المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد جمال الدين الأفغاني - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

[محمد البهي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة:

- ‌تقديم الطبعة الرابعة:

- ‌تقديم الطبعة الثالثة

- ‌تقديم الطبعة الثانية:

- ‌تقديم الطبعة الأولى:

- ‌فاتحة:

- ‌الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:

- ‌العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر

- ‌الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ

- ‌مفكرون من المسلمين مع الاستعمار

- ‌مدخل

- ‌حركة أحمد خان:

- ‌ المذهب القادياني:

- ‌الأحمدية:

- ‌المستشرقون…والاستعمار

- ‌مدخل

- ‌ النزعة الأولى

- ‌النزعة الثانية:

- ‌الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي

- ‌مقاومة مزدوجة

- ‌محمد جمال الدين الأفغاني

- ‌محمد عبده:

- ‌الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي

- ‌اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين

- ‌بشرية القرآن:

- ‌الإسلام دين…لا دولة:

- ‌الدين خرافة:

- ‌الدين مخدر:

- ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

- ‌الباب الخامس: الإسلام غدا

- ‌مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية:

- ‌الإسلام فوق الزمان والمكان:

- ‌الفراغ في الحياة التوجيهية العامة:

- ‌الأزهر:

- ‌الأزهر…في تنظيمه الجديد:

- ‌الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المستشرقون المعاصرون:

- ‌ المتطرفون من المستشرقين

- ‌ بعض الكتب المتطرفة

- ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

- ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌محمد جمال الدين الأفغاني

‌محمد جمال الدين الأفغاني

1839-1897 كأول مكافح للاستعمار الغربي:

"جمال الدين الأفغاني".. زعيم من زعماء الحركات الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يختلف بعض الاختلاف عن زعيمين آخرين سابقين عليه هما:

- "محمد بن عبد الوهاب"

في القرن الثامن عشر.

- و"محمد بن علي السنوسي الكبير"

في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

كل من هذين.. عاش في الصحراء، وإن ارتحل عنها فإلى داخل البلاد الإسلامية، وبعض هذه البلاد شبيه ببعض: في سيادة البدعة فيها، واختلاف المسلمين إلى شيع وأحزاب، وفي ضعف الأفراد، واستبداد الحكومات أو الولايات، والرضا من الحياة بـ"الوسيلة والشفاعة" والاكتفاء بالقعود عن السعي الجدي في طلب الرزق أو تنميته أو المحافظة على كرامة الجماعة أو مجدها.

كل من هذين

لم ير في مجال نشاطه إلا "العيوب" الداخلية، فأخذ يكافحها باسم الإسلام، وعلى أساس من الإسلام، والإسلام الذي رآه كلاهما أساسا للدعوة الإصلاحية، هو إسلام الصدر الأول: في فهمه، والتمسك بمبادئه، وفي موقفهم في الحياة من أجله.

لم يعرف كل منهما نظم الغرب في حياة الأوروبيين بعد نهضته

لم يعرف كل منهما معرفة مباشرة حياة عملية أخرى

مستقيمة نوعا ما عن حياة المسلم في ذاك الوقت، تسير في مكان آخر وراء رقعة العالم الإسلامي، ويسودها صالح الأمة لا صالح الحاكم، ويسيطر عليها صالح الأفراد جميعا لا صالح الراعي وحده!

ص: 61

أما "جمال الدين"

فبجانب وقوفه على عيوب الحياة الإسلامية، رأى رؤية مباشرة لونا إيجابيا من الحياة، خاليا من كثير من هذه العيوب والنقائض.

ارتحل أولا في بلاد الهند، ومصر، والحجاز، وإيران، والعراق، واستانبول من بلاد الشرق، وارتحل ثانيا إلى لندن، وباريس، وميونيخ في ألمانيا، وبطرسبرج في روسيا من بلاد الغرب.

ورحلته هنا وهناك، كشفت له: عن ضعف في جانب، وقوة في جانب آخر، واستكانة في جانب وتحفز في جانب آخر! وكشفت له عن أن هذا التحفز من الجانب الآخر، إنما هو ليلتهم هذا الجانب المستكين وليذله، وليبدل وضعه في التاريخ!

ومعرفة جمال الدين بالإسلام، ثم وقوفه على المسيحية، أراه أن الإسلام في نفسه أداة قوة ومنعة وعزة وسطوة، بينما مسيحية الغربيين وسيلة للضعف والاستكانة!!

ولذا يقول:

"

وبعد، فموضوع بحثنا الآن: الملة المسيحية الإسلامية، وهو بحث طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل

"إن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة، ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية! ومن وصايا الإنجيل من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخباره: أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح هي لله وحده!

"والديانة الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكما لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع

ص: 62

الملل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية، والتبحر فيما يلزمها من الفنون، كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها! ومن تأمل في آية:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 1 أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة، وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية، فضلا عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه! ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق والرماية، انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرين عليها

"2.

ونتيجة هذا التنقل بين البلدان في نفس "جمال الدين" مع المفارقات التي رآها في حياة المسلمين وحياة الغربيين: هي أن تكون دعوته إلى التعجيل بحياة إيجابية متكاملة داخل البلاد الإسلامية أقوى، أو على الأقل تسير جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى مكافحة العيوب الجزئية الداخلية، وهي عيوب نشأت عن إهمال الإسلام بسبب ما تراكم عليه من غبار!!

كان جمال الدين الأفغاني -لهذا الاتصال المباشر بالغربيين- يضع أمام سامعيه "مثلا منظورا" من الحياة يريد أن يصل إليه المسلمون، ولكن عن طريق التمسك بإسلامهم الذي أودع في كتاب الله

وليس عن طريق ذاك الذي شوهته العقول المغرضة وحرفته الألسنة الملتوية!!

بينما كان المثل الذي كان ينشده بن عبد الوهاب يعيش في تاريخ الماضي وهو حال المسلمين الأول، وهو كذلك "أمل وغاية" يقدم عليه التابعون للدعوة بدافع محض الاعتقاد والتصور المثالي، أكثر من دافع الحقيقة المشاهدة!

وعلى هذا النحو كان موقف الفريقين، جمال الدين من جانب، ومحمد بن عبد الوهاب والسنوسي الكبير من جانب آخر، في الدعوة إلى مقاومة النفوذ الخارجي اللاإسلامي.

- محمد بن عبد الوهاب، وعلى سنته محمد بن علي السنوسي الكبير، كلاهما يقف في تكتيل المسلمين ضد النفوذ الخارجي عن طريق استعراض أوصاف الكفر والإيمان في ذهن المسلم، وما يجب على المسلم اتباعه

1 الأنفال: 60.

2 مجموعة العروة الوثقى: 64-69.

ص: 63

في شأن الولاية العامة قبل غير المسلم من الحكام والولاة، إذا قيض لهؤلاء أن يديروا أمر المسلمين!

- ولكن جمال الدين الأفغاني كان -إلى جانب ذلك- ينتزع الأمثلة من تاريخ الشعوب، ومن تاريخ الأمة الإسلامية نفسها، كما ينتزع الشواهد المحسوسة التي تفزع المسلمين من السياسة الاستعمارية في البلاد الإسلامية "في الهند ومصر على الخصوص".. هذه الأمثلة التي كان ينتزعها من شواهد الحياة الإسلامية ومظاهرها في وقته، مع بيان مدى ألاعيب السلطات الأجنبية ودسائسها، وهدفها الذي نهايته بسط النفوذ الأوروبي لصالح الجماعة الأوروبية وحدها على رقعة العالم الإسلامي.

هذا الاحتكاك المباشر نفسه هو الذي أظهر حركة جمال الدين في صورة حركة سياسية.. وهو نفسه السبب في أن يلقي جمال الدين بمركز الثقل في نشاطه على "الحرية السياسية" في الشرق الإسلامي "للمواطنين جميعا: مسلمين ومسيحيين".

- بدأ في نشاطه الحديث عن "الأمة" أكثر من الحديث عن المسلم، والحديث عما يجب أن يكون من صلة بين الحاكم والأمة من تبادل المشورة بينهما لا على نحو أن يكون أولهما سيدا والطرف الآخر مسودًا ومستعبدًا.

- كما بدأ الحديث عن مقاومة الاستعمار الغربي في صورة سافرة.

- بعد ذلك كله

أكثر من الحديث عن مقاومة البدع، أو محاربة فرقة معينة من الفرق الإسلامية!

تلون نشاطه بهذا اللون السياسي العام، ولكن عماد هذا النشاط وأساسه الذي يقوم عليه ومصدره الذي يجب أن يخرج منه: بقي "القرآن" والقرآن وحده يقول: "لا ألتمس بقولي هذا -في الدعوة إلى الوحدة- أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما كان عسيرًا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه"1.

1 مجموعة العروة الوثقى ص193.

ص: 64

إن حركة جمال الدين الأفغاني هي في واقع الأمر امتداد للكفاح الإسلامي في تاريخ الجماعة الإسلامية، وليست حركة منعزلة عن غيرها

إن أساسها كأساس أية حركة كفاحية إسلامية ماضية، وغايتها ذات الغاية لهذه الحركات جميعها.

لقد ركز الإسلام جهده في أول أمره وفي جماعته الأولى: لنشر دعوته.

ثم بعدما انتشرت هذه الدعوة، تحولت جهوده -في آخر عصر الأمويين لمكافحة "الزندقة" الشرقية التي هي من مخلفات العقائد السابقة في الشرق، والتي نفذت إلى الجماع الإسلامية في صورة أو أخرى. فنشأت مدرسة "الاعتزال" الكلامية، ثم نشأت على أثرها مدارس أخرى تعارضها، أو تحاول أو توفق بينها وبين اتجاه آخر في الجماعة الإسلامية.

