرعية العقلية، التي تجعل إحساس الإنسان بمنافع بلاده كإحساسه بمنافع نفسه، وشعوره بأضرار وطنه كشعوره بأضرار ذاته، إن لم نقل: تجعل الإحساس الأول أقوى من الثاني، وتزيد في إحساس الإنسان بمنافعه ومضاره"2.
"ولما تشوقت النفوس لأن تكون التربية في المدارس على هذا النمط المفيد، الذي عول عليه جميع الأمم المتمدنة في مبادئ تعاليمهم، فإن
1 تاريخ الإمام: ج2 ص469.
2 تاريخ الإمام: ج2 ص154.
من تتبع قوانين التعليم في الممالك الأوروبية رآها بأسرها موجهة للابتداء بالتعاليم الدينية، والاستمرار عليها إلى ما تزيد عن ست سنوات تقريبا"1.
وقد استرسل الشيخ محمد عبده وأفاض في صلة التعاليم الإسلامية بالمعرفة العقلية السليمة، والتهذيب النفسي الحقيقي، وبين جدوى ذلك على الأخص في المرحلة الأولى من مراحل التعليم، بما كشف عن صلة التعاليم الإسلامية بطبيعة الإنسان، ومدى تأثيرها عليها تأثيرا توجيهيا سليما، كما رسم الطريق التربوي لنفع النفس الإنسانية بهذه التعاليم.
وهو إذ يحاول أن يكشف علة الضعف الحقيقي في الأمة والجماعة الإسلامية لم يرد هذه العلة في غير فقر النفوس، وسوء توجيه العقول! ولم يرها في أرض مصر وسمائها، ولا في طبيعة البلدان الإسلامية الأخرى! وأرجع فقر النفوس، وسوء توجيه العقول، إلى سيطرة "الأنانية" وانحلال معنى "الجماعة" في نفوس الأفراد، أما بسبب الجهل المطلق، أو بسبب سوء فهم الإسلام والحياة.
ومن أجل ذلك كانت محاولته لإصلاح هذه الحال محاولة تفتيشية عن العلاج الحاسم في تحقيق هذا الإصلاح، فحدد الإصلاح بأنه استعادة الروح الجماعية والروح القومية، والروح الإسلامية، والروح الإنسانية العامة، وحدد العلاج تبعا لذلك: بالتنشئة الدينية: وقيام المرحلة الأولى من مراحل التعليم على التعاليم الإسلامية.
ولكنه مع ذلك لم يرد أن يقصر مناهج المدرسة على هذه التعاليم، بل جعل هذه التعاليم أساسا رئيسيا في منهج المدرسة، على أن تضاف إليه العلوم والصنائع التي تنفع الناشئ في حياته، وتجعله لا يقل عن الغربي في سيطرته على الحياة.
وجوب مساهمة الأغنياء في تعليم الأمة:
وهو إذ يطلب من التعليم أن يكون تربية توصل إلى ملكات وعادات، وتقود إلى توجيه غير مضطرب. وإذ يطلب في التربية أن يكون أساسها
1 تاريخ الإمام: ج2 ص80، 81.
إسلاميا، حتى تكون هناك جماعة، وروح جماعية، تسود النوازع الفردية، وبذلك يتحقق التماسك، ثم يتحقق هدف الأمة من عزة وسيادة. إذ يطلب ذلك كله، ويطلب من الأغنياء أن يسهموا في التعليم، ويوضح أن إسهامهم في هذا النوع من التعليم تقتضيها ضرورة اجتماعية خاصة بهم؛ لأنهم معرضون للتهديد في أموالهم وأنفسهم من الأجنبي عنهم، قبل الفقير من مواطنيهم يقول:
"أفلم يبصر الأغنياء أنه لا معنى لشدة البأس في أيامنا هذه: ألا تدرع الحكمة وتبطن الدهاء؟ ألم يقفوا على الأسباب التي أعدها غيرنا "يريد الغرب" لنيل أعلى مراقي المجد في أوطانه، ثم اندفع إلينا لا ندري ماذا يريد أن يصنع بنا!! فإن عقلوا جميع ذلك، أفلا يفقهون أنهم إن لم يكونوا نصراء لجيش العلم، أصبحوا على شفا الخطر؟.
"فعلى الأغنياء منا -الذين يخافون من تغلب الغير عليهم، وتطاول الأيدي الظالمة إليهم- أكثر من الفقراء، وأن يتآلفوا، ويتحدوا، ويبذلوا من أموالهم في افتتاح المدارس، والمكاتب، واتساع دوائر التعليم، حتى تعم التربية، وتثبت في البلاد جراثيم العقل والإدراك، وتنمو روح الحق والصلاح، وتتهذب النفوس، ويشتد الإحساس بالمنافع والمضار، فيوجد من أبناء البلاد من يضارع بني غيرها من الأمم، فنكون عند ذلك معهم في رتبة المساواة: لهم مالنا، وعليهم ما علينا!
"الم يعتبروا بالجمعيات الأوروبية" التي لم يكن أعضاؤها إلا المزارعين، والصانعين، والتجار. كيف يبلغ إيراد الواحدة منهم نحو ثلاثين مليونا من الجنيهات، وبعضها أكثر وبعضها أقل، وجميع ذلك يصرف في بث المعارف والعلوم، واتساع دائرة المصانع والفنون، وتقوية روح التربية الحقة، التي لا شأن للبلاد إلا إذا تحلى أبناؤها بحلاها"1!
التعليم الديني يحتاج مسلكا آخر:
والشيخ محمد عبده إذ يقوم التعاليم الدينية إلى هذا الحد في خلق جماعة قوية في معارفها، واتجاهها، وسيطرتها على الحياة، وحصولها في المجال الدولي على وضع لا يقل شأنا عن الأمم الأخرى القوية السائدة
1 تاريخ الإمام: ج1 ص 143-150.
يرى أنه لا يتم هذا الأثر الإيجابي في توجيه المواطنين وجهة سليمة نافعة، وهي الوجهة الجماعية، إلا إذا تغير مجرى التوجيه القائم، وخلت الثقافة الإسلامية من عوامل الضعف والجمود، وهي عوامل الانحراف التي طرأت عليها، وعلى الأخص في الحقبة الأخيرة في تاريخ التأليف العربي الإسلامي، يقول رحمه الله في ذلك:
"إذا استقرينا أحوال المسلمين للبحث عن أسباب الخذلان لا نجد إلا سببا واحدا: وهو القصور في التعليم الديني: إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد، وإما بالسلوك إليه من غير طرقه القويمة كما في بعض آخر!
"أما الذين أهمل فيهم التعليم الديني: فجمهور العامة في كل ناحية. لم يبق عندهم من الدين إلا الأسماء يذكرونها ولا يعتبرونها! فإن كانت لهم عقائد، فهي بقايا من عقائد الجبرية والمرجئة، ومن نحو: أنه لا اختيار للعبد فيما يفعله، وإنما هو مجبور فيما يصدر عنه جبرا محضا؛ فلهذا لا يؤاخذ على ترك الفرائض ولا على اجتراح السيئات!. ومثل: إن رحمة الله لا تدع ذنبا حتى تشمله بالغفران قطعا لا احتمال معه للعقاب، فليفعل الإنسان ما يفعل من الموبقات وليهمل من المفروضات فلا عقاب عليه. وما شاكل ذلك، مما أدى إلى هدم أركان الدين من نفوسهم، واستل الحمية من قلوبهم. ولا منشأ له إلا عدم تعلمهم عقائد دينهم، وغفلتهم عما أودع في كتاب الله، وسنة رسوله!
"وأما الذين أصابوا شيئا من العلم الديني، فمنهم من كان همهم على أحكام الطهارة والنجاسة، وفرائض الصلاة والصوم، وظنوا أن الدين منحصر في ذلك!! ومتى أدوا هاتين العبادتين على ما نص في كتب الفقه فقد أقاموا الدين! وإن هدموا كل ركن سواهما. ويشتركون مع الأولين في تلك العقائد الفاسدة!
"ومنهم من زاد على ذلك علم الفروع في أبواب المعاملات، متخذا ذلك آلة للكسب، وصنعة من الصنائع العادية. وأولئك الأغلب من طلاب الإفتاء والقضاء، ووظائف التدريس، وما شاكل ذلك. لا ينظرون إلى الدين إلا من وجهة ما يجلب إليهم المعيشة!! فإن مال بهم طلب العيش إلى مخالفته، لم يبالوا بذلك، معتمدين على مثل عقائد الجهلة مما قدمنا!!
"وهؤلاء لا تختص مفاسد أعمالهم بذواتها، ولكنها تتعدى إلى أخلاق العامة وأطوارهم! فهذا القسم أعظم الأقسام خطرا، وأشدها ضررا في العامة والخاصة. وما أفراده بقليل! ".
"إن إصلاح الجداول -في التعليم- لا يتم بأن يدرج في فنون المدارس الإسلامية بعض الكتب الفقهية، مع بقاء التعليم على طرقه المعهودة في المساجد وفي دروس بعض العلماء!! فإن العلوم العلية، إذا لم تبن على عقائد صحيحة وإيمان صادق لا تلبث أن تضمحل، ولئن ثبتت فإنما تسوق إلى أعمال خالية من النيات وخاوية من سر الإخلاص، فتكون أشبه شيء بالباطلة في عدم ترتب الأثر المطلوب عليها كما قدمنا! ".
"فلا بد أن يوجه النظر إلى أن تقوى به العقيدة ويستحكم سلطانها على العقول، ثم إلى تربية تذكر بما تنال النفس من ذلك الفن فيكون التذكار مستحفظا لما يصل إليها منه، ثم إلى فن الفقه الباطني -إلى فن الضمير- وهو ما تعرف به أحوال النفس وأخلاقها، والمهلك منها: كالكذب والخيانة والنميمة والحسد والجبن وسائر الرذائل، والمنجي منها: كالصدق والأمانة والرضا والشجاعة وسائر الفضائل! ويضم إلى ذلك باقي علم الحلال والحرام على ما هو مذكور في الكتاب والسنة، ومتفق عليه بين أئمة الملة الإسلامية إلى تربية تحفظ وتروض على العمل بما تعمل به".
"ثم يكون التعليم في هذه الفنون المذكورة والتربية على وجه يتفق مع قواعدها، مستندين إلى الشرع الشريف، بحيث تذكر مآخذها من القرآن والسنة الصحيحة، وما صح أثره من أقوال الصحابة وعلماء السلف الأول، ومن حذا حذوهم كحجة الإسلام الغزالي وأمثاله".
"فالمقصد بالذات علمان: علم الظاهر وعلم الباطن، وهما أصلان ومجموعهما ركن الإصلاح".
والركن الآخر "التربية" بما يهديان إليه، حتى تصير العلوم ملكة راسخة تصدر عنها الأفعال بلا تعمل. ثم يتبعهما فن آخر يقوي على الغرض منهما، وهو فن التاريخ الديني، خصوصا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه، والخلفاء الراشدين1.
1 تاريخ الإمام: ج2 ص511-905.
وهذا المنهج التربوي، وضعه الشيخ محمد عبده للتثقيف العام بالثقافة الإسلامية وهو الذي جعله أساس المرحلة العامة في التعليم. وتحدث بعد ذلك عن مناهج أخرى لتخريج المدرسين والدعاة والمرشدين، لا مجال للحديث عنها هنا؛ لأننا بصدد عرض وجهة نظره في قيام التربية العامة على أصول إسلامية، وضرورة الأخذ بها في تلافي الحال الفاسدة في الأمة، تلك الحال التي ذكرها غير مرة، وأشار إلى علتها في وضوح، وهي: تفشي الأنانية، وانعدام "الروح الجماعية".
عيوب المجتمع المصري:
يتعرض الشيح محمد عبده في هذ الجانب الفكري، إلى عيوب المجتمع المصري، وهي نفسها تقريبا عيوب المجتمع الشرقي الإسلامي في وقته بوجه عام وهو يحلل أسبابها وعللها، ويذكر ما يراه كفيلا بإزالتها.
- فيصف أحاديث المجتمع المصري: بأنها عنوان على سوء الفهم للحياة، وعلى عدم الجد فيها، وسوء التربية، وعدم تهذيب الخلق.
ويرجو أن تتوجه أحاديث المجتمع إلى النافع الصالح، على نحو ما في البلاد الأوروبية -كما كان في وقته- أو على نحو ما كان في صدر الإسلام، أو لدى الأمم الراقية في التاريخ! ويسأل قارئيه أن لا يفهموا من كتابته في هذا الجانب الاجتماعي أنه يقصد لوم فريق معين من الناس، بل غرضه الإصلاح والتهذيب1.
- ويتحدث عن الزواج: كضرورة اجتماعية، وفي الوقت نفسه يعد تعدد الزوجات مضرة اجتماعية، فيذكر أن الاختيار في الزواج قائم على طبيعة الإنسان، باعتبار أنها طبيعة مفكرة لها اختيار من جانب، وأن لديها الميل الغريزي إلى التعاون من جانب آخر، وكل من الأمرين يطلب من الإنسان أن يتخير إذ تزوج، أما أحدهما: فيميز المرغوب من غير المرغوب فيه، وأما الثاني: فيحدد من يمكن التعاون معه!
ثم هو يعتبر الزواج نفسه عاملا من عوامل السعي الجدي في الحياة، وضربا من ضروب التنظيم في حياة الاثنين، بحيث إن أحدهما يكمل الآخر لمصلحتهما معا، ومصلحة امتداد حياتهما في أولادهما والجماعة.
1 تاريخ الإمام: ج2 ص103.
أما الزواج بأكثر من واحدة، فيرى -الشيخ محمد عبده- الناس غنيهم وفقيرهم، قد اتخذوه طريقا لصرف الشهوة، وغفلوا عن القصد الحقيق منه. وهذا لا تجيزه الشريعة، ولا يقبله العقل!! "فاللازم الاقتصار على واحدة، إذا لم يقدروا على العدل -كما هو مشاهد- عملا بالواجب عليهم، بنص قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 1 وأما الآية: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2، فهي مقيدة بآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، كما يجب عليهم أن يتبصروا قبل طلب التعدد في الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من "العدل" وحفظ الألفة بين الأولاد، وحفظ النساء من الغوائل التي تؤدي بهن إلى الأعمال غير اللائقة، ولا يحملوهن على الإضرار بهم وبأولادهم، ولا يطلقون إلا لداع ومقتض شرعي، شأن الرجال الذين يخافون الله، ويوقرون شريعة العدل، ويحافظون على حرمات النساء وحقوقهن، ويعاشروهن بالمعروف، أو يفارقوهن عند الحاجة"3.
- ويذكر البدع: ومدى دلالتها على الانحراف في الاعتقاد، فيذكر منها على الخصوص: زيارة قبور الأولياء، والتشويش على المصلين في المساجد بضرب الطبول والباز. وفي الوقت الذي كان يعيب فيه الشيخ محمد عبده مثل هذه البدع، لم يكن مفتيا ولا قاضيا ولا معلما، بل كان محررا في صحيفة "الوقائع المصرية"، ونصيبه الذي ساهم به في محاربة عيوب المجتمع المصري والإسلامي -ومن بينها البدع- هو: لفت النظر إليها، والثناء على القائمين بالأمر عند اتخاذهم تدبيرا من التدابير ضد بدعة معينة، بالإضافة إلى ذكر الأسانيد الشرعية والقانونية، أو الاستشهاد بأحوال الأمم وقت قوتها أو ضعفها على حال يريد بقاؤه أو يريد إزالته"4!!
- الرشوة: كعنوان على الضعف الخلقي، ينعى عليها إلى حد أنه اعتبر أنها أمارة على فقد الشعور بالواجب وأدائه: في الأمة، والأداة الحكومية على السواء!! وأنها عادة شنيعة مضرة بالدين والدنيا، في طباع أدنياء الهمم، تقربا لذوي المناصب، وتذللا خبيثا، لا يجوزه الشرع ولا قانون البلاد، وتنفر منه نفس كل ذي إحساس إنساني!.
1 النساء: 3.
2 النساء: 3.
3 تاريخ الإمم: ج2 ص112.
4 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 133، 142، 501.
ولأنها أمر مضاد لمعنى الإنسانية، ومضاد بالتالي للشرع وقانون البلاد، يرى الشيخ محمد عبده أن الراشي والمرتشي شركاء في هذه الجريمة الخلقية، بل يرى أن نصيب الراشي في ذلك أكبر!! وحينئذ فما يلحق الراشي من اللوم أشد مما يلحق المرتشي وإن كان كل منهما مجرما؛ لأن الأول ضيع ماله واسترسل مع الجبن وضعف مع الوهم في مقام يستوي فيه الحاكم والمحكوم أمام القانون، وأمال المرتشي لأخذ الرشوة وقوى طمعه ودله على الشر وكلف نفسه بما لم يكلف به"!! 1
- عدم المبالاة بالمصلحة العامة: ومما عابه كذلك على المجتمع المصري -وكذلك المجتمع الشرقي الإسلامي- عدم المبالاة بالمصلحة العامة. "فانظر إلى هذه الحال الرديئة التي نشأت من تفرق القلوب، وانقطاع التواصل بين النفوس! فلا يهتم واحد بعمل يشترك في منفعته مع آخر وإن كان يتحقق الضرر لنفسه بتركه، كأن اشتراك الغير في المنفعة صيرها مضرة وينبغي اجتنابها!! وكان من الواجب أن الاشتراك يدعو إلى التعاون والقوة بدل التهاون والانحطاط. فكأنهم سلبوا الخواص الطبيعية التي لإنسان الجبال والغابات"2.
- وأخيرا يتحدث عما سماه فقدان ملكة "حفظ الماضي" والاحتفاظ بملكة الحقد والضغينة.
وهنا يتحدث الشيخ محمد عبده عن الرسوم والتماثيل على أنها: "قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية!! وهي التي تسمى في العرف الحديث: متاحف الأمم أو الحضارة الإنسانية. فهي وسيلة فائدتها محققة لا نزاع فيها".
وهو لذلك يرى: "أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، وبعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين: لا من جهة العقيدة ولا العمل"3!!
1 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 85.
2 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 68.
3 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 501.
ويرى الشيخ محمد عبده أن المسلمين اعتادوا أن يخوضوا مجال التساؤل فيما تظهر منفعته ليحرموا أنفسهم منه، وهم لا يعنون بحفظ شيء يبقى نفعه لمن يأتي بعد!! "فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا!! وإنما الذي يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد العباد، وتخرب البلاد، ويلتقي بها أربابها على شفير جنهم يوم المعاد"1!!
- ضرورة إعادة توزيع الثروة في الأمة:
وكما تكلم هنا في الجانب الاجتماعي عن الروح الجماعية، وعيوب المجتمع، تكلم عن بعض العادات التي تتصل بالثروة الوطنية:
- فعاب السفه والإسراف.
- وحدد معنى الاقتصاد بأنه الحد الوسط، ومدحه ونصح به.
- ثم حدد موقفه من "الرأسمالية" وعيوبها، ونصح بتوزيع الثروة في الأمة على غالبية الأهالي.
- فيصف المسرفين: فيقول: "ولكن أبى حاكم الشهوات، إلا أن يكلف هؤلاء الضعفاء النفوس المنحطي الأفكار بما يطيقون!! كأنهم يبرهنون بأعمالهم هذه، وتهورهم في الإسراف والإنفاق، على أنهم ليسوا أهلا للثروة!! ولا مستحقين للغنى ولا يتحملون ثقل الخير على أنفسهم، بل يحبون أن يكونوا على الدوام فقراء تربين لا يملكون شيئا، وإن كانوا في صورة أغنياء موسرين، ويرغبون أن يكونوا تحت ذل الدين، ولا يعلمون أن نكبات الدهر كثيرة الورود، شديدة البطش"2!! ويستند في ذلك إلى الآية: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 3.
- ويحدد الاقتصاد: بأنه: "فضيلة من فضائل الإنسانية الجليلة. فإذا جمع الشخص بين الإمساك عما لا يلزمه، والبذل فيما هو أحوج
1 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 502.
2 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 58.
3 الإسراء: 29.
إليه، فقد حاز فضيلة "الاقتصاد" التي قال بها نبينا صلى الله عليه وسلم: $"الاقتصاد نصف المعيشة"1.
- وموقفه من "الرأسمالية": تكشف عنه هذه الكلمات: "إذا انحصرت الثروة في دائرة مخصوصة، عند أشخاص قليلين، لوازمهم ليست بالكثير، فتكسد أسواق الصناعة والتجارة، لقلة الراغبين في الصنائع والبضائع، أي: لقلة القادرين على اقتنائها!! وهذه الصورة خاصة بالرأسمالية في المجتمعات الشرقية الإسلامية: وهي اكتناز المال في غير تداول، وتقل الرغبة في الأعمال الزراعية، إذ يكون الجميع كأجراء، لا يهتمون اهتمام الملاك، وأن أغنى البلاد، وأسعدها: هي البلاد التي توزعت ثروتها على غالب أهلها، ويزداد الضرر إذا وقعت الأملاك والمبيعات في أيدي الغرباء الأجانب"2.
- جانب الاعتقاد:
وتناول محمد عبده في جانب الاعتقاد موضوعين رئيسيين:
- تحرير المسلم من عقيدة الجبر مع الإبقاء على عقيدة القدر.
- وإفهام المسلم بأن عقل الإنسان نعمة من الله، يجب أن يتلاءم ويسير جنبا إلى جنب مع دين الله، ورسالته للإنسان. وأن إغفال العقل معناه الغض من هذه النعمة.
مشكلة الجبر:
ربما يرى الشيخ محمد عبده أن التبعية المطلقة للمذاهب والكتب المتأخرة، لم تكن ذات صلة فحسب بالإحساس بضعف الشخصية العلمية في وقته، وعدم مسايرتها الشخصية الإسلامية الأولى في خطواتها الإيجابية، وموقفها الواضح من الكتاب والسنة بل كانت ذات صلة أيضا بعقيدة "الجبر"!
1 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 59.
2 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 62.
فكما يكون من نتائج مذهب "الجبر" الشعور بضعف شخصية المعتقد في نفسه أمام الله، يكون من نتائجه شعوره بهذا الضعف أمام غيره من البشر؛ لأن اعتقاد الجبر يقوم في واقع الامر على إلغاء الشخصية والوجود الذاتي، وإذا كان هذا الإلغاء في الأصل هو بالنسبة إلى الله المعبود، فإنه قد يدفع المعتقدين به إلى أن يتجاوز بشعورهم بضعف شخصيتهم دائرة الصلة بينهم وبين الله. إلى الصلة بينهم وبين المخلوقين، والجبري مؤمن سلبي في الحياة، أخص مظاهر سلوكه الاعتماد على غيره، ولو كان هذا الغير أضعف منه في واقع الأمر.
وعلى كل حال فعقيدة "الجبر" تتلاءم مع "التقليد"، وكلاهم مظهر الضعف في الحياة! و"الجبري"، و"المقلد": كلاهما تقوم حياته على الصدفة، وكلاهما يتهاون في ترك مجال الحياة لغيره، وكلاهما لا يعنى بالنظر إلى غيره.
والشيخ محمد عبده -عليه رحمة الله- منذ أن ثار على "التوجيه"القائم في وقته، ثار في واقع الأمر على الضعف والتهاون، وثار على سلبية الإنسان في الحياة، وأراد للمسلم أن يكون ذا شأن وإيجابية في يومه وغده.
وهنا في تحديد الصلة بين المسلم وربه، لم يرض أن تكون عقيدة الإنسان في هذا الجانب عقيدة "الجبري"، لأن هذا الاعتقاد سيفضي حتما إلى ضعف الإنسان، ويصير به إلى أن يكون عديم الإرادة، وعديم الإيجابية في الحياة.. ومن أجل هذا يكافح محمد عبده عقيدة "الجبر"، ومن أجل أن يكون المسلم بناء يدعو محمد عبده إلى عقيدة "الاختيار" بقوله:
"لو شئت لقربت البعيد فقلت: إن من بالغ الحكم في الكون أن تتنوع الأنواع على ما هي في العيان، ولا يكون النوع ممتازا عن غيره حتى تلزمه خواصه، وكذا الحال في تميز الأشخاص، فواهب الوجود يهب الأنواع والأشخاص وجودها على ما هي عليه، ثم كل وجود متى حصل كانت له توابعه، ومن تلك الأنواع الإنسان، ومن مميزاته -حتى يكون غير سائر الحيوانات- أن يكون مفكرا، مختارا في عمله، على مقتضى إرادته. فوجوده الموهوب مستتبع لمميزاته هذه. ولو سلب شيء منها لكان إما ملكا أو حيوانا آخر. والفرض أنه إنسان، فهبة الوجود له لا شيء فيها من القهر"1!.
1 رسالة التوحيد صفحة 75.
