المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابع: الإصلاح الديني - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

[محمد البهي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة:

- ‌تقديم الطبعة الرابعة:

- ‌تقديم الطبعة الثالثة

- ‌تقديم الطبعة الثانية:

- ‌تقديم الطبعة الأولى:

- ‌فاتحة:

- ‌الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:

- ‌العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر

- ‌الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ

- ‌مفكرون من المسلمين مع الاستعمار

- ‌مدخل

- ‌حركة أحمد خان:

- ‌ المذهب القادياني:

- ‌الأحمدية:

- ‌المستشرقون…والاستعمار

- ‌مدخل

- ‌ النزعة الأولى

- ‌النزعة الثانية:

- ‌الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي

- ‌مقاومة مزدوجة

- ‌محمد جمال الدين الأفغاني

- ‌محمد عبده:

- ‌الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي

- ‌اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين

- ‌بشرية القرآن:

- ‌الإسلام دين…لا دولة:

- ‌الدين خرافة:

- ‌الدين مخدر:

- ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

- ‌الباب الخامس: الإسلام غدا

- ‌مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية:

- ‌الإسلام فوق الزمان والمكان:

- ‌الفراغ في الحياة التوجيهية العامة:

- ‌الأزهر:

- ‌الأزهر…في تنظيمه الجديد:

- ‌الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المستشرقون المعاصرون:

- ‌ المتطرفون من المستشرقين

- ‌ بعض الكتب المتطرفة

- ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

- ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

حقيقة الإصلاح الديني في الإسلام:

نعني بـ"الإصلاح الديني" في مجال الإسلام.

- محاولة رد الاعتبار للقيم الدينية، ورفع ما أثير حولها من شبه وشكوك قصد التخفيف من وزنها في نفوس المسلمين.

- ونعني به كذلك محاولة السير بالمبادئ الإسلامية. من نقطة الركود التي وقفت عندها في حياة المسلمين، إلى حياة المسلم المعاصر، حتى لا يقف مسلم اليوم موقف المتردد بين أمسه وحاضره؛ عندما يصبح في غده.

ويخرج عن نطاق هذا الفصل -"الإصلاح الديني"- في البحث، تلك المحاولات الفكرية التي يدعي القائمون بها إصلاحا أو تجديدا في الإسلام، وهي في واقع أمرها "إخضاع" الإسلام للون معين من التفكير، أجنبي عنه، سواء في هدفه أو فيما يصدر عنه.

فالكشف عن القيم الذاتية للإسلام، هو الأمارة التي اتخذناها طابعا لما سميناه "الإصلاح الديني".

ولا نقصد بهذا الكشف "الدفاع" عن الإسلام؛ لأن هذا الدفاع قد يشتبك مع حماس العاطفة، فيؤثر على القيمة الذاتية للإسلام

وإنما نبغي فحسب: مدلول هذا "الكشف" من فصل ما يتصل بالإسلام، من تحريف في التأويل، أو غموض في التفسير، أو ركود في الفهم.

والإصلاح الديني في مجال الإسلام بهذا المعنى

ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه، وبالفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا الفكر.

والإصلاح الديني بالمعنى السابق -كمحاولة فكرية، وفي صلاته هذه- يغاير الحركات الدينية الأخرى التي تعتمد على "تبسيط" تعاليم الإسلام وتقريبها من العقلية العامة، كما يغاير تلك المحاولات التي تسير في دائرة

ص: 329

تفسير خاص لتعاليم الدين، أو تلتزم منهاج مدرسة خاصة من مدارس الفقه، أو مذاهب الكلام في العقيدة.

- والإصلاح الديني -بعد هذا- تفكير ومنهج، يقوم على نقد وبناء، ويخلص إلى "اعتبار" قيمة واحدة، هي قيمة الإسلام في التوجيه الإنساني.

ونحن في عرضنا للفكر الإسلامي الحديث، نعرض له في فترة تمتد قرابة قرن كامل، من منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وبهذا التحديد، سوف نقصر البحث في الإصلاح الديني على هذه المرحلة، وبالطابع الذي وضحناه من قبل

وهذا وذاك يدعونا إلى استعادة ما كان عليه تفكير القرن التاسع عشر في الغرب والشرق وما ساد فيه من اختلال توازن القوى الفكري، والمادية، والسياسية والاجتماعية بين الشرق والغرب.

لقد كانت ظروف القرن التاسع عشر، بما تم فيه من استعمار الغرب للشرق الإسلامي، وبما ساد فيه من التفكير الوضعي الواقعي لدى الغربيين من جانب، وبما ظهر من ضعف الشرق اجتماعيا، وسياسيا، ومن سيطرة "التواكل" على حياة الإنسان فيه من جانب آخر داعية إلى إيقاظ بعض المفكرين المسلمين، وحافزة لهم على دراسة ما يجب أن يكون عليه موقف الشرق الإسلامي إزاء:

- السلطة الاستعمارية الصليبية في بلاد الشرق.

- وإزاء هذا التفكير الغربي المادي الإلحادي، وما عساه أن يحدثه من أثر سلبي يزيد في ضعف المسلمين.

- وأخيرًا إزاء الضعف المتعدد الجوانب، والذي طال عليه الأمد، واستحوذ على نفس الفرد والجماعة، في الشعوب الإسلامية.

والإسلام في نظر هؤلاء المفكرين المسلمين، أداة الربط القوية بين الجماعات الإسلامية، كما أنه المصدر الأول لاستعادتهم من جديد قوتهم، على نحو ما كانت لهم هذه القوة يوم أن سادوا، ولم يخضعوا لغير الله وحده.

ص: 330

أيقظ الاستعمار الغربي الصليبي بعض المفكرين المسلمين. ووجههم لأن يكونوا دعاة ضد سلطته في أية بقعة من بقاع العالم الإسلامي. ودعتهم دعوتهم لأن يعمدوا على "الإسلام" كوسيلة أولى في إيقاظ شعوب منطقة الشرق الإسلامي ضد هذه السلطة الدخيلة، التي تصحبها روح "الانتقام" من المسلمين، منذ أن انتصروا على الصليبيين في القرن الثالث عشر، وفي تجميع قوى هذه الشعوب على العمل على تطهير البلاد الإسلامية منها. ودعاهم اعتمادهم على الإسلام إلى أن يغيروا في صورة عرضهم إياه، أو إلى أن يقربوا ويلائموا بين تعاليمه وبين أهداف الحياة القائمة إذ ذاك

دعاهم ذلك إلى أن يكشفوا عن الإسلام: مصدر قوة، وغاية في نفسها مصدر قوة في الحياة، وغاية للحياة كذلك. والمسلمون إذا عاشوا به عاشوا أقوياء، وإذا عاشوا من أجل هدف ما، عاشوا من أجل الإسلام وحده؛ لأنه رسالة الإنسان في الحياة وفي العالم الواقعي.

وظهرت في هذه الفترة، على مسرح "الإصلاح الديني" بالمعنى السابق شخصيتان إسلاميتان:

- أحدهما عربية سامية هي شخصية الشيخ محمد عبده.

- والأخرى آرية هندية هي شخصية محمد إقبال.

وكلاهما عاش في القرن التاسع عشر، وأدرك القرن العشرين.

وكلاهما حفظ القرآن الكريم، ووقف على حياة الشرق بسبب ميلاده وتوطنه فيه ورأى حياة الغرب بالارتحال إليه وبالإقامة فيه فترة من الزمن، وكلاهما مال إلى التصوف، ورأى في التصوف رفعة النفس الإنسانية وصفاءها، وقوة احتمالها إزاء الأزمات والأحداث.

إلا أن أولهما كان يعي من الثقافة الإسلامية، بقدر ما كان الثاني يعي من التفكير الغربي، ومارس أولهما أيضا الفكر الإسلامي في دراسته وتدريسه وبحثه، بقدر ما مارس الثاني دراسة الفكر الغربي وبحثه، وأولهما أدرك مطلع القرن العشرين، والثاني عاش إلى ما يقرب من نهاية نصفه الأول.