وهنا ابتدأ الإسلام يكافح من أجل بقائه والحرص على سلامته، وليس من أجل انتشار دعوته، كما كان الحال في الجماعة الأولى وعلى عهد الرعيل الأول.

- ثم انتقل ثقل النشاط في عصر العباسيين لمعانقة الفكر الإغريقي أو مهاجمته؛ وهو دخيل على الجماعة الإسلامية. وبذلك استمر الوضع السابق في الكفاح، وهو الكفاح من أجل البقاء والسلامة الذاتية.

- ثم تحول هذا النشاط قبيل سقوط بغداد، وبعد سقوطها على يد التتار "656هـ"، إلى مقاومة الاعتداء الخارجي المسلح -وليس الاعتداء الفكري- ممثلا في غارة الصليبيين من جانب، والتتار من جانب آخر. وفي الوقت نفسه اتجه جزء من هذا النشاط إلى مقاومة الضعف الداخلي الذي تمثل في أثر "الباطنية" وتعاليمها، وفي غلو "التصوف" في تصور صلة الله بالإنسان على نحو حلولي، كما يتضح عند ابن عربي والحلاج، وكان زعيم هذه المقاومة الخارجية والداخلية ابن تيمية، في القرن الرابع عشر الميلادي.. وكان الكفاح الإسلامي كذلك من أجل البقاء والسلامة الذاتية.

- إلى أن جاءت الحركة الوهابية فوضعت ثقل الكفاح على مقاومة الضعف الداخلي، وهو ضعف يستند إلى تعاليم الباطنية، وانحراف فريق من المتصوفة، ومع ذلك لم تغفل هذه الحركة مقاومة الهجوم الخارجي الذي بدت طلائعه في ضعف الخلافة العثمانية، تحت الضغط السياسي: الروسي القيصري المسيحي، والإنجليزي، والأوروبي بوجه عام.

ص: 65

- حتى جاء جمال الدين الأفغاني فأعاد ميزان الكفاح مرة ثانية نحو مقاومة الاعتداء الخارجي، وهو اعتداء ظهر في ثوب سياسي، فبدت لذلك حركة جمال الدين سياسية أكثر منها دينية، مع أنها قامت على الإسلام، واستندت إليه في خطواتها، وفي تحديد غايتها.

وهكذا كان لموضوع الكفاح أثر في تلوين الكفاح نفسه.

- على أيام المعتزلة كان الكفاح الإسلامي كفاحا دينيا، أو "كلاميا".

- وعلى أيام الفلسفة الإغريقية كان كفاحا فكريا، أو فلسفيا.

- وعلى أيام ابن تيمية كان كفاحًا ضد الصليبيين أو التتار.

- وعلى أيام ابن عبد الوهاب كان كفاحا ضد البدعة والخرافة.

- وعلى عهد جمال الدين الأفغاني كان كفاحا سياسيا ضد الاستعمار الغربي.

وفي كل حركة من هذه الحركات كان الدين أساسا أوليا، وفي الوقت نفسه كان هدفا أخيرا وغاية مطلوبة.

حركة "جمال الدين الأفغاني" في مظهرها حركة سياسية، وفي جوهرها حركة إسلامية.

- كان جمال الدين يتحدث عن "وحدة المسلمين" مرة، وعن "حكومات إسلامية مستقلة يرتبط بعضها ببعض في "شبه اتحاد" مرة آخرى.

ومع ذلك فالشيء الذي لم يتغير عنده هو الدعوة إلى الأخذ بتعاليم الإسلام، سواء في قيام الحكومة الواحدة أو في ارتباط الحكومات المختلفة.

- يتحدث عن أخذ ما عند الغرب من حضارة ومدنية وعلم.. ولكن على أساس أن يكون ذلك في تلاؤم مع الإسلام؛ أو لأن الإسلام يدعو إليه.

- ويتحدث عن مقاومة الاستعمار الغربي وبالأخص عن مقاومة الاستعمار الإنجليزي، ولكنه في حديثه عن ذلك يتكئ على الإسلام، ويطلب تحقيق تعاليمه.

- ينقد سلطان الآستانة وشاه إيران وخديوي مصر؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يرغب في إعطاء الشعب حريته في الرأي والقول والمشورة،

ص: 66

ولا يرغب في اعطاء الشعب دستورًا يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكومين، يأتي نقده لمصلحة الشعب، فتبدو عليه مسحة العمل السياسي

ولكن هذا النقد أسس على الإسلام وعلى مبادئه التي تصون هذه المقدسات: حرية الشعب، وسيادته، ووضع الحاكم منه وضع المنفذ لمشيئته، لا وضع السيد صاحب السيادة المطلقة عليه.

- يدعو إلى الترابط الوثيق بين المسلمين وغير المسلمين في الأوطان الإسلامية وإلى عدم التمييز بين مسلم وغير مسلم، فتبدو دعوته هذه في مظهر "الشرقية" أو "الوطنية" تبدو سياسية، ولذلك يميل بعض المؤرخين لجمال الدين إلى أن يسمي حركته هذه بـ"الحركة الشرقية". ولكن هو في دعوته هذه مسلم، وعمله عمل إسلامي؛ لأنه يستند إلى الإسلام في تاريخ الفتوح، وفي تعاليمه في الصلة بين المسلم وغيره، سواء في مكان واحد، أو مكانين مختلفين.

- يدعو إلى نبذ الخصومة بين الشيعة والسنة، ليؤلف بين سلطتين قويتين في رقعة العالم الإسلامي إذ ذاك: بين سلطة إيران وسلطة القسطنطينية، بعد ذهاب دولة الهند الإسلامية، فيبدو لذلك سياسيا أو وسيطا في مجال السياسة، ولكنه هو يدعو بدعوة الإسلام في ذلك.

- يحارب المذهب الطبيعي -الدهري- الذي انتشر في الهند 1897م، والذي قال فيه: أنه سيفرق المسلمين هناك إلى طائفتين: طائفة القديم وطائفة الجديد، طائفة أصحاب الطاعة والولاء للحاكم المستعمر، والطائفة الأخرى المناوئة المقاومة لنفوذه وولايته، كما سيفرق بين مسلمي الهند من جانب والخلافة العثمانية من جانب آخر، فيظهر مرة أخرى في دعوته هذه بمظهر الرجل الذي يريد أن يحافظ على وحدة الإمبراطورية الإسلامية الجغرافية، ولكنه في هذا الرد يقاوم الإلحاد الديني بصفة عامة، ويوضح ضرورة الدين للمجتمع الإنساني، أي دين. ثم يذكر مزايا الإسلام، التي تكفل للإنسان متعة في هذه الحياة أرفع بكثير من تلك المتعة التي يهيؤها له اعتناق المذهب الطبيعي "المادي أو الدهري". فهو في هذا مسلم، وعمله عمل إسلامي كذلك1.

ويعنينا الآن بالذات مقاومته للفكر الإسلامي الذي قام لخدمة الاستعمار.

1 راجع مجموعة العروة الوثقى: ص471-477.

ص: 67

مقاومة جمال الدين للاستعمار الغربي وللفكر الإسلامي المعاون له:

- الرد على الدهريين في الهند:

"جمال الدين" يرى أسلوب الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية يتخذ صورا مختلفة للقضاء على الشخصية الإسلامية التي مصدرها القرآن، والتي تجمع بين المسلمين في رباط واحد، وأخطر صورة يراها من بين الصور، تلك الصورة، التي تسعى لإفساد عقيدة المسلم: إما بتشكيكه فيها أو بمحاولة صرفه عنها. وعنى بذلك المذهب الطبيعي، وهو ما سماه بمذهب الدهريين في الهند، فهو سلاح خطر ضد المسلمين: ضد قوتهم في وحدتهم. وضد مصدر هذه القوة: الذي هو الإسلام. وخطورة هذا المذهب على الإسلام في نظر جمال الدين -وإن كان تحديا للدين من حيث هو دين- أن الذين يدعون إليه في الهند "لبسوا ثوب المسلم" وقصدوا إلى إضعاف المسلم بالذات في عقيدته كما نقلنا عنه فيما مضى1.

ومع أنه صريح فيما نقل عنه سابقا بتحديد من سماهم جماعة الدهريين في الهند ونياتهم من نشر هذا المذهب بين المسلمين، ذكر في موضع آخر بأنه لا يقصد توجيه الرد إلى هذه الجماعة، ولا إلى التشنيع عليهم، وإنما قصده إحقاق الحق في ذاته فقط

يقول2:

"ولا يظنن ظان أنا نقصد من مقالنا هذا تشنيعا بهؤلاء الطبيعيين في الهند.. كلا! إن هؤلاء لا نصيب لهم من العلم ولا من الإنسانية، فهم بعيدون من مواقع الخطاب، ساقطون عن منزلة اللوم والاعتراض.. وإنما غرضنا الأصلي إعلان الحق وإظهار الواقع"!!.

1 مجموعة العروة الوثقى: ص472- 477.

2 في كتابه الرد على الدهريين: ص28، 29.

ص: 68

ويتضمن رده على الدهريين ثلاثة أمور:

- بيان ضرورة الدين للجتمع.

- وبيان خطر انتشار المذهب الطبيعي على المجتمع.

- ثم مزية الإسلام كعقيدة ودين على الأديان الأخرى.

الدين ضرورة للمجتمع:

يرى جمال الدين أن العقيدة الدينية كعقيدة، تكفل للمجتمع الإنساني ثلاثة عناصر رئيسية:

- الحياء.

- والأمانة.

- والصدق.

ويفيض في شرح هذه العناصر، وضرورتها للسلوك المستقيم في المجتمع

مرة عن قيمتها في نفسها، وأخرى عن بيان أن المذهب الطبيعي لا يجتمع معها، فضلا عن أن يكفلها

وفي بيانه هذا، يسلك طريق "السبر والتقسيم". يقول1:

"إن وهم الدهري لا يجتمع مع فضيلة الأمانة، والصدق، وشرف المهمة، وكمال الرجولة؛ وذلك لأن الإنسان له شهوات لا تحد.