ولم يسلك محمد عبده في مكافحة عقيدة "الجبر" من جانب، وفي الدعوة إلى "عقيدة "الاختيار" من جانب آخر مسلك الإنسان الفيلسوف. الذي يستمد الرأي من وجهة نظر خاصة، تمكنت من نفسه ورغب في شرح الحياة والوجود على أساس منها بل سلك، كشأنه فيما نقد ورأى، مسلك رجل الدين المتبصر، فالأساس الذي يقوم عليه تفكيره أساس ديني، والهدف الذي يبغي الوصول إليه هو هدف ديني، والطريق بين الأساس والهدف يتسم بالصبغ الدينية.
علل قوله: "بالاختيار" ببعض نصوص القرآن الدالة على إسناد الفعل والعمل إلى الإنسان، وببعض النصوص الأخرى التي ربطت الجزاء الأخروي بالعمل في هذه الحياة الدنيا "كقوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} 1 يقول:
"تجلت بدعوة التوحيد للإنسان نفسه حرة كريمة، وأطلقت إرادته من القيود التي كانت تعقدها بإرادة غيره: سواء أكانت إرادة بشرية ظن أنها شعبة من الإرادة الإلهية أو أنها كإرادة الرؤساء والمسيطرين، أو إرادة موهومة اخترعها الخيال، كما يظن في الأشجار والكواكب، ونحوها. وقرر أن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 2، و {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 3.
وأضاف محمد عبده إلى هذه النصوص تبرير العقل لذلك، على نحو ما ينسب إلى رجال الاعتزال في تصحيح التكليف من الوجهة العقلية، ويؤثر عن هؤلاء الرجال أنهم يقولون: إن التكليف لا يترتب عليه الجزاء بنوعيه -عقلا- إلا إذا كان الإنسان "مسئولا" ولا تعقل مسئوليته إلا إذا كانت له إرادة بالفعل وكان له "اختيار" في واقع الأمر.
وهذا التبرير العقلي ليس عملا عقليا مستقلا عن رأي الدين، بل هو شرح لما جاء فيه من عقائد وفرائض، فهو دليل على شيء معتقد بالفعل، وليس دليلا قصد به إنشاء عقيدة يقول في ذلك:
"لا ينبغي للإنسان أن يذل فكره لشيء سوى الحق، والذليل للحق
1 النجم: 39، 40.
2 الزلزلة: 7، 8.
3 رسالة التوحيد: صفحة9.
عزيز. نعم يجب على كل طالب أن يسترشد بمن تقدمه، سواء أكانوا أحياء أم أمواتا، ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم، فإن وجده صحيحا أخذ به، وإن وجده فاسدا تركه!! والحاصل أن الفكر الصحيح يوجد بالشجاعة، والشجاعة هنا قسمان: شجاعة في رفع القيد الذي هو التقليد الأعمى، وشجاعة في وضع القيد الذي هو الميزان الصحيح الذي لا ينبغي أن يقرر رأي ولا فكر إلا بعد ما يوزن به ويظهر رجحانه، وبهذا يكون الإنسان حرا خالصا من رق الأغيار، عبدا للحق وحده"1.
ويزيد الشيخ محمد عبده على هذ التبرير العقلي، الذي يعرف للمدرسة الاعتزالية ولفلاسفة المسلمين، تبريرا آخر يشتقه من هدف الإسلام في حياة الإنسان. وهو: أن الإنسان "المختار" لبنة إيجابية في بناء الجماعة، وهو لهذا دعامة قوية لا يتواكل ولا يني في العمل والإنتاج، وذلك هو ما يقصده الإسلام في توجيهه للإنسان، لا يبغي إنسانا سلبيا متهاونا، ولا جماعة كثيرة العدد قليلة العدة كغثاء السيل، تداعى عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وينزع الله المهابة من قلوب أعدائها! وهنا يذكر الإمام:
"صاح -الإسلام- بالعقل صيحة أزعجته من سباته، وهبت به من نومة، طال عليه فيها الغياب، وجهر بأن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام، ولكنه فطر على أن يهتدي: بالعلم، وأعلام الكون، ودلائل الحوادث، فأطلق بهذا سلطان الحق من كل ما قيده، وخاصة من كل تقليد كان استعبده، ورده إلى مملكته، يقضي فيها بحكمه وحكمته"2.
ولكنه بعد ذلك يفرق بين: مذهب "الجبر" وبين معنى "القدر". يقول في رده على هانوتو، المستشرق الفرنسي:
"اعتقد الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر، وبين الاعتقاد بمذهب الجبريين، القائلين بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله، وتوهموا أن المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الريح كيفما تميل. ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا اختيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا سكون، وإنما جميع ذلك بقوة
1 تاريخ الإمام: ج1 صفحة 762، 763.
2 رسالة التوحيد: صفحة 101، 102.
جابرة وقدرة قاسرة، فلا ريب تتعطل قواهم، ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، وتنمحي من خواطرهم داعية السعي والكسب، وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم!!
"وهكذا ظنت طائفة من الإفرنج، وذهب مذهبها كثيرون من ضعاف العقول في المشرق، ولست أخشى أن أقول: كذب الظان، وأخطأ الواهم، وبطل الزاعم، وافتروا على الله والمسلمين كذبا، لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني، وشيعي، وإسماعيلي، وزيدي، ووهابي، وخارجي يرى مذهب "الجبر" المحض، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة. بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزءا اختيارايا في أعمالهم، ويسمى "الكسب" وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية، والنواحي الربانية الداعية إلى كل خير، الهادية إلى كل فلاح، وإن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل.
"نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى "الجبرية" وذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار، وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ، وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته!! ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السلطة الفاسدة، وقد انقرض أرباب هذه المذاهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة.
وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر، هو عين الاعتقاد بالجبر، ولا من مقتضيات ذلك ما ظنه أولئك الواهمون. الاعتقاد بالقضاء: يؤيده الدليل القاطع، بل ترشد إليه الفطرة، ويسهل على من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان، وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه، ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها، وأن لكل منها مدخلا ظاهرا فيما بعده بتقدير العزيز العليم، وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة. وليست الإرادة إلا أثرا من آثار الإدراك، والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس وشعورها بما أودع في الفطرة من الحاجات. فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله، فضلا عن عاقل. وأن مبدأ هذه الأسباب التي ترى في الظاهرة مؤثرة: إنما هو بيد مدبر الكون الأعظم، الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته، وجعل كل حادث تابعا لشبهه، كأنه جزء له، خصوصا في العالم الإنساني.
"ولو فرضنا أن جاهلا ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم، فليس في إمكانه أن يتملص عن الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية، والحوادث الدهرية، في الإرادات البشرية، فهل يستطيع إنسان أن يخرج بنفسه عن هذه السنة التي سنها الله في خلقه؟؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلا عن الواصلين!!
"الاعتقاد بالقضاء والقدر، إذ تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجرأة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة، ويبعث على اقتحام المهالك، التي ترجف لها قلوب الأسود، وتنشق منها مرارة النمور. هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأحوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج عن كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة. كل هذا في سبيل الحق، الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة.
"والذي يعتقد بأن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء -كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه، وإعلاء كلمة أمته أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله، في تعزيز الحق وتشييد المجد، على حسب الأوامر الإلهية، وأصول الاجتماعات البشرية؟
"امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد، مع بيان فضله، في قوله الحق:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1.
"هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغص بها الفضاء، ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم، وردوهم على أعقابهم"2.
1 آل عمران: 173، 174.
2 تاريخ الإمام: ج2 ص259 -267.
في صلة العقل بالوحي.. أو في صلة استخدام العقل كمطلوب للوحي:
وفي توضيحه صلة العقل بالوحي، أو صلة رجال العقل برجال النص في الجماعة الإسلامية. يرى الشيخ محمد عبده ما رآه "ابن رشد" في القرن السادس الهجري، وما رآه "ابن تيمية" في القرن الثامن من قرون الهجرة، ومن أن النص يجب أن يتفق مع العقل
…
يقول:
"فقد أمر الكتاب بالنظر واستعمال العقل: فيما بين أيدينا من ظواهر الكون، وما يمكن النفوذ إليه من دقائقه، تحصيلا لليقين بما هدانا إليه، ونهانا عن التقليد بما حكى من أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم، فالتقليد مضلة يعذر فيها الحيوان، ولا يجمل بحال الإنسان"1!
ويقول أيضا:
"والذي علينا اعتقاده: أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد، لا دين تفريق في القواعد! العقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك فنزعات شياطين، أو شهوات سلاطين"2!
فالوحي بالرسالة الإلهية أثر من آثار الله، والعقل الإنسان أثر أيضا من آثار الله في الوجود. وآثار الله يجب أن ينسجم بعضها مع بعض، ولا يعارض بعضها بعضا!
- لأنها آثار للكامل كمالا مطلقا: والعقل البشري يحيل أن يكون هناك تناقض بين آثار الكامل المطلق؛ لأن التناقض في الأفعال نقص! فلو تعارضت أو تناقضت الآثار الصادرة من مصدر واحد، دل تعارضها وتناقضها على عدم الكمال المطلق لهذا التصرف.
- لأن الوحي مصدر هداية، والعقل الإنساني مصدر هداية أيضا: وكلاهما يهدف إلى تحديد الطريق المستقيم في الحياة للإنسان، وإلى تحديد الغاية الأخيرة في هذا الوجود. وأمران شأنهما هذا الشأن، لا بد أن يتفقا في التحديد الإجمالي -على الأقل- لطريق الإنسان في حياته، وغايته في وجوده.
1 رسالة التوحيد: ص15.
2 رسالة التوحيد: ص14.
فإن بدا أن هناك اختلافا بين تطبيق رسالة الوحي واستخدام العقل، كان منشأ هذا الاختلاف: إما تحريف في نص رسالة الوحي، أو سوء في استخدام العقل، والمحرف للرسالة السماوية، وكذلك المسيء لاستخدام العقل الإنساني، وهو: الإنسان هنا وهناك، وليس الملك الذي نزل بالوحي، ولا الرسول المصطفى لتبليغ الرسالة!
طبيعة الوحي يجب أن توافق طبيعة العقل الإنساني إذن؛ لأنهما معا مصدر هداية، صدرا لغاية واحدة من كامل كمالا مطلقا.
وتحريف الكتاب المنزل بتخريج نصوصه تخريجا يبعده عن هدفه، تحت التأثر بعوامل شخصية، أو التأثر بمذهب معين، عمل من شأنه أن يحول بين انسجام الكتاب المنزل والعقل السليم في الإنسان!
والدخول في بحث العقل للكتاب المنزل وللرسالة الإلهية، بعد الاعتقاد بعقيدة خاصة، أو قبل التخلي عن المؤثرات المغرضة يجعل من الصعب أن يوافق مثل هذا العقل الباحث أهداف الكتاب السماوي، ورسالة الله في جماعة الإنسان!
والإنسان هو الذي يخرج الكتاب تخريجا فيه بعد أو مجافاة لهدفه الأصيل، والإنسان نفسه هو الذي يميل بالعقل الإنساني نحو عقيدة خاصة أو جهة معينة، وينحرف به عن أن يكون العقل الخالص، الذي فطر الله الإنسان عليه!! وبذلك يكون الإنسان هو الذي حال دون أن يوافق الكتاب العقل، ودون أن يوافق العقل الكتاب، وليست طبيعة كل منهما هي التي حالت دون ذلك.
وابن رشد -قبل محمد عبده- كتب كتابه: "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" وكذلك كتب ابن تيمية كتابه: "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول".
- وابن رشد: وإن هدف فيما كتبه في الكتاب السابق إزالة الخلاف بين الفكر الإغريقي والإسلام، إلا أنه أسس ذلك على عدم التنافر بين طبيعية الدين كدين، وطبيعة العقل كعقل.
- والثاني: وهو ابن تيمية وإن قصد مباشرة إلى عيب الفكر الإغريقي ونقضه، إلا أنه في الوقت نفسه برهن على أن طبيعة الدين -فيما ينقل
نقلا صحيحا- لا تعارض طبيعة العقل، إذا تخلى هذا العقل عن الظنون والهواجس والغرض في أحكامه.
- والشيخ محمد عبده: في معالجة الصلة بين الوحي والعقل، لم يهدف إلى ما هدف إليه ابن رشد، كما لم يقصد إلى ما عناه ابن تيمية بل أراد من أول الأمر أن يوضح أن فطرة الله التي فطر الناس عليها فيما يتصل بالعقل، لا تعارض مظهرا آخر من مظاهر الله، ومن آثاره في ملكوته، وبالأخص لا تعارض رسالة الوحي كما يتضمنها الكتاب المنزل، في صورته الأصيلة.
جانب التربية والتوجيه العام:
وفي هذا الجانب الأخير اتجه تفكير الشيخ محمد عبده إلى:
- محاربة الحزبية المذهبية والتقليد.
- ومحاربة سلطة الكتاب الموجه: وإخضاعه للنقد العقلي والتاريخي، وللتصحيح والتعديل.
- وإصلاح الأزهر: باعتباره قلب الجماعة الإسلامية، إن فسد فسد الجسم. وإن صلح صلح الجسم.
وأخيرا إحياء الكتب القديمة: للتعرف على العقليات الإسلامية المنتجة في تاريخ الجماهير الإسلامية، والانتفاع بصحيح الآراء، والبناء على هذا الصحيح منها، تبعا لمقتضى الحياة المعاصرة.
محاربة الحزبية المذهبية التقليدية:
وجد الشيخ محمد عبده أن انقسام الجماعة الإسلامية إلى فرق وأحزاب، وصل إلى مرحلة ضعفت فيها الجماعة عن أن تكون جماعة واحدة، لها عناصر الأمة القوية. وذلك بسبب طغيان التبعية أي: عدم انفكاك التابعين لمذهب ما عن تقدير هذا المذهب، ومنحه سلطة عليا في التوجيه والاعتقاد في كل رأي من آرائه، وفي كل مؤلف من تأليفه، والخطر الذي يهدد الجماعة -أي جماعة- لا يكمن في تعدد مذاهبها في التفكير أو الاعتقاد، بل في تحكم هذه المذاهب وسيطرتها على التابعين بحيث يهاب هؤلاء التابعون نقدها، وإبداء الرأي في قيمتها، وعندئذ تكون الجماعة
الواحدة جماعات وشعوبا وطوائف، بينها فواصل منيعة، تحول الفواصل دون تجاوبها لتوجيه واحد، ولغاية واحدة، ودون سيرها في اتجاه واحد، ولغاية واحدة. وهي فواصل هذه التبعية، أو فواصل التعصب البغيض الناشئ عن الحزبية الجامحة.
وجد الشيخ محمد عبده انقسام الجماعة الإسلامية على هذا النحو. وجد فجوة واضحة بين المتكلمين بعضهم تجاه بعض. وفجوة أشد من هذه وضوحا بين المتكلمين جميعا من جانب وأرباب العقل والفلسفة من جانب آخر. كما وجد أرباب المذاهب الفقهية وهي مذاهب التوجيه في معاملات الناس بعضهم لبعض، وفي عبادة الناس لخالقهم، يتنابذون في الخصومة، ويعرضون قيمهم البشرية للتجريح، وقيمهم المذهبية في سلوكهم الديني للأخذ والرد، على نحو ما يوجد في كتب الفقهاء المتأخرين.
لهذا لم يجد مناصا من أن يعرض لقيم هذه المذاهب، ولم يجد مناصا كذلك من أن يكون تقديره إياها بحيث لا يجعل لواحد منها رجحانا مطلقا على آخر، وبذلك تكون وضعية هذه المذاهب أمام المجتمع الإسلامي وضعية الشارح لأول الإسلام وتعاليمه، الذي من شأنه أن يصيب ويخطئ؛ لأن هذا الشارح إنسان، ومن أجل ذلك لا يحق لمذهب منها، فضلا عن المتابعين له، وأن يدعي أنه هو الحق على الإطلاق، أو أنه يمثل الإسلام كصورة تامة له.
وتناول محمد عبده عرض قيم هذه المذاهب:
- في بيانه لـ"علم الكلام" وفي الوقت نفسه في موقفه هو من علم "التوحيد".
- وكذلك: في رأيه في تحديد "الفرقة الناجية" من بين الفرق الكلامية:
ففي تقديره لبحوث "المتكلمين" الإلهية خالف معاصريه، وخالف التقدير السائد إذ ذاك لعلم التوحيد، وقد كان المعاصرون له في الأزهر يرون أن علم التوحيد -وما دار في كتبه من أخذ ورد في عرض أدلة الفرق الكلامية على مذهبهم- وسيلة إيجابية، ومنهج واجب الاتباع، في تنشئة الاعتقاد الصحيح بالله بين المسلمين، ولهذا تلي منزلته -في مواد الثقافة الإسلامية الموجهة -منزلة القرآن الكريم وعلومه، أي: تلي مباشرة المباحث التي تتعلق بالمصدر الأصيل للإسلام.
خالف محمد عبده هذا التقدير، ورأى رأي "الغزالي" -ومن قبل الغزالي إمام الحرمين "أبو المعالي الجويني"- في أن علم الكلام يصلح أن يكون وسيلة من وسائل الدربة الذهنية، والتمرينات العقلية، ولكنه لا يصلح بحال أن يكون وسيلة لتنشئة العقيدة الإسلامية، أو تدعيم الإيمان بها!! وأصلح الوسائل لذلك منهج القرآن نفسه في عرض الدعوة الإسلامية، ومطالبة الناس باتباع ما يدعو إليه الإسلام، إنه منهج "الإقناع": ذلك المنهج الذي يراعي الفطرة الإنسانية العامة، وهي القدر المشترك بين الناس جميعًا. وهو من أجل هذا يلائم الدين، من حيث إنه للكافة، وليس توجيها خاصا لفريق معين في الجماعة الإنسانية، أما علم الكلام في جميع مذاهبه على نحو ما تصور، كتب المتأخرين، فقد بعد باستخدام المنطق الأرسطي عن هذا المنهج، وأصبح بذلك وسيلة الحجاج لدى الخاصة ممن اتصلوا بالفكر الإغريقي، واستمرءوا منطقه الصوري في البرهنة.
أما بالنسبة لتحديد "الفرقة الناجية" بفرقة خاصة من بين فرق المتكلمين، فيتجلى موقف محمد عبده في تعليقه على شرح "الرسالة العضدية1.. وشارح هذه الرسالة أصلا هو جلال الدين الصديقي الدواني، المتوفى سنة 1067هـ، وقد استهل رسالته بقوله:
"وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة"، قيل: ومن هم؟ قال: "الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي" ثم بعد أن أورد المؤلف الحديث عمد إلى تحديد هذه الفرقة الواحدة الناجية بقوله: "وهذه عقائد الفرقة الناجية وهم الأشاعرة"".
وبعد أن انتهى من هذا التحديد عقب الشيخ محمد عبده بقوله: "لا بد لنا أن نتكلم في هذا الحديث بكلام موجز، فاسمع واعلم أن الحديث قد أفادنا:
1-
أنه يكون في الأمة فرق متفرقة.
2-
وأن الناجي منهم واحدة.
3-
وقد بينها النبي، بأنها هي التي على ما هو عليه وأصحابه.
1 لعضد الدين الإيجي، المتوفى سنة 756هـ "1355م".
"وكون الأمة قد حصل فيها افتراق على فرق شتى، تبلغ العدد المذكور أو لا تبلغه: ثابت، وقد وقع لا محالة.
"وكون الناجي منهم واحدة أيضا حق لا كلام فيه، فإن الحق واحد، وهو ما كان النبي عليه وأصحاب، فإن ما خالف النبي عليه فهو رد.
"أما تعيين أي فرقة هي الفرقة الناجية، أي: التي تكون على ما هو عليه وأصحابه: فلم يتبين بعد إلى الآن".
"فإن كل طائفة -ممن يذعن لنبينا بالرسالة- تذهب فتجعل نفسها على ما النبي عليه وأصحابه! حتى إن "مير باقر الدماد" برهن على أن جميع الفرق المذكورة في الحديث هي فرقة الشيعة، وأن الناجي منهم فرقة الإمامية، وأما أهل السنة والمعتزلة وغيرهم وسائر الفرق فجعلهم من أمة الدعوة.
فكل يدعي الأمر، ويقيم على ذلك أدلة. وذكر الفلاسفة وأدلتهم.. والصوفية وأدلتهم
…
والمعتزلة وأدلتهم
…
وأهل السنة وأدلتهم
…
قال: "فكل يبرهن على أنه الفرقة الناجية المذكورة في الحديث، وكل مطمئن بما لديه، وينادي نداء المحق لما عليه! والوقوف على حقيقة الحق في ذلك يكون من فضل الله وتوفيقه.
فإن للناظر أن يقول:
- أن تكون الفرقة الناجية، والواقفة على ما كان عليه النبي وأصحابه قد جاءت وانقرضت، وأن الباقي الآن من غير الناجية.
- أو أن الفرق المرادة لصاحب الشرع -في هذا الحديث- لم تبلغ العدد الآن، وأن الناجية ما وجدت، وستوجد.
- أو أن جميع هذه الفرق ناجية: حيث إن الكل مطابق لما كان عليه النبي وأصحابه من الأصول المعلومة لنا عنهم كالألوهية، والنبوة، والمعاد، وما وقع فيه الخلاف، فإنه لم يكن يعلمه علم اليقين، وإلا لما وقع فيه خلاف.
- أو أن بقية الفرق ستوجد من بعد، أو وجد منها بعض ولم يعلم، أو علم، كمن يدعي ألوهية علي مثلا: "وبناء على هذا الافتراض تكون
الفرقة التي لم تعلم أو علمت -وقد وضح انحرافها- هي غير الناجية، وما عداها هو الناجي".
- وموجب هذا الترديد: أنه ما من فرقة إلا ويجدها الناظر معضدة بكتاب، وسنة، وإجماع، وما يشبه ذلك "كالقياس". والنصوص فيها متعارضة!
"والحق الذي يرشد إليه الشرع والعقل، أن يذهب الناظر المتدين إلى إقامة البراهين الصحيحة على:
- إثبات الصانع، وهو واجب الوجود.
- ثم منه إلى إثبات النبوات.
ثم يأخذ كل ما جاءت به النبوات بالتصديق والتسليم، بدون فحص فيما تكنه الألفاظ، إلا فيما يتعلق بالأعمال، على قدر الطاقة.
"وإن أراد التأويل لغرض: كدفع معاند أو إقناع جاحد، فلا بأس عليه إذا سلم برهانه من التشويش والتقليد".
وبهذا النقد للمذاهب الكلامية في ذاتها وهذا الموقف من تحديد مذهب معين منها على أن أتباعه هم الناجون، ثم برفع الفجوة بين صنعة "العقل" ورسالة "النص" من قبل. خلخل الشيخ محمد عبده التبعية، والتعصب لهذه المذاهب، وحول "القداسة" التي منحها تابعو هذه المذاهب إياها، وكذلك "السلطة" التي كانت لهذه المذاهب على نفوس تابعيها، حولهما إلى المصدر الأول للإسلام وهو: القرآن الكريم، ثم إلى السنة الصحيحة بعده، على نحو ما كان الشأن أيام الدعوة وبعدها بقليل في القرن الأول الهجري.. إنه يقول:
"ألم يأن لنا أن نرجع إلى المعروف مما كان عليه سلفنا، فنحيا بما كان قد أحياهم، ونترك ما ابتدعه أخلافهم مما أماتهم وأماتنا معهم"1؟!
1 تاريخ الإمام: ج2، ص411.
ويقول أيضا:
"فالقرآن سر نجاح المسلمين، ولا حيلة في تلافي أمرهم إلا إرجاعهم إليه، وما لم تقرع صيحته أعماق قلوبهم وتزلزل هزته رواسي طباعهم، فالأمل مقطوع من هبوبهم من نومهم، ولا بد أن يؤخذ القرآن من أقرب وجوهه، على ما ترشد إليه أساليب اللغة العربية، ليستجاب لدعوته، كما استجاب لها رعاة الغنم وساقة الإبل ممن نزل القرآن بلغتهم، والقرآن قريب لطالبه، متى كان عارفا باللغة العربية، ومذاهب العرب في الكلام، وتاريخهم وعوائدهم أيام الوحي"1.
وبهذا اعتقد الشيخ محمد عبده أنه صان وحدة الجماعة الإسلامية. وعمل على تماسكها من جديد.
وربما يكون طريقه إلى ذلك أنجح من طريق "الأشعري" ثم من طريق "ابن تيمية" بعده في محاولة كل منهما تخفيف حدة المذاهب الإسلامية وإرجاع المسلمين إلى الكتاب والسنة، وإلى الوحدة الأولى للجماعة الإسلامية.