دفع الشيخ محمد عبده -عن طريق جمال الدين الأفغاني- إلى مواجهة الاستعمار الغربي وما صحبه من صليبية الغرب في تشويه الإسلام وتحريفه، ومن نشر هذا التحريف والتشويه بين قادة الغد من المسلمين.

ص: 331

ودفع محمد إقبال -عن طريق التثقيف والمخالطة للغربيين- إلى مواجهة الفكر المادي الغربي، وما قام عليه من إلحاد، وما له من أثر على المسلم المعاصر في توجيهه وفي علاقته بإسلامه.

واضطر كلاهما إلى أن يكشف عن "قيمة" الإسلام في دفع المؤمنين به إلى الحياة والعمل فيها وقيمته في نظرته وتصويره للحياة الإنسانية، في مواجهة الصليبية الغربية وأهدافها تارة، أو في مواجهة الفكر المادي الغربي الإلحادي تارة أخرى.

محمد عبده، ومحمد إقبال، كلاهما قام إذن بمحاولة فكرية إسلامية أو بحركة إصلاحية في تعديل المفاهيم الإسلامية، قصد منها بيان القيمة الإيجابية في توجيه الإسلام، وكلاهما دفع إذن إلى هذه المحاولة تحت ضغط عامل خارجي: أحدهما -وهو الشيخ عبده- تحت ضغط الاستعمار الصليبي وسلطته، والثاني -وهو محمد إقبال- تحت ضغط الفكر المادي الطبيعي وسيادته في أوروبا، وانتشار الدعوة إليه في الهند خاصة في ذلك الوقت، عن طريق السيد أحمد خان والشاعر التركي توفيق فكرت -من دعاة مذهب "أوجست كومت" في حركة التجديد الإسلامي في تركيا- وكلاهما أخلص في محاولته، وبذل مجهودا مشكورا فيها.

إلا أن محاولة محمد عبده تعتبر قريبة من منطق الثقافة الإسلامية، بينما محاولة إقبال تعتبر قريبة من منطق التفكير الغربي، وليس معنى ذلك أن أحدهما أقرب إلى روح الإسلام والثاني إلى روح الغرب، ولكن معناه أن طريقة التفكير يغلب عليها الطابع الغربي في الجدل، وفي تحديد الألفاظ والعبارات وإثارة السؤال والإجابة عنه عند واحد. بينما طابع التفكير في الشرق، واستخدام أسلوب اللغة، وأسلوب المناقشة فيه يسيطر عند الآخر.

وقد عجلنا في فصل من فصول هذا الكتاب، بعرض المحاولة الفكرية الإصلاحية التي قام بها الشيخ عبده، بعد الحديث عن جمال الدين الأفغاني، للصلة الوثيقة بينهما: إذ تكاد تعتبر حركة كل منهما مكملة لحركة الآخر، فوق أنه يربطهما رباط واحد، هو مواجهة الاستعمار الغربي، مباشرة في سلطته وفي تحريفه للإسلام عن طريق الاستشراق، وهذا الرباط يعتبر بمثابة الدافع والغاية معا، فيما ينسب إليهما من تفكير ومحاولة إصلاحية.

ص: 332

أما حركة إقبال الفكرية فقد جاءت متأخرة في الميلاد، بعد قيام الاستعمار الغربي الصليبي في الشرق الإسلامي وتمكنه منه، وبالأخص في الهند وفي مصر بزمن طويل، وهي بالأحرى حركة واجهت اتصال الغرب الفكري بالشرق، عن طريق الاستعمار، دون أن تواجه هذا الاستعمار مباشرة، ولهذا لا تعتبر استمرارا لحركة الشيخ عبده، وإن اعتبرت مشاركة لها في الهدف.

محمد إقبال:

أبرز ما لإقبال1 من إنتاج يصور محاولته الفكرية الإصلاحية محاضراته الست التي دعي لإلقائها في مدارس سنة 1928، وأكملها من بعد ذلك في إله آباد، وعليكره، وعنون لها بـ"تجديد الفكر الديني في الإسلام" The Reconstruction of Religious Thought in Islam وفي هذهالماحضرات يمكن للقارئ أن يقف على الدوافع التي دفعت إقبال لمحاولته الفكرية الإصلاحية، وعلى العوامل التي أثرت عليه في صياغة تفكيره

وأخيرا على الفكر الرئيسية التي تتكون منها فلسفته الإصلاحية.

1 ولد في سيالكوت بالنجاب عام 1873، في عائلة تعيش على الزراعة، نزح جدها الأكبر عن كشمير.

تلقى إقبال تعليمه في طفولته على أبيه، ثم أدخل مكتبا ليتعلم القرآن ثم التحق الصبي بمدرسة البعثة الاسكتلندية في سيالكوت في رعاية صديق لأبيه يدرس فيها، هو مولانا مير حسن وكان أستاذا أديبا متضلعا في الآداب الفارسية والعربية، وبعد أن حصل على شهادة الكلية الاسكتلندية بدرجة ممتاز، التحق بكلية الحكومة "بلاهور" حيث أتم دراسته. وهناك تتلمذ على المستشرق الكبير "سير توماس أرنولد"، ومن هذه الكلية حصل على درجتين علميتين كبيرتين.

وبعد أن أتم علومه في هذه الكلية: اختير لتدريس التاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور، ثم نصب لتدريس الفلسفة واللغة الإنجليزية بكلية الحكومة التي تخرج فيها.

وفي عام 1905 التحق إقبال بكمبردج "في إنجلترا" ثم بهيدلبرج، ثم بميونيخ "في ألمانيا" حيث حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة بعد=

ص: 333

دوافع الإصلاح:

هناك شيء واحد في جملته دفع "إقبال" إلى تفكيره الإصلاحي هناك تخلف المسلمين عن المشاركة في السيطرة على الطبيعة والواقع، وفي القوة المادية والاقتصادية، بجانب القوة الروحية الدافعة التي في الإسلام

هناك الفهم الخاطئ من المسلمين للإسلام، نفذ إليهم بمخالطتهم لغيرهم، وتمكن منهم بسبب ركودهم وتوقفهم في تدبر معنى الإسلام

هو فهمهم أن هذا العالم الطبيعي الذي نعيش فيه يجب أن ننصرف عنه، وأن "المادة" شر يجب تجنبها.. هناك الصوفية الإيرانية -كما يقول إقبال- "المادة" شر يجب تجنبها

هناك الصوفية الإيرانية -كما يقول إقبال- هي التي أبعدت المسلمين عن حياة الإنسان المسيطر على الطبيعة والواقع!!

= أن قدم رسالته عن "تطور الفكرة العقلية بإيران"، وفي سنة 1908 حصل على درجة القانون، وفي هذه السنة عاد إقبال إلى وطنه.

ومع أن إقبال كان شاعرا وفيلسوفا، إلا أنه لم يقطع صلته بالسياسة فكان عضوا بالمجلس التشريعي بالبنجاب، وذهب إلى لندن ليشترك في عامي 1931، 1932 في مؤتمر الدائرة المستديرة، وكان رئيسا لحزب مسلمي الهند، كما كان مراقبا لمؤتمر "إله أباد" التاريخي، ورئيسا لجمعية حماية السلام، التي كانت تشرف على عدد من المؤسسات، ومات إقبال في 21 إبريل سنة 1938، ودفن بلاهور.

وإقبال هو أول من نادى بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس، وبوجوب تكوين دولة خاصة بهم يستطيعون فيها أن يظهروا روعة الإسلام، وأن يحيوا الحياة التي تتمشى مع الدين الحنيف.

ومنذ أن أعلن إقبال هذه الفكرة في عام 1930 أصبحت الهدف الرئيسي الذي جاهد مسلمو شبه القارة لتحقيقه، إلى أن تم ذلك في أغسطس 1947، بعد نضال مرير متواصل اشتراك فيه جميع المسلمين تحت قيادة القائد الأعظم محمد علي جناح، "منقولة من كتاب: محمد اقبال. نشر سفارة الباكستان في القاهرة سنة 1956".

ويذكر الأستاذ السيد أبو النصر أحمد الحسيني أن أجداد إقبال كانوا من البراهمة. وأسلم أحدهم عند اتصاله بصوفي مسلم صادق، ص2، هامش "تجديد الفكر الديني في الإسلام" الترجمة العربية.

ص: 334

و"إقبال" من أجل هذا، يريد أن يدفع المسلم من جديد إلى العمل وعدم التواكل.. يريد أن يدفعه عن طريق الإسلام نفسه إلى فهم أن العالم الذي نعيش فيه ليس أمرا مغايرا تماما للإنسان نفسه، ولا بعيدا كل البعد عن روح الله ووجود ذاته المقدسة.. يريد أن يدفعه إلى القوة، وإلى الاحتفاظ بالذات والشخصية.

هذا هو العنصر الأساسي الذي دفع "إقبال" إلى تفكيره الإصلاحي، وهو العنصر الذي يتجل كثيرا فيما يتحدث عنه من دوافع عديدة دفعته إلى هذا التفكير، أو العنصر الذي يتضح فيما يجده القارئ منثورا في كتاباته وشعره، وهذه الدوافع هي:

- المسلم المعاصر:

يتحدث "إقبال" عن ظروف المسلم المعاصر، كدافع من الدوافع التي حملته على الإصلاح وهي ظروف الإنسان الذي يعيش مترددا بين قديم أصيل خصب، لم يستطع بوضعه الحالي أن ينقله إلى الحياة كما يحيا غيره، وبين جديد براق، لبريقه خداع يخشى منه عليه.

يقول: "ظل التفكير الديني في الإسلام راكدا خلال القرون الخمسة الأخيرة وقد أتى على الفكر الأوروبي زمن تلقى فيه وحي النهضة الإسلامية، ومع هذا فإن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب! ولا غبار على هذا المنزع، فإن الثقافة الأوروبية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارا لبعض الجوانب الهامة في الإسلام، وكل الذي نخشاه هو أن المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية قد يشل تقدمنا فنعجز عن بلوغ كنهها1، وهو يشير بهذا المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية إلى الاتجاه العلمي الجديد، وهو الاتجاه التجريبي المادي الذي ساد تفكير القرن التاسع عشر: فله خطره -في نظره- على المسلم المعاصر، إذا لم يعرف هذا المسلم أن الإسلام يطلب "التجربة" في المعرفة، وإذا لم يعرف أن التاريخ الفكري لأسلافه الأولين أفاد البشرية عامة باستخدام التجربة في نطاق واسع للمعارف الإنسانية.

1 "تجديد الفكر الديني في الإسلام" ترجمة عباس محمود

طبع دار التأليف والترجمة والنشر 1955، ص14.

ص: 335

وهذا الخطر يكمن فيما ينطوي عليه هذا الفكر الجديد من إلحاد ومن السهل أن ينخدع به كثيرون، كما انخدع بالفعل به بعض الدعاة له في الهند، والأحوط إذن -هكذا يرى إقبال- أن نعيد النظر في تفكيرنا الإسلامي من جانب، ونمحص هذا الفكر الجديد بروح مستقلة يقظة من جانب آخر.

"ومنذ العصور الوسطى، وعندما كانت مدارس المتكلمين في الإسلام قد اكتملت، حدث تقدم لا حد له في مجال الفكر، وكان من نتائج امتداد سلطان الإنسان على الطبيعة، أن بعث فيه ذلك إيمانا وإحساسا جديدين بتفوقه على القوى التي تتألف منها بيئته، فظهرت وجهات نظر جديدة، وحررت مرة ثانية المشكلات القديمة في ضوء التجربة الحديثة، وظهرت مشكلات من نوع جديد، ويبدو أن عقل الإنسان أخذ يشب عن طوق ما يحيط به من زمان ومكان، وعليه -وهي أخص المقولات الجوهرية- إن تصورنا التعقل نفسه بسبيل التغيير، نتيجة لتقدم التفكير العلمي، فنظرية "أينشتين" جاءتنا بنظةر جديدة إلى الكون، وقد فتحت أفاقا جديدة من النظر إلى المشكلات المشتركة بين الدين والفلسفة.

"فلا عجب إذن، أن نجد شباب المسلمين في آسيا وفي إفريقيا يتطلبون توجيها جديدا بعقيدتهم، ولهذا لا بد من أن يصاحب يقظة الإسلام تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكرالأوروبي، وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا، أن تعيننا في إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر، وأضف إلى هذا أنه لا سبيل إلى تجاهل الدعوة القائمة في أواسط آسيا -ضد الدين على وجه عام وضد الإسلام على وجه خاص- تلك الدعوة التي عبرت حدود الهند بالفعل، وبعض دعاة هذه الدعوة من أبناء المسلمين، وأحدهم هو الشاعر التركي توفيق فكرت، وإني لأعتزم في هذه المحاضرات أن أناقش مناقشة فلسفية بعض الأفكار الأساسية في الإسلام، على أمل أن يتيح لنا ذلك على أقل تقدير، فهم معنى الإسلام فهما صحيحا بوصفه رسالة للإنسانية كافة"1.

1 المصدر السابق: 14، 15: والأستاذ السيد أبو النصر الحسيني يؤرخ في هامش المصدر لهذا الشاعر: بأنه كان إلحادي النزعة، وأنه يعد ركنا من أركان الانقلاب التركي اللاديني الأخير، وقد توفي سنة 1912، ولد سنة 1867"، وتنصر ابنه في جلاسجو.

ص: 336

وبهذه المحاولة، التي يريد "إقبال" أن يحاولها، يستطيع الإسلام من وجهة نظره أن يكون له اعتبار عام، بوصف كونه رسالة للإنسانية كافة، وعلى الأخص للمسلم، في الوقت الذي يسيطر فيه الطابع التجربي على المعرفة الإنسانية فهذه المحاولة ليست محاولة لإعطاء الإسلام قيمة عامة، وإنما هي لكشف قيمته في نظر الإنسان التجريبي، وهو الإنسان الغربي المعاصر، وفي نظر المسلم الذي يعيش معه في وقته.

- الإنسان الأوروبي المعاصر:

ولم يرض "إقبال" للمسلم المعاصر -بعد أن وضح حاجته إلى تغيير وضعيته في الحياة- أن يكون صورة للأوروبي المعاصر، كما رضي من قبل صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" أن يكون المسلم في مصر صورة للأوروبي في السلوك والتفكير: بل وألح فيه إلحاحًا.

لم يرض "إقبال" ذلك؛ لأن "الرجل العصري بما له من فلسفات نقدية، وتخصص علمي، يجد نفسه في ورطة: فمذهبه الطبيعي قد جعل له سلطانا على قوى الطبيعة لم يسبق إليه، لكنه قد سلبه إيمانه في مصيره هو"1.

"والإنسان العصري وقد أعشاه نشاطه العقلي، كف عن توجيه روحه إلى الحياة الروحانية الكاملة، أي: إلى حياة روحية تتغلغل في أعماق النفس، فهو في حلبة الفكر في صراع صريح مع نفسه.. وهو في مضمار الحياة الاقتصادية والسياسية في كفاح صريح مع غيره.

وهو يجد نفسه غير قادر على كبح أثرته الجارفة، وحبه للمال حبا طاغيا يقتل كل ما فيه من نضال سام شيئا فشيئا، ولا يعود عليه منه إلا تعب الحياة، وقد استغرق في "الواقع" أي: في مصدر الحس الظاهر للعيان، فأصبح مقطوع الصلات بأعماق وجوده، تلك الأعماق التي لم يسبر غورها بعد، وأخف الأضرار التي أعقبت فلسفته المادية هي ذلك الشلل الذي اعترى نشاطه، والذي أدركه "هكسلي" Hixley وأعلن سخطه عليه"2.

1 المصدر السابق: ص214.

2 المصدر السابق: ص215، 216.

ص: 337

والاشتراكية الملحدة الحديثة -ولها كل ما للدين الجديد من حمية وحرارة- لها نظرة أوسع أفقا، لكنها وقد استعدت أساسها الفلسفي من المتطرفين من أصحاب مذهب "هيجل" Hegel، قد أعلنت العصيان على ذات المصدر الذي كان يمكن أن يمدها بالقوة والهدف

وهي "إذن ليست" بقادرة على أن تشفي علل الإنسانية"1.

فالأوروبي المعاصر إذن -سواء أكان من أصحاب الفلسفة العقلية، أم من أصحاب فلسفة الحس والواقع، أم من أنصار الاشتراكية الماركسية الملحدة- لا يجد لنفسه، استقرارا ولا اطمئنانا، وهو في قلق مستمر واضطراب، أما مع نفسه أو مع غيره.

ومن أجل ذلك لا يريد "إقبال" للمسلم المعاصر أن يكون في وضع الأوروبي المعاصر. وإنما يريد له أن يبقى مؤمنا بإسلامه، على أن يلائم نفسه مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها وأن يكون يقظا لتلك "التجربة الاقتصادية الجديدة "الاشتراكية الشيوعية" التي تجرب على مقربة من آسيا الإسلامية، وأن نفتح أعيننا على ما ينطوي عليه الإسلام من معنى، وعلى مصيره"2.

- طبيعة الإسلام:

و"إقبال" -إذ لا يرضيه وضع المسلم المعاصر في الحياة، ولا يريد له أن يكون كالأوروبي في توجيهاته- يجد أن الإسلام، كدين، له من المزايا ما يدفع المصلح المفكر لتخيره كمصدر توجيه وإيمان، ولو أن الإسلام كان على خلاف ما سيبينه، لما قام "إقبال" بحركته الفكرية فيما سماه:"تجديد الفكر الديني في الإسلام". وهناك إذن حاجة ملحة لتغيير وضعية المسلم في حياته الحاضرة، وليس هناك ما يدفع هذه الحاجة إلى الإسلام نفسه. ليس هناك عوض عنه في أداء مهمته.

والإسلام له جانب الدين، وجانب آخر من العقائد والمبادئ الفردية: فأما في جانب الدين فيرى "إقبال" أن العالم اليوم قد أصبح مفتقرا إلى تجديد سيكلوجي والدين هو في أسمى مظاهره "وهو المظهر الصوفي" ليس عقيدة فحسب، أو كهنوتا، أو شعيرة من شعائر، بل هو وحده

1 المصدر السابق: ص216، 217.

2 المصدر السابق: ص207.

ص: 338

القادر على إعداد الإنسان العصري إعدادا خلقيا يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لا بد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث وأن يرد إليه تلك النزعة من الإيمان التي تجعله قادرا على الفوز العظيم بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بها في دار البقاء، إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ومستقبله -من أين جاء، وإلى أين المصير- هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية. بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية، والدين -كما بينت من قبل- من حيث هو سعي المرء سعيا مقصودا للوصول على الغاية النهائية للقيم، فيمكنه بذلك أن يعيد تفسير قوى شخصيته هو حقيقة لا يمكن إنكارها"1.

والإسلام -بما له من جانب آخر من العقائد انفرد به دون ما سواه- يذكر "إقبال" أنه وحده هو الذي يستطيع أن يقدم للمسلمين اليوم تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غايته ومقصده.

"إن الإنسانية اليوم تحتاج إلى ثلاثة أمور:

- تأويل الكون تأويلا روحيا.

- وتحرير روح الفرد.

- ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي".

ولا شك أن أوروبا في العصر الحديث قد أقامت نظما مثالية على هذه الأسس ولكن التجربة بينت أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يشعلها وهذا هو السبب في أن التفكير المجرد لم يؤثر في الناس إلا قليلا، في حين أن الدين استطاع دائما أن ينهض بالأفراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها، وينقلهم من حال إلى حال.

"إن مثالية أوروبا لم تكن أبدا من العوامل الحية المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتا ضالة أخذت تبحث عن نفسها بين ديمقراطيات لا تعرف

1 المصدر السابق: ص217.

ص: 339

التسامح، وكل همها استغلال الفقير لصالح الغني، وصدقوني إن أوروبا هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان.

"أما المسلم فإن له هذه الآراء النهائية القائمة على أساس من "تنزيل" يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود، وما تعني به هذه الآراء من أمور خارجية في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس، والأساس الروحي للحياة عند المسلم هو إيمان يستطيع أقلنا استنارة أن يسترخص الحياة في سبيله، وبما أن القاعدة الأساسية في الإسلام تقول: إن محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه ينبغي أن تكون من أكثر شعوب الأرض في الحرية الروحانية، والمسلمون الأول الذين تخلصوا من الرق الروحي في آسيا الجاهلية، لم يكونوا في وضع بحيث يستطيعون إدراك المعنى الصادق لهذا المبدأ الأساسي، فعلى المسلم اليوم أن يقدر وضعه، وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ القاطعة "في الإسلام كمبدأ التوحيد، وختم الرسالة

" وأن يستنبط من أهداف الإسلام، التي لم تتكشف إلى الآن إلا تكشفا جزئيا، تلك الديمقراطية الروحية التي هي الغاية الأخيرة للإسلام، ومقصده"1.

وفي وصية "إقبال" لمسلم اليوم: "فعلى المسلم اليوم أن يقدر موقفه

" في آخر هذا النص تكمن فكرته الإصلاحية. فليست فكرته الإصلاحية شيئا أكثر من محاولة لإعادة بناء الحياة الاجتماعية الإسلامية على مبادئ الإسلام نفسه، ما كان معروفا منها بالضرورة، وما يصح أن يتفقه فيه. كما تكمن الغاية من هذه الفكرة الإصلاحية، وهي تلك الديمقراطية الروحية التي تقوم على الاعتداد بذات الفرد، وسيطرته على الطبيعة والواقع، وإدراكه لحقيقة أصل وجوده، وهو الله جل شأنه.

إصلاح الفكر الديني:

كان "إقبال" دقيقا عندما عبر عن حركته الفكرية بـ"إعادة بناء الفكر الديني" في الإسلام، دون التعبير بـ"الإصلاح الديني" لأن أية محاولة إنسانية تدور في محيط الإسلام، لا تتعلق بتعديل مبادئه، طالما أن

1 المصدرالسابق: ص207، 208، "مع الرجوع إلى النص باللغة الإنجليزية وتصحيح الترجمة".

ص: 340

مصدره وهو القرآن له صفة الجزم والتأكيد والأبدية، وأية حركة "إصلاحية" في الإسلام بعد ذلك هي إذن في دائرة الفكر الإسلامي حوله، وفي دائرة أفهام المسلمين لمبادئه، وأي "تطور" للإسلام يجب أن يكون بهذا المعنى في دائرة أفهام المسلمين وتفسيرهم لتعاليمه، وليس هناك تطور للإسلام نفسه؛ لأن الوحي به قد انتهى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ختمت برسالته الرسالة الإلهية، ولا يترقب إذن أن يكون هناك إصلاح ديني في الإسلام، على نحو الذي قام بصنعه "مارتن لوثر" في المسيحية، لعدم التثبت في رواية الإنجيل، وعدم الاتفاق على رواية واحدة مؤكدة له، مما أتاح فتح منافذ عديدة، دخل منها إلى رسالة المسيح عادات وأفهام أصبحت على مر الزمن جزءا لا يتجزأ من المسيحية، وبالتالي أتاح فرصة لإصلاح "لوثر" ومن على شاكلته.

وإصلاح الفكر الديني في الإسلام -عند "إقبال"- يقوم على طلب تغيير الوضع الذي وصل إليه المسلم الآن، ووصلت إليه الجماعة الإسلامية، وهو وضع الضعيف المتهيب الحياة، النافر من الواقع

يقوم على مكافحة الهرب من الحياة، وعدم استطاعة السيطرة على المادة أو الطبيعة

يقوم على مكافحة "وحدة الوجود" التي تدعو إلى فناء الإنسان في "الحقيقة المطلقة" كما تدعو إلى السلبية في الحياة

يقوم على تأكيد "أنا" وذات الإنسان، كي يحول دون فنائها أو قهرها

يقوم على طلب "الذاتية" بهذا المعنى، كما يقوم على طلب "الواقعية" بمعنى عدم الفرار من الحياة!!! والواقعية التي يطلبها ليست "إلحاد" المادية الوضعية، وإنما هي تفادي "البرهمية" و"الصوفية الإشراقية" أو التصوف العجمي، كما يسميه.

يصف "إقبال" وضع المسلم الذي صار وتحول إليه الآن بقوله: إن المسلم القوي الذي نشأته الصحراء، وأحكمته رياحها الهوجاء، أضعفته رياح "العجم" فصار فيها كالناي نحولا ونواحا!! وإن الذي كان يذبح الليث كالشاة، تهاب وطء النملة رجلاه!! والذي كان تكبيره يذيب الأحجار، انقلب رجلا من صفير الأطيار!! والذي هزأ عزمه من شم الجبال، غل يديه ورجليه بأوهام "الاتكال"!! والذي كان ضربه في رقاب الأعداء، صار يضرب صدره في اللأواء!! والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة، كسرت رجلاه عكوفا في "الخلوة"!! والذي كان يمضي على الدهر حكمه، ويقف

ص: 341

الملوك على بابه، رضي من السعي بالقنوع، ولذا له الاستجداء والخشوع!! "1.

نظرة الإسلام إلى العالم الواقعي:

وتقوم فكرته الإصلاحية -بعد أن ذكر الدوافع الثلاثة السابقة -على عنصرين أساسيين:

- تغيير مفهنم عالم الطبيعة أو الواقع، أو بعبارة أخرى رد هذا المفهوم إلى ما اعتبره المسلمون الأول من كون عالم الطبيعة مجالا لحركة الإنسان وسعيه ومعرفته، وبالتالي تنحية ما صار إليه مفهومه من كونه "مخيفا" أو "شرا".

- شرح بعض المبادئ الإسلامية: كختم الرسالة و"التوحيد" و"الاجتهاد" على أنها عوامل تدفع الإنسان إلى الحركة والسعي في هذا العالم الواقعي.

وإذن يبغي "إقبال" من إصلاح الفكر الديني في الإسلام، أن تعود القوة للمسلم وأن يرى قوته هذه ليست في اتباع فلسفة من فلسفات الغرب، بل في فهم الإسلام فهما صحيحا، على نحو ما فهمه الأوائل، لا على ما صار إليه الأمر في عهد الركود.

وفهم الإسلام فهما صحيحا سيمكن المسلم من السيطرة على "الواقع" والطبيعة -كما تمكن الغربي منها- وفي الوقت نفسه سيبعد عنه جفاف حياة الغربي وقلقه النفسي فيها، وسيجعله أكثر إلماما بـ"الحقيقة".

فالغربي بمذهبه المادي سخر الطبيعة وسيطر عليها، ولكنه أدرك من "الحقيقة" نوعا منها فقط، وهو نوع الحقائق الجزئية، أما "الحقيقة الكلية" وهي حقيقة "الذات المطلقة" فلم يصل إليها؛ بل أنكرها. وكان إنكاره إياها سبب شقوته وقلقه واضطرابه؛ وهو أنكرها لأنه أراد أن

1 الدكتور عبد الوهاب عزام: كتاب "محمد إقبال: سيرته، وفلسفته، وشعوره" ص100 من "منظومة أسرار خودي" مطبوعات الباكستان سنة 1954.

ص: 342

يستخدم ذات الوسيلة التجريبية -التي يستخدمها في كشف الحقائق الجزئية، وهي الواقع أو الطبيعة- في كشف تلك "الحقيقة الكلية" فأخفق في الوصول إليها، ثم أنكرها عندما عجز عن بلوغها.

الحرية الفردية:

فهم الإسلام فهما صحيحا -في نظر "إقبال"- يجعل عالم المادة أو عالم الواقع ليس شرا؛ بل يجعله مجال كفاح لـ"الذات" أو لـ"أنا"، وعن طريق هذا الواقع تقوى الذات، وعن طريق الكفاح فيه، تكون "ديمومتها" وخلودها!! فداوم الذات أو دوام الشخصية يراها "إقبال" في الكفاح لا في الاسترخاء، ويرى رقيها في تخطي العقبات لا في تفاديها.

"الحياة رقي "وتطور" مستمر، تسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها، وحقيقتها أن تخلق دائما مطالب ومثلا جديدة، وقد خلقت من أجل اتساعها وترقيها آلات كالحواس الخمس، والقوة المدركة، لتقهر بها العقبات.

"وأشد العقبات في سبيل الحياة: المادة أو الطبيعة، ولكن المادة ليست شرا كما يقول "حكماء الإشراق" بل هي تعين الذات على الرقي.

فإن قوى الذات الخفية تتجلى في مصادمة هذه العقبات، وإذ قهرت كل الصعاب في طريقها بلغت منزلة "الاختيار" والذات في نفسها فيها "اختيار" و"جبر"، ولكنها إذا قاربت الذات المطلقة "وهي الله" نالت الحرية الكاملة والحياة جهاد لتحصيل "الاختيار" ومقصد الذات أن تبلغ "الاختيار" بجهادها1.

إدراك الوجود:

فهم الإسلام فهما صحيحا -في نظر "إقبال"- يجعل الوجود "وحدات" ولكن كون هذه الوحدات حلقات في سلسلة واحدة -هي: الله؛

1 المصدر السابق: ص56، 57. والتعبير بـ"الجهاد" هنا يشير إلى جهاد النفس الذي جاء في الحديث الشريف:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". قيل: وما الجهاد الأكبر؟ فقال: "جهاد النفس".

ص: 343

والإنسان، والعالم- يجعل الواقع ليس مغايرا لـ"أنا" كل المغايرة، وليس مغايرا أيضا للذات المطلقة "الله" كل المغايرة.. إن هذا العالم هو تجلي الله، وإن الوجود كله هو "الأول" والآخر" و"الظاهر" و"الباطن"، والله والعالم. "فكرة هيجل".

إنه حقيقة واحدة، لها أصل ومظهر، ولكنه لا يقوم على الاتحاد، ولا تصير فيه "وحدة" من وحداته "إلى الفناء" في وحدة أخرى

لا يصير العالم في الإنسان، ولا يصير في الله، كما لا يصير الإنسان إلى الذهاب في الله

في الوجود وحدات ثلاث وهي حقائق، لها شخصيتها وفرديتها.

وهي تدرك جميعها بـ"التجربة"، ولكن "التجربة" لإدراك الواقع والعالم المادي غير "التجربة" لإدراك أعلى هذه الحقائق، وهي "الحقيقة الكلية".

إن هناك نوعين من التجربة: التجربة الواقعية، والتجربة الدينية "الروحية الصوفية"

ولا تضارب بين التجربتين، ولا بين ما توصل إليهما من حقائق، والصلة بين هاتين التجربتين، أو بين الحقيقة الواقعية والحقيقة الأخرى الروحية الكلية، هي مركز المحاولة الفكرية لإقبال.

وإذا تضاءل أو تلاشى اعتراض العلم التجريبي المادي على الإسلام كدين لم يكن بينهما موضوع للكفاح والخصومة، وكان المسلم -بتوجيه من دينه- واقعيا يجب عليه أن يدرك الواقع والطبيعة ليسود عليها، ولكن لا ليشقى بها؛ لأنه لا يصح له أن ينسى روحانيته، وهي إدراكه للذات المطلقة "الله".

إن المشكلة التي يواجهها الإسلام، كانت في الواقع ما بين "الدين والحضارة" من صراع متبادل، وما بينهما في الوقت نفسه من تجاذب متبادل. ولقد واجهت النصرانية في أول عهدها المعضلة نفسها، فكان أعظم ما عنيت به أن تبحث عن مستقر للحياة الروحية قائم بنفسه، "مستقل تماما عن غيره" تلك الحياة التي رأى منشئها ببصيرته أنه يمكن السير بها، لا عن طريق قوى عالم خارجي عن نفس الإنسان، وإنما بتجلي عالم جديد في داخل النفس ذاتها.

الإسلام يقر هذه النظرية تماما.... ويكملها بنظرية أخرى، هي أن النور الذي يضيء هذا العالم الجديد المتجلي على هذا النحو "في نفس

ص: 344

الإنسان وداخلها" ليس غريبا عن عالم المادة؛ بل هو متغلغل فيها، وعلى هذا فإن توكيد الروح التي سعت إليه النصرانية، يتحقق -لا باستبعاد القوى الخارجية التي تخترقها أنوار الروح بالفعل- وإنما يتحقق بتنظيم علاقة الإنسان بهذه القوى، على هدي النور المنبعث من العالم الموجود في أعماق نفسه1.

لا انفصالية ولا اتحاد في الوجود:

وبهذا النص الأخير:

يحدد إقبال المشكل -الذي يواجه الدين كدين في العصر الحديث- بأنه "ما بين الدين والحضارة من صراع وتجاذب".

ثم يحدد موقف المسيحية من هذا الشكل: بأنها تكتفي بالبحث عن عالم مستقل للروحية، منفصل تماما عن العالم الخارجي، فعنيت ببحث النفس الإنسانية كمستودع لهذه الروحية، ووقفت عند حد الطريق أو المنهج الذي تكشف به هذا المستودع، وتركت العالم الخارجي، وتركت أمر الكشف عنه لمنهج آخر وطريقة آخرى، دون أن يكون هناك ربط بين المنهجين في الكشف والمعرفة، وبين الحقيقة "الداخلية" والحقيقة "الخارجية".

- أما الإسلام: فيرى "إقبال" أن موقفه من هذا الشكل هو في عدم "الانفصالية"، وفي عدم "الاتحاد" في الوجود على السواء

عدم الانفصالية بين "أنا" و"الواقع"، وعدم الاتحاد بين "أنا" وبين "الذات المطلقة" وهي الله. فليس العالم الواقعي مغايرا لـ"أنا"، حتى هذا الـ"أنا" ينفر منه ويهرب منه، على أنه شر يجب أن يتجنب، ومن جهة أخرى مهما سما "أنا" وروض روحه، وصفى نفسه، فلن يبلغ درجة "الإفناء" في "الذات" المقدسة.

وإذن موقف الإسلام من الوجود: هو حمل الإنسان، أو حمل "أنا" على إيجاد الصلة بين الحقيقتين -حقيقة الذات الكلية وهي الله التي هي أصل الوجود وحقيقة العالم الخارجي التي تعتبر التجلي لهذا الأصل- وذلك

1 كتاب "تجديد الفكر الديني في الإسلام": ص16.

ص: 345

عن طريق استخدام منهج واحد هو المنهج التجريبي، وعن طريق أن الحقيقة الداخلية في نفس الإنسان -وهي التي يصل إليها الصوفي عن طريق الرياضة الروحية- تعين على كشف الحقيقة الأخرى الخارجية، وأن المعرفة السليمة هي:"تنظيم علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، على هدى النور المنبعث من العالم الموجود في أعماق نفسه".

التجربة في مجال الدين والعلم:

وربما يفهم أن "إقبال" بتعبيره هنا: "على هدى النور المنبعث من العالم الموجود في أعماق نفسه" يميل إلى سيادة الحقيقة الروحية أو الدينية، وجعلها ذات أثر في معرفة الحقيقة الخارجية

ربما يفهم أن معنى ذلك: الحرص على استقلال تلك الحياة، مع أن المنهج التجربي في البحث، عند الوضعيين أو الواقعيين، ليس "اختيارًا" فحسب للحقيقة من حيث هي حقيقة، وإنما هو مع ذلك ينطوي على إنكار ما عدا الحقيقة الخارجية، وهي الحقيقة الدينية أو الروحية هنا، وأن الفجوة بين المحاولة التي يقوم بها "إقبال" للتوفيق بين الإسلام كمصدر للحقيقة الدينية وبين اتجاه المذهب التجريبي باقية، طالما تفهم "التجربة" في الحدود التي رسمها "أوجست كومت" مؤسس المذهب الوضعي في القرن التاسع عشر.

ولذلك يوضح "إقبال" أن "تجربة" المذهب الوضعي ليست هي الوسيلة المتعينة في اختيار كل الحقائق، إذ هناك فرق بين الحقيقة الخارجية التي هي موضوع تجربة المذهب الوضعي، والحقيقة الأخرى -وهي الحقيقة الدينية- التي لا تخضع لهذه الوسيلة بذاتها، وهذا الفرق يرجع إلى اختلاف مجال الدين عن مجال العلوم التي تشتغل بـ"الطبيعة" كعلم الطبيعة، وعلم الكيمياء مثلا.

ويوضح "إقبال" هذا الفرق، بعد أن يشير أيضا إلى اعتراض آخر يتصل باعتراض التجريبيين على "الحققة الدينية" وهو الاعتراض الكامن في شرح "فرويد" لنشأة الأديان كتعبير عن "اللاشعور" المكبوت عند الإنسان. وبناء على ما يراه "فرويد": تكون الأديان كلها خيالات أو رغبات، أكثر منها حقائق تخضع للتجربة!

والدين في رأي أصحاب هذا المذهب -ومذهب "فرويد"- اختراع محض خلقته الرغبات المرفوضة، لكي تجد "جنة" خيالية لحركة حرة من غير عائق!! وهم يقولون: إن العقائد والآراء الدينية ليست شيئا

ص: 346

أكثر من نظريات بدائية عن الطبيعة، حاول البشر استخدامها في تخليص الحقيقة من بشاعتها الأصلية، وإظهارها في صورة أقرب إلى هوى القلب مما تسمح به حقائق الحياة. أما أن هناك أديانا، وصورا من الفن تهيئ لنا نوعا من الفرار المزري من حقائق الحياة، فأمر لا أنكره، وكل الذي أجادل فيه هو أن هذا الحكم لا يصدق على الأديان كلها: فالعقائد والآراء الدينية لها من غير شك أمارة ميتافيزيقية.

"ولكن من الواضح كذلك أنها -الأديان- ليست تفسيرات لوقائع التجربة، التي هي موضوع العلوم التي تشتغل بالطبيعة: فالدين ليس علم الطبيعة أو علم الكيمياء. لا يبحث عن تفسير للطبيعة، وفقا لقوانين العلية

بل هو في الواقع يقصد إلى تفسير مجال مختلف اختلافا كليا، هو مجال التجربة الإنسانية: التجربة الدينية، مجال وقائع، مما لا يمكن أن ترجع إلى وقائع أي علم آخر. وفي الواقع يجب أن يقال -إنصافا للدين- إن الدين يتمسك بضرورة التجربة الواقعية في الحياة الدينية، قبل أن يتعلم "العلم" أن يصنع ذلك بزمن طويل، والخلاف بين الاثنين:"الدين والعلم" ليس بسبب أن أحدهما يقوم على التجربة الواقعية والآخر لا يقوم عليها، فهما يبحثان تجربة واقعية كنقطة للبدء والخروج "في البحث" وإنما خلافهما بسبب الخطأ في إدارك أن الاثنين يشرحان نفس "الواقعية" التي هي موضوع التجربة، ونحن ننسى أن الدين يقصد إلى الوصول إلى المعنى الحقيقي لنوع من التجربة"1.

"وليس من شك في أن البحث في الرياضة الدينية "على نحو ما في الصوفية" بوصفها مصدرا للعلم للإلهي، أسبق في التاريخ من تناول غيرها من ضروب التجربة الإنسانية للغاية نفسها"2.

ومن التحكم إذن في نظر "إقبال" أن يؤخذ بمنطق التجربة في مجال العلوم الطبيعية، ولا يؤخذ به في مجال الدين، وإن اختلاف موضوع التجربة، لا يسوغ التفرقة في اعتبار نتائجها

ويزيد "إقبال" ذلك توضيحا في نص آخر يقول فيه:

"والواقع أن الدين أشد حرصا من العلم "Seience" على الوصول إلى ما هو في النهاية حق، لأسباب ذكرتها من قبل. والسبيل لإدراك الحق

1، 2 المصدر السابق: ص234.

ص: 347

المجرد في الدين أو في العلم تقع فيما يسمى: "تصفية التجربة"، ولكي نفهم هذا ينبغي أن نفرق بين التجربة بوصفها أمرا طبيعيا يدل على ما للحقيقة من سلوك يمكن ملاحظته بالوسائل العادية، وبين التجربة بوصفها دالة على جوهر الحقيقة وطبيعتها الذاتية، فالتجربة بوصفها أمرا طبيعيا، تفسر في ضوء سوالفها السيكولوجية والفسيولوجية أما بوصفها دالة على جوهر الحقيقة، فينبغي أن نستعمل في بيان معناها معايير من نوع آخر:

ففي ميدان العلم "Seience": نحاول فهم معنى التجربة، فيما يتعلق بالمسلك الخارجي للحقيقة، أما في حلبة الدين: فإنا نعتبرها ممثلة لنوع من الحقيقة ثم نحاول كشف معناها فيما يتعلق أساسيا بطبيعة تلك الحقيقة، والخطط الدينية والعلمية متشابهة بوجه ما، فهما يتناولان في الحقيقة وصف عالم واحد، مع هذا الفرق الوحيد وهو: أن وجهة نظر "الذات""العواطف والانفعالات" تستبعد بالضرورة من خطة العلم، أما في خطة الدين فإن "الذات" تؤلف بين ميولها المتضادة، وتحدث نزوعا شاملا مفردا ينتهي إلى نوع من تحويل التجارب تحويلا تركيبيا، والدرس الدقيق لهذه الخطط المتكاملة في الحقيقة، في طبيعتها وغايتها يبين أن كلا منها موجه إلى تطهير التجربة في ميدانه الخاص.

بل إن خطة التصوف الإسلامي -على الأقل- في سبيل حرصها على أن تكفل رياضة بريئة تماما من الانفعالات، قد حرصت على تحريم استخدام الموسيقى في العبادة، وأن تؤكد ضرورة صلاة الجماعة اليومية لكي تقاوم ما قد ينشأ من آثار ضارة بروح الجماعة، نتيجة للتأمل في أثناء العزلة. فالرياضة الصوفية رياضة طبيعية تماما، ولها معنى بيولوجي على أعظم أهمية، بالنسبة للذات "أنا" إنها الذات الإنسانية تسمو فوق مجرد التأمل، وتصلح من زوالها بالوصول إلى الأبد السرمدي "الحقيقة الكلية".

"فمنتهى غاية الذات "أنا" ليس أن ترى شيئا، بل أن تصير شيئا. والجهد الذي تبذله الذات، لكي تكون شيئا، هو الذي يكشف لها فرصتها الأخيرة لشحذ موضوعيتها، وتحصيل ذاتية أكثر عمقا

ترى الدليل على حقيقتها في قول "كانت": "أنا أقدر"، لا في قول "ديكارت":"أنا أفكر"!! وليست غاية مطلب الذات التحرر من حدود الفردية، بل هي على العكس من هذا تحديدها تحديدا أدق وأوفى، والعمل الأخير ليس عملا عقليا وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله، ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع: بأن العالم ليس شيئا لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور،

ص: 348

وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر، واللحظة التي تعرف فيها بالذات ذلك، هي اللحظة التي تستشعر فيها بالسعادة العظمى، وتجتاز فيها أكبر امتحان"1.

- وإذن هناك صلة بين الإنسان والعالم الواقعي.

- وهناك صلة أخرى بين حقيقة هذا العالم الواقعي، وحقيقة أصل الوجود وهي الحقيقة المطلقة "الله".

- وهناك أخيرا اشتراك عن طريق "التجربة" في إدراك الحقيقة، وإن كان نوع التجربة يختلف تبعا للمجال الذي تستخدم فيه.

وهذا الذي يذكره "إقبال": هنا -على هذا النحو- يحاول أن ينتزعه من القرآن، المصدر الأصيل للإسلام، فيقول:

"وبما أن القرآن يسلم بأن الاتجاه التجريبي مرحلة لا غنى عنها في حياة الإنسان الروحية، فإنه يسوي في الأهمية بين جميع ضروب التجربة الإنسانية، باعتبارها مؤدية إلى العلم بالحقيقة النهائية، التي تكشف عن الآيات الدالة عليها، في نفس الإنسان، وفي خارج النفس على السواء. فالملاحظة التأملية هي إحدى الطرق غير المباشرة لإيجاد الصلات بيننا وبين الحقيقة التي تواجهنا "في الخارج وفي الحس". ووظيفتها مراقبة هذه الصلات، كما تنبئ هي عن نفسها في الإدراك الحسي.

وهناك طريقة آخر للمعرفة: هو الاتصال المباشر مع الحقيقة الكلية، "وهي الحقيقة الإلهية" كما تعلن هي عن نفسها في هذا الاتصال.

"وطبيعة القرآن" هي فقط اعتبار الواقع: من أن الإنسان على صلة بالطبيعة ومن أن هذه الصلة -في بعض حالاتها كوسيلة للتمكن من قوى الطبيعة- يجب ألا تستخدم في غرض السيطرة غير المشروعة، بل في غرض آخر نبيل، يؤدي إلى تخليص حركة الحياة الروحية في رقيها وتسامحها.

1 المصدر السابق: ص224-226.

ص: 349

"ولكي نكفل إدراك الحقيقة إدراكا كاملا، ينبغي أن يكمل الإدراك الحسي بإدراك آخر هو ما يصفه القرآن بإدراك الفؤاد أوالقلب في قوله تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} 1.

و"إقبال" يرى الآن بهذا أن القرآن لا يدعو فحسب إلى أن يمارس الإنسان التجربة في صلته بالعلم الطبيعي الواقعي، وفي كشف هذا العلم والوقوف عليه، بل لا يمانع في أن يكون هناك في الدين نفسه مجال تجربة، هو "القلب" وأن الرياضة الدينية لذلك ضرب من ضروب التجربة، التي توصل إلى العلم، ولا تقل اعتبارا عن البقية من ضروب التجربة الأخرى في مجال الواقع والطبيعة.

والإنسان -من وجهة نظر الإسلام، كما يرى "إقبال"- ليس منقطعا عن الطبيعة، بل هو جزء منها، وعلى صلة ببقية أجزائها، ومعرفة الإنسان لله كمعرفته للطبيعة سواء، هي ركون الإنسان في النوعين إلى التجربة.

ومجال التجربة هنا وهناك هو: "الواقع" ولا خلاف بين العلم والدين في ذلك، وإذن صلة العلم بالدين صلة متوازية ومتوازنة، كلاهما يبحث الواقع، وكلاهما يسلك طريق التجربة في بحثه إياه، وكلاهما يكمل الآخر في المعرفة والكشف عن الحقيقة. "وكما أن نواحي التجربة العادية تخضع لتأويل موضوعات الحس لتحصيل لعلم بالعالم الخارجي، فكذلك مجال التجربة الصوفية يخضع للتأويل لتحصيل العلم بالله"2.

والفرق بين النوعين من المعرفة كما يرى "إقبال" هو: "أن المعرفة الصوفية معرفة مباشرة، فمن الواضح أنه لا يمكن أن يطلع عليها، أي: نقلها لإنسان آخر؛ وذلك لأن الحالات الصوفية أشبه بالإحساس منها بالتعقل، وما يعلنه الصوفي من تفسير لفحوى محتويات شعوره الديني يمكن أن يبلغ للناس على صورة قضايا، ولكن محتويات الشعور الديني نفسها لا يمكن الاطلاع عليها، أي: "لا يمكن" نقلها".

1 المصدر السابق: ص22-33.

والآية من سورة السجدة 7-9.

2 المصدر السابق: ص26.

ص: 350

أما أن القرآن يبحث على العلم التجريبي، وعلى أن يمارس الإنسان التجربة في تحصيل المعرفة، فيرى ذلك "إقبال"، من دلالة مثل هذه الآيات الكريمة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 1.

{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 2.

ويعلق "إقبال" على هذه الآيات بقوله:

"ولا شك أن أول ما يستهدفه القرآن من هذه الملاحظة التأملية للطبيعة هو أنها تبعث في نفس الإنسان الشعور بمن تعد هذه الطبيعة آية عليه "وهو الله" ولكن الذي ينبغي التفات إليه هو الاتجاه التجريبي العام في القرآن، مما كون في أتباعه شعورا بتقدير الواقع، وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث، وأنه لأمر عظيم حقا أن يوقظ القرآن تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات، بوصفه قليل الغناء في بحث الإنسان وراء الخالق، وكما أشرنا فيما سبق، يرى القرآن أن العالم له غايات جدية: فتطوراته المتغيرة تحمل حياتنا على التشكل بصورة جدية، والجهد العقلي الذي نبذله للتغلب على ما يقيمه العالم من عقبات في سبيلنا، يشحذ بصيرتنا فيهيؤنا للتعمق فيما دق من نواحي التجربة الإنسانية الأخرى، فضلا عن أنه يمد في آفاق الحياة، ويزيدها خصبا وغنى. واتصال عقولنا بثمرة الأشياء الحادثة هو الذي يدربنا على النظر العقلي في عالم المجريات أن الحقيقة تثوى في نفس مظاهرها، وإن كان الإنسان يعيش في بيئة كئود لا يسعه أن يتجاهل عالم المرئيات.

"والقرآن يبصرنا بحقيقة التغير العظيمة، التي لا يتسنى لنا بغير تقديرها والسيطرة عليها، بناء حضارة قوية الدعائم، ولقد أخفقت ثقافات آسيا، بل ثقافات العالم القديم كله؛ لأنها تناولت الحقيقة بالنظر العقلي ثم اتجهت منه إلى العالم الخارجي فأمدها هذا المسلك بالتفكير النظري المجرد

1 الفرقان: 45، 46.

2 الغاشية: 17-20.

ص: 351

من القوة، وليس من الممكن أن تقام على النظر المجرد وحده، حضارة يكتب لها البقاء"1.

- وإلى هنا أفاض "إقبال" فيما يجب أن يكون عليه موقف الإنسان المسلم إزاء العالم الواقعي، من إسلامه وكتاب دينه وهو القرآن.

- كما وضح أن وسيلة التجربة هي الوسيلة النافعة لتحصيل المعرفة الحقة، وأن التجربة كما يمكن أن تستخدم في الطبيعة والواقع، يمكن أيضا أن تستخدم في مجال الدين، أي: في معرفة الله، وهو الحقيقة الكلية.

- وأبان أن الإسلام يدعو إلى التجربة بوجه عام ولا يحظر استخدامها في مجال الدين.

- وأخيرا لم يغب عنه أن يكشف عن أن الرياضة الصوفية نوع من التجربة الدينية يوصل إلى المعرفة، كما توصل التجربة في الطبيعة إلى إدراك أجزائها العديدة.

- وبعد هذا وذاك، فرق "إقبال" بين الإسلام والمسيحية: فبينما يرى أن المسيحية لها طابع الميتافيزيقا، وطابع الوقوف بالمعرفة فيها عند حد مجال الروح، غير معنية بالعالم الخارجي، إذا بالإسلام يتجاوز هذا المجال إلى الطبيعة نفسها. وذلك عندما نظر إلى الإنسان على أنه كائن ذو صلة بالعالم ما يحيط به، وهو العالم المادي الحسي.

- وقصر دائرة الخلاف بين الدين والعلم على نوع التجربة -دون أصلها- التي تستخدم في كليهما.

- كما أنه سلم بمبدأ "التغير" في العالم، كأساس لبناء حضارة إنسانية قوية تبنى عليه في هذا العالم، ولكنه حدد دائرة هذا التغير بـ"الطبيعة" دون "القيم" الأخلاقية، ودون مجال الألوهية.

وكشف فيما مضى عن الخطأ الذي وقع فيه مذهب "الوضعية" من إنكاره الألوهية الدينية، ومن إخضاعه القيم الدينية لمبدأ "التغير"، وأبان

1 المصدر السابق: ص222.

ص: 352

إن هذا الخطأ هو أن تجعل "التجربة" التي تستخدم في الطبيعة وسيلة عامة لكل أنواع المعرفة التي يمكن أن يحصلها الإنسان. ورأى أن يحصلها الإنسان، ورأى أن ما يجب أن يتبع حتما في تحصيل المعرفة هو "التجربة" ولكنه تختلف باختلاف مجالات "الواقع". وأن إدراك القلب وسيلة من وسائل التجربة لا تقل في تحصيل اليقين والكشف عن الحقيقة عن الإدراك الحسي، الذي هو الوسيلة المفضلة عند "الوضعيين".

- والإسلام -إذن- في نظر "إقبال" يتميز عن الأديان كلها، وفي مقدمتها المسيحية

كما يتميز عن المتيافيزيقا والفلسفة العقلية، وهو بتميزه هذا لا يقف في الخصومة مقابل المعرفة التجريبية، أو مقابل "الوضعية" التي سادت القرن التاسع عشر، وخاصمت الدين، والميتافيزيقا، والمثالية العقلية، هو خارج عن هذا النزاع، ولذا لا يوجه إليه نقد، ولا يرمى بالعجز الذي وجهته "الوضعية" ورمت به ما عداها من مذاهب المعرفة، ومصادر العلم والحقيقة، فلسفة ودينا على السواء.

وهذا مما يجعل للموافق لإقبال على فلسفته هذه أن يعيد القول هنا مرة أخرى بأن "التجديد" في الفكر الإسلامي بنقل بعض مذاهب التفكير الأوروبي في القرن التاسع عشر، واستخدامها في التقليل من قيمة الإسلام، ترديد لأمر ليس له موضوع في المجتمع الإسلامي، وليس له صلة بالإسلام كمصدر توجيه في هذا المجتمع.

وحدة الذات الإنسانية وخلودها:

وضح "إقبال" حتى الآن، قيمة العالم الواقعي -هو عالم الطبيعة والمادة- بالنسبة للإنسان المسلم، كما وضح أنه مطلوب من جهة المسلم أن يتصل به اتصال المكتشف المجرب، كي يسيطر على قواه، ولكن لتنمية روحانيته لا لهدف آخر غير نبيل، وأكد هذه القيمة في غير نص من النصوص الكثيرة، التي اضطررنا لنقلها هنا، ليخلص إلى:

- أن المسلم "واقعي" بحكم دينه.

- وأنه ليس برهباني مسيحي، ولا بصوفي من أصحاب فكرة "الفناء".

- وإلى أن فهمه الابتعاد عن هذا العالم لما فيه من "شر"، يجب أن يتغير إلى النقيض.

ص: 353

وهذا التغير في فهم العالم المادي، إحدى الفكر التي طلب إقبال إعادة بنائها وتجديدها على أساس إسلامي خالص فيما سماه، "تجديد الفكر الديني في الإسلام".

وضح إقبال هذا كله ليدفع المسلم إلى الحركة نحو واقع الحياة، وإلى أن يشارك الغربي في هذه الحركة "لا تقليدا له، ولكن بوحي داخلي من ثقافته الإسلامية.

وهنا نجد إقبال فيما يصور عليه "ذات" الإنسان، وفيما يمنحها من استقلال وفيما يراه فيها من حركة مستمرة وإبداع يتجدد، يشبه "الخلود" في الدوام وعدم الانقطاع بما يسمى "الموت" يدفع المسلم إلى الحركة في العالم الواقعي مرة أخرى، وإلى العمل في قوة.

وفيما يذكره -بعد ذلك- من الحديث عن "الحقيقة" الكلية" "الله"، وعن الرياضة الصوفية كطريق لكسبها وتحصيلها -يبغي به "التوازن"، أو يقصد إلى دفع أضرار الواقعية البحتة، وأخطار نتائجها التي تتمثل في عدم الاستقرار وصفاء النفس، وكفاحها المرير من أجل المال.

"الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي، حيثما تجلت الحياة تجلت في شخص، أو فرد، أو شيء.. والخالق كذلك فرد، ولكنه أوحد لا مثيل له"1.

"إن لذة الحياة مرتبطة باستقلال "أنا" وبإثباتها، وإحكامها، وتوسيعها، وهذه الحقيقة تمهد إلى فهم حقيقة الحياة بعد الموت"2.

وبهذين النصين -مع نصوص أخرى ستأتي- يشير "إقبال" إلى رأيه في الإنسان: يراه فردا لا جماعة، أي: إن الجماعة تتكون منه ولا تخلقه هي.. هو أصلها وليست هي أصلا له.. يراه مستقلا لا يفنى في غيره، حتى في ذات الله لا يفنى فيها عن طريق الرياضة الصوفية، كما فهم خطