المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

[محمد البهي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة:

- ‌تقديم الطبعة الرابعة:

- ‌تقديم الطبعة الثالثة

- ‌تقديم الطبعة الثانية:

- ‌تقديم الطبعة الأولى:

- ‌فاتحة:

- ‌الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:

- ‌العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر

- ‌الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ

- ‌مفكرون من المسلمين مع الاستعمار

- ‌مدخل

- ‌حركة أحمد خان:

- ‌ المذهب القادياني:

- ‌الأحمدية:

- ‌المستشرقون…والاستعمار

- ‌مدخل

- ‌ النزعة الأولى

- ‌النزعة الثانية:

- ‌الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي

- ‌مقاومة مزدوجة

- ‌محمد جمال الدين الأفغاني

- ‌محمد عبده:

- ‌الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي

- ‌اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين

- ‌بشرية القرآن:

- ‌الإسلام دين…لا دولة:

- ‌الدين خرافة:

- ‌الدين مخدر:

- ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

- ‌الباب الخامس: الإسلام غدا

- ‌مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية:

- ‌الإسلام فوق الزمان والمكان:

- ‌الفراغ في الحياة التوجيهية العامة:

- ‌الأزهر:

- ‌الأزهر…في تنظيمه الجديد:

- ‌الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المستشرقون المعاصرون:

- ‌ المتطرفون من المستشرقين

- ‌ بعض الكتب المتطرفة

- ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

- ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

بقلم: أ. ل. طيباوي1

1 دراسة للأستاذ طيباوي نشرت بعدد يوليو سنة 1963 مجلة THE MUSLIM WORLD وترجمها فتحي عثمان.

ص: 473

ليس هناك من جهود أكاديمية في عالم الدراسات الإنسانية تكاد تكون أسوأ حظا في مواردها وسوابقها من الدراسات الإسلامية والعربية في الغرب. وليس من غرض هذا المقال أن يعطي تفصيلات في هذا التاريخ المؤسف، ويكفي لذلك في هذا المقال أن نلقي نظرة مجملة على هذا التاريخ في معالمه السريعة لتكون هذه النظرة مقدمة بين يدي دراستنا في موضوعها المحدد1.

ومنذ البداية تبدو جذور العداوة اليهودية المسيحية للإسلام في آيات القرآن فما كان أسرع أهل الكتاب لتكذيب محمد بل لتحديه في مهمته كحامل للرسالة الإلهية ومن هنا بدأت سلسلة المجادلات التي استمرت وإن تباينت الرايات المرفوعة في معارك الجدل حتى أيامنا، وقد امتد نطاق هذا العداء نتيجة للأعمال السياسية والعسكرية التي قامت بها الدولة الإسلامية في عهد الرسول وخلفائه، فتعدى حدود الجزيرة العربية ليضع الإمبراطورية البيزنطية ومن بعدها المسيحية الغربية.

ولم يكن الإسلام المنتصر يتجاهل المجادلين البيزنطيين، أو يهمل الرد على محاولاتهم التخريبية المسمومة، ولكن ما لبث أن فاق البيزنطيين في تنمية العداء والتحامل خلفاؤهم في أوروبا الوسيطة، وذلك عن طريق بث المعلومات المشوهة أو الزائفة وهكذا كان الإسلام بالنسبة لهم من "عمل الشيطان". وكان القرآن نسيجا من السخافات "وكان محمد" دعيا "كذابا" و"محتالا" و"عدوا للمسيح"!! أما المسلمون فهم ليسوا سوى نوع من المتوحشين لا يكاد يحظى بميزة إنسانية!!

ومن العسير أن نحدد إلى أي مدى أثرت هذه الدعاية في أوروبا الغربية حتى استجابت

لنداء الحروب الصليبية، ولكن من أبرز مظاهر الفشل في

1 إن دراسات الاستشراق في المجالات الإسلامية والعربية هي بالطبع بناء دولي اشترك فيه المستشرقون الغربيون من إنجليز وفرنسيين وألمان وإيطاليين وغيرهم. والدراسة التي يتناولها المقال يمكن أن تطبق على معظم هؤلاء، وإنما حددت بالمستشرقين الناطقين بالإنجليزية لمراعاة مقتضيات البحث، وحتى في هذا النطاق المحدد تناولت الدراسة فحسب الباحثين الذين لهم آراء منشورة تتعلق بموضوع الدراسة.

ص: 475

هذا الصراع الطويل بين المسيحية والإسلام -وإن كانت أقلها وضوحا- أنه لم يستطع أن يجتذب المسيحية رغم احتكاكها الطويل بالإسلام عن قرب إلى تلطيف حدة تحاملها أو تصحيح الصورة السائدة عن عدوها على الأقل، ومضى قرنان من النزاع وقد تزايد العداء عند كلا الجانبين، ولم تتناقص حدة التحامل أو الجهل بحقيقة الأمور.

ووقع القصاص عن عدوان الحروب الصليبية في عالم المسيحية، فبدلا من محاولة الاستيلاء على إقليم من مقدسات المسيحية، وبدلا من شن الحرب على العرب. بدأ اتجاه جديد ينال حظا من التأييد، وهكذا أخذ فرنسيس الأسيزي Francis of Ossisi يبحث من خلال حماسه التبشيري كيف يحول "الكفار" إلى جانب الإنجيل، وعن طريق ريموند لل Raymond lull الذي كانت تعتمل في عقله الدوافع نفسها أدخل تعليم العربية في المعاهد المسيحية في الدراسات العليا1. ولكن الهدف من وراء هذه الدراسة ما زال تخريبيا عدائيا إلى حد كبير، إنها تستهدف أن تعرف المزيد عن الإسلام لتكون أكثر تهيؤا لعرض "نقائصه"! ولقد كان صاحب القداسة بطرس Peter the Venerable راعيا لأول ترجمة لاتينية للقرآن كما كان هو نفسه صاحب حملة جدلية طائشة ضد الإسلام2، ولم يلحظ تقدم ذو قيمة نحو إدراك أفضل حتى وقت قريب نسبيا فقد اكتنف المحاولات الأولى الجادة جو النزاع من جديد، وأدت عودة المسيحيين إلى الأندلس كما أدى توغل العثمانيين في قلب أوروبا إلى استثارة نيران البغضاء والتحامل، وهكذا تقهقرت إمكانيات التصور الصحيح والتعبير المنصف، وظل العالم القديم منقسما بين "دار الإسلام" و"دار الحرب"، ولا يلتقي القسمان إلا في ساحة القتال أو صفحات الجدل البغيضة!

1 قرر مجمع فيينا سنة 1312م إدخال العربية مع لغات أخرى في جامعات باريس: بولونيا، أكسفورد، سلمنكا، Roman Curia انظر H. Rashdal: the Universities of Eueapein in the Middle ages Oxford 1895 II. PP. 1، 30 81-2، 96.

وهو يقرر ص 30 "أن الغرض من هذا القرار كان تبشيريا خالصا وكنسيا لا علميا".

2 على سبيل المثال Dmile Dermenghem: La vie de Mahomet: Paris،1929، 136-R.W. Southern، Western Views of Islam in the Middle ages، Hgruord Ilsusis press. 1692، 37.

ص: 476

وأخيرا التقى الفريقان

وإلى أن تم هذا اللقاء كان قد حدث تطوران عظيمان من تطورات التاريخ أولهما: أنه قد نمت أوروبا الغربية قوى معينة بلغت ذروتها في النهضة الأوروبية Renaissance في القرن الخامس عشر الميلادي، ودعت إلى ترجمة العلم الإغريقي نقلا عن علماء العرب في الطب والرياضيات والفلسفة

إلخ، على أن هذا الاتصال العلمي على اتصاله وعمقه لم يبد أنه أثر في الصورة العقيدية أو الإلهية أو حتى الصورة التاريخية للإسلام في النظرة المسيحية.

وتمثل التطور الثاني فيما أصاب وحدة العالم المسيحي تحت لواء الكنيسة من تمزق نتيجة للقوى الجديدة: سياسية واقتصادية ودينية، وقد تمخض عنها الإصلاح الديني وظهور الدول القومية التي اشتعلت بينها غالبا نيران المنافسة وشغفت بالمشروعات الطموحة للتوسع فيما وراء البحار. وكانت الدول القومية الحديثة في رقعتها الصغيرة نسبيا قد اتجهت إلى تحقيق مصالحها ولو على حساب مصالح دول مسيحية أخرى أو العالم المسيحي في مجموعه، وهكذا كانت البداية العملية لصلات دبلوماسية وتجارية مع البلدان الإسلامية على مدى أقرب مما تحقق من قبل.

وعلى الرغم من أن الجدل الديني كان لا يزال في مرارته ونشاطه كعهده من قبل، وعلى الرغم من أن الهدف التبشيري كان يضاعف من سيطرته على مخيلة سلطات الكنيسة، فقد بدأت بواعث مدنية جديدة تأخذ حظها من الاعتبار على قدم المساواة إن لم تكن أكثر ولربما كان أوضح مثال لهذا التعبير بالنسبة لهذه الدراسة هو تقرير المراجع الأكاديمية المسئولة في جامعة كمبردج بالنسبة لإنشاء كرسي اللغة العربية فيها، فهذه المراجع تقرر في خطاب مؤرخ في 9 مايو 1936 إلى مؤسس هذا الكرسي:"ونحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بتعريض كبير من المعرفة للنور، بدلا من احتباسه في نطاق هذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكنا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة، والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات"1.

A. J. Asbesry. The Cambridge Sahooe of arabic، Cambridge. 1948، p. 8.

ص: 477

ولكن معظم ما توصلت إلى معرفته الدراسات العربية أو الإسلامية التي أنشئت لتحقيق غرض جدلي أو تبشيري أو تجاري أو دبلوماسي أو علمي أو حتى أكاديمي، قد ظلت طويلا عليها مسحة من ظلال عداء عميق الجذور وهذا أول جالس على كرسي العربية في كمبردج يعد مشروعا لم يكتمل إنفاذه قط لتفنيد القرآن! وكان ممن أعقبوه على هذا الكرسي في أول أمره خلال القرن الثامن عشر من كتب مؤلفا رائدا عن "تاريخ العرب" Hsitory of the Saracans كما حبذ أن يقرأ القرآن لمعارضته أو تفنيده! هكذا يبدو أن المعرفة المتزايدة لم تقطع سوى خطوات محدودة لتبديد ما تراكم عبر القرون من موروثات!!