- لأن "الأشعري" قامت محاولته: على إقرار بعض الآراء من هذا المذهب وعدم إقراره للبعض الآخر منه، ثم انتخابه بعض آراء أخرى من مذهب آخر وتركه البعض الآخر فيه. وهكذا
…
ثم ضم المنتخب، الذي أقره بعضه إلى بعض، في وحدة سماها: مذهب "أهل السنة والجماعة".
- وكذلك فعل "ابن تيمية" في نطاق أوسع: فما قبله من الآراء برهن على صحته، وما رفضه منها برهن من الشرع والعقل على عدم اعتباره.
ومن شأن مثل هذه المحاولة أن تبقي على القيمة الدينية لبعض الآراء الكلامية، وهي الآراء التي قبلت من صاحب المحاولة وذلك يؤدي بدوره إلى أن هذه القيمة لها صلة بالعقيدة من حيث تكوينها، أو توقيتها وتأكيدها.
- وهذا ما لم يقبله الشيخ محمد عبده، إذ جعلها قاصرة على الدربة الذهنية، وأوضح أن سبيل العقيدة يجب أن يكون هو السبيل الذي حدده القرآن الكريم في عرض دعوته.
1 تاريخ الإمام: ج2 ص515.
وطالما كانت هناك قيمة عقيدية باقية للمذاهب في جملتها، فالتبعية باقية له.
وعندئذ ليس هناك ضمان أن تعود لهذه التبعية سلطاتها، وبذلك تعود فجوة الفرقة إلى قوتها الأولى، وتتفتت وحدة الجماعة من جديد عن طريق ذلك.
والشيخ محمد عبده إذ يدعو المسلم إلى التحرر من التبعية الحزبية المطلقة والمذهبية.. يدعوه أيضا أن يكون ذا شأن ورأي، وله سلطة النقد، واختيار أسلوب التوجيه، وتكييف أحداث الحياة.. يدعوه إلى أن يفكر كإنسان، ولكن عليه -ضمانا لنجاح تفكيره، وسلامة هذا التفكير- أن يستهدي القرآن ويسترشده.. يدعوه إلى "الاجتهاد" ونبذ "التقليد"، يقول في تفسير قوله تعالى:{اللَّهُ الصَّمَدُ} :
"ثم -هو الله- "الصمد" في تحديد الحدود العامة للأعمال، ووضع أصول الشرائع، فلا بد أن يرد إلى ما أنزل جميع ما يقع الاختلاف فيه. وليس من المباح أن يرجع إلى قول غيره، متى نطق صريح كتابه بخلافه، وعلى الناس كافة أن يرجعوا إلى الكتاب. فإذا لم يكونوا عارفين به، رجعوا إلى العارف وطالبوه بالدليل منه. وعليهم أن يهتموا بأن يعرفوا منه أصول ما يعتقدون وما يعملون. فإذا لم يفعلوا اختلفت الآراء، وحجبت المذاهب كتاب الله فدرس معناه، وذهبت الحكمة من إنزاله.. لتعلق الناس بقول غير المعصوم، وعماهم عن هدى المعصوم، فكانوا بمنزلة من لم تأتهم رسالة. وإنما يعملون بما يقول لهم زعماؤهم، الذي لا يجدون دليلا على امتيازهم بالزعامة، فيكونون متمسكين بما لم ينزل به الله سلطانا، فسيقعون في مهاوي الشقاق الدنيوي والأخروي"1.
آمن الشيخ محمد عبده بأن للإنسان وجودا ذاتيا وكيانا مستقلا في هذا العالم، والدعى بأن للإنسان وجودا ذاتيا، يستتبع منطقها إقرار إمكان الإنسان فهم نصوص الكتاب المنزل، والتفقه على أساس منها، وذلك هو ما يعرف "بالاجتهاد" إذ الاجتهاد هو التفتيش في مصدر الجو الديني الأصيل، كي يطبع حالا معينة أو حادثة جديدة بطابع هذا الجو، بحيث لا يبدو شذوذ، ولا نفرة عن ذلك الجو الأصيل!
1 تفسير جزء عم: 178.
ومن هنا لا يتردد الشيخ محمد عبده في القول بإباحة الاجتهاد ونبذ التقليد!
وسبب الدعوة إلى الاجتهاد عنده هو طبيعة الحياة، وضرورات المجتمع الإنساني: فالحياة الإنسانية صائرة ومتطورة، ويجد فيها من الأحداث والمعللات اليوم، ما لا يعرفه أمس هذه الجماعة. والاجتهاد هو الوسيلة العلمية، والنظرية المشروعة، للملاءمة بين أحداث الحياة المتجددة وتعاليم الإسلام العامة. ولو وقف الأمر بتعاليم الإسلام عند حد تفقه الأئمة السابقة لسارت الحياة الإنسانية في الجماعة الإسلامية في عزلة عن التوجيه الإسلامي، وبقيت أحداث هذه الحياة في بعد عن تحديد الإسلام لها وتكييفها بالكيفية الإسلامية، وهذا وضع سيحرج المسلمين في إسلامهم وفي حياتهم معا! فإما أن تخف قيمة الإسلام في نفوسهم، تحت ضغط تيار الحياة وأحداثها، وإما أن يقفوا عن متابعة السير في الحياة فيصيروا في عزلة عن الحياة نفسها وضد الحياة وقانونها كذلك!
ومع أن الاجتهاد هو الوسيلة المشروعة والحتمية لامتداد الصيغة الإسلامية لأحداث المجتمع الإنساني في الجماعة الإسلامية، إلا أنه من جانب آخر لا يجوز أن يمارسه إلا من كان على الصفات العلمية التي كان عليها المجتهد الأول في القرون الثلاثة الأولى. ومن أجل ذلك قرر الشيخ محمد عبده جوازه في عصره وبعد عصره، بالشروط التي جاز بها فيما مضى، واحتاط في هذه الشروط احتياطا لا يقل عن احتياط الأوائل فيها.
وكان من الضروري، إذ يجوز الاجتهاد أن ينعى على التقليد؛ لأنه وقف بالعقل الإنساني عند حد معين لا يتجاوزه.
- وذلك يتنافى مع طبيعة العقل ذاته؛ لأن العقل وجد للملاءمة بين الإنسان وظروف الحياة التي يعيش فيها، ولذلك كان هذا العقل مصدر هداية وتوجيه له في حياته، فإن قضى عليه في عصر أن يقف عند حد أنواع الملاءمة التي استنبطت في عصر سابق، كان ذلك خروجا به عن طبيعته، ومثلا لحركته الذاتية في سيره.
- ويتنافى الوقوف به عند زمن معين مع طبيعة الحياة؛ لأن أحداثها ليست أزلية غير متغيرة، بل خصيصتها التغير والتجدد. وإذن، قد يكون ما ناسب أحداثها الماضية من علاج اقتراح من قبل غير مناسب لعلاج الأحداث الجديدة! والحكم بإخضاع هذه الأحداث الجديدة لتكييف
الماضي وعلاجه قد يؤدي إلى تعسف ومشقة، نتيجة التنافر بين خصائص الأحداث الجديدة والعلاج الذي أخذ به لأحداث سابقة فيما مضى.
- ويتنافى أيضا مع طبيعة المبادئ الإسلامية وخصائصها؛ لأن هذه المبادئ ليست لها طبيعة التوقيت، ولا الخصوص المكاني أو الزماني. فهي للناس كافة، وللإنسانية في أزمنتها المتتابعة، وفي جميع بقاعها. ومقتضى ذلك أنها صالحة لتناول أحداث الحياة، وقادرة على صبغها بالصبغة الإسلامية، وأنها صالحة كذلك لتوجيه الإنسان في الحياة في ظروفها المختلفة.
والشيخ محمد عبده إذ ينعى على التقليد، ينعى عليه لذاته من حيث هو كمبدأ، ثم على وجه أخص ينعى على صورته التي كان عليها في زمنه، وهي التي تتمثل في تبعية حرفية لها شبه قداسة وسلطة.. تبعية لمذاهب واتجاهات ولدتها أو مالت بها عن خط الاستقامة عهود الضعف الفكري، والسياسي، والاقتصادي في الجماعة الإسلامية.. وتبعية لكتب قامت على كثرة الافتراض النظري في تفصيل الآراء، وبعدت بذلك عن الحياة في سيرها الواقعي، وغمضت في أسلوبها، وهدفت إلى توكيد الخصومة المذهبية الجامحة.
ويبين محمد عبده مدى أثر هذا التقليد على علماء الأزهر:
"وإذا وصل إلى أيدي هؤلاء العلماء كتاب فيه غير ما يعلمون لا يعقلون المراد منه!! وغذا عقلوا منه شيئا يروونه ولا يقبلونه!! وإذا قبلوه: حرفوه إلى ما يوافق علمهم وحزبهم، كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة"1.
فإقرار الاجتهاد وجوازه -في نظر الشيخ محمد عبده- ليس مظهرا لاعتبار الإنسان وتقديره فحسب، بل هو قبل ذلك ضرورة اجتماعية إسلامية، واستمرار عملي للحياة الإسلامية داخل المجتمع الإسلامي.
العقل الإنساني هو العقل الإنساني في كل عصر وجيل.. وموقف الإنسان المسلم من كتاب الله وسنة رسوله في أي جيل، يجب أن يكون هو موقف الإنسان المسلم أول الدعوة في الإسلام، وفي الفترة الذهبية له. هذا
1 تاريخ الإمام: ج1 ص766.
الموقف هو: أن للمسلم المتأخر في الزمان الحق كل الحق في أن يفهم القرآن والسنة الصحيحة، كما كان هذا الحق نفسه للمسلم السابق، على أن تتوافر للمتأخر مقومات الفهم "السليم" على نحو ما عرفها السلف فيما مضى، واعتبرت دستور الاجتهاد أو شروطه، وهذا الحق المشترك بين السابق واللاحق لا يوحي به تحقق الوصف الإنساني لكل منهما فحسب، بل توحي به أيضا الأحداث المتغيرة في الجماعة الإسلامية، وتطور الحياة نفسها بين المسلمين.
فهذه الأحداث خليقة بأن تحمل المسلمين في بيئاتهم المختلفة وأجيالهم المتعاقبة على إخضاع هذه الأحداث نفسها للإسلام، حتى يصبح تصرف المسلمين إزاءها تصرفا إسلاميا
…
وبذلك لا يغيش الإسلام في عزلة عن مجرى الحياة العلمية للجماعة الإسلامية!
هذه الأحداث خليقة بحمل المسلمين على ذلك؛ لأنها طارئة على حياتهم، ولم يعرفها أسلافهم من قبل، ولو وقف المتأخرون عند حد ما قطعه السابقون، في الملاءمة بين أحداث الحياة وتعاليم الإسلام، لوجدوا أنفسهم -بعد فترة من الزمن- أنهم أمام هذه الثنائية:
- حياة تسير وتجري في سيرها، لا يستطيعون وقف سيرها وجريانها، وبالتالي لا يستطيعون اتخاذ موقف معين إزاءها.
- وإسلام يعتقدون به، ويرون أن يكون سلوكهم في حياتهم على أساس من تعاليمه وتوجيهه!!
محاربة سلطة الكتاب الموجه، وهو كتاب المتأخرين:
ويرى الشيخ محمد عبده في كتب المتأخرين، والتي ألفت في عهود الركود والضعف -من تأثيرها على التوجيه تأثيرا سلبيا، وحجبها العقل الإسلامي من أن يرى الحياة فيسايرها في أحداثها وتطورها- ما رآه في الحزبية المذهبية من قبل! فكما أن أثر الحزبية المذهبية في الجماعة الإسلامية أثر سلبي على وحدتها وتماسكها من جانب، وعلى الاهتداء بالقرآن نفسه والسنة الصحيحة اهتداء مباشرًا في تكييف الحياة الإنسانية المتجددة من جانب آخر، فكذلك الشأن بالنسبة لكتب المتأخرين.
يقول في تقدير هذه الكتب:
"إذا رجعنا إلى كتب القرون المتوسطة -فترة ما قبل الركود، كالزيلعي مثلا- نكون قد خطونا خطوة لإصلاح الكتب والفقه، وما دمنا مقيدين بعبارات هذه الكتب -المتأخرة- المتداولة، ولا نعرف الدين والعلم إلا منها، فلا نزداد إلا جهلا!! هذا الشوكاني لما كسر قيود التقليد الأعمى، حيث كان وهابيا معتدلا، صار عالما وفقيها! إن حالة الفقهاء هذه -في كتب المتأخرين- هي التي ضيعت الدين؟ ".
كما نعى محمد عبده على التطويل في بحوث العبادة، وعلى ترك التطور والتفصيل في باب المعاملات، حيث يقول:
"إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان، أمور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب، فهل نوقف سير العالم من أجل كتبهم؟ هذا لا يستطاع؟!
"ولذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية، ولجئوا إلى غيرها.. والفقهاء هم المسئولون عند الله عن هذا، وعن كل ما عليه الناس من مخالفة الشريعة؛ لأنه كان يجب عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان، ويطبقوا عليه الأحكام بصورة يمكن للناس اتباعها، كأحكام الضرورات، لا أنهم يقتصرون على المحافظة على نقوش هذه الكتب ورسومها، ويجعلونها كل شيء، ويتركون لأجلها كل شيء!!
"يقرءون "الأصول" ولا يخطر ببال واحد منهم أن يرجع فرعا من هذه الكتب إلى أصله، أو يبحث عن دليله!! بل لم يخجلوا أن يقولوا: نحن مقلدون لا يلزمنا النظر في الكتاب والسنة!! دانوا لكتب المتقدمين "عليهم مباشرة" على تعارضها وتناقضها، الذي تشتت به شمل الأمة، ويكتفون بقولهم: ولكهم من رسول الله ملتمس!!!
"ينبغي أن يكون للفقهاء جمعيات يتذاكرون فيها، ويتفقون على الراجح الذي ينبغي أن يكون عليه العمل.. وإذا كان بعض المسائل رجح لأسباب خاصة بمكان أو زمان، ينبغي لهم التنبيه على ذلك، وعلى أن هذا الحكم ليس عاما، وإنما سببه كذا؛ لا أنهم يجعلون كل ما قيل عن فقيه، واجب الاتباع في كل زمان ومكان"1.
1 تاريخ الإمام: ج1 صفحة 943-945.
إحياء كتب الأوائل:
وفي الوقت الذي عاب فيه محمد عبده على كتب المتأخرين، ونعى على المتمسكين بها إلى حد أن كان تمسكهم بها سببا في ضياع مصالح الناس
…
دعا إلى إحياء التراث القديم، وساهم هو مع ذلك في إحيائه، وهو بهذا وذاك، منطقي مع تفكيره العام في الجانب التوجيهي؛ لأنه إن عاب كتب المتأخرين، لم ينتقص من قيمة التراث الإسلامي والعربي، كأساس يجب أن يقوم عليه كل إصلاح، وتبنى عليه نهضة الشرق الإسلامي، في مسايرته للحياة الواقعية.
فاعتماده على هذا التراث من جانب، وتقليله من قيمة كتب المرحلة المتأخرة من جانب آخر.. كان لا بد أن يوحي بفكرة إحياء التراث القديم!!
ساهم محمد عبده بنفسه في إحياء هذا التراث، ودفع إليه السلطة القائمة إذ ذاك، ورغب تلاميذه في هذا العمل
…
فشرح كتاب "البصائر النصيرية" في علم المنطق، وأخرج "نهج البلاغة" في الأدب، وغير ذلك، وهكذا أعطى محمد عبده نموذجا للانتفاع بالتراث القديم!
كما وضع مبادئ عامة للتأليف الحديث، ورسم منهجا خاصا لتفسير القرآن الكريم.. والتزم هذه المبادئ في تأليفه، "رسالة التوحيد" وفي تفسيره الخاص لكتاب الله المنزل.
ويقوم منهجه في تفسير القرآن الكريم على هذه الأسس التالية.
- إخضاع حوادث الحياة القائمة في وقته لنصوص القرآن الكريم، إما بالتوسع في معنى النص، أو بحمل الشبيه على الشبيه.
- اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة، لا يصح الإيمان ببعضه، وترك بعض آخر منه، كما أن فهم بعضه متوقف على فهم جميعه.
- اعتبار السورة كلها أساسا في فهم آياتها، واعتبار الموضوع فيها أساس في فهم جميع النصوص التي وردت فيها.
- إبعاد الصنعة اللغوية عن مجال تفسير القرآن، وإبعاد تفسيره عن أن يجعل مجالا لتدريب الملكة اللغوية.
- عدم إغفال الوقائع التاريخية في سير الدعوة إلى الإسلام، عند تفسير الآيات التي نزلت فيها.
والشيخ محمد عبده بهذا المنهج في تفسير القرآن الكريم لم يعد للقرآن حرمته واعتباره فقط، بل رسم منه دائرة تستطيع أن تحيط بالحياة الإنسانية في حاضر الإنسان المسلم، كما أحاطت في الماضي البعيد بحياة المسلم على عهد الدعوة، وفي العهد القريب منها بعد ذلك.
إصلاح الأزهر:
رأينا حتى الآن أن الشيخ محمد عبده يمارس التفكير في جوانب متعددة:
- يمارسه في الجانب القومي في السياسة الوطنية، والتربية الجماعية.
- ويمارسه في الجانب الاجتماعي: في الكشف عن عيوب المجتمع، وبيان مقوماته.
- ويمارسه في جانب العقيدة: ببيان ما يحول دون المسلم أن يكون إيجابيا وما يدفعه إلا أن يكون بناء.
- ويمارسه في جانب التوجيه العام: ليخلق من المصري، والشرقي المسلم مواطنا صالحا.
وفي جميع تلك الجوانب التي مارس فيها محمد عبده التفكير نقدا وبناء، التزم شيئا واحدا هو: الثقافة الإسلامية.
فنواة تفكيره في ذلك كله هي الثقافة الإسلامية.. وهو يرى أن الانحراف في هذه الثقافة هو سبب فساد المجتمع.
وإعادة هذه الثقافة إلى إيجابيتها، هي السبب في نهضة الأمة كجماعة، وكأفراد، وهي السبب بعد ذلك في دفع الاستعمار، وفي محو الظلم والإهانة البشرية، اللذين تقوم عليهما سلطته المستعمرة في البلاد الإسلامية.
- لكن ما السبيل إلى إبعاد الانحراف عن هذه الثقافة؟
- ما السبيل إلى جعل هذه الثقافة ثقافة بناءة؟
- ما السبيل إلى إبعاد عوامل الفرقة في الأمة؟
- ما السبيل إلى رد اعتبار الإنسان للإنسان في هذه البلاد؟
- ما السبيل أخيرا إلى أن نسير دائما، ولا نتخلف أبدًا؟
سبيل ذلك في نظره: إصلاح الأزهر، وإصلاح الأزهر وحده!
فالأزهر، هو كقلب الأمة، إن فسد فسدت الأمة، وإن صلح صلحت الأمة، إن فسد فسيحترف رجاله الدين عن غير فهم صحيح للإسلام، فيطغى الانحراف في توجيه الأمة، وتنتشر المذاهب الانفرادية والإباحية، وتزيد الأمة ضعفا بذلك على ضعف!! وبهذا يخف وزن الإسلام وتخف قيمه في نفوس الناس، وبالتالي يقوى النفوذ الاستعماري، ولا يستطيع المسلمون أن يواجهوه في صف واحد كتلة قوية، بإيمانهم في الحياة، وبسيادتهم فيها ولو على أنفسهم على الأقل!!
وإن صلح هذا الأزهر فسيشع منه نور الهداية، وسيكون علماؤه قدوة للمواطن المسلم الصالح
…
قدوة في العمل، والتفكير معا!
ويجمل الشيخ محمد رشيد رضا رأي الشيخ محمد عبده في قيمه إصلاح الأزهر، فيما يلي:
"ثم سمت به همته إلى السعي في إصلاح الأزهر، معتقدا: أن إصلاحه خير إصلاح لحال المسلمين الدينية والدنيوية، ولإصلاح كل من يساكنهم في بلادهم بالتبع لهم، وأنه خير وسيلة للتعارف بين الشرق والغرب، وخير صلة بين المدنية القديمة والمدنية الجديدة؛ لأنه علم أن السبب في التقاطع بين أوروبا والمسلمين: هو جهل الأوروبيين بحقيقة الإسلام، وعجز المسلمين عن إفهامهم تلك الحقيقة؛ لأنهم غير متحققين بها، لا علما ولا عملا ولا تحققا.. ثم جهل المسلمين بحقيقة أوروبا، وبكنه ارتقائهم العلمي والاجتماعي.
"ولو صلح حال التعليم في الأزهر، لهب المسلمون إلى طلب العلوم الصحيحة، كما هبوا لذلك في أول نشأتهم، فأحيوا ما أماته الزمان من علوم الهند واليونان، فلا يجدون أمامهم إلا أوروبا وعلومها الحية، ويفهمونها على أنها خير عون لهم على تكميل مدنيتهم
…
فيتعارفون، ولا يتناكرون! وإذا
عارضت الساسية تعارفهم فإنه يسهل من إزالة معارضتها مع التقارب والعلم، ما لا يسهل عليهم مع التقاطع والجهل"1!
كان أمل الشيخ محمد عبده في حياته إذن بعد تفكيره الذي وضح خطوطه: هو إصلاح الأزهر! عادى خديوي مصر "عباس الثاني" من أجل الأزهر، ومن أجل أوقاف المسلمين "وقف الجيزة" على كتاب الله! واتصل بكرومر الحاكم غير الشرعي من أجل الأزهر وأوقاف المسلمين، على كتاب الله! ومات أخيرا، وهو صريع الكفاح من أجل الأزهر وكتاب الله!
ودعا الأزهريين إلى فهم كتاب الله.. إلى نبذ التقليد
…
إلى الرجوع إلى كتب المتقدمين.. إلى فهم الحياة الواقعية
…
"إلى السير مع السائرين فيها
…
إلى عرض الإسلام بعقلية العصر وأسلوب العصر
…
أنه يقول:
"إن العالم المسلم لا يمكنه أن يخدم الإسلام، من كل وجه يقتضيه حال هذا العصر، إلا إذا كان متقنا للغة من لغات العلم الأوروبية، تمكنه من الاطلاع على كتب أهلها في الإسلام وأهله، ومن مدح وذم"2.
وقد رسم محمد عبده خطة المناهج: لتخريج الدعاة، وتخريج المؤلفين، وتخريج العلماء الباحثين، ونفذ هذه الخطة في دروسه، وتواليفه للخاصة والجمهور، وفي إحيائه للتراث القديم.
ولكن الأزهريين قاوموا الشيخ محمد عبده
…
اتهموه في إيمانه، وفي دينه! اعتبر الأزهريون إيمان الشيخ محمد عبده ضعيفا، واعتبروا دينه رقيقًا وطال الأمد على هذا الظن، حتى تحول الاتجاه عن محمد عبده، وعن إصلاحه وعن خطته، وطريقته في درسه وتأليفه!
ومع ذلك مات الشيخ محمد عبده غير يائس من إصلاح الأزهر3 ولكنه لم يدر بخلده يوما ما، أن يتحول الأزهر إلى معهد لتخريج مدرسي
1 تاريخ الإمام: ج1: ص543.
2 تاريخ الإمام ج1: ص927.
3 هل تحققت آمال المفكرين في إصلاح الأزهر بصدور القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها؟
اللغة العربية في المرحلة الابتدائية من مراحل التعليم في وزارة التربية والتعليم، وأن لا يستطيع أن يخرج من يفهم الإسلام، فضلا عن أن يفهمه الناس، فضلا عن أن يكون هذا المتخرج ذا بحث وبناء في رسالة الإسلام.
لم يدر بخلد الشيخ محمد عبده أن يصير الأزهر إلى وضع يؤدي إلى حجب الثقافة الإسلامية عن الأجيال القادمة، وأن يكون حاله الذي صار إليه مساويا في النتائج لذلك المشروع الغربي الاستعماري، وهو مشروع كتابة العربية بالحروف اللاتينية!. فالأزهر -فيما صار إليه- قد توقف عن تخريج فاهم للإسلام. وبذلك بقيت كتب التراث الإسلامي في عزلة عن حياة المسلمين، إذ الأزهري الفاهم للإسلام كان فيما مضى هو الصلة بين الطرفين وفكرة كتابة العربية بالحروف اللاتينية -لو قيض لهذه الفكرة أن تتم- لكانت نتيجتها ذات النتيجة وهي: قطع حياة المسلمين عن ماضيهم الإسلامي، في ثقافتهم الموروثة.
لم يدر بخلد الشيح محمد عبده أن مشيخة الأزهر في عهد ما ستتحول إلى مكتب، نشاطه لا يتصل بالتعبئة الروحية في الشعب، ولا يتصل بالدفاع عن الإسلام في وجه هجوم الغرب الصليبي المستعمر، ولا بالعمل على إبراز حيوية الإسلام وسمو تعاليمه في مواجهة الإلحاد المادي، مما يعتبر المهمة الأساسية الكبرى للأزهر كجامعة وحيدة في العالم الإسلامي، وكمصدر للقوة الفكرية الإسلامية، ومصدر لا ينازع لزعامة مصر في العالم الإسلامي، ولمنزلة مصر في العالم العربي كذلك.
تقدير المستشرقين للشيخ محمد عبده:
إن الشيخ محمد عبده كان في نهاية القرن الماضي شمعة مضيئة.. كان الظلام شديد الحلوكة حوله، ولكن لم يكن قليل الضياء في نفسه -كما يقول ماكس هورتن المستشرق الألماني- بل إن وقته قد تجاهله وحاربه، فلم ير ضوءه على حقيقته؟؟ وماكس هورتن واحد من عديدين من المستشرقين، الذين يحاولون وضع غطاء على قيمة الشيخ محمد عبده نفسه؛ وعلى آرائه في صلتها بحقيقة الإسلام.
فذلك المستشرق الفرنسي "B. Mechel" - الذي قام بالاشتراك مع الشيخ مصطفى بعد الرازق بترجمة "رسالة التوحيد" للشيخ محمد عبده يعلق على رأي الشيخ محمد عبده في الإسلام بقوله:
"كان محمد عبده متفائلا أكثر من الواقع حيث قال باتحاد العلم مع الدين في كل وضع، في حين أن العلم لا يخضع للدين في بعض الأحيان، كما في أوروبا! ولعله أتى بهذا الرأي لحمل العلماء من المسلمين على دراسة المدنية الحديثة، ورأى أن هذا هو الطريق لذلك"1؟؟
ودائرة المعارف الإسلامية -التي أخرجها بعض المستشرقين -تذكر ما يلي في تعليقها على آراء الشيخ محمد عبده فيما يتصل بتقييم الإسلام:
"والإسلام البدائي -نقصد الإسلام على عهد الرسول وصحابته- في نظر الشيخ عبده، ليس هو الإسلام التاريخي "الذي صار إليه الأمر في حياة المسلمين! "
…
وإنما هو إسلام اصطنع مثاليته، وجعله متوقفا على المسيحية في أنه دين معقول، ومتصل بالحياة اتصالا كثيفا، متصل بتلك الحياة الواقعية؟
"وعمله "الشيخ محمد عبده"، بالنسبة للإسلام، له طابع الدفاع عن العقيدة
…
ومساهمته في فكرة الإسلام الديني هي محاولة لخلق موضع للإسلام في العالم الحديث"2.
وبمثل هذا التعليق يحاول المستشرقون أن يصوروا -من طريق غير مباشر- أن الإسلام في ملاءمته للعلم، وفي سمو مبادئه، وفي صلاحيته للحياة، ليس على النحو الذي يصوره به الشيخ محمد عبده، وأن الإسلام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى عهد صحابته رضوان الله عليهم، لا يفترق عن الإسلام كما فهمه المسلمون بعد ذلك، وعلى نحو ما تمسكوا به في عهودهم ضعفهم!!
وإذن فالشيخ محمد عبده مجرد متفائل
…
يحاول الدفاع عن الإسلام، فيطبعه بطابع مثالي
…
كما يحاول أن يجعل له مكانا في الحياة الحديثة، مع أنه ليس له مكان فيها!!
1 ترجمة رسالة التوحيد: ص50.
2 دائرة المعارف الإسلامية -الطبعة المختصرة باللغة الإنجليزية، ص405-407.
وهكذا يصاب من المسشرقين كل من يكتب عن الإسلام، بعقيدة المؤمن به، أما في شخصه وطبعه كجمال الدين الأفغاني، أو في تفكيره ورأيه كالشيخ محمد عبده!!
محمد عبده
…
والسير أحمد خان:
يذكر المرحوم أحمد أمين في تعليقه وترجمته للسير "سيد أحمد خان" في الهند، أنه يشبه الشيخ "محمد عبده" في مصر، من حيث إن كلا منهما كان مصلحا دينيا، وقصد الإصلاح عن طريق التربية، مؤثرا هذا الطريق على طريق الثورة والاحتكاك بالمستعمرين وهو الطريق الذي سلكه جمال الدين الأفغاني
…
يقول1:
"ثم كلاهما كان يرى أن السطان في مصر وفي الهند، في يد الإنجليز، ولهم من القوة المادية والأسلحة والذخائر في البر والبحر، ومن القوة العلمية والسياسية، ما لا تستطيع الهند ومصر مقاومته!! قد يستطيعون المقاومة إذا اتحدوا، ولكن كيف يكون اتحادهم مع جهلهم وضعف خلقهم! بل كيف يكون ذلك مع فساد أمرائهم، وبحثهم عن منافعهم الشخصية، ولو حلى حساب الأمة قالا: إذن، فالأولى مسالمة الإنجليز، والتفاهم معهم، وأخذ ما نستطيع لخير الشعب منهم".
والأستاذ أحمد أمين يشير بهذه "المسالمة" للإنجليز -فيما يخص الشيخ محمد عبده- إلى مهادنته للورد كرومر. ولكن مهادنة الشيخ محمد عبده لكرومر إنما كانت لحماية نفسه من اضطهاد الخديوي عباس الثاني إياه، كي يتمكن من إعلان رأيه في إصلاح الأزهر والدفاع عنه، وحتى يستمر في نشاطه الفقهي، وفي أحاديثه التوجيهية والعلمية في مجالسه ودروسه
…
كانت أيضا لحماية أوقاف المسلمين الخيرية، التي أخذ هذا الخديوي الشاب في تصفيتها -جشعا منه- بسبب أو بآخر، ويضيفها إلى أملاكه الخاصة.
لقد كانت توجد في مصر سلطتان: سلطة الاحتلال وسلطة أخرى محلية وهي سلطة الخديوي، بينما كانت توجد في الهند سلطة واحدة هي: سلطة الاحتلال الإنجليزي، فهناك نوع من المفارقة بين الهند ومصر، وبالتالي
1 كتاب زعماء الإصلاح ص121.
بين موقف الشيخ عبده وموقف السير سيد أحمد خان: فالممالأة للسلطة القائمة هناك كانت واضحة لتحقيق منفعة شخصية أو لتحقيق خدمات للاستعمار. أما التفاهم هنا في مصر مع ممثل السلطة المحتلة فكان للوقاية، وللحيلولة دون استمرار تنفيذ الخطة الموضوعة لتصفية أوقاف المسلمين، وتوجيهها وجهة أخرى غير التي وقفت عليها من الخيرين!!
ثم إن الشيخ محمد عبده له ماض طويل في الكفاح ضد الاستعمار، سواء وهو بمصر، أو حين كان في باريس، أو في بيروت، أو في شمال إفريقيا، مع أنه لم يعرف للسير "أحمد خان" موقف واحد ضد الاستعمار البريطاني، ولا ضد النفوذ البريطاني في صورة ما في الهند، حتى قبل نقل السلطة من شركة الهند الشرقية الإنجليزية إلى التاج البريطاني سنة 1857م!!
يضاف إلى ذلك، أن الشيخ محمد عبده لم يحاول في "إصلاحه الديني" -كما حاول سير أحمد خان- أن يوقف مبدأ من مبادئ الإسلامي الرئيسية كمبدأ الجهاد ولا أن يمالئ المسيحيين في الاعتراف بإنجيل من أناجيلهم الأربعة:"إنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، وإنجيل مرقس" -وهي جميعها تدخل في ما يعرف بـ"العهد الجديد"- بل كتب كتابه المشهور في فضل الإسلام على المسيحية، وهو:"الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية"، في حين كتب السير أحمد خان كتابه:"تبيان الكلام" يدافع فيه عن صحة المسيحية كرسالة من السماء بوضعها الموجود فيه في الأناجيل الأربعة بين المسيحيين.. تلك الإناجيل التي كتبها بعض من الحواريين على حسب رواية كل منهم، وعلى حسب ما تصوره وأدركه شخصيا من تعاليم المسيح.
وقد عاد المرحوم الأستاذ أحمد أمين -بعدما ذكر من وجه الشبه بين السير أحمد خان والشيخ محمد عبده- إلى الحديث عن السير أحمد خان وموقفه من البريطانيين في الهند
…
فقال:
"عندما قام الهنود بحركة عنيفة في ثورتهم على الاستعمار البريطاني سنة 1857م، وهاج الرأي العام الإنجليزي هياجا شديدا، كان السير أحمد خان متزنا، مخالفا للرأي العام، ورأى أن هذه الثورة لا تأتي بنتيجة، وأن آخر أمرها عودة الإنجليز إلى السيطرة ثانية، من غير فائدة إلا ضحايا الطرفين، وأن قتل الإنجليز وخاصة المدنيين، عمل غير إنساني.. لذلك وضع خطة بذل فيها الجهد مع أصدقائه لحماية الإنجليز من القتل، وإنجاء من تصل إليه أيديهم منهم، فنجا على يده وأيدي أصدقائه كثير،
وضحى في ذلك بالكثر من ماله، واضطهاد أقاربه حتى لقد طعن بعضهم بالخنجر من الثائرين، وماتت أمه لهول الصدمة من قوع الحوادث الأليمة.
"فلما هدأت الثورة، عرف له الإنجليز فضله، وحفظوا له جميله، وكأفئوه ماديا وأدبيا. ومن ذلك الحين تأكد الصلة بينه وبنيهم فاستخدمها فيما وضع من خطة الإصلاح"1.
والآن ترى: أيعد هذا الصنيع من السير أحمد خان أمارة ولاء للإسلام وللوطن الإسلامي؟! أم هو أمارة على الولاء للمستعمر، وتمكينه من اغتصاب حقوق المسلمين؟!
ووجه الشبه الذي يربط به الأستاذ أحمد أمين بين السير "أحمد خان" والشيخ "محمد عبده"، على نحو ما ذكرنا، قد تأثر فيه بما يصور به المستشرقون حركة السير أحمد خان من أنها حركة إصلاحية، ليكون لها طابع الإصلاح الديني وبذلك تجد قبولا لدى المسلمين، ومن ثم يسري هدفها إلى نفوسهم
…
فالذي ينقل هنا عن موقف السير أحمد خان من الإنجليز هو تيئيس للمسلمين من مقاومة الاستعمار، فما أبعد هذا عن أن يكون غاية لإصلاح ديني إسلامي وسياسي وطني.
والمستشرق بلوم هارت Blum Hardt كتب مقالا في "دائر المعارف الإسلامية" باللغة الإنجليزية، يحاول فيه أن يطبع حركة السير "أحمد خان" بطابع حركة الشيخ "محمد عبده"؛ وهو الطابع الإصلاحي، وبنفس الأسلوب الذي كتب به المرحوم الأستاذ أحمد أمين موازنا بين الشيخ محمد عبده والسير أحمد خان فيما ذكر هنا2.
والذي أميل إليه: هو أن المرحوم أحمد أمين في هذا الموضوع، قد حسن ظنه بما يكتبه المستشرقون، على عادة كثير من الكتاب المسلمين في معالجتهم القضايا الإسلامية. فإنهم يقعون تحت تأثير ما يكتبه المستشرقون في أحكامهم وأهدافهم، دون أن يحتاطوا في التبعية لهم، والتأثر بهم.... وفي كثير من الأحايين يرون ما يكتبه أولئكم جديرا بالاعتبار؛ لأنه في ظنهم قائم على منطق لا يرد؟!
1 زعماء الإصلاح الحديث: ص123، 124.
2 دائرة المعارف الإسلامية "المختصرة": ص25.
محمد عبده.. ومحمد بن عبد الوهاب:
كما تتلمذ ابن عبد الوهاب على "كتابات" ابن تيمية، تتلمذ محمد عبده على "شخص" جمال الدين الأفغاني.... ولكن مع فارق في التلمذة، وفارق آخر في نتيجة هذه التلمذة:
- "محمد عبد الوهاب": حفظ لابن تيمية وأكد حفظه، ولكن لم ينمه، ولم يمتحنه
…
أبقى عليه كما هو، وإن ركز عنايته في بعض جوانبه دون البعض لآخر، على نحو ما يعرف له من تأكيده الجانب السلبي في تعاليم ابن تيمية دون الجانب الإيجابي منه، كاستخدام الاجتهاد مثلا، واستطاع أن يوفر على العناية بهذه التعاليم، سلطة وحكومة تهتم به وبصيانتها -على الأقل من الوجهة الرسمية.
- أما "محمد عبده": فقد تلقى على جمال الدين الأفغاني، واستمع إليه، وشاركه الرأي، وعبر عما ينسب إليه من فكر، ومع ذلك لم يبق في حدود ما تركه جمال الدين، بل امتحنه ونماه.. وخلق منه نظاما علميا وعقليا متعدد الجوانب وإن كان موحد المصدر وموحد الغاية.
اختبر محمد عبده ما خلفه جمال الدين، أو ما تركه في نفسه كتلميذ له.. فلم يرقه سبيل إثارة الحماس الشعبي؛ لأن هذا السبيل مؤقت في تأثيره، كما أنه غير مأمون العاقبة؟ ولذا حاد عنه رويدا رويدًا، بعد أن شارك فيه أستاذه، وبعد أن استمر فيه أيضا بعد أستاذه مشاركا عرابي ورجاله في ثورتهم المشهورة التي انتهت بالاحتلال البريطاني سنة 1882م1.
وبعد أن اختبر "محمد عبده" ما عرف لجمال الدين الأفغاني من آراء ومنهج رسم لنفسه طريقا آخر يؤدي في نظره إلى ذات الغاية، مستعينا في الوصول إلى هذه الغاية بذات المبادئ التي عنى بها جمال الدين.. رسم
1 هذا الاحتلال كان متوقعا من وقت لآخر بدون هذه الثورة، واقتران الاحتلال بهذه الثورة أمام الرأي العام العالمي، يشبه إلى حد كبير اقتران تمكين إسرائيل في الحرب اليهودية في 15 مايو سنة 1948 من معظم الأراضي الفلسطينية، بمشروع الهدنة الأولى في هذه الحرب.. إن كلا من الأمرين كان مناورة استعمارية، تلمست لها السياسة الغربية شبه مبرر لتنفيذها.
لنفسه طريق "التربية": تريبة الشعب، وتربية القادة والموجهين، وهم العلماء.
- تربية الشعب لفهم الحياة، والسير فيها، وإخضاع الحكم لإرادته ورأيه.
- وتربية القادة لتوجيه الشعب في قراه ومدنه، ولتوجيه البحث في أكاديمية البحث وهي: الأزهر.
والأساس المشترك في نوعي التربية عنده هو الإسلام؟
ولكنه ليس إسلام الفرق والمذاهب، ولا إسلام المقلدين، ولا إسلام المبتدعين ولا إسلام "السلبيين" من أرباب الطرق الصوفية.
إنما هو إسلام القرآن الذي يحث على الإعداد الإنساني لهذه الحياة، وهو الإعداد القائم على الذاتية وعلى عدم إلغاء الشخصية الفردية.
ولهذا فإن "الاجتهاد" مطلوب للإسلام، أو هو نتيجة من نتائج الإسلام الصحيح.
والغاية الأخيرة التي يقصد إليها الشيخ محمد عبده: هي نهضة المسلمين، وصيانتهم لحقهم في أن يعيشوا متساوين مع غيرهم في الحياة، حريصين على أن لا يستذلوا لأحد أجنبي عنهم.
ويتميز "محمد عبده" أيضا في علاقته بجمال الدين عن محمد بن عبد الوهاب في صلته بابن تيمية بأن محمد عبده، فوق أنه اختبر الذي ألقي إليه من جمال الدين وما وجهه به، وأخرج نظاما علميا يختلف في الصياغة وإن اتحد في الأساس والغاية.. لم يبق في حدود "التربية" من الوجهة النظرية، بل ضرب الأمثلة وقدم النماذج.
- على مناهجه العلمية لتربية الشعب، في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية.
- وفي برامجه الإصلاحية للبحث بين علماء الأزهر.
- وفي تأليفه الشعبي: كتفسيره جزء عم.. وتأليفه الأكاديمي: كدروسه في تفسير القرآن الكريم بالرواق العباسي التي كان يؤمها قادة الشعب من الأقباط والمسلمين وكبار علماء الأزهر.
لقد مارس محمد عبده إذن الجانب العملي في تطبيق فكرتي: التربية والاجتهاد.
بينما وقف محمد عبد الوهاب حارسا على تركة ابن تيمية، وإن كان قد أضاف إلى مجهود الحراسة مجهودا آخر: فإنما هو تأكيده الحرب ضد البدع، وفي إبراز التفرقة بين الشيعة المعتدلة من الإمامية والجماعة السنية!
هذا الاختبار الذي أجراه محمد عبده في تراث جمال الدين الأفغاني، والذي أدى به إلى أن يتخير وسيلة أخرى: هي وسيلة "التربية"، دفع بعض الكتاب إلى أن ينظروا إلى الشيخ محمد عبده -كما تقدم- على أنه تربوي، أو مصلح ديني، وليس لعمله صلة بالسياسة أو الحركات السياسية!! ودفع هؤلاء الكتاب بالتالي إلى أن يحكموا على نشاط محمد عبده بأنه في اتجاه يغاير تماما اتجاه جمال الدين الأفغاني.
ولكن إذا قصد بالسياسة العمل على تخليص البلاد الإسلامية من الاستعمار الغربي، أو قصد بها مقاومة الاستعمار
…
فإن كلا من جمال الدين ومحمد عبده، هدف إلى مقاومة الاستعمار الغربي، وتخليص البلاد الإسلامية من هذا الاستعمار! فالغاية لم تتخلف عند أحدهما، والأسس التي يجب أن تؤدي إلى ذات الغاية لم تتغير في نظر واحد منهما أيضا.
كذلك يحاول بعض الكتاب، أن يضع فراغا آخر بين جمال الدين ومحمد عبده وراء الوسيلة عند كل منهما، وهو: أن "جمال الدين" إسلامي عالمي يسعى إلى تكتل المسلمين جميعا نحو حكومة واحدة أو في ظل اتحاد عام، بينما "محمد عبده" وطني مصري قصر نشاطه على وطنه مصر!!
ولكن إذا روعي أن الأسس التي أقام عليها "محمد عبده" ونظامه التربوي، والتي جعلها مقدمة لتخليص البلاد الإسلامية من الاستعمار الغربي، أو لرد الاعتداء الغربي المسيحي على الشرق الإسلامي، هي نفس الأسس التي اتخذ منها "جمال الدين" دعامته في مقاومة الاستعمار الغربي
وفي كفاحه السياسي، وهي: الرجوع إلى القرآن، وإلغاء التقليد، وأعمال الاجتهاد، ومحاربة البدع والسلبيات
…
إذا روعي هذا فإن هذه التفرقة بين الاثنين تغدو غير مفهومه، على النحو الذي قصد إلى إبرازه..إلا على اعتبار أن محمد عبده جعل مصر "حقل" تجاربه التربوية.
ثم إنه لم يثبت من جانب آخر أن "جمال الدين" حدد غايته الأخيرة تحديدا واضحا بإقامة حكومة واحدة تخضع لسلطانها كل البلاد والشعوب الإسلامية، وإنما الذي ثبت في كتاباته في مجلة "العروة الوثقى" أن غايته هي:"الجامعة الإسلامية" بين الشعوب الإسلامية.. وقد فهم بعض الكتاب من كلمة "الجامعة الإسلامية" الوحدة الإسلامية، وتركوا المعنى الآخر لهذه الكلمة وهو "الرابطة" أو الترابط
…
في حين أن كلمة "الجامعة" في اللغة العربية أقرب إلى المعنى الثاني منها إلى المعنى الأول، وقد عبر جمال الدين هو نفسه تعبيرا واضحا صريحا بأنه لا يريد حكومة إسلامية واحدة، بل يريد تعاونا وترابطا أخويا إسلاميا!
على أن هناك شيئا آخر يتميز به "محمد عبده" في علاقته بجمال الدين من جانب، عن "محمد بن عبد الوهاب" في صلته بابن تيمية من جانب آخر، وهو: أن جمال الدين ومحمد عبده واجها حلقة من حلقات الاعتداء الغربي المسيحي على الشرق الإسلامي، لم يواجهها ابن تيمية ولا تلميذه محمد بن عبد الوهاب من بعده
…
وهي حلقة "الدراسات الإسلامية" التي يقوم بها المستشرقون الغربيون، لا لمصلحة الاستعمار الغربي فحسب، وإنما تنفيسا للعداوة التقليدية التي تخلفت عن الحروب الصليبية قبل كل شيء! ولم يستطع بعض الدارسين من علماء المسيحيين للتراث الإسلامي أن يخففوا من حدتها على نفوسهم عند مباشرة هذه الدراسة باسم "العلم" الذي مفهومه: الوسيلة المحايدة لخدمة الإنسانية، فضلا عن أن يتخلصوا من هذه العداوة تماما!!
وهكذا واجه جمال الدين "رينان" المستشرق الفرنسي ومستشار وزارة الخارجية الفرنسية في شئون شمالي إفريقيا الإسلامية، وسمع منه رأيه في الإسلام والمسلمين.. واضطر كل من جمال الدين ومحمد عبده أن يشرحا بعض تعاليم الإسلام، التي اتخذ منها "رينان""وهانوتو" مركز الهجوم على الإسلام، كما اضطرا أن يفرقا في غير لبس بين الإسلام كدين مصدره القرآن والسنة الصحيحة.. وبين عمل المسلمين وأفهامهم
في القرآن والسنة في فترات متتابعة، كصورة تبعد وتقرب من مصدري الإسلام، ولكنها على كل حال ليست مصدرا للإسلام كالقرآن والسنة!!
يقول الشيخ محمد عبده في ذلك:
"عند النظر في أي دين، للحكم له أو عليه في قضية من القضايا، يجب أن يؤخذ ممحصا مما عرض عليه من بعض أهله، أو محدثاتهم التي ربما تكون جاءتهم من دين آخر! فإذا أريد أن يحتج بقول أو عمل لأتباع ذلك الدين في بيان بعض أصوله، فليؤخذ في ذلك بقول أو عمل أقرب الناس إلى منشأ الدين، ومن تلقوه على بساطته التي ورد بها من صاحب الدين نفسه"1.
فالحكم إذن بالتفرقة بين "جمال الدين" و"محمد عبده"- فيما عدا الوسيلة والطريق- يحتاج إلى قليل أو كثير من البحث والاختبار.
وربما يقال: إن الشيء الذي واجهه جمال الدين ومحمد عبده من دراسات علماء الغرب للإسلام، كحلقة من حلقات الاعتداء على الإسلام، وكسبب من أسباب رد الفعل في استمرار الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، متجهة هذا الاتجاه المناوئ للغرب المسيحي
…
قد واجه ابن تيمية من قبل في وقته، وكان سببا أن يؤلف كتابه "الرد الصحيح على من بدل دين المسيح"!.
ولكن واقع الأمر أن الذي كتبه ابن تيمية هذا ليس ردا على هجوم باسم الدراسات الإسلامية موجه للإسلام
…
وإنما هو تقدير للمسيحية في أناجيلها الأربعة من وجهة نظره الإسلامية.
وأخيرًا
…
إن كلا من محمد عبده وجمال الدين نادى بإحياء الكتب القديمة، وبالأخص تلك التي تمثل "الأصالة" والإمامة في الرأي والفهم
…
ترى هل كان حدبهما على إحياء هذه الكتب رد فعل لصنيع المدارس التبشيرية والإرساليات الثقافية الغربية المسيحية التي انتشرت في شاطئ
1 كتاب الإسلام والنصرانية: ص22.
الشام "لبنان" على البحر الأبيض المتوسط على أثر الحروب الصليبية، وفي مصر بعد حملة نابليون؟ وهي التي حاولت فيما بعد أن تجعل اللغة "العامية" اللغة الأولى في الكتابة والحديث للبلاد العربية، وبذلك تحول هذه اللغة العامية -بعد انتشارها على مر الزمن -دون تلاوة القرآن وفهمه؟؟.. كما حاولت أيضا أن تضع حدا فاصلا بين التراث الماضي للفكر الإسلامي والجماعة الإسلامية، عن طريق تمجيد الجديد؛ لأنه جديد، والحط من قيمة القديم؛ لأنه قديم؟
وكما أن محمد عبده يتميز عن جمال الدين في التعاليم المشتركة بينهما على النحو السابق، يتميز عنه هنا في جانب إحياء التراث العربي الإسلامي القديم بنفس الطريقة التي تميز بها من قبل
…
فقد ضرب المثل العملي في هذا الجانب ولم يقف عند حد المطالبة بتحقيقه من الوجهة النظرية، بل أضاف إلى المطالبة بذلك أن أخرج عدة كتب قديمة، كما شرح عددا آخر منها.