وإن الطبيعة لم تحدد طريقا معينا لتحصيل هذه الشهوات، فطريقها:

- إما بالسيف والقوة: وهذا يفضي إلى سفك الدماء والتخريب.

- وإما شرف النفس. وشرف النفس محدود بالعرف والعادة، وليس له مقياس عام.

- وإما الحكومة: وهي لا تعرف إلا الاعتداءات الواضحة، أما المفاسد المموهة فلا تعرفها.. على أن رجالها قد يكونون أيضا من المفسدين.

1 ملخصا من صفحات 71-80 من كتاب: الرد على "الدهريين".

ص: 69

- وأما الاعتقاد بمدبر الكون، وبأنه مالك الجزاء في الحياة الأبدية، وذلك هو المتعين.

ويعقب بعد ذلك بقوله:

"فتبين مما قررنا أن الدين وإن انحطت درجته بين الأديان وهي أساسه فهو أفضل من طريق الدهريين، وأحسن بالمدنية ونظام الجماعة الإنسانية، وأجمل أثرا في عقد روابط المعاملات، بل في كل شأن يفيد المجتمع الإنساني، وكل ترق بشري إلى أية درجة من درجات السعادة في هذه الحياة الأولى، فلم تبق ريبة في أن الدين هو السبب الفردي لسعادة الإنسان، فلو قام الدين على قواعد الأمر الإلهي الحق، ولم يخالطه أباطيل من يزعمونه، ولا يعرفونه، فلا بد أن يكون سببا في السعادة التامة والنعيم الكامل"1.

أضرار المذهب الطبيعي المادي على المجتمع:

أما أضرار المذهب الطبيعي المادي على المجتمع، فجمال الدين الأفغاني يوضحها بذكر أمثلة من تاريخ الجماعات المختلفة، التي سيطر عليها هذا المذهب في فترة من تاريخ حياتها قديما وحديثا، ويرى أن المذهب الطبيعي قد برز في صور متعددة على هذا النحو:

- مذهب "أبيقور": في الشعب الإغريقي2.

- مذهب "مزدك": في الشعب الفارسي3.

- مذهب "الباطنية": في الجماعة الإسلامية4.

- مذهب "فولتير، وروسو": في الشعب الفرنسي5.

- مذهب "العصر الجديد": في تركيا6.

1 الرد على الدهريين: ص82، 83.

2 الرد على الدهريين: ص50-54.

3 الرد على الدهريين: ص54-57.

4 الرد على الدهريين: ص58-63.

5 الرد على الدهريين: ص63-65.

6 الرد على الدهريين: ص66.

ص: 70

- مذاهب "الاشتراكية، الاجتماعية": في أوروبا، وبخاصة في الشعب الروسي1.

- مذهب "المورمان" في أمريكا2.

ويقول جمال الدين شارحًا لذلك:

"إن حياة الشعب الإغريقي فسدت بإباحية المذهب "الأبيقوري"، وكذلك فسدت الحياة في الشعب الفارسي عندما تأثرت "بمزدك".

والمسلمون عندما دخلت عليهم الباطنية3 "بمذهبهم في القرن الرابع الهجري" بمصر، أفسدت حياتهم!! وهو يرى أن ضعف المسلمين ابتدأ حقيقة منذ ظهور "الباطنية"، والعقائد الطبيعية أو الدهرية، وليست الحروب الصليبية هي بداية هذا الضعف وأمارته، بل كانت إحدى نتائج هذا الضعف، وهذه العقائد هي إذن التي مهدت لهذه الحروب الصليبية، وكذا لحرب التتار4.

وينسب إلى الباطنية أنهم يقولون: "إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات

ولو كان موجودا لأشبه الموجودات، ولو كان معدوما لأشبه المعدومات، فهو لا موجود ولا معدوم"5.

1 الرد على الدهريين ص67، 68.

ويلاحظ أن جمال الدين في ترجمة المصلحات: كان يطلق "الاشتراكية" على الشيوعية Communism "الاجتماعية" على الاشتراكية Socialism.

2 الرد على الدهريين ص69.

3 وقد تعرف بطائفة "النصيرية" نسبة إلى "محمد بن نصير" كان من أتباع الإمام الشيعي الحادي عشر، الحسن العسكري، ثم انفصل عنه وادعى الألوهية، وتسمى الطائفة أيضا "العلوية"، ومقرها اليوم في سوريا في جبال اللاذقية، ويبلغ عدد أفرادها 356 ألفا، وسميت بالباطنية؛ لأنها تستبطن التثليث: الأول "روح الله" وهي على، والثاني المظهر الخارجي لروح الله وهو "محمد"، والثالث ناشر الشريعة وهو سلمان الفارسي.

4 الرد على الدهريين ص67.

5 الرد على الدهريين ص59.

ص: 71

ثم يقول: "الفرنسيون حتى القرن الثامن عشر كانت لهم أخلاق فاضلة: قوامها الترابط وعدم الانحلال، حتى ظهر فولتير وروسو، وسخرا من الدين والإله، فبدأ التحلل على أشده، وآراؤهما هي التي أضرمت نار الثورة الفرنسية وأفسدت أخلاق الكثير من أبنائها، فاختلفت بها المشارب وتتابعت المذاهب، وقام على مذهب فولتير وروسو مذهب الـ"كومن"Common "الاشتراكية" ولو تدارك الأمر أرباب العقائد النافعة لنسفت الاشتراكية على أديم فرنسا1، وما صنعه نابليون الأول في إعادة المسيحية لم يجد كثيرا

كما لم يجد انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في إعادة الإسلام إلى مجده الأول في الجماعة الإسلامية الأولى.

والأمة العثمانية إنما رقت حالها في الأزمنة الأخيرة بما دب في نفوس بعض عظمائها وأمرائها من وساوس الدهريين، فإن القواد الذين اجترحوا أثم الخيانة في الحرب الأخيرة بينها وبين روسيا -الحرب الروسية التركية 1877-1878م في البلقان- لزحزحة الأتراك كمسلمين عن شبه جزيرة البلقان وبلاد اليونان، كانوا يذهبون مذهب الطبيعيين، وبذلك كانوا يعدون أنفسهم من أبناء الأفكار الجديدة "أبنا العصر"، وربما كانت هذه الأفكار غاية "جمعية الإصلاح والترقي" التي نشأت بعد ذلك، لذلك خان أولئك الأمراء ملتهم مع ما كان لهم من الرتب الجليلة، ورضوا بالدنية، واستناموا إلى الخسة، ونسفوا بيت الشرف العثماني، وجلبوا المذلة على شعوبهم بعرض من الحطام قليل"2.

والسوشيالست "الاجتماعيون أو الاشتراكيون" والنيلست3، "العدميون"؛ والكوميونست "الشيوعيون" غايتهم جميعا رفع الامتيازات الإنسانية كافة، وإباحة الكل للكل، واشتراك الكل في الكل.. وجميعهم

1 الرد على الدهريين ص63-64 وواضح هنا أيضا أن جمال الدين يترجم "الشيوعية" بالاشتراكية، ولعل هذه المذاهب ومصطلحاتها لم تكن قد تحددت بدقة في الفكر الشرقي في ذلك الزمن المبكر.

2 الرد على الدهريين ص66.

3 Nihilist نسبة إلى Niblism حركة قامت في روسيا سنة 1860-1871م تدعو إلى الانقلاب بإثارة القلاقل والاغتيال. ويلاحظ هنا أيضا أن جمال الدين يترجم الاشتراكية بالاجتماعية "السوشيالست: الاجتماعيون"، والشيوعية بالاشتراكية "الكوميونست العدميون".

ص: 72

على اتفاق في أن جمع المشتهيات الموجودة على سطح الأرض منحة من الطبيعة "والإخاء للتمتع بها سواء" والدين والملك عقبتان عظيمتان، وسدان منيعان يعترضان بين أبناء الطبيعة ونشر شريعتها المقدسة "الإباحة والاشتراك". فإن من الواجب على طلاب الحق الطبيعي أن ينقضوا هذين الأساسين، يبيدوا الملوك ورؤساء الأديان، ثم يعمدوا إلى الملاك وأهل السعة في الرزق، فإن دانوا لشرع الطبيعة فخرجوا على الاختصاص فتلك، إلا أخذ بأعناقهم قتلا، حتى يعتبر بهم من يكون من أمثالهم فلا يلوون رءوسهم كبرا على الشريعة المقدسة شريعة الطبيعة1.

"وكثرت أحزابهم، ونمت شيعتهم في أقطار الممالك الأوروبية، خصوصا مملكة الروسيا، ولا جرم أن هذه الطوائف إذا استفحل أمرها وقوي ساعدها على المجاهرة بأعمال لها، قد تكون سببا في انقراض النوع البشري كما تقدم ذكره"2.

الدين الإسلامي:

ثم يتحدث عن الدين الإسلامي فيقول:

"إنه في مقدمة الأديان من حيث حاجة البشرية إليه؛ لأن له مزايا ليست متوافرة في دين آخر.

- أولا: صقل العقول بصقال "التوحيد" وتطهيرها من لوث الأوهام، وذلك يحول دون اعتقاد أن كائنا من الكائنات له تأثير نفع أو ضر، كما يحول دون اعتقاد أن الله يظهر بلباس البشر أو حيوان آخر، أو أن تلك الذات المقدسة نالت شديد الألم لمصلحة أحد من الخلق.... كما توجد تلك الأوهام: في ديانات براهما في الهند، وبوذا في الصين، وزرادشت في بقايا الفارسيين3.

- ثانيا: محق امتياز الأجناس وتفاضل الأصناف وقرر المزايا البشرية على قاعدة الكمال العقلي والنفسي لا غير، فالناس إنما يتفاضلون بالعقل

1 الرد على الدهريين 67، 68.

2 الرد على الدهريين ص68.

3 الرد على الدهريين ص85.

ص: 73

والفضيلة، وقد لا نجد في الأديان ما يجمع أطراف هذه القاعدة، فالبراهمية قسمت الناس إلى طبقات، واليهودية فضلت شعب إسرائيل على بقية الشعوب.

- ثالثا: جعل العقيدة قائمة على الإقناع، لا على التقليد واتباع ما كان عليه الآباء، والدين الإسلامي كلما خاطب خاطب العقل، ويكاد يكون منفردا بتقريع المعتقدين بلا دليل، وتوبيخ المتبعين للظنون.

- رابعا: نصب المعلم ليؤدي عمل التعليم، وأقام المؤدب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 2.

"فإن قال قائل: إن كانت الديانة الإسلامية على ما بينت، فما بال المسلمين على ما نرى من الحال السيئة والشأن المحزن؟

"فجوابه: أن المسلمين كانوا كما كانوا، وبلغوا بدينهم ما بلغوا، والعالم يشهد: وأكتفي الآن من القول بهذا النص الشريف: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 3.

- محاربة الاستعمار البريطاني:

أما الشق الثاني في مقاومة الاستعمار الغربي في كفاح "جمال الدين" فيوجهه إلى الاستعمار البريطاني بخصوصه

ولعل ذلك كان نتيجة احتكاكه المباشر به في مصر والهند.

ففي مصر في المدة الواقعة بين مارس سنة 1871 و24 أغسطس سنة 1879م، عاصر جمال الدين بعثة Cave سنة 1875 التي وفدت إلى مصر لفحص ماليتها، وإنشاء مصلحة للرقابة المالية يخضع الخديوي لمباشرتها، وهي تلك الرقابة التي تمثلت في "صندوق الدين" الذي أنشئ

1 آل عمران: 104.

2 الرد على الدهريين ص93، والآية من سورة التوبة:122.

3 الرد على الدهريين ص 93، والآية من سورة الرعد:11.

ص: 74

في سنة 1876م، كما قامت بإنشاء نظام الرقابة الثنائية لمراقبة مصروفات الحكومة من اثنين: أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، وبإنشاء لجنة مختلطة لإدارة السكك الحديدية وميناء الإسكندرية، ثم تطورت الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة برئاسة نوبار باشا -المنحدر من أصل أرمني، يدخلها وزير إنجليزي لوزارة المالية وآخر فرنسي لوزارة الأشغال، نعم كان الاحتلال البريطاني الرسمي في سنة 1882م، أي: بعد ما أبعد جمال الدين عن مصر في سنة 1879م، ولكن إذا عرف إن إبعاده عن مصر قبل الاحتلال البريطاني بثلاث سنوات كان بمشورة القنصل الإنجليزي "المستر فيفان" على الخديوي توفيق -إذا عرف هذا- ربما يتضح مقدار النفوذ الأوروبي، الممثل في النفوذ البريطاني بمصر، على عهد إقامة جمال الدين بالقاهرة، والتهمة التي وجهت إلى جمال الدين لإبعاده عن مصر، كانت هي: أنه يرأس "جمعية من الشبان ذوي الطيش تجتمع على فساد الدين والدنيا".

أما احتكاك جمال الدين المباشر بالسلطة البريطانية في الهند: فيتضح من زياراته الثلاث لهذه البلاد.

وقبل هذا وذاك، كان احتكاكه بهذه السلطة على عهد تنازع الأسرة المالكة في أفغانستان على الحكم والملك، بتشجيع الدسائس الإنجليزية، وقد اضطر هو إلى الرحيل من أفغانستان إلى الهند تحت ضغط هذه الدسائس.

- ففي المقال الافتتاحي، لأول عدد من جريدة "العروة الوثقى"، يصور جمال الدين حادث الاحتلال البريطاني لمصر على أنه كارثة على العالم الإسلامي، وقد أهاب بالمسلمين -بباعث من دينهم- أن يتكاتفوا لدفع بلاء هذا الاحتلال.

يقول1:

"إن الخطر الذي ألم بمصر نفرت له أحشاء المسلمين، وانكلمت به قلوبهم، ولا تزال آلامة تستفزهم ما دام الجرح نقارا، وما هذا بغريب على المسلمين، فإن رابطتهم الملية أقوى من رابطة الجنس واللغة، وما دام القرآن يتلى بينهم، وفي آياته ما لا يذهب على أفهام قارئه فلن يستطيع الدهر أن

1 مجموعة العروة الوثقى ص28، 29.

ص: 75

يذلهم. إن الفجيعة في مصر حركت أشجانا كانت كامنة، وجددت أحزانا لم تكن في الحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرا، بل نفيرا عاما، تكون صاخة تمزق من اسمه الطمع".

ويقول في موضع آخر1:

"نرى أهل هذ الدين -الإسلام- في هذه الأيام، بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم".

"فأهل بلوخستان كانو يرون حركات الإنجليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم، ولا يجيش لهم جأش، ولم تكن لهم نعرة على إخوانهم".

"والأفغانيون كانوا يشهدون تدخل الإنجليز في بلاد فارس، ولا يضجرون ولا يتملمون".

"وإن جنون الإنجليز تضرب في الأرض المصرية ذهابا وإيابا، تقتل وتفتك ولا نرى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من "حلاقيمهم" الذين احمرت أحداقهم من مشاهدتها بين أيديهم وأرجلهم وأيمانهم وشمائلهم!! أما وقد مضى الزمن الكافي لظهور غدرهم وسوء نيتهم، فلا يوجد من الأهالي المصريين من يميل إليهم، بل لا يوجد إلا من يبغضهم، ويود لو يعمل عملا لهلاكهم، ولكن الوهم هو الذي يجسم المخافة ويكبح العزيمة"2.

"فيأيها المصريون: هذه دياركم وأعراضكم وعقائد دينكم، وأخلاقكم وشريعتكم، قبض العدو على زمام التصرف فيها غيلة واختلاصا. فقد رأيتم أنه أفسد شئونكم، وأقلق راحتكم، ووهب من بلادكم لأعدائكم، وأضر بمنافعكم العامة، وقصد إلى التدخل فيما يختص بأموركم، كالأوقاف"3.

1 مجموعة العروة الوثقى ص74.

2 العروة الوثقى ص236.

3 المصدر السابق ص249.

ص: 76

واستمر جمال الدين -بهذا الأسلوب- يوقظ المسلمين بوحي من دينهم، كي يتعاونوا على مقاومة من يذلهم ويستعبدهم، ويكرر الأسلوب في عدة مقالات وفي عدة مناسبات.

ومن بين المقالات التي كتبها في مجلة "العروة الوثقى" سبع عشر مقالة، من بين مجموعها وهو خمس وعشرون، هي شروح للآيات القرآنية الآتية:

- {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1.

- {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 2.

- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 3.

- {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 4.

- {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 5.

- {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 6.

- {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} 7.

- {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 8.

- {بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} 9.

- {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 10.

- {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} 11.

1 الممتحنة: 14

2 الأحزاب: 62.

3 سورة ق: 37.

4 آل عمران: 103.

5 الذاريات: 55.

6 الأعراف:3.

7 الأنفال: 46.

8 يوسف: 87.

9 آل عمران: 118.

10 النحل: 33.

11 العنكبوت: 1، 2.

ص: 77

- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1.

- {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 2.

- {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.

- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 4.

- {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 5.

- {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 6.

أما بقية مقالات هذه المجلة: وهي مقالاته السياسية ضد الاستعمار الغربي، فقد قامت على شروح لبعض الأحاديث الصحيحة.

وبهذا يتضح في غير لبس: كيف أقام جمال الدين كفاحه السياسي على أسس إسلامية، لا خلاف فيها.

- أما بخصوص الاستعمار البريطاني في الهند فإن السيد جمال الدين فوق أنه رد على الاتجاه الطبيعي، أوالاتجاه العلمي التقدمي الذي حاول به السيد أحمد خان أن يجعل الولاء للسلطة البريطانية مشتقا من تعاليم الإسلام، وينشيء جيلا من شباب الهند يعاون الاستعمار باسم التقدمية في الإسلام. فوق أنه رد على هذا المذهب، فإنه نفر من زعيم هذا المذهب بالكشف عن صلته بالبريطانيين في الهند وبيان رزايا الاستعمار في جانب العقيدة، والوطنية، والاقتصاد، والاجتماع.

وهكذا لم يفتأ يصور الإنجليز في صورة المنتهك للحرمة والغاصب

1 الحج: 46.

2 القصص:5.

3 آل عمران: 102.

4 الرعد: 11.

5 الأنفال: 53.

6 النساء: 78.

ص: 78

والمستعبد، كما لم يفتأ يوجه نظر المسلمين إلى أن دينهم يحتم عليهم إجلاءهم عن ديارهم. يقول1.

"مع أن دينهم -دين المسلمين- يرسم عليهم أن لا يدينوا لسلطة من يخالفهم، بل الركن الأعظم لدينهم طرح ولاية الأجنبي عنهم وكشفها عن ديارهم بل منازعة كل ذي شوكة في شوكته! هل نسوا وعد الله بأن يرثوا الأرض وهم العباد الصالحون؟ هل غفلوا عن تكفل الله لهم بإظهار شأنهم على سائر الشعوب {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 2؟ هل سهوا عن أن الله اشترى منهم لإعلاء كلمته: أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ لا لا، إن العقائد الإسلامية مالكة لقلوب المسلمين، حاكمة في إرادتهم، وسواء في العقائد الدينية والفضائل الشرعية عامتهم وخاصتهم".

وبهذا نرى أن ولاية الأجنبي على المسلمين كانت محور الخصومة في الفكر الإسلامي في ظل الاستعمار الغربي، بين محاول لقبولها وبين رافض إياها، كما نرى أن محاولة قبولها توصف بالتقدمية أو التسامح في العقيدة، بينما يوصف الجانب الآخر بالرجعية والتزمت.

هذا ما كان من كفاح السيد جمال الدين للاستعمار الغربي كمسلم ناقد، أو كداعية سياسي، التزم في دعوته السياسية مبادئ القرآن والسنة الصحيحة.

أما منهجه الذي اقترحه ليجعل من المسلمين قوة متماسكة، سائرة في الحياة، حريصة على أن تكون سيدة نفسها، فيتلخص في هذه الجملة:

"أرجو أن يكون سلطان جميعهم -جميع المسلمين- القرآن ووجهة وحدتهم الدين".

ويقول شارحًا ذلك3:

"أما المسلمون، فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من

1 المصدر السابق ص133.

2 الأنفال: 8.

3 المصدر السابق ص70، 71.

ص: 79

كل كمال حربي حظا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم.

- أقوام بلباس الدين.. أبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها من الأعمال!

- هذا إلى ما أدخله الزنادقة.. فيما بين القرن الثالث والرابع الهجري.

- وما أحدثه السوفسطائيون الذي أنكروا مظاهر الوجود، وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق.

- وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث.. ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، ويثبتونها في الكتب وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا في الهمم وفتورا في العزائم.

وتحقيق أهل الحق، وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة، ومبادئه الثابتة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة وبين فئة ضعيفة".

"ولعل هذا -يقول الأفغاني- هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذي نعاني من عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه!! وما دام القرآن يتلى بين المسلمين، وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق وهو القائم عليهم، يتلى بين المسلمين، وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق وهو القائم عليهم، يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المنفعة من كل سبيل، لا يقنن لها وجها ولا يخصص لها طريقا. فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم، فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحة والمنازلة والمصاولة، حفظا لحقوقهم، وضنا بأنفسهم عن الذل، وملتهم عن الضياع، وإلى الله تصير الأمور".

ويقول:

"هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف

ص: 80

على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع المعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية"1.

"إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لم ينسخ، فارجعوا إليه، وحكموه في أحوالكم وطباعكم، وما الله بغافل عم تعملون"2.

"وفي الظن، أن العلماء لو قاموا بهذه الفريضة -فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- زمنا قليلا، ووعظوا الكافة بتبيين معاني القرآن الشريف وإحيائها في نفوس المؤمنين، لرأينا لذلك أثر في هذه الملة يبقى ذكره أبد الدهر، وشهدنا لها يوما يسترجع فيه مجدها في هذه الدنيا، وهو مجد الله الأكبر"3.

"إن حركتنا الدينية "بالدعوة إلى القرآن" كناية عن الاهتمام بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها، مثل: حملهم نصوص "القضاء والقدر" على معنى يوجب عليهم أن لا يتحركوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل".

"ومثل فهمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان أو قرب انتهائه، فهما يثبط هممهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح، مما لا عهد للسلف الصالح به".

"فلا بد إذن من بعث القرآن، وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور" وشرحها على وجهها الثابت، من حيث يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى.

"ولا بد من تهذيب علومنا، وتلقيح مكتبتنا، ووضع مصنفات فيها قريبة سهلة الفهم، فنستعين بتلك الكتب والعلوم التي تضمنتها على الوصول إلى الرقي والنجاح"4.

1 المصدر السابق ص58، 59.

2 المصدر السابق ص140.

3 المصدر السابق ص244.

4 سلسلة "اقرأ" العدد 18 - ص99، 100.

ص: 81

ويستطرد الشيخ المغربي -أحد أبناء مدرسة الأفغاني- في شأن الرجوع إلى القرآن وتحديد مفهومه، نقلا عن الحديث الشفوي بينه وبين أستاذه في تركيا.. فيذكر:

"القرآن وحده هو سبب الهداية، والعمدة في الدعاية، وما تراكم عليه، وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطاتهم ونظرياتهم، فينبغي أن لا نعول عليه كوحي، وإنما نستأنس به كرأي.. ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه، وإرشاد الأمم إلى تعاليمه وتفسيره وإضاعة الوقت في عرضه"1.

بهذا يكون هناك في تاريخ الجماعة الإسلامية، وفيما أثر عنها فيما يتصل بإسلامها، نوعان من المصادر:

"مصدر مؤكد هو القرآن، وما في منزلته من السنة المتواترة: فالتواتر، والإجماع، وأعمال النبي المتواترة إلى اليوم، هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن والدعوة إلى القرآن وحده"2.

"ومصدر غير مؤكد: يصح أن يستأنس به، ولكن يجب أن لا يؤخذ به كما هو، وهو ما تجمع حول القرآن من آراء المسلمين، وشروحهم للإسلام".

وعلى هذا النحو يكون تحديد الرجوع إلى المصادر الأولى للإسلام، وفي الوقت نفسه يكون تقويم المدارس الإسلامية المختلفة عند جمال الدين مماثلا لما وجد عند ابن تيمية، وابن عبد الوهاب بعده، ومحمد بن علي السنوسي الكبير أخيرًا.

ولكن الإجماع الذي حدده الشيخ المغربي -نقلا عن حديث الشيخ جمال الدين- ربما يختلف عن ذاك الذي ينسب إلى جمال الدين في مجلة "العروة الوثقى"3 ونصه:

"وقد بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية، حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفا عن حكم

1 المصدر السابق ص61.

2 المصدر السابق ص60.

3 مجموعة العروة الوثقى ص145، 146.

ص: 82

الله وما في علمه، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعد جحوده مروقا من الدين، وانسلاخا عن الإيمان".

فهذا النص في "العروة الوثقى" يفيد أن "الإجماع".

- أولا: هو إجماع الأمة.

- وثانيا: أن حجيته هي في كل وقت، وليست قاصرة على وقت معين، وجيل معين من المسلمين.

بينما الذي يفيده تحديد الشيخ المغربي -نقلا عن حديث جمال الدين في إجابته عن أسئلة وجهها إليه: أن الإجماع هو إجماع الصحابة "رضوان الله عليهم" على عمل أو أمر وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بهذا التحديد له حجيته في الجماعة الإسلامية كلها، وله منزلة تقرب من منزلة القرآن.

ونص الشيخ عبد القادر المغربي في هذا، كما يلي:

"وكذا إجماع المسلمين في الصدر الأول، على حكم من الأحكام العملية الماضية من الزمن: هو ما يتمشى مع القرآن. ولا سيما أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في حياته هي: تفسير القرآن، وعمل بالقرآن"1.

والفرق بين النقلين في معنى الإجماع: أن أي إجماع بعد إجماع الصحابة، وقع في عهد لاحق لعهد الصحابة، له حجيته في نقل "العروة الوثقى" وليست له حجية في نقل "الشيخ المغربي"!

هل نقل الشيخ المغربي" يعتبر تخصيصا للعموم في معنى الإجماع الذي ورد في "العروة الوثقى"؟.

1 سلسلة "اقرأ" العدد 68 ص61.

ص: 83

ربما

ولكن الذي يفهم من روح مقال "العروة الوثقى" أن جمال الدين قصد هذا العموم؛ لأنه في سبيل بيان قيمة التكتل والوحدة والاتفاق.. وهنا يبدو جمال الدين زعيما شعبيا، أكثر منه مفكرا مجتهدا!

بهذا شرح السيد جمال الدين رأيه في الرجوع إلى القرآن وإلى تعاليمه الصافية، بعد أن آلت شروحه السابقة وتخريجه المتنوع إلى مذاهب، وآل أمر هذه المذاهب إلى تفريق الأمة إلى طوائف، وآل أمر الطوائف إلى العصبية والتنابذ في الخصومة، وصار ذلك كله بالأمة إلى الضعف، ثم إلى الانهيار.

يقول في بعض كتاباته متعجبا من أمر الفرقة بين المسلمين، مع وحدة المصدر في التوجيه، وعدم الاختلاف في المصالح العامة:

"أي فرق بين الأفغانيين وإخوانهم الإيرانيين؟ كل يؤمن بالله وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فعلى الأفغانيين أن يرفعوا أبصارهم ويستقبلوا حظهم بفكر سديد وعقل رشيد، ويتقدموا للاتفاق مع إخوانهم الإيرانيين، فيس بينهم وبينهم: ما يصح عليه الاختلاف في المصالح العمومية.. فالجميع من أصل واحد، وتجمعهم رابطة واحدة وهي أشرف الروابط: رابطة الدين الإسلامي"1!

يريد إضعاف الفوارق بين المسلمين، لتقوى سيادة المسلمين على أنفسهم وأمام غيرهم!! وإذا اهتم جمال الدين بالإسلام كله بوجه عام في كفاحه ضد الاستعمار الغربي، فإنه يهتم على وجه الخصوص بذلك الجانب من الإسلام الذي يدعو المسلمين إلى العزة والمحافظة على استقلالهم في شخصيتهم بعدم انصهارهم في غيرهم، فضلا عن الخضوع والاستسلام للأجنبي المتحامل عليهم.

بيد أن جمال الدين لم يحاول تلك المحاولة التي حاولها فيما بعد "محمد إقبال" في الهند والشيخ "محمد عبده" في مصر، من شرح المنهج الذي يحول دون الاستمرار في ضعف الأمة الإسلامية، والذي يخلق نشئا

1 مجموعة العروة الوثقى ص94.

ص: 84

آخر يشعر بالأخوة الصادقة بين المسلمين جميعا، كما يشعر بقوة الإسلام في توجيهه نحو حياة أفضل، ونحو مجتمع متماسك البناء، وهذا النهج قد عرف عند إقبال بـ"إعادة تجديد مفاهيم الفكر الديني في الإسلام" كما عرف عند الشيخ محمد عبده بمنهج "التربية الإسلامية" أو التربية القومية.

جمال الدين الأفغاني وابن تيمية:

قام جمال الدين -إذن- بحركته في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، كرد فعل للاستعمار الغربي، وخاصة في مصر. وقد بدت الرغبة في استعمار مصر واضحة منذ مشروع قناة السويس، ثم اشتدت هذه الرغبة في وضوحها منذ الاحتفال بافتتاحها على عهد الخديوي إسماعيل، حتى كشف عنها القناع تماما منذ الاحتلال البريطاني سنة 1882م.

وفي سبيل مواجهة هذا الاستعمار، طالب جمال الدين بمقاومته

ولأجل هذه المقاومة عمل على إيقاظ روح التضامن الإسلامي، عن طريق: طلب التمسك بالقرآن، والغاء العصبية المذهبية، وطرح التقليد الحزبي، وإعمال الاجتهاد في فهم القرآن، والملاءمة بين مبادئه وظروف الحياة التي يعيش فيها المسلمون، وطرح الخرافات والبدع، التي غيرت من جوهر الإسلام، والتي جعلته وسيلة سلبية في الحياة، بدلا من كونه حقيقة واضحة، وقوة إيجابية في السيطرة على الحياة وتوجيهها. لقد أراد جمال الدين في كفاحه ضد الاستعمار الغربي أن ينقل المسلمين من حال الضعف إلى حال القوة، كي يستطيعوا مواجهة الاعتداء الغربي في إعداده المنظم وعدته القوية.

- وحال الضعف التي كان عليها المسلمون إذ ذاك، تتمثل في: تفرق الكلمة -في تعصب- بسبب كثرة المذاهب وتباينها، والتقليد -في تبعية لا تخضع لترو أو فهم- لآراء أرباب الفرق، والانحراف عن الإسلام بالاعتقاد في البدع والخرافات، ككرامات الأولياء، وقدرتهم على الشفاعة والوساطة. هذا إلى سلبية واضحة في الحياة باتباع التصوف المنحرف، وتحكم عقيدة الجبر والتسليم في التوجيه!

- أما حال القوة: فهي في طرح ذلك كله. والتمسك بالقرآن كأساس موحد بين المسلمين، وإيجابية في الحياة بمباشرة الاجتهاد على الوضع الذي كان عليه السف.

ص: 85

حال الضعف التي وصفها جمال الدين للمسلمين في وقته، هي حال الضعف التي كان عليها المسلمون في وقت "ابن تيمية".

ووسيلة القوة والتكتل التي حددها ابن تيمية من قبل، هي الوسيلة التي تمسك بها جمال الدين، وأصر على سلوكها.

وليس هناك اختلاف بين الاثنين، سوى أن: ابن تيمية برهن كعالم إسلامي مطلع، واستخدم الدليل الديني والمنطقي في تدعيم رأيه، وكتب وراسل وألف. أما جمال الدين فاتخذ أسلوب "الإثارة" وإيقاظ الوعي، فتحدث وخبط، واتصل بزعماء المسلمين وقادتهم اتصالا شخصيا مباشرًا، مستحثا هممهم، ودافعا إياهم إلى مقاومة الاعتداء الغربي، في أية صورة من صور المقاومة؛ لأنه اعتداء مذل مخرب.

- ابن تيمية: كان مضطرا أن يؤلف، وأن يحاج بالدليل النظري والمنطقي أو النقلي؛ لأن خصومه في داخل الجماعة الإسلامية دفعوه إلى الحجاج والنزاع العلمي، وهؤلاء الخصوم هم أرباب الفرق الإسلامية المختلفة.

أما جمال الدين: فقد حدد له خصومة -وهم المستعمرون- نوع الوسيلة التي يقاوم بها، وهي وسيلة الإثارة، والتكتيل الشعبي، عن طريق إلهاب العواطف واستفزاز الهمم الإنسانية والحماس الديني. إذ المستعمر كان حاكما للشعوب الإسلامية، ومقاومته يجب أن تكون -في الصف الأول- من الشعوب ذاتها، وتكتيل الشعوب، وتجميع القوى المنثورة فيها، يتبع إثارة العواطف قبل أن يتبع الإقناع بالحجة.

ومع ذلك فقد خلق جمال الدين جيلا من القادة، خلفه بعد وفاته، على أساس من المعرفة والتبصير الهادئ الرزين، وعلى أساس من فهم صحيح للإسلام وتعاليمه، وفي توجيه العالم المجرب، فلم يكن جمال الدين قائد شعب أو شعوب ضد اعتداء أجنبي قوي منظم فحسب، بل كان مع ذلك رائد فكرة، ورائد فهم سليم للإسلام، ولولا دفع جمال الدين الأفغاني وتبصيره العلمي الإسلامي، لما رأينا من بعد شخصية كشخصية الشيخ محمد عبده، تتميز كل التميز عن أقرانها يومئذ في فهم الإسلام وفي تقدير قيمه، وفي فهم الحياة وظروفها، ولما وجد هذا النظام الإسلامي الشامل للحياة الإسلامية في ظل الإسلام وتعاليمه، الذي وضعه تلميذه المخلص محمد عبده.

ص: 86

هذا فضلا عن الفارق، الذي ذكر غير مرة. وهو: أن كلا من حركة ابن تيمية وحركة جمال الدين الأفغاني، أخذت طابعا معينا، أملته ظروف كل من صاحب الحركتين. فقد أملت ظروف الشيخ جمال الدين عليه وسيلة الكفاح في رد الاعتداء، كما أملت عليه طابع حركته، فأصبح مظهرها مصبوغا بالصبغة السياسية؛ لأنها في مواجهة اعتداء سياسي مقنع، ينطوي تحته اعتداء صليبي، وقد كشف اللورد اللنبي -بعدما استولى على القدس في أعقاب الحرب العالمية الأولى- هذا القناع بكلمته المشهورة:"الآن انتهت الحروب الصليبية، وانتصرت"!!

تقدير المستشرقين لجمال الدين الأفغاني:

مع نشاط جمال الدين الواسع، وحركته الدائبة في مقاومة الاستعمار الغربي، وجلده القوي الطويل المدى في هذه المقاومة، يحاول المستشرقون وزنه وتقديره في جانبه الفكري، على أساس أنه لم يكن عميق التفكير ولم يكن الشخص الذي يمكنه أن يفيد الإسلام في عرض أفكاره وتعاليمه له.

يعلق المستشرق الإنجليزي "جب" عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" The Modern Trends in Islam على رأي "محمد إقبال" في جمال الدين، على النحو الآتي1:

"إقبال يرى أن جمال الدين كان إنسانا له نظرة عميقة في تاريخ الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية. لذلك كان يعتقد أن جمال الدين لو ركز قوته الذهنية في خدمة الإسلام كنظام للتوجيه الإنساني والحياة الاعتقادية للإنسان، لوجد العالم الإسلامي اليوم على أساس أقوى بكثير".. وعلى هذا الرأي يعقب "جب" بقول: "إن العمل الوحيد الذي نشر لجمال الدين هو كتاب "الرد على الدهريين" وهو عمل لا يوحي مطلقا بأن جمال الدين إنسان له هذه الاستطاعة العقلية، على نحو ما تنبأ إقبال"!!

ولو فارقنا "جب" إلى مستشرق آخر

مثل "برون" Brown أو "آدمز" Adams، لوجدنا أن جمال الدين في كتاباتهم: شخصية تملكها

1 صفحة 28-29 من كتاب: The Modern Trends in Islam.

ص: 87

الحق على الاستعمار الغربي، بعد أن تمكنت منه العاطفة غير المعتدلة في أحكامه وفي مقاييسه، أما نصيبه في التفكير عند أمثالهما: فغير وافر في كمه، وغير عميق في نوعه!!

يقدر المستشرقون جمال الدين على هذا النحو؛ لأن جمال الدين واجه الاستعمار الغربي وجها لوجه، ولم تضعف إرادته في مقاومته، ولم يدار أو يموه بالنسبة لنقائص الغرب في المجتمع البشري، وقد أشاد بالإسلام في مواجهة المسيحية، فكان نصيبه من دراسة المستشرقين لآثاره نصيب المفكر الإسلامي ابن تيمية، الذي وصف في كتاباتهم بضيق الأفق وعدم تقديره للعقل الإنساني فيما كتبه في:"رد المنطق"، ويعلم الله أن ابن تيمية أراد بكتابه هذا أن يبين أن الإسلام ليس في حاجة إلى "منطق الإغريق" ليروج، أو لتوزن به مبادئه، فله أسلوبه الخاص، ومنهاجه الواضح في الدعوة إلى الله وهدايته للإنسان، ولكن السبب الخفي في الحقد على ابن تيمية، هو مهاجمته للمسيحية، في شخص الصليبية التي حاولت انتزاع بيت المقدس من المسلمين، كما حاولت تحطيم جمعهم والنيل من مقدساتهم.

وقبل أن ننتقل من عرض الكفاح الفكري الديني والسياسي لجمال الدين الأفغاني، يجب أن نشير إشارة وجيزة إلى رده على المستشرق الفرنسي رينان Ernest Renan أثناء إقامته في باريس سنة 1882م.

ألقى رينان محاضرة في السوربون عن: "الإسلام والعلم" في مارس سنة 1883م وذكر في هذه المحاضرة: أن الإسلام لا يشجع الجهود العلمية، بل هو عائق لها، بما فيه من اعتقاد للغيبيات وخوارق العادات، وإيمان تام بالقضاء والقدر "الجبر".

وتولى جمال الدين الرد عليه في Journal Des Debats

ويتلخص رده فيما يلي:

"إن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها: أصدر هذا الشر عن الديانة الإسلامية نفسها، أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت بها الديانة الإسلامية في العالم، أم أن أخلاق الشعوب التي اعتنقت الإسلام أو

ص: 88

حملت على اعتناقه بالقوة وعاداتها وملكاتها الطبيعية هي جميعا مصدر ذلك؟؟ "1.

ومعنى هذا: أن تقييم الإسلام، من حيث هو دين ومنهج هداية من الله سبحانه وتعالى، يجب أن لا يدخل فيه ما ينسب للإنسان من أفهام وعادات، وإنما يجب أن يراعي في تقييمه -فحسب- مدى حظ مبادئه في هداية الإنسان وتوجيهه الوجهة السليمة الملائمة لحياته، كإنسان متميز عن غيره من الكائنات الأخرى: يجب أن لا تكون صنعة الإنسان العقلية فيه، وعاداته التي ورثها، هي الميزان والفيصل في تقدير مبادئ الإسلام.

وفي هذا المجال بالذات، سنعرض لرد الشيخ محمد عبده فيما بعد على ما ذكره رينان هنا

وسيتجلى لنا فرق واضح بين رد التلميذ وأستاذه: ففضلا عن أن الشيخ عبده أوضح تماما "وجوب الفصل في القيم" وعدم الخلط في تقييم الفكر والمبادئ بقيم حامليها والمتصلين بها، فقد عمد إلى شرح عقيدة "القضاء والقدر" التي كانت محور تشنيع رينان على الإسلام، بما يبعدها تماما عما يسمى "بالجبر" وجعل هذه العقيدة حافزا ودافعا لمن يعتقدها إلى العمل والسعي الإيجابي في الحياة. وبذلك استطاع الشيخ عبده أن يدخل دخولا مباشرا في المشكل، ويحدد معناه من تاريخ الإسلام نفسه، رافضا المعنى الآخر الذي يعتبر دخيلا، وهو معنى "الجبر" الذي يراد أن تؤسس عليه النتيجة التالية: أن يدعو إلى عدم العمل، فهو لذلك صورة من الصور الـFatalism، أو هو ذلك المذهب المعروف، بالتواكل.

ولأن السيد جمال الدين لم يعن في هذا الرد عنايته في الرد على الدهريين بالهند، ولم يكن لتفكيره هنا نفس العمق ولا أسلوب الجدل القوي اللذين يكونان طابع التفكير عند الشيخ عبده في رده على رينان، قصدنا إلى الإشارة الموجزة لرد السيد جمال الدين هنا إتماما لتصوير كفاحه ضد الاستعمار الغربي في مظهره السياسي، وفيما أوحى به هذا الاستعمار من فكرة مشككة أو عقائد ناشزة يحترفها دعاته من المسلمين، وأخيرا فيما يوعز به من الخارج، ويدفع به إلى داخل الجماعة الإسلامية، بغية تمزيقها وقصدا إلى خلخلة الصلة بين المسلم وإسلامه.

1 أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث: ص86.

ص: 89

مات جمال الدين في سنة 1897م، بعد صراع عنيف مع الاستعمار الغربي استمر قرابة ثلاثين عاما، ولكن ما أن توفي -عليه رحمة الله- حتى انتشر كفاحه واتجاهه في التفكير في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبخاصة في تلك الأنحاء التي تسلط فيها الأجنبي وعبث بمقدسات المسلمين وبكراماتهم واقتصادياتهم ومواردهم في الثروة الطبيعية.

مات جمال الدين في استانبول، وظهر أثره.

-في مصر: عند محمد عبده ومدرسته "السلفية".

- وفي الجزائر: في جمعية علماء الجزائر "لمؤسسها المرحوم عبد الحميد بن باديس المتوفى سنة 1940م".

- وفي أندونيسيا: في حركة تجديد "المنار".

- وفي الهند: جماعة أهل الحديث. وفي ندوة العلماء "لمؤسسها محمد شبل النعماني المتوفى سنة 1941م" وفي أزهر الهند: في مدرسة دار العلوم في "ديوبند"، والتي نقلت بعد تقسيم 1948م "إلى أكوري" ببشاور في الباكستان.

وفي كل هذه الحركات نجد هدفا واحدًا: هو تحرير الوطن الإسلامي من الاستعمار الغربي، ومحاربة الاتجاه الاستعماري في التفكير ثم نجد مع هذا الهدف، الوسائل لتحقيقه.

- أما تحرير الوطن الإسلامي من الاستعمار الغربي في كل هذه الحركات: فيعتمد على استرجاع قوة المسلمين في تكتلهم وتآخيهم. واسترجاع هذه القوة يعتمد بالتالي على طرح ما طرأ على الإسلام من عادات غريبة في السلوك، وأفهام سقيمة في تخريج نصوصه وشرح تعاليمه. ثم على الرجوع إلى موقف المسلمين الأول من القرآن في استلهامهم التوجيه منه مباشرة، لطبع تصرفاتهم بالطابع الإسلامي من جهة ولوصولهم إلى الغاية التي ينشدونها في أمان وسرعة من جهة أخرى.

- وأما محاربة الاتجاه الاستعماري في التفكير، فبالوقوف في وجه الشبه التي تثار، والتخريجات المغرضة لنصوص مصدري الإسلام: القرآن والسنة الصحيحة. وبيان محاولات تزييفها بالأسلوب العلمي والتاريخي، وتصحب ذلك محاولة تقريب مبادئ الإسلام من العقلية

ص: 90

الإسلامية الحديثة، وتوضيح أن هذه المبادئ هي لتوجيه الإنسان توجيها سليما، سواء في عصر الإبل، أو في عصر الحضارة القديمة، الهندية، والفارسية، والإغريقية، أو في عصر الحضارة الإسلامية، أو في عصر البخار والآلة، أو في عصر الذرة والإنسان الآلي الذي لم يشهده جمال الدين. وتوضيح ذلك كله، وليس من الوجهة النظرية فحسب، بل من الوجهة العملية أيضا.

ولهذا الشبه في الهدف والوسيلة بين هذه الحركات التي ترجمت كفاح جمال الدين الأفغاني من جديد، نجد ما ينسب إلى الشيخ عبده في مصر من حركة إصلاحية، ودعوة إلى تحديد المفاهيم الإسلامية تحت تأثير الحياة الحديثة وما فيها من حضارات لم تكن مألوفة، وإمكانيات لسيطرة الإنسان على الحياة لم يكن للمسلمين عهد بها من قبل. هو ما نجده كذلك عند زعماء تلك الحركات "التحررية". والاختلاف بينها في سعة الحركة الإصلاحية أو ضيق نطاقها. أو في قوة الدعوة إليها أو ضعفها!

وما ينسب للشيخ عبده: من منهاج تربوي لتنشئة المسلم الصغير، وتقويم العامي، وتخريج الدعاة والباحثين، وتثقيف المرأة، وما نجده عنده من منهاج للتعليم "الوطني". نجده أيضا أساسا من أسس تلك الحركات، مع ما قد يكون من فارق بينهما في النوع أو الكمية!

- فالتعبئة العامة للشعوب الإسلامية على أساس من دينها، لا على أساس من مذاهب الطوائف فيها، ومن أجل هذا الدين هي مجمل هذه الحركات.

- وأن يكون الدين لسيادة المؤمنين به، وأن يكون واجب هؤلاء المؤمنين أن يحافظوا عليه ويتمسكوا به ويدافعوا عنه لتبقى لهم السيادة هذا هو شعار تلك الحركات.

ذلك وصف إجمالي للاتجاه الفكري الإسلامي المقاوم للاستعمار الغربي، أما الاتجاه الآخر المقابل له.. فقد أدرك الاستعمار أن مذهب العقيدة الجديد الذي ساعد هو على قيامه وانتشاره في الهند، وفيما وراء الهند بعد ذلك في آسيا وأفريقيا، حتى أوروبا نفسها "في لندن وألمانيا" سوف لا يلقى الانتشار المرجو له؛ لأن مخالفته الأصول الإسلامية بدت

ص: 91

مخالفة واضحة صريحة، كما سبق أن أشير إلى ذلك. ومع ذلك يجب أن تستمر مساعدته ومساندته، إذ مهما كان من أثر فسيجذب بعض تفكير المسلمين المعارضين إلى بحث قضايا دينية، وسيثير عندهم جدلا، وسيأخذ من وقتهم ما يخف به ضغطهم ضد الاستعمار، وتضعف به يقظتهم لأسلوب آخر يستخدمه الاستعمار في تأمين نفسه، ولن يكون آمنا على نفسه إلا عندما ينقسم المسلمون إلى شيع يجادل بعضها بعضا، وإلا عندما تضعف القيم الإسلامية في نفوسهم.

لهذا عاد الاستعمار من جديد فشجع اتجاه السيد "أحمد خان" وهو اتجاه "التجديد" في الإسلام، ومحاولة الملائمة بين تعاليم الإسلام وقوانين "العلم" أو الطبيعة.

وهنا -منذ انتهاء القرن التاسع عشر- برزت نزعة التجديد في التفكير الإسلامي وتحديد غايتها في وضوح:

- في محاولة الملائمة بين العلم والدين.

- وفي اعادة امتحان أسس العقيدة واختبارها، في ضوء الفكر الغربي الحديث.

وظهر في مصر مجددون.

وفي الهند، وفي إيران، وفي تركيا.. ظهر مجددون آخرون!!

وفي الوقت الذي كانت عوامل الاستعمار الغربي تعين على دفع حركة التجديد في هذه الخطوات في سيرها نحو تقريب الفكر الغربي للعقلية الإسلامية على حساب التعاليم الإسلامية الأصيلة، بدعوى الملائمة بينهما، وبدعوى أن الفكر الغربي الحديث أثبتت الحضارة الغربية قيمته ووزنه في الحياة، فلكي يعيش الإسلام أو لكي يبرهن الإسلام على وجود نفسه أو صحته: يجب أن يسير في اتجاهه ويختبر نفسه بموازينه.