كذلك لم تحدث التغيرات التاريخية تحسنا على الموقف. لقد وضع التوسع الأوروبي فيما وراء البحار يده على مساحات كبيرة من ديار الإسلام على مر الزمن، وقد بلغ هذا التوسع ذروته في القرن التاسع عشر عندما صارت أوروبا سيدة لمنطقة إسلامية شاسعة يسكنها ملايين المسلمين. ولقد صحب الاستعمار السياسي أو اتبعه تعزيز ثقافي أكثر دهاء.

وتدهورت ثروة العالم الإسلامي إلى هاوية سحيقة، وأصبح مصير مدنيته إلى حد كبير في أيدي القوى المسيحية1.

وفي ظل الوضع الجديد بدأ التعليم المدني يعد جذوره كما أتيح للعمل التبشيري أن يكون ممكنا، وتقاسم التعليم المدني والتبشير المسيحي الاتجاه إلى تغذية نزعة التشكيك في أسلوب حياة المسلمين، مجرد التشكيك على الأقل2. وعمل كل من السيد المسيحي "الجنتلمان" "بناء الإمبراطورية" والمبشر المسيحي "سفير المسيح" على التأثير بطريق مباشر أو غير مباشر

1 على سبيل المثال:

Proceedings of the church Missionary society 1882،p. 5.

وفيه "أن حملة فتح مصر وما أثمرت عنه من آثار باحتلال إنجلترا لمناطق واسعة من البلاد هو مما يزيد مسئولية المسيحيين الإنجليز في تقديم إنجيل المسيح إلى مصر".

2 على سبيل المثال دكتور محمد البهي: تقديم كتاب الشيخ محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة، مطبعة الأزهر 1379هـ/ 1959م. ص 3، 5.

ص: 478

في مجرى التعليم في البلدان الإسلامية، وأخرجت هاتان الطبقتان من العاملين عددا من المتخصصين الجدد في العربية أو الفارسية أو التركية أو الإسلام كانوا روادا بين أيدي المستشرقين والأكاديميين.

وكان الطريق مفتوحا آمنا كذلك أمام الرحالة المحب للاستطلاع، من لديه فراغ الوقت ورمانسية الخيال وثراء الجيب من الساعين إلى المعرفة الذين يخطون كتابات سطحية عن الشرقي أو الآثار أو المخطوطات التي يتوصل إليها. ولكنا خلال هذا كله كنا نتبين ملامح الباحث المجرد مثل "أ. و. لين E. W. Lane" الذي لم يكن يكل أو يمل1 واقتنع التبشير من كتابات هؤلاء أنه إذا كانت قوة الإسلام السياسية قد اهتزت فإن انحلال قوته الروحية وتحول أتباعه إلى المسيحية قد بات في متناول اليد.

هكذا كانت زاوية النظر حين استهلت الجماعات التبشيرية البريطانية -وغيرها- عملها في الشرق، في بلدان إفريقية وحوض البحر المتوسط.

ومنذ البداية كان هناك تجاوب متبادل إن لم يكن هناك تماثل في المقصد بين المستشرق الأكاديمي والمبشر الإنجيلي، ويصدق هذا بصفة خاصة على المتجهين للدراسات العربية بجامعتي إنجلترا اللتين أدخلت فيهما دراسة العربية لتكون عونا للدراسات الإلهية والإنجيلية عن طريق باحثين هم أنفسهم ينتظمون في سلك هيئات دينية holy orders. وهكذا عمل معهد مكبريد Mcbride في أكسفورد ومعهد لي Lee في كمبردج2 لصالح جمعية الكنيسة Ghurch missionary Society التبشيرية في ترجمة "بروتستنتية" للإنجيل والمزامير إلى العربية.

1 عاون لين كثيرا في وضع معجمه شيخ أزهري هو إبراهيم الدسوقي الذي كان مصححا في مطبعة بولاق انظر:

A. A. Paton history of the Egyptian Revolution: "London 1870" II، 270 quoted by Heywarth -Dunne. Printing and Translation under Mohammed Ali of Egypt - in the journal of the Royal Asiatic Society، July 1940، 315.

2 تعلم "صموئيل لي" في كلية Queen's College بمنحة دراسية من جمعية الكنيسة التبشيرية Church Missionary وذلك طبقا لما جاء في Committee Minutes II. 01، 349.

ص: 479

وعاش التحالف بين الجانبين على وهنه خلال القرن التاسع عشر ولكنه بقي قائما بصورة من الصور إلى عهد مرجوليوث في هذا القرن، ولم ينحل تماما قط، وتعلم الفريقان أن يراجعوا أهدافهم ومناهجهم، ولكن ظل هناك على حاله تيار عميق من الفكر السائد -ربما غدا الآن كامنا في أعماق ما وراء الشعور- يذهب إلى أن الإسلام لا بد أن يعاد تشكيله في قوالب غربية Westernization أو عصرية Modernization أو إصلاحية reformation وهكذا صلى المبشرون وجادل المستشرقون، وكتب الفريقان أو واصلوا الكتابة بدرجات متفاوتة من الدهاء وبعد النظر في تناول الموضوع.

ولنحصر الآن دراستنا في بريطانيا، فهي موضوع هذا البحث. على أن الدراسات الشرقية في بريطانيا -كغيرها من البلاد- كانت مرتبطة بتطور الدراسات الإنسانية في الجامعات الأوروبية نتيجة لتأثير هذا التطور في دراسة التاريخ عموما وفي الاقتراب من حقيقة الإسلام بوجه خاص.

وأسهم الباحثون الإنجليز والفرنسيون والألمان وغيرهم من الباحثين من مختلف الأمم بجهود كبيرة من الدراسات العربية والإسلامية عن طريق التدريس والكتابة ونشر النصوص، استطاعت جهودهم مجتمعة أن تهيئ ظروفا ملائمة لرعاية اتجاه متميز للاقتراب من حقيقة الإسلام يكون مخلصا كما يمكن أن يصدق عليه وصف الأكاديمية1.

وليس من شك أنه ثمة تقدم ملحوظ صوب هذا الهدف قد حدث. ولكن لا يشك كثيرا أيضا في أن الوصول إلى هذا الهدف لم يتحقق لعدد ذي خطر من الدارسين المعاصرين للإسلام، وسواء منهم من لقي ربه أو من لا يزال على قيد الحياة وجهودهم تنقسم بطبيعتها إلى قسمين متميزين: نشر النصوص والدراسات التحليلية، مما سيرد تفصيله فيما بعد. ولكن يمكن أن نقرر هنا على سبيل الإجمال أن النظرة العلمية للدارسين للإسلام من الناطقين بالإنجليزية -وهم الذين نقصر دراستنا عليهم في السطور التالية- كانت أقل عمقا في دراسات هؤلاء منها في نشرهم للنصوص، ولا تعوزنا الشواهد على قصور التمييز حتى بالنسبة لنشر ترجمة لبعض النصوص،

1 لأجل العرض التاريخي انظر:

J. Fuck، Die Arabischer Studies in Europa bis in dee Anfang des 20 ، Yahrhunderts، Leipzrig 1955.

ص: 480

حيث كان الموضوع يستسلم لأهواء "الآراء الثابتة المقررة" عن الإسلام مما لا يزال قائما في عقول الباحثين الغربيين1.

ولربما كان من غير المألوف في مثل هذه الدراسة أن نعنى بالمستشرقين الأحياء أكثر من عنايتنا بمن أصبحوا في ذمة التاريخ، ولكن إذا كان العرف الجاري يتقبل تقديم عرض لكتاب ما يزال مؤلفه على قيد الحياة بمجرد ظهور الكتاب. والنقل عنه في معرض التأييد أو التفنيد، فإنه يغدو من البحث المشروع بالتأكيد أن تناقش جهود أي مؤلف من مجموعها أو أجزائها، مدى نجاحها إذا ما تناولت موضوعات لها أهميتها الحيوية، والأحياء لا الموتى هم القادرون على أن يرونا في أنفسهم انعكاس النتائج التي تمخضت عن نشر آرائهم وهذا هو أحد مقاصد هذه الدراسة، أن تذكر بعض الباحثين بالصدمة التي تحدثها آراؤهم لعقل المسلم في هذا العصر العلمي.

ولا بد من إرجاء تحذير

أن التحليل التالي -وهو ثمرة لدراسة وتأمل استغرقا وقتا وجهدا، لا يحمل أي روح للجدل، ويخطئ من يظنه اعتذارا أملاه الحماس لعقيدة دينية أو قومية، وإنما هو عرض لجهد مخلص في سبيل تحقيق تفاهم أفضل لمسألة قديمة، وكاتب هذه السطور يعتقد أن ألوان التحامل القديم قد تكون تضاءلت كثيرا منذ فجر هذا القرن لكنها ما زالت تعيش قوية، وما زالت فئة من الباحثين في العربية والإسلام تعمل على نشرها في الغرب على نطاق واسع، ثم إن الكاتب يخشى أن يعزز التحامل "القومي" مؤخرا من شأن التحامل "الديني" فهناك من الشواهد ما يدل على أن الرصيد المختزن من مشاعر العداوة للإسلام يمتد الآن إلى العرب أو على وجه أخص القومية العربية، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل لا طائل تحتها، ولكن هذا الشعور قد يتفاقم على طريقة العصور الوسطى إلى حد يلحق الوبال بالدراسات الشرقية والعلاقات الإنسانية جميعا، ومن أجل الحرص الصادق على كليهما معا كانت هذه المناقشة.

1 راجع مثلا ما سيذكر بعد تحت رقم 3.

ص: 481

-2-

إن بعض المستشرقين الناطقين بالإنجليزية -ونحن لا نقصد منذ الآن بهذا الاصطلاح المرتبط بالجنس والسلالة مستشرقي بريطانيا وحدها. وإنما نقصد مستشرقي أمريكا الشمالية أيضا- قد عرض لدراسة الإسلام خلال دراسات للكتاب المقدس أو اللاهوت، بل الواقع أن من هؤلاء من ينتظم في هيئات دينية holyarders والبعض الآخر من هؤلاء المستشرقين وجد نفسه في نطاق هذه الدراسة مصادفة، نتيجة للإقامة أو خدمة التبشير أو الخدمة العسكرية في بلد إسلامي، ولكن هناك من اختار دراسة الإسلام قصدا كوجهة له في حياته العلمية- وربما كان هذا يصدق بصفة خاصة بالنسبة للجيل الأحدث نشوءًا. وإذا كان لنا أن نصف في كلمة ما لاقوه من دربة في هذا المجال. فمن الصواب أن نقول إن معظمهم قد تلقى مرانا في اللغة أو الأدب، بصرف النظر عن الأساس العقيدي في بعض الحالات. ولكن قليلا منهم من درب على معالجة التاريخ، وربما خاض واحد أو اثنان أخيرا نوعا من مخاطرات التجربة في محاولات علم الاجتماع وعلم النفس.

وقد يكون هذا إحدى العقبات الخطيرة، فكثير من دراسات المستشرقين الناطقين بالإنجليزية قد تتميز بالتألق، ولكن حين يغوص المرء تحت المظاهر السطحية من الحواشي المتعالمة والمراجع المنسقة، يجد المرء نفسه مضطرا لأن يواجه نذير الخطر في إلقاء القول على عواهنه والتخمين وإصدار الأحكام التي لا يشهد له إلا القليل من الشواهد. أو لا يشهد لها شاهد قوي على الإطلاق، إن المهارة في ذلك رموز النصوص العربية "أو الفارسية أو التركية" شيء له اعتباره بالطبع، ولكن المقدرة على إقامة المادة المختارة في بناء جامع، ومن ثم في عمل تاريخي بالمعنى الفني المقبول شيء آخر تماما. والتاريخ بوجه عام يتعرض لهجمات الغرباء أكثر من غيره، وغالبا ما يتناقل الناس أن كل من أمكنه استعمال القلم يستطيع أن يكتب التاريخ. وفي مجال الدراسات الإسلامية تكون المادة اللغوية أو الأدبية أو التاريخية من التشابك لدرجة تلزم الباحثين أن يتوفروا على بذل الكثير من المحاولات، وفي خلال هذه المحاولات يجدون أنفسهم يكتبون التاريخ من حيث لا يدرون في غالب الأمر، وهم لم يؤهلوا لهذا العمل إلا قليلا، ومن ثم يسهل علينا أن نعرف لماذا عولج موضوع "الإسلام" بأقلام قليل من المؤرخين المستشرقين على صورة أفضل كثيرا من معالجته بأقلام غالبية المستشرقين من اللغويين.

ص: 482

ونحن نورد فيما يلي قليلا من العثرات في مؤلفات المستشرقين التي تشهد على نقص المستوى التاريخي العلمي. ولكي يكون نطاق البحث محدودا وميسورا سنقصر ملاحظاتنا على الباحثين في الدراسات العربية، فليس ثمة مجال لاتهام أحدهم بباعث من بواعث الجدل أو التبشير، وجميعهم يؤخذون باعتبارهم متوفرين على النشاط الأكاديمي الذي يحمل في ذاته التبرير والجزاء. والمستشرقون يعملون بالطبع خلال اضطلاعهم بواجباتهم المعتادة على تدريب دبلوماسيين ومبشرين ورجال أعمال بجانب جهودهم في العمل على استدامة بقاء نوعهم بتدريب من يخلفهم في التدريس والبحث، ومن هنا تكون أهمية ما يحملون من "أيديولوجية" بالنسبة لما يخلفونه من آثار وما ينطبع منهم على غيرهم، ومقصدنا بالضبط أن نعرض هنا لمناقشة الأيديولوجية كما تحملها كتب هؤلاء، لأجل أن نبرز المواضيع التي أغفل فيها التدقيق في اتباع القوانين المسلم بها في البحث العلمي.

وربما كان أبرز الأمور التي لا تراعى فيها قواعد "اللعبة" ذلك المفهوم الذي شغف به معظم المستشرقين عن دور محمد كرسول لله وطبيعة الرسالة التي أمر بإبلاغها كما حفظها القرآن، ومحمد بالنسبة لجماعة الإسلام هو آخر رسل الله للبشرية، أرسل مصدقا لرسالات الأنبياء السابقين ومكملا لها. والقرآن بالنسبة لهذه الجماعة هو كلام الله الأزلي غير المخلوق، أوحي إلى محمد منجما على فترات عن طريق الملك جبريل، والدعوة إلى نشر هذه الرسالة هو كالرسالة نفسها من أمر الله ووحيه.

وأي كاتب -وإن لم يكن مسلما مؤمنا- يتخلف عن مراعاة هذه الاعتقادات وهو يكتب عن الإسلام إنما يخاطر بتعريض نفسه للاتهام بنقص في النظرة الموضوعية الشاملة، وعند معالجة هذا الموضوع قد يكون الطريق السليم أن يقرر الكاتب وجهة نظر المسلم كاملة في تمام ووضوح لا يدعان مثارا للشكوى أو سوء التأويل، وإذا ما كان للكاتب رأي مغاير أو إذا ما رغب في الإشارة إلى آراء مغايرة، فسوف يكون موقفه مقبولا تماما حين يبدي ما يريد منفصلا متميزا بعد أن يقرر وجهة النظر المتعارف عليها بين المسلمين.

غير أن هذا النهج المنطقي والطبيعي في العرض قلما يتبع من الأسف. وكثيرا ما يحدث العكس، فيتعرض القارئ نتيجة لذلك -ما لم يكن على علم- إلى شيء من الإيحاء برأي معين، أو يتعرض على الأقل إلى اختلاط في الأمور يجعله عاجزا عن التمييز بين الأصل المتوارث لدى جماعة المسلمين

ص: 483

وبين رأي الكاتب، وهكذا نجد كثيرا من المستشرقين الذين يحملون غيرهم أعباء معارفهم الخاصة يهملون ملاحظة مبادئ أولية للمنهج العلمي في معالجة المسائل التاريخية، فهم يؤكدون مثلا أن القرآن من إنشاء محمد1، ثم يذهبون مذهبا بعيدا في تأسيس الأحكام التاريخية والعقيدية والأدبية وغيرها على هذ التأكيد وسرعان ما ترتفع هذه بمحض الشهرة إلى مرتبة الحقائق!

وربما كان هذا أحد العوامل الكبرى -إن لم يكن أكبر العوامل في خلق نزعة من التشكيك إن لم يكن العداء- لدى العلماء والمسلمين المتعلمين إزاء جهود المستشرقين ويشترك في هذا الشعور خريجو المعاهد الغربية بل وتلاميذ المستشرقين المعروفين أنفسهم!!!

لقد ذهبت الأيام التي كانت يكتب فيها المستشرقون غالب كتابتهم ليقرأها مستشرقون مثلهم! ونحن قد ننحي جانبا الدراسات الفرعية المتخصصة specialized monagraphs لنجد معظم الإنتاج الحاضر يقرأه ويقدره أعداد صخمة من الباحثين والمثقفين واسعي الأفق في الغرب، ومن هؤلاء أعداد قد تكون أضخم في العالم الإسلامي، والمسلمون الآن وقد تكررت الهجمات الجدلية والتبشيرية على عقيدتهم واستطال أمد السيطرة الغربية سياسية وثقافية على ديارهم، قد غدوا عرضة لمواجهة الأذى بصورة أشد من ذي قبل.

ولم تتوقف الآراء المنهجية المتجنية على أن تجد سبيلها إلى النشر على آية حال. ولا بد أن أصحاب هذه الآراء على بينة من أنه مما يؤذي مشاعر المسلمين أن تطرح جانبا عقيدتهم الأساسية في أن الإسلام من عند الله، وأن يعرض بصورة أو بأخرى أن محمدا قد اصطنع دعاوى كاذبة ليجعل من نفسه

1 انظر على أية حال: H. A. R. Gibb، Mohammedanism. Oxford، الذي يقرر في وضوح وجهة النظر المتعارفة لدى المسلمين قبل أن يعرض لتزيين القول بأن القرآن هو تعبير عن محمد صادر منه Mohammad's Utterances وهذا آربري A. J. Arbary أبرز مستشرقي الإنجليز الأحياء يعتبر القرآن نتاجا فوق الطبيعة Supernatural لكنه لا يشارك المسلمين الرأي أنه من مصدر إلهي. انظر: The Holy Koran 1953-32.

ص: 484

حامل رسالة إلهية، وأن القرآن نفسه ليس على هذا النحو سوى تأليف محتال! أفليس يكون أدعى للتفاهم الإنساني وأولى بالبحث العلمي أن تترك أمور العقيدة على حدة. وأن توجه الجهود إلى مجالات أكثر ظهورا وأيسر إدراكا مثل: الأدب والفن والعلم، وهي مجالات على الرغم من جهود المستشرقين ما زال يعترضها الكثير من علامات الاستفهام؟ وليس من شك في أنه من الممكن لمستشرق مسيحي "أو يهودي" يعتقد غير عقيدة المسلمين أن يضع مفهوم المسلم لدينه في تعبير المسلم واصطلاحه1. وهو حين يفعل لن يكون أكثر اقترابا من المنهج العلمي فحسب، ولكنه سيجعل نفسه في مركز أفضل كي يفهم مكان دعوة الإسلام بين أحداث التاريخ.

إن المسلم المؤمن والمستشرق المتشكك هما أيضا قطبان متنافران بالنسبة لأصول الإسلام، وهنا أيضا تنزع أراء الغالبية من المستشرقين الناطقين بالإنجليزية وغيرهم إلى خلق شعور الاستياء بين المسلمين. وبالتالي وضع عقبات خطيرة في طريق الحركة الفكرية بين الجانبين، فالمستشرق وقد طرح احتجاج المسلم لعقيدته في الأصل الإلهي للإسلام وقرر أن محمدا كإنسان ودون أية وساطة إلهية هو المسئول عن إنشاء القرآن قد غدا جد مشغول باستكشاف "الأصول" لليهودية المسيحية دون التوصل إلى نتائج حاسمة أخيرة، اللهم إلا الإشارة لمقابلات واضحة جلية، ثم إزجاء الحديث في معرض هذه المقابلات، وهو حديث يتخذ سمة التعالم أو التجادل حول الواضح الجلي!!

إننا نستعمل كلمة "التجادل" قصدا للتعبير عن هذا النوع من الحديث specualative وذلك للسبب التالي: فلننس لحظة ما يؤمن به المسلمون، ولنعط المسألة اعتبارها كمسألة تاريخية صرفة2. ولنفترض جدلا أن

1 مثل هذ العرض أورده دانيال Islam and the West N. Daniel the Making of an Image "Edinburgh، 1960"، 305.

2 أبدى قسيس إنجليزي وعالم مبرز أيضا هو: بيرنز E. W. Barnes في كتابه: The Rise of Christianity، London 1938 كيف كانت أصول المسيحية -واليهودية من قبلها- عميقة الجذور في تراث الشرق الأدنى من أساطير وخرفات ووقائع، المؤرخ الذي ينظر إلى الكتب المقدس وإلى القرآن كوثائق إنسانية قد يطالب المستشرق الذي يجادل عن دعوى الأصول اليهودية المسيحية للإسلام بأن يدقق في الملاحظة والتأمل ثم يبدي ما يتضح له من انعاكسات.

ص: 485

القرآن من إنشاء محمد، كيف يتسنى لدارس التاريخ أن يثبت اقتباس محمد من المصادر السابقة عليه؟ إذا كانت المسألة بالتخمين فليس ثمة كسب وراء ضياع الوقت في اختيار التفاصيل، أما إذا كان الأمر خاضعا لمنهج تاريخي صارم عنيف، فإن أي شاهد يقدم جدير بالملاحظة الدقيقة. وعلى أية حال فإن أي شاهد قائم أو مستعمل لتعزيز دعوى الأصل اليهودي المسيحي لا يثبت للمراجعة والنقاش.

ولا يمكن قبول المقابلات وحدها في موضع يحتاج إلى شواهد حاسمة ذات نتائج قاطعة، وهيهات أن تكفي النتف المقتطعة والإشارات والاستدلالات المعتسفة والتخمينات الذكية في هذا المقام، فضلا عن أي مقام! ونحن نحتاج لخيال قوي جدا لمتابعة القول بأن محمدا -الذي قررت الأصول الدينية أنه لم يكن يقرأ أو يكتب كان على التخطيط الذي أنشأه المستشرقون له- قد جلس عاكفا في مكتبته يبحث كتب الأولين لينقل عنها1 لأجل تأليف الكتاب المعروف بالقرآن! قد يحمل هذا التعبير بعض المبالغة بغير شك، ولكنه يجمل ما تذهب فيه هذه الدعوى إلى التفصيل!! 2.

1 انظر مثلا:

A. Guillaume، the Life of Mohammed، Oxford 1956، 86 a quatation from the Gospel، 655، "an allusion to Matt، XXL، 33 f. Montgomery Watt، Islam and integrantion of Society، London 1961، 262. quatations from the bible begin ta appear in muslim works".

وكل هذه الاقتباسات قد حدثت حين لم يكن هناك ترجمة عربية للكتاب المقدس يقتبس عنها!

2 انظر مثلا:

Rosinthal، the influence of Biblical Tradition on muslim historiography in B. Lewis، P. M. Holt "eds" Historians of the Middle East، Oxford 1962.

وبينما يتابع روزنتال القول بأن القرآن من إنشاء محمد، وأنه استمد الأجزاء التاريخية على الأقل من مصدر يهودي مسيحي متأخر نراه أكثر دقة من الباحثين الذاهبين هذا المذهب، فهو يبدي إحساسا تاريخيا حين يستخدم كلمة "متأخر" Altimate كما يبدي حيادا عقليا بالتحذير من إلقاء القول على عواهنه Speculation والآراء المسبقة Preconceived ولكنه ينزل مستسلما لتأثير الإيحاء نفسه فيتقبل فروضا لا يقوم عليها دليل "انظر Gerpessins pp. 45-6". وربما كان ناشرو هذه المجموعة القيمة من المقالات أكثر دقة في هذا الصدد، فقد قرروا في مقدمتهم "pp. 2.11" أن الشرق الأوسط "شهد مولد ثلاث ديانات كبرى للبشرية اليهودية وخليفتيها المسيحية والإسلام" وسوف نأتي فيما بعد تحت رقم "3" مناقشة لهذه النقطة فيما أبدي من الملاحظات.

ص: 486

إن المقابلات والمشابهات خداعة للغاية!! إنها لا تكون بالضرورة دليلا علميا على نسبة كتابين متشابهين، إذ يعوزهما التدليل على الاقتباس الواعي من اللاحق للسابق، وقد يجوز أن يكون كلاهما ناقلا عن مصدر ثالث مشترك.

والحق أن الباحث الذي نظر إلى الكتاب المقدس والقرآن على أنهما وثائق إنسانية، قد ينزع بمنطق سليم إلى تتبع بعض ما جاء فيها من آثار التراث الفعلي المبكر للشرق الأدنى، وعلى أية حال يحتاج إثبات الاقتباس السامي الفعلي بالضرورة إلى شواهد أكثر إقناعا مما جرى عرضه حتى الآن.

إن فيكو Vico هو الذي قال: إن الأفكار تنتشر عن طريق استكشاف كل أمة -أو ثقافة- مستقلة عن غيرها لاحتياجاتها في أية مرحلة من مراحل تطورها1. ولقد قال أحد المستشرقين البارزين نفس القول مع تعزيز بتوضيح، إذ يؤكد أن الثقافة المستعيرة -في حالتنا التي نعالجها الآن النظام الديني- لا بد أن تحس هي نفسها حاجتها خلال تطورها الداخلي إلى غذاء من الخارج وكل ما تستعيره في هذا السبيل لن تنتفع منه إلا إذا استند إلى هذه العناصر من الثقافة القومية -أو من الدين التي تطلبت الاستعارة والثقافة الحية أو الدين- ترفض تلقائيا كل العناصر الدخيلة التي تتعارض مع قيمتها الأساسية2.

وكاتب هذه السطور لا يرى فيما أريق من مداد سود صحائف المجلدات المتعددة عن "أصول" origins الإسلام دليلا مقنعا بالمعنى التاريخي،

1 R. G. Collingwood، the Idea of History Oxford 1951، 69، 71.

2 H. A. R. Gibb، "the inbluence of Islamic Culture on Medieval Europe" in the Bulletin of the John Rylands Library Manchester، XXXVIII، 1955-6. 85:70.

ص: 487

بحيث يثبت أن مثل هذا الاقتباس قد حدث فعلا، بل على العكس نرى الشاهد المعاصر الوحيد الذي ما زال باقيا هو من آيات القرآن نفسه، وهذا يستبعد مثل هذا الاحتمال بأقطع عبارة، ومن المستغرب أن هذا الشاهد يطرح جانبا في الغالب ومن هنا تأتي ملاحظة باحث حاذق له جهوده المشكورة في الدراسات الإسلامية حيث يقول:"إن الإسلام يمزج دائما بين المقدرة على تمثيل العناصر الأجنبية والعزوف عن الإقرار بالأصول التي استمدت منها"1.

وهذا ملاحظة تستحق البحث ولو بصورة عابرة، ما دامت قد أوردت بصورة عابرة! فإذا كان المقصود بكلمة الإسلام هو مدنية الإسلام أو حضارته أو ثقافته، فإن مسألة تمثل العناصر الأجنبية أو مصادر هذه العناصر لم تكن قط محل إنكار2، أما إذا كان المقصود هو العقيدة والدين، فإن كاتب هذه الكلمات لا يكاد يحتاج إلى من يذكره أن الإسلام إذا ابتغى أن ينفض عنه ما كان مثارا لنعيه عليه، فإنه لن يكون بعد هو الإسلام في خصائصه المعروفة، ولسوف يتخلى عن التعاليم الصريحة في كتابه المقدس، والإسلام كعقيدة كل لا يقبل التجزئة، إما أن يؤخذ كله وإما أن يترك كله.

هناك مثال لكثير من الآراء الخطيرة التي يكاد يخفيها ما يساق من عبارات تبدو مقتبسة، ولكنها تفقد رونقها بإمعان النظر عن قرب. وحتى المستشرقين الذين توصلوا مع أنفسهم إلى التوافق على قبول صدق محمد والاعتراف بأنه دعا إلى دين جديد متميز تميزا أساسيا.. يعودون ليؤكدوا في الوقت نفسه أن رسالة محمد لم تكن كلها من مصدر إلهي! وهذا نص لباحث آخر له أبحاث قيمة عن حياة محمد، إنه يقول: "إن على الإسلام أن يقر

1 B. E von Brunebaum islam: Essays in the nature and growth of a Cultural Tradition، London 1961، 228.

2 ومن هنا يجب مناقشة مدى سلامة ملاحظة أخرى لفون جرونيبارم.

انظر: "Prob-lems of Muslim Nationalism" in R. N. Frye "ed" islam and the west. The Hague 1957، 29.

"إن الضغط المحافظ يضطر إلى إخفاء الاستعارة بقدر الإمكان وراء حجاب من الأساطير "orttogenetic legend" انظر مناقشات أخرى لهذا الموضوع تحت رقم 5 فيما بعد.

ص: 488

بحقيقة أصله، ذلك التأثير التاريخي للتراث الديني اليهودي المسيحي"1.

وهنا تؤخذ مسألة "الأصول" كحقيقة مقررة ويشار إليها على هذا النحو دون تمحيص أو مناقشة2. وإذا ما استعرنا أسلوب النص ربما قلنا: إن على الكاتب أن يقر بأنه لم يصب على أي وجه من الوجهين: عندما اعتبر محمد نبيا صادقا ثم عزا إليه التلاعب، ما دام وهو الذي يفترض أنه مؤلف القرآن لم يعترف بما اكتسبه من أفكار الآخرين!

إن هذا الازدواج يرجع للتناقض مع النفس، وهو غير مقنع في أي من وجهتي النظر في المسألة؛ لأنه لا يؤيد إحدى الوجهتين كاملة ولا ينقض الأخرى تماما والمسلم المؤمن سيظل على موقفه، كما سيبقى هذا المجادل على موقفه، أما الكاتب الذي درب على معالجة التاريخ فهو لا يحاول أن يركب جوادين في وقت واحد. وقد تكون هذه المحاولة للتوفيق جديدة بالتقدير، ولكن نتيجة المحاولة المخيبة لآمال كل من المؤيد للعقيدة والمعارض لها على السواء، كما أنها لا تلقى ترحيبا من المؤرخ المحايد الذي يفتقد الأدوات اللازمة للتحليل. والحق أنه على الرغم من التقدم في كتابة التاريخ العلمي، فإن هؤلاء "الازدواجيين dualists" في الدراسات الإسلامية قد أسهموا بجهود قد تكون متميزة في ذاتها، ولكنها تدل على إدراك أقل مما كان لدى المتطرفين السابقين من مؤمنين ومجادلين، والذي يحاول اللاحقون جاهدين عن وعي أو غير وعي أن يشغلوا أماكنهم ويحلوا محلهم.

-3-

من الواضح أن الفارق بين معنى الإسلام لدى معتنقيه وصورته التي يرسمها له المستشرقون تمس أسس العقيدة الإسلامية ذاتها، وعلى الرغم من أن التقدم نحو البحث الأكاديمي ليس محل جدل، فإن من الواضح في هذا الصدد أن صورة العصور الوسطى للإسلام قد ظلت في جوهرها دون

1 W. M. Matt، Islam and the Integration of Society London 1961، 293.

2 انظر مثلا B. Lewis، the Arabs in History London 1960.

وهو في هذا الكتاب الموجز غير الموثق يستعمل لغة أكثر حذرا حين يقول ص39 "وعلى وجه الاحتمال من التجار والرحالة اليهود والنصارى الذين تأثرت معارفهم بمؤثرات مدار شبه أو مشكوك في صحتها".

ص: 489

تغيير، وإنما نضت عنها الثياب القديمة لأجل أن تضع ثيابا أقرب إلى العصر، وتتعدد علائم الأصرار على الأفكار العتيقة سواء فيما يتعلق بالقرآن ومحمد، أو ما تعلق منطقيا بالعقيدة والشريعة والتاريخ في الإسلام، وليس الإطناب أكثر من ذلك في هذا الأمر بمرغوب أو مفيد، وإنما نعمد إلى تقدير الموضوع من زاوية أخرى.

لقد كان من نتائج التوغل الغربي في ديار الإسلام، أن تعرض عقل الشباب لمجادلات مضللة عن طريق التعليم المدني أو الجهود التبشيرية إلى حد كبير، وهي مجادلات سبق أن صيغت لتوافق من تقوضت العقيدة المسيحية في صدورهم تماما في أوروبا الغربية. ولكن على العكس من أسلوب الجدل الوسيط، كان للمنهج الجديد هدف إيجابي، وخاصة بالنسبة للمبشر، هو التحويل للمسيحية، وهذه الطريقة في أبسط صورها هي طريقة "مقارنة الديانات" Comparative Religion" التي تحاول أن تقارن المسيحية بالإسلام، لغير صالح الأخير في الغالب الأعم!! وما زال هذا الأسلوب قائما في أيامنا، وإن كان لا يصرح الآن بمقاصده الإنجيلية الصريحة.

وهنا يكون الأمر أيضا أكثر دلالة إذا قدمنا أمثلة صريحة، ولكن يمكن أن نقرر أولا بعض مبادئ عامة، لقد كان منشأ دراسات مقارنات الأديان في الغرب يرتبط بالجدل، ولقد سبق أن قورنت اليهودية بالمسيحية، وبدلا من أن تؤدي المقارنة إلى تنمية الفهم الصحيح، فإنها قد ولدت مزيدا من العداء. وهكذا كانت النتيجة بالنسبة لمقارنة اليهودية والمسيحية بالإسلام عن طريق اليهودية، والمسيحيين الذين اعتنقوا القول بأن الإسلام ثمرة لإحدى الديانتين السماويتين السابقتين عليه أو ثمرة لهما معا، وبينما نجد هناك علاقات اتصال عضوي organic relationship مسلم به بين اليهودية والمسيحية، فإنه ليس من المسلم به أو المدعم بالبرهان العلمي وجود أي علاقة اتصال بين أيهما وبين الإسلام، وإنما نجم العداء اليهودي أو المسيحي للإسلام من صراع سياسي وعقائدي على مدار التاريخ! وإنه لتعليق مؤسف بالنسبة للحكمة الجامعة لدى هؤلاء العلماء من أتباع هذه الديانات. أن يذكر أنهم لم ينجحوا قط في إزالة أسباب العداء والخصام المتبادلين، ولا بد أن يتقبل المستشرقون نصيبا من المسئولية عن استدامة هذه الحال المحزنة للأمور.

ولذلك فإنه ما لم تحدد أهداف مقارنة الأديان في المجال الإسلامي بوضوح وما لم تقبل قواعد معينة لمنهج المقارنة من العاملين فيها، فإن هناك

ص: 490

مخاطرة بأن تتمخض المقارنة عن مجادلة جوفاء! وقد يدعى هنا أن الراغبين في القيام بهذه الأبحاث لا يضمون جوانحهم على مقاصد جدلية أو تبشيرية، وأن اهتمامهم الرئيسي هو اهتمام أكاديمي، وإذا كان ذلك كذلك، فإنهم لا بد أن يتبينوا أن المقارنة تتطلب التسامح والتجاوب والتقدير ممن يضطلع بها، إذ يكون الهدف الرئيسي هو تعميق إدراك المرء لثقافته القومية -أو تراثه وتقاليده Tradition وللثقافة الأخرى- أو التراث والتقاليد التي تجري المقارنة معها. ومثل هذا الفهم من شأنه أن يربي اتجاها نقديا لا بالنسبة لثقافة الغير -أو تراثه وتقاليده، بل بالنسبة لثقافة الباحث نفسها- أو تراثه وتقاليده.

وعلى ذلك فإن أي مسألة تدرس دراسة مقارنة لا بد أن تقرر بالتعبير المقبول لدى هؤلاء الذين استمدت هذه المسألة من تراثهم وتقاليدهم وديانتهم بالنسبة لموضوعنا، ولا بد أن يوصل بين سائر الظروف المحيطة بها، ويحكم عليها طبقا للقيم السائدة في النظام القومي الذي تنتمي إليه. وإذا ما نالت هذه المبادئ الأولية القبول فإن أي كاتب يستشعر عداوة أو نفورا، أو مجرد الإعراض عن تراث غريب عليه يجب أن يعترض صفرا، وعليه أن يعتبر نفسه في أمانة غير صالح عقليا وعاطفيا لمحاولة المقارنة التي لن تثمر نفعا ملموسا للبحث العلمي في هذه الحالة.

وبينما لا نجد أحد لحسن الحظ من المستشرقين الناطقين بالإنجليزية المعاصرين يبدي مثل هذه الضغينة، وهذا الحقد بصورة معيبة، مثل ما تجد في مؤلف لامنس Lammens المعروف إلا أنه قد ندت ممن حاول المقارنة منهم هنا أو هناك تحاملات دينية أو عقائدية، من شأنها أن تنتقص من قيمة جهودهم وتهز الثقة في أبحاثهم.

وإن النظرة الأولى للإسلام تكشف عن مواضع شُبه بينه وبين المسيحية، ولكن النظرة الفاحصة عن قرب تبرز خلافات أساسية، وهذه الحقيقة كانت غالبا ما تثير المبشرين في الماضي، وما زالت تستميل قليلا في المجال الأكاديمي إلى التحايل على تصيد مثل هذه الشوارد "كأصول الإسلام" وينزع المبشر والباحث الأكاديمي إلى أن يتناسى، وهو ينال من قدرة محمد بطريق مباشر أو غير مباشر، كيف يقدس المسلمون الأتقياء المسيح!

وفي كتاب قريب من سلسلة بنجوين Penguin عمل مستشرق هو قسيس إنجليكاني على عقد عدة مقارنات، ليظهر أن الإسلام كان في صدق

ص: 491

صورة غير محكمة أو مشوهة للمسيحية1، وعلى كل حال فقد قدم المؤلف الحجة لتبرير التساؤل عن كفايته كقاض غير متحيز، وليس فقط بما أبداه من آراء مقنعة ولكن أيضا بما أقر به من مشاعر إزاء الرسالة المودعة في ثنايا القرآن؛ إنه يقر في أحد مواضع الكتاب أن للقرآن بالنسبة إليه ومن على شاكلته في التفكير -فهو يستعمل ضمير "نا" الدالة على "الفاعلين"- مضمونا رجعيا يدعو للتأخر Repellent Content2. والكتاب يتكلم في موضوع آخر عما يثير "نفورنا" من بعض الصور عن الإسلام، دون تحديد3! وفي هذا ما يكفي لإقناعه كي يبتعد عن الموضوع. ولكنه يتراجع عن محاولة ترجمة السيرة إلى الإنجليزية، واتخاذها مادة تستعمل في التعليق وغيره، كي يعطي تحامله النغمة الملائمة، وما دام قد نشر من قبل نقد منفصل لترجمته4 فليس من حاجة إلى أن يقال المزيد في هذا الصدد.

وهناك دارس آخر للإسلام هو أيضا من رجال الكهنوت يستحق الذكر هنا بوجه خاص بسبب تقديمه لمزيد من الجدل السطحي Speatulation الذي يعرض للتشابه بين المسيحية والإسلام، وهو يكتب:"إن من أسباب تباعد المسلمين والمسيحيين عن بعضهم البعض أن كلا الفريقين قد أساء فهم عقيدة الآخر بمحاولته أن يضعها خلال طراز الاعتقاد الذي يؤمن به"5!

وشأن كثير من التعميمات لا يبدو مثل هذا النص منصفا كما يحاول أن يكون.

فإن المسيحيين وحدهم هم الذين ظلوا طوال القرون يحاولون فهم الإسلام، أو إساءة فهمه من خلال اصطلاحات المسيحية. أما النظرة الأساسية للمسلم فقد ظلت على حالها لم تتغير على الداوم؛ لأنها جزء من الوحي الإلهي

1 A Guillaume، Islam، 1654، 162 - 6 et passim.

2 Ibid، 74.

3 The Listoner. London، Ostaber، 16، 1952، 635 a.

4 A. L. Tifamy، the LiFe of Mohammed Acritique of Guill aumes English Translation Islamic Quarterly III، No. 3. pp. 196، 214.

5 W. C. Smith، Islam in Modern History، Prinaton 1957، 17.

ص: 492

في القرآن1. ولم يحاول مسلم مؤمن أن يدخل المسيحية في إطار آخر. والمسيحي لا يواجه في كتبه المقدسة قيودا صريحة تحجزه عن تقبل وجهة نظر المسلم عن الإسلام، ومع ذلك فهو يرفض لا رأي المسلم في المسيحية فحسب، بل رأيه في الإسلام أيضا، وهو يسعى جاهدا لتغيير الرأيين!

وصاحب العبارة المشار إليها في الفقرة السابقة هو رجل خبير في أبحاث الإلهيات، وقد بدأ وجهته هذه مدرسا في معهد تبشيري في لاهور. وهو يجعل من كلماته اعتذارا لمحاولته لإدراك أحد الأهداف المسيحية، وهو في هذا السبيل يناقش خطأ شائعا كما يقول بين المسيحيين والمسلمين، وهو افتراض "أن دور المسيح في المسيحية ودور محمد في الإسلام مما يمكن المقارنة بينهما"، وهذا التقرير مضلل أيضا، إذ إن مثل هذه المقارنة إنما تصح في جانب المسلمين الذين يؤمنون بالمسيح رسولا من رسل الله للبشرية! أما بالنسبة لجانب المسيحيين عامة والمستشرقين خاصة، فإنهم لا يعترفون بمحمد رسولا، أو يرونه قد وقع في لبس فظن نفسه ورسولا، كما بدا من العرض السابق. وفي مثل هذه الظروف، في أي جانب تصح المقارنة؟ والصفحات السابقة تبرز إلى أي مدى تعقدت من قبل دراسة الإسلام وحياة محمد، بما

1 هذه فرصة مناسبة لتقديم عرض سميث W. C Smith الشاعر لكتاب City "A friday in Jerusalem". of Wrong الذي نشرته The Muslim World في عددها LI، april 1961، 134-7.

والكتاب ترجمة لرواية كامل حسين الفلسفية العربية "قرية ظالمة" وقد بالغ عارض الترجمة أكثر من المترجم في أهداف الرواية، حتى اعتبرها "حركة كبرى" من مسلم له مكانته نحو رأي المسيحية في الجمعة الحزينة ولقد كان جب H. A. R Gibb أكثر اتزانا حين لاحظ أن الإلهيات كانت بعيدة عن مقاصد الرواية، إذ إنها تقف إلى جانب الآراء الإسلامية الأساسية كلها، ثم هي تستبعد أية إشارة إلى الرمزية المسيحية المتعلقة بالقصة. انظر: Religion in Life XXIX 1959-69 158-9 وعلى هذا النهج من الحكمة نجد عرض ألبرت حوراني Albert Houreni الذي يتبين أن الرواية تعطي "الجواب الإسلامي السلفي Orthdox" على سؤالين أساسيين: هل المسيح ابن الله؟ وهل صلب حقا انظر Frontier II summer 1961،19 وقد ذهبت هذا المذهب في عرض للترجمة ومقدمة المترجم، انظر:

Die Welt des Islam، VI، Ms. 3-4 "961" 280-1.

ص: 493

أدخله المستشرقون من مسائل جدلية لا سبيل لحلها، وإذا ما استنقذنا أنفسنا من هذه الورطة، فإن الفروض المقارنة المعروضة إذا ما أخذت مأخذ الجد فإنها توقعنا في شرك جديد!

أن هذه الفروض تذهب في إيجاز إلى أن دور محمد في الإسلام، ودور القديس بولس في المسيحية "أكثر قابلية للمقارنة" وأن القرآن يمكن مقارنته بشيخ المسيح، في حين يقارن حديث النبي بالكتاب المقدس! وقد توالى عرض المزيد من المقابلات1، ولا يعنينا هنا الصورة التي يمكن أن تستقبل بها مثل هذه "الهرطقات" في الدائرة المسيحية اللاهوتية، وإنما يهمنا الغرض الذي أعلنه الكاتب في عبارته وهو "الاتصال Communication أو "التواصل" intercomnunrcation بين المستنيرين من المسلمين والمسيحيين، ترى هل تكون هذه المماثلات Onalogies مؤدية إلى الهدف؟ إن الأمناء الصادقين غالبا ما ينسون كأفراد ما تتضمنه أفكارهم حين يواجهون عقائد الآخرين ومشاعرهم وتحاملهم، ومن الصعب في حالتنا هذه أن نتصور أن مؤلف هذه المماثلات يتوقع لها أن تجد ترحيبا لدى علماء المسلمين، ولنستبعد سوء الفهم بالنسبة لمقصد هذه الكلمات، وإن المماثلات ليست وحدها مثار التساؤل بالدرجة الأولى، وإنما يثير التساؤل قبل كل شيء هذه الرواية المصطنعة التي يعرض تحتها هذا كله، هذه الدعوى العريضة عما لهذا المسلك من معان جليلة وآثار تنوير المسلمين.

والحقائق الثابتة عن رد الفعل بين المسلمين لا يبدو أنها تعني الكاتب أو تدعوه إلى الروية! وهو نفسه يقر بأنه عرض إحدى مماثلاته على مسلم متحرر يحمل درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن، فصدم بها كثيرا، ولم يتردد في رفضها، ولكن هذا لم يقنع المؤلف، ولسنا في حاجة للذهاب إلى الأزهر لنكتشف معارضة أقوى، إن الكاتب نفسه قد رجع إلى ثلاثة ممن يسمون "بالمغتربين" Mestermized من المسلمين كل على انفراد، وكانت الإجابة واحدة على اختلاف في درجة التعبير بين الحدة والرقة، فقد وصفت هذه المحاولات بأنها "سطحية" و"تافهة" و"كفر صراح"!. ترى مع من يكون إذن "الإتصال" و"التواصل" وإلى من يكون "التنوير"؟!

1 The World of Islam، Studies in Honour of Philip K. Hithi London 1960 47:59.

ص: 494

إن الجدل السطحي الصفيق، وانتزاع المقابلات واصطناع المماثلات قد يكون جذابا لأستاذ مقارنة الأديان، يرى واجبا عليه أن يحاول واعيا كي يجد بصورة ما موضوعات للمقارنة، كما قد تكون هذه العمليات المتوهمة مما يعني المبشر الذي قد يستخدم هذه المماثلات لاستئناس المقاومة وفتح الطريق، وربما كانت هذه المحاولات نافعة أيضا لمدرس غير مسلم في جامعة غربية كطرائف تعطي لعمله شيئا من الحياة! ولكن صدوره عن عقل مسيحي متخصص في الإلهيات وغارق في الاصطلاحات المسيحية، يجعله على الأقل بغير ثمرة لمن هم على علم من المسلمين1 فإن الأمر في حقيقته حوار اجتماعي لأجل أن يكون مثمرا، فلا بد أن يتناول موضوعات تكون مقبولة ومثيرة لاهتمام كل من الجانبين.

وهذا مبشر قديم يحاضر في الشريعة الإسلامية بجامعة لندن، يعمل على تضمين مقالة واحدة كل اعتراضات العصور الوسطى على محمد وعلى الإسلام، وعلى نهج أقل من نهج زميله الذي أشرنا إليه الآن تبصرا ودهاء، ولا يبدي احتراما يذكر لذكاء القارئ! ومن المدهش أن يعلن المؤلف في مقدمته أنه يقدم معلومات صحيحة لمعالجة الدراسة "موضوعيا" حتى يكون "منصفا""مدققا" ويتوقى "المقارنة عن طريق المقابلة مع المسيحية" Adverse Comparison with Christianity2 ولكن بعد هذه الإعلانات كلها عن الموضوعية يكتب الكاتب أنه "لا يمكن أن يكون هناك شك على أية صورة" أن محمدا قد تمثل أفكارا من التلمود وبعض المصادر المحرفة، أما بالنسبة للمسيحية فإن هناك احتمالا طاغيا بأن محمدا قد استمد إيحاءه منها!

وقد يثير انتقاء الكلمات وحده الشك في أمر كفاءة الكاتب، كي يكون قاضيا، ولكن معالجته الفعلية للموضوع في مجمله يكشف عن هذا بصورة أوضح. ولقد تعرض شخص محمد لكثير من الافتراء، ولكن يظل الافتراء

1 انظر مثلا للدكتور محمد البهي "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" القاهرة 1376هـ/ 1957م، ص181.

2 J.N. Anderson "ed" the Worlds' Religions' London 1950 P.P. 52-98.

وليس للناشر سوى مقال عن الإسلام كما له مقدمة وخاتمة، والنصوص المذكورة سابقا في صفحات.

58-

59-60 -82 "n،1"، 85 "n.1" 92، 93، 97-8"

ص: 495

الرئيس هو ما يمس جوهر رسالته وتقديمه للقرآن ككلام الله، في حين أنه ليس كذلك، وهكذا نهج الكاتب بالنسبة لمحمد وبالنسبة للإسلام، وعلى هذا النحو يكون الحج إلى مكة -إحدى دعائم الإسلام الخمس- مفتقدا للباعث المعنوي Moral uplift ويكون دين الإسلام كله على أحسن الأحوال "باردا شكليا" والمؤلف كسابقه، إن مستويات الإسلام الأخلاقية قد جعلته ينفر!

ويتضح تماما ما إذا كان هذا المنهج يرقى إلى الموضوعية التي وعدنا بها الكاتب أم لا. إنه ينسى ماضيه كمبشر قديم، ويكتب من هذه الزاوية. وهكذا يصدر الحكم في شأن "نقائض" الإسلام من زوايا مسيحية أوروبية عصرية! ويكون الهدف إنجيليا خالصا! وبالنسبة للتطورات المحتملة داخل الإسلام في العالم المعاصر يناقش الكاتب فرص الشيوعية، ولكنه يؤمل كما يظهر في "تحول قياس لم يسبق له مثيل إلى المسيحية التي لم تعرض بعد بالصورة المناسبة للعالم الإسلامي"! وهو إذ يخوض بعض المناقشات المعروفة عند المبشرين يجد من العقبات التي تعترض الطريق نحو "تحويل المسلمين إلى الإنجيل euangelization To Islam" حكم الردة، وافتقاد النصوص التي تعين على تحويل المسلم عن دينه في القوانين العصرية التي صدرت مؤخرًا1! وهو يختتم مقاله في أسلوب شعري "إن للعالم إن يرى ماذا سوف يحدث حين يعرض إنجيل المسيح الحي بالصورة الملائمة لملايين المسلمين".

وليس ثمة حاجة لفحص مؤلفات الكاتب التي تتعلق بمهنته، فهي معلومة موصوفة في مجال العمل القانوني المعاصر في عدد من الأقطار الإسلامية، فإلى جانب الحكم الأخلاقي المتكرر طبقا للنظرة المسيحية، فإن هناك فكرة رئيسية قد عرضت في السطور السابقة، والشريعة الإسلامية ليست نصوصا جامدة، وقد تعرضت خلال التطبيق لمحاولات التجديد والتنقيح، وبصورة قوية في الزمن القريب، ولكن الكاتب لا يعنى كثيرا كما يتضح من كتابته بتفهم تاريخ الشريعة الإسلامية! إن الأصول الرئيسية للشريعة هي القرآن والسنة، فللشريعة طابعها الإلهي، ولكنها تستمد من مصادر أخرى بجانب هذين المصدرين خلال تجارب الإنسان في الحكم،

1 انظر مثلا: J.N.D Anderson. Islamic Laws in the Modern World، New York، 1959 98.

ص: 496

فهناك مجال للصنعة البشرية أيضا. ومن هنا يكون القانون معرضا للمراجعة والتنقيح من الإسلام إلى أيامنا هذه1.

ولنضع موضع التقدير -على سبيل المقابلة- مسلك باحث له جهده المتميز في دراسة الشريعة الإسلامية، إنه لا يدفع النتائج إلى ثنايا بحثه في تحامل تمليه عداوة متأصلة كامنة! 2 وعلى الرغم من أن بعض أهل العلم من المسلمين يجدون تحليله متشككا، وقد يناقشون مؤلفه تفصيلا، إلا أن دراسته الرئيسية على الرغم من ظاهرها ليست مما يصدم تماما مع أصول الإسلام، فسواء أكانت الشريعة الإسلامية طبقا لنظرة الدين مستمدة بالدرجة الأولى من القرآن والسنة، أم كانت ثمرة تمحيص فقهاء القانون القائم المألوف existing customary law وأصحاب الخبرة الإدارية كما يقرر البحث المشار إليه، فإن النتيجة في الحالين واحدة. وبالنسبة للجماعة الإسلامية في عهدها المبكر كان هذا النتاج نظاما قانونيا، يتفق مع القرآن والسنة والتجارب المعتمدة. ويلزم مثل هذا الحياد العلمي في دراسة التجربة القانونية المعاصرة، فلا يختلط باعتساف الأحكام الخلقية أو الدعاية، والتشريع الحديث في صورته المنسقة التي انتهى إليها، ينبغي أن يوزن بموازين الإسلام، وطبقا لهذه الموازين لا بد للتشريع الحديث كي يكون ناجحا أن يكون مزاجه التركيبي الخاص synthesis كما كان للتشريع في عصوره الأولى، ولن يعني هنا تشكيلا أليا جديدا لنصوص التراث القديم، ولا تركيبا مدنيا يستتر وراء واجهة إسلامية، إن ما يلزم في هذا الصدد هو "تقويم للحياة الاجتماعية العصرية، والفكر القانوني المعاصر من زاوية إسلامية"3.

1 انظر مثلا الملاحظات التمهيدية فيما بعد تحت رقم4.

2 I. Schacht; the Origins of Mohammaden Jurisprudence Oxford، 1950.

3 J. Sckacht. Problem of Modern Islamic Legislation in Studia Islamica، XLL، 129.

ص: 497

-4-

عندما استغرق الجدليون الأول في الإساءة إلى الإسلام والتضليل في فهمه، كان غرضهم تخريبيا هداما، وبدخول الأهداف التبشيرية أصبحت هناك حاجة إلى شيء من "الموضوعية" وأصبح منهج العمل مزيجا من تشويه الإسلام وإظهار معايبه، ولكن على أساس من وقائع أكثر ثباتا، لأجل المقارنة مع المسيحية، وقد هجرت الآن الطريقة الأولى عمليا، أما الثانية فقد هون منها شيئا ما، أو ألبست زيا جديدا، ومن صورها المعتدلة القول بأنه لا بد للإسلام من "إصلاح" reform ولا نستطيع أن نتبين أول من نادى بهذا الاقتراح، أو استعمل هذا التعبير في دلالته الغربية، ولكن من الواضح جليا أن كثيرا من الهراء قد سطر حول هذا الموضوع حتى غدا من الضروري استجلاء معانيه.

إن المستشرقين -وبخاصة البروتستنتيين منهم- لم يستطيعوا أن يحرروا أنفسهم مما يمكن تسميته بحتمية "الإصلاح" في دين من الأديان! ولعله لا يكون مجرد مصادفة أن الباحثين اليهود "والروم الكاثوليك" قلما ينشطون للمشاركة في هذا الموضوع، الذي يكاد يكون حكرا للباحثين البروتستنتيين، وعلى الرغم من أن المطابع قد قذفت بكثير من المحاولات التي تتناول مسألة "الإصلاح" في الإسلام المعاصر، وعلى الرغم من أنه لا تبدو بوادر توقف أو تناقض في هذا السيل المنهمر يبدئ ويعيد القول في فكرة أو فكرتين بعبارات متباينة، إلا أننا ما زلنا نفتقد صياغة واضحة متلاحمة الأجزاء لهذه الأفكار فيما نشر، وبصرف النظر عما يخفيه هذا القناع في أعماق اللاشعور، فإن اقتراح "إصلاح" الإسلام إذا أخذناه بظاهره يمثل محاولة أخرى لتغيير وجهة نظر المسلم عن الإسلام ولجعل الإسلام أقرب بقدر الإمكان إلى المسيحية، أو إلى الصورة البروتستنتية إذا شئنا تعبيرا أفضل!

وإذا تركنا جانب المدنية والحضارة والثقافة، فإن للإسلام بالضرورة مجالين: العقيدة والشريعة، والأولى بالطبع محكمة جلية لأفهام العالم كله وليست معرضة لتغيير، أما شريعة الإسلام فهي مستمدة من الوحي ومن نصوص السنة التي وردت خلال التجربة البشرية للحكم، ومن هنا كانت هذه الشريعة منذ أيام الخلافة الأولى حتى وقتنا الحاضر معرضة للتفسير واختيار ما يلائم نظم الإدارة ويوافق الفن القانوني المعروف والتجربة. وما يقابل في الأيام الأخيرة التشريع المدني، فإين يريد دعاة "الإصلاح" أن

ص: 498

يقحموا إصلاحهم، وما هو بالضبط الذي يريدون أن يقحموه، ولأي غرض من الأغراض؟!

نحن لا نريد أن نروع إلى تفصيلات فرعية، ولكن ينبغي أن يتضح لكل ذي علم صحيح بالإسلام أن الإصلاح بمعناه المفهوم لا يمكن أن يتسرب إلى مذاهب الاعتقاد دون أن ينقص من سلامتها أو يقضي عليها تماما، ومن هنا لا يبدو محتملا أن يقبل مفكر مسلم أن يساند مثل هذه المشروعات، ولو فعل لما وجد مرجعا دينيا مسئولا يتسامح معه فيما ذهب إليه. ومن يؤيد من علماء المسلمين مثلا صورة جديدة في عرض الإسلام تذهب إلى تطعيم كيان العقيدة الإسلامية بالاعتقاد المسيحي في الخطيئة الأصلية original sin أو التجسيد incarnation!

وللتمثيل على الاضطراب والتخطيط في هذا "الإصلاح" يكفي أن نتبصر حقيقة الازدواج المتناقض في منزع دعاة هذا الإصلاح من غير المسلمين؛ فهم بينما ينعنون على الإسلام الجمود حتى إنه لا يقبل من التغيير في نظامه إلا قليلا، إذا بهم حين تستحدث تغييرات بعيدة المدى لا يتركون فرصة إلا ويبرزون أن مثل هذه التغييرات فيها تقويض للشريعة، والجماعة الإسلامية تستطيع الحكم في مثل هذا الأمر بصورة أفضل قطعا، مستهدية بمبدأين في هذا السبيل: أن يكون التغيير متفقا مع المصلحة بالنسبة للجماعة، ومع مبادئ العدالة. حقيقة تثور اعتراضات على مثل

هذا التغيير حتى في زمننا، والاختبار الضروري لسلامة التغيير الحادث قديما وحديثا، هو رضاء الرأي العام في الجماعة وموافقة العلماء في الإقليم الذي يجري فيه التغيير، وهناك شواهد طبية أن هذه السلطات ما زالت الآن كما كانت من قبل تبدي مرونتها وسماحتها للتوافق مع الأحكام المستحدثة.

وأول مستشرق ناطق بالإنجليزية ينتج ثمارا فكرية للإسلام في العصر الحديث، وما فتئت أفكاره تعمل على تزويد من يأتون بعده بالأصول التي تحتاج إلى التوسع، يوجه عنايته كي يتوقى أن يقحم نفسه متطفلا على جماعة المسلمين أو يجعل نفسه وصيا عليهم حاميا لهم، فكل ما يفعله المسلمون، أو ما سوف يفعلون في نهجهم العقيدي أو الشرعي يرده المستشرق الرشيد إلى أهله من العلماء1، أما الباحثون الذين لا تكون

1 J. N. D. Anderson. Insamic Laws in the Modern World New York، 1959، 98.

ص: 499

لهم مثل هذه العناية فهم يقفزون من الدراسة الوصفية إلى اقتراح العلاج وإصدار النبوءات عن المستقبل، ولا يستطيع الغريب على نظام ديني أن يتخلى عن أن يكون لطيفا، فهذه صفة أولية لا بد منها كي يتوقع من الناس أن يسمعوه أو يحترموه!

إن الإدراك الديني تجربة روحية حدسية intuitive ولا يمكن التقاطها بالمناهج التحليلية والنقدية، وهؤلاء الذين يكونون خارج نظام ديني لا يمكنهم اقتناص دلالة التجربة التي يمارسها من يعيشون داخل هذا النظام1. إنه شيء لا يمكن تعلمه من الكتب، ومن هنا كان الخلط في طبيعة أهداف "الإصلاح" المزعوم بين دعاته من غير المسلمين. ومن هنا كانت الصعوبة التي يواجهها من يعيشون داخل الجماعة الدينية في تفسير دينهم لمن يطلون عليهم من الخارج ويحاولون عبثا تقدير لحنها الأساسي في أغواره العاطفية والحدسية البعيدة، مما يغفل عنه المستشرقون الذين يستمدون، معرفتهم بالإسلام أساسا من الكتب.

وفي الحالات النادرة التي يناقش فيها هؤلاء معالم الإسلام مع علماء المسلمين أنفسهم فلما تكون النتيجة مرضية. فالمسلم يفترض أن المستشرق ينتهي إلى اتهامه بالجهل دون تبرير معقول! ثم إن هناك صعوبات اللغة نفسها، وقليل من المستشرقين من يستطيع إدارة مناقشة بالعربية "أو الفارسية أو التركية" أو المضي فيها. ولا يزال المسلمون الذين تمكنوا من لغة أوروبية يعانون نقصا، فإنهم قلما يستطيعون أن يبادروا المستشرق في استعارة الإشارات الثقافية اللماحة في تلك اللغة، فضلا عن النفاذ إلى تراثها الكلاسيكي والاستحواذ عليه واستعماله.

هذه بعض العقبات التي تجعل اقتراحات المستشرقين إما غير مقبولة أو سيئة الأثر، وبينما كان كاتب هذه السطور يجمع المادة اللازمة لدراسته

1 انظر مثلا P. Ferris.،The Church of England London 1962 نقلا عن Observer Oct، 7 1962 "إن الذي ينظر من الخارج متسائلا عن الكنيسة يأتيه الجواب غالبا بأنه لا يستطيع أن يفهمها ما لم يكن في داخلها، حتى وإن كانت تعتبر مثل هذه المحاولة من جانبه أحيانا تطاولا غير مستساغ. impertinent"

ص: 500

كانت الكتابات المنشورة التي تضمنتها قد درست من المستشرقين والباحثين المسلمين والعرب في أوروبا وأمريكا والعالم العربي، والمثال المناسب للمقام هنا هو رأي باحث يجمع بين التعليم الديني الإسلامي والتعليم في جامعة غربية أن يقول:"لقد عرفت بعض المستشرقين الذي يتعاملون مع الدارسين المسلمين في استعلاء وتعاظم، وكان هؤلاء المستشرقين إذا ما تساءلوا عن مسألة إسلامية، فكأنما يعلنون ضمنا أنهم يعلمون كل شيء عنها سلفا، في حين أنهم ياخذون بوجهة نظر أخرى مع قليل من التبصر الحقيقي والنفاذ إلى الأعماق".

وفي صدد موضوع "الإصلاح" نبدي ملاحظة بنغمة أو بأخرى. وينبغي ألا يفترض على أية حال أن مثل هذا الحنق الذي انعكس على السطور السابقة إنما تسبب عن مصادمات اجتماعية أو أكاديمية سطحية، وربما يخاطر المرء بالقول بأنها لا تنجم ابتداء من بواعث دينية مباشرة، ولكن التاريخ المشئوم للدراسات الإسلامية التي خرجت إلى الوجود من سلالة الجدل والتبشير. وميراث الصراع العسكري الطويل بين عالم المسيحية والإسلام، لا يزال كلاهما يعلب دوره بصورة شعورية أو لا شعورية في تحديد اتجاهات المسلمين، هناك شعور أحدث تاريخا وأكثر مرارة أن أفكار "الإصلاح" جاءت مع النفوذ السياسي المسيحي على أجزاء كثيرة من أرض الإسلام، أو نتيجة لهذا النفوذ1. ولقد كان اللقاء المبكر بين الإسلام والفكر الإغريقي شيئا مختلفا. فقد كان الإسلام يحكم في مقام رفيع وكان هو السيد صاحب الرأي والتمييز، يقبل أو يرفض ما يشاء من العناصر الأجنبية، أما في الزمن الحديث فإن الإسلام لما يقبله أو يرفضه يمليه أو يدفع أو يحد منه أفراد أو هيئات أجنبية غير إسلامية يشك المسلمون أحيانا فيها ويرون أنها تتصرف وفقا لما تمليه المصالح الأجنبية.

وقد يفسر هذا لماذا لا ينال "الإصلاحيون" من ذوي التوجيه أو التشجيع الغربي أي نجاح في استمالة تفكير المراجع الإسلامية المسئولة. وإنما هم ينالون الإعجاب أساسا من المستشرقين وأشياعهم، ومن ناحية أخرى كثيرا ما يدفع بالرجعية المصلحون الأصلاء من أبناء الأمة الذين قد

1 أحمد أمين: يوم الإسلام ص215.

ص: 501

يكون لديهم شيء جوهري له قيمته. وكذلك لا ينال كل الرضا من اختاروا طريقا وسطا يقترب قليلا أو كثيرا، ومن أسلافهم في العصر الذهبي، وإنما يقال عن هؤلاء أنهم لم يذهبوا المدى الكافي! ولكن هؤلاء لا يستطيعون أن يذهبوا أبعد من ذلك. فإن العلماء في كل العصور لديهم موهبة فطرية جماعية تشير لهم إلى أي مدى يذهبون، وماذا يرتضون من حلول التوفيق؟ وأين يصمدون تثبيتا لنظامهم؟ ولقد كان محمد عبده وتلاميذه أصحاب مثل هذا التوفيق، ولم يكن تزمت الوهابية Puritonism في طرف أو تحرير بعض المسلمين الهنود Liberalism في الطرف الآخر شيئا مقبولا عند هؤلاء أو عند الجماعة الإسلامية في جملتها.

ومن أجل ذلك كانت الضرورة الأولى اللازمة لأي تغيير أو إصلاح ناجح أن ينبع من داخل الأمة، ويصدر منها ابتداء في استقلال عن أي سيطرة أو إيحاء من جهة أجنبية، ومنذ التجديد التمهيدي الأصيل في الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن الثامن عشر في عهد سليم الثالث، ومنذ جهود مفكري المسلمين في الهند للملاءمة بين الشريعة الدينية وبين واقعيات السيادة غير الإسلامية تحت ضغط الإجراءات القانونية البريطانية في الهند، استمر التغيير في تطبيق الشريعة الإسلامية إلى وقتنا هذا، ولربما تزايدت سرعة التغيير نتيجة لاسترجاع الأمم الإسلامية سيادتها أو نيلها الاستقلال، لكنها لم تبطئ قط، وإذا كانت المعارضة قوية للتغيير في مبدئه، فإنما كانت تمليها إلى حد بعيد الخشية من تعرض الشريعة المقدسة للخطر في أيدي الأجانب غير المسلمين، ولقد تزايد التغيير ولكن تضاءلت المعارضة، وقد يكون من أسباب ذلك الشعور بالضمان في ظل الحكم الإسلامي وغلبة الواقعية ونزعة التوفيق على المراجع الدينية المسئولة.

إن من الخطأ إذن المضي في تأكيد القول بجمود الإسلام وعدم قبوله للتغيير، فإذا ما تجاوزنا دائرة العقيدة الأساسية وبعض المسلمات الدينية المحدودة، فإن الإسلام قد واجه تغييرات ثورية في هذا الجزء من نظامه الذي يوجه حياة الفرد والجماعة، ومع ذلك يكتب لاهوتي مسيحي يتميز بأنه يعد مبشرا مستنيرا أو مبشرا له دراية بالإسلام فيقول منذ قليل1

1 K. Graag، The Cal of the Minaret New York، 1956.

ص: 502

"إن على الإسلام إما أن يعتمد تغييرا جذريا فيه، أو أن يتخلى عن مسايرة الحياة" ومن الصعب تبين ما يعنيه ذلك بالضبط، ولكن في ضوء ما سلف من مناقشة يكون أحد شطري هذا التقرير غير مقبول، أما شطره الثاني فيبدو وكأنه دعوة يوجهها إلى المسلمين غريب عنهم بشأن ما يفعلون في دينهم! وإلى هذا الحد يصل التخليط بدعاة "الإصلاح"1 أن القوم لا يتبصرون في المضمون والتفاصيل، فهم يتورطون في التعميمات المبهمة التي لا تثبت للامتحان.

1 انظر مثلا تعبيرا مضللا آخر "إصلاح دين الإسلام" Reform of the religion Islam الذي يستعمله G. G. Adams Islam and Modernism in Egypt، OxFord 1933، 2، 187.

ص: 503