في هذا الوقت نفسه، كانت عوامل الاستعمار نفسها تضغط على الثقافة الإسلامية، وعلى المظاهر الإسلامية بين الشعوب الإسلامية، بدعوى أن التشدد فيها نكسة ورجعية، وأن التزام مجاراتها يبعد الإنسان الحديث عن أن يعيش في الحياة الحديثة! وقد ربط الاستعمار في التدليل على ذلك بين حال المسلمين إذ ذاك -وهي حال متأخرة- هزيلة. وبين ما سماه التمسك بالإسلام أي: إن تلك الحال المتأخرة هي نتيجة التمسك بالإسلام.

ص: 92

ترى أي إسلام يتمسك به المسلمون أصحاب هذه الحال؟.

أهو إسلام القرآن. أم إسلام البدع وإسلام التعصب للمذاهب؟

وتولى أعوان الاستعمار في الأجهزة المشرفة على التعليم والتوجيه الرسمي القيام بهذه الرسالة: وهي الضغط على الثقافة الإسلامية في برامج المدارس وفي الوظائف الحكومية، وفي حياة المجتمعات الإسلامية. وهكذا وجد في الهند، وأندونيسيا، والجزائر، "دانلوب" آخر، على نحو "دانلوب" مصر!. ووجد ازدواج في التعليم: أحدهما مدني والآخر ديني. والمدني هو التعليم التقدمي، والديني هو التعليم الرجعي!! وصاحب الثقافة المدنية هو الأجدر لذلك بوظائف الحكومة، أما صاحب الثقافة الدينية فهو نفسه لا يصلح للحياة في نظر هذا المنطق، فضلا عن أن ينتظر منه أن يساهم في دفع الحياة إلى الأمام!

والأزهريون في مصر، والمتخرجون في مدرسة دار العلوم "بديوبند" بالهند وفي جامع الزيتونة بتونس، وجام القرويين بالمغرب، يحملون صفة التخلف عن ركب الحياة لا لشيء إلا أنهم حملة الثقافة الإسلامية ودعاة الفكر الإسلامي المناوئ للاستعمار، وانقسمت الجماعة الإسلامية بذلك في كل قطر إسلامي إلى جماعتين، كل منهما تحمل الحقد والكراهية للأخرى، والاستخفاف في التقدير، وسوء الفهم في المعاملة!!

- وظهر في أصحاب الثقافة المدنية، أي: اللادينية واللاإسلامية: فريق دعاة التجديد.

- بينما قام من أصحاب الثقافة الإسلامية: نفر -قليل- يدعو إلى "الإصلاح الديني" وإلى تمجيد القيم الدينية، كما يدعو زملاءه في الثقافة إلى تحصيل المعارف الحديثة، لا حرصا على المساهمة في هذه الحياة القائمة؛ ولكن لأن الإسلام نفسه يدعو إلى العلم والحضارة، كما يدعو إلى القيم والفضائل الإنسانية!

ومن هنا وجدنا الشيخ "محمد عبده" في مصر يدعو إلى إصلاح الأزهر، ويربط بين إصلاحه وإصلاح حال المسلمين، وفهم رسالة الإسلام على حقيقتها. وأخيرا يربط بين هذا الإصلاح من جانب، ومقاومة الاستعمار الغربي وسيادة الأمة الإسلامية على نفسها من نفسها من جانب آخر.

ص: 93

ودعوة الشيخ "محمد عبده" لإصلاح الأزهر صادفتها دعمة مماثلة في الجزائر عن طريق "جمعية العلماء"، التي حرصت كل الحرص على تحويل أكبر عدد ممكن من المدارس الأولية في القرى إلى مجال تحفيظ القرآن الكريم، إبقاء على اللغة العربية وعلى الروح الإسلامية والشعور بالإخاء الإسلامي. ذلك الذي بدا أثره واضحا اليوم في الكفاح الدموي بين مسلمي الجزائر والاستعمار الغربي، ولم يؤثر قرن وربع قرن من الزمان على تلك الروح!! وفات على المستعمر مقصده الذي طالما سعى لتحقيقه المستمر بمحاربة اللغة العربية، ومنعها من التداول، إلا في نطاق ضيق، وكذا بتشويه الإسلام عن طريق الإرساليات التبشيرية، وما يسميه بالبحوث العلمانية، وبحوث المستشرقين، أصحاب المشورة والرأي في توجيه السياسة الاستعمارية في الشرق الإسلامي.

وعلى غرار دعوة الشيخ "محمد عبده" في مصر قامت دعوة أخرى في الهند، سواء في مدارس "أهل الحديث" هناك، أو في مدرسة "دار العلوم" بديوبند.

ولم يفت الاستعمار الغربي مع ذلك أن يبشر بفكرة جديدة تبدو بعيدة عن الإسلام وتعاليمه، ولكنها متصلة به اتصالا وثيقا. فإن نجحت هذه الفكرة كانت وسيلة أخرى لفصم المسلم عن إسلامه أو إضعاف اعتقاده به، وإن لم تنجح فقد خلقت جوا من التوتر بين المسلمين، وبالتالي أحدثت اهتزازا لماضي المسلمين!!

من ذلك: فكرة كتابة العربية بالحروف اللاتينية كما فعلت تركيا.

وفكرة نشر "الثقافة الخفيفة".

وفكرة اللغة العامية في أسلوب الكتابة وفي أحاديث الإذاعة وفي مقالات الصحف.

كل ذلك بدعوى أن ذلك يجاري الواقع من جهة، أو يدعو إلى تخفيف الانفصالية بين الشرق والغرب من جهة أخرى!!

وكل هذه الأفكار تقوم على وضع حجاب كثيف بين ماضي الشعوب الإسلامية -في تاريخها وإسلامها وكفاحها وبطولتها- وبين حاضر هذه الشعوب، حتى لا تستطيع أن تستند إلى ذلك الماضي يوم أن يعتدى عليها أو تسلب حقوقها.

ص: 94

على أن الاستعمار الغربي وقد وضع خطته هذه في توجيه الفكر الإسلامي وجهة ملائمة له، وعمل على ضغط الثقافة الإسلامية: بالتقليل من شأنها، وإبعادها عن مجال التثقيف، والتخفيف من شأن حملتها، بتقديرهم تقديرا ماديا متواضعا في الدائرة الضيقة التي يسعون للتوظف فيها. لم يفته أن يضع مثل ذلك في سياسته التي يدير بها الشعوب الإسلامية الأخرى.

- فخلق المشكلات الطائفية في "لبنان". متذرعا بإحصاءات واعتبارات تتلاعب في تقديرها الأهواء، ليحول وجودها دون تكتل شعوب الشرق الأدنى على أساس من الإسلام.

- وأنشأ "إسرائيل" كدولة يهودية. ليحول إنشاؤها دون تكتل هذه الشعوب على أساس من مقومات اللغة العربية، والتاريخ العربي المشترك.

- وقرار "تدويل القدس". ليس سوى عمل سياسي استعماري غربي لتحقيق فكرة الكتلة الصليبية، في إبعاد المسلمين "البرابرة" عن مهد "الإنسانية"!!

ولا يفوتني هنا بالذات، أن أشير إلى سذاجة وزير مصري مفوض لدى الفاتيكان في العهد السابق قبل قيام الثورة -وبعد أن نشأت العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان وبين مصر في أعقاب الحرب العالمية الآخيرة- كان يكتب التقرير تلو التقرير إلى وزارة الخارجية المصرية يمجد فيها رأي الفاتيكان في تدويل القدس، ويعد هذا الرأي تقربا من المسيحية الكاثوليكية إلى الإسلام، ويطلب مزيدا من التعاون بينهما في النطاق الدولي، والنطاق الثقافي. وللفاتيكان نفسه عشرات من المدارس الدينية في مصر، لها أسماء مختلفة بأسماء عدد من القديسين، وبأسماء دينية مسيحية:"كالسكركير" و"المير دي دييه" و"الفرير" و"الجزويت"، وهي تعلم لغات مختلفة كالألمانية والفرنسية والإيطالية والأسبانية، وهدفها واحد والتوجيه فيها يخضع لمجلس يرأسه القاصد الرسولي في مصر، وهو ممثل دولة الفاتيكان!!

- وما مشكلة "كشمير" إلا وسيلة أخرى للحيلولة دون نمو الباكستان وتقدمها الزراعي على وجه خاص، وخلق هذه المشكلة عند قيام هذه الدولة أشبه بتهديد الفناء لمولود جديد، لم تتوافر له كل إمكانيات المولود الطبيعي.

ص: 95

- إن دعاة "الإصلاح الديني" بعد جمال الدين الأفغاني يمثلون حركة دفاع أو إنقاذ.

- وعادة "التجديد" بعد السير أحمد خان، يمثلون الهجوم الصليبي الاستعماري الغربي على مقومات المسلمين. ولكن ليس بلازم أن يكون جميع هؤلاء المجددين على صلة مباشرة بالاستعمار الغربي وبخططه، بل كثيرا ما يكونون قد تأثروا ببريق "التجديد" وما صحبه من حضارة مادية تأثرا إيجابيا، بينما تأثروا على النقيض بحاضر المسلمين، ومستوى حياتهم المتواضعة، وضعف سعيهم نحو حياة ومستقبل أفضل.

وسنعرض فيما يلي لاستمرار الفكر الإسلامي المقاوم للاستعمار، في حركة الشيخ "محمد عبده".

على أن نتبعه بعرض للاتجاه الآخر في صورة "التجديد" و"المجددين".

ص: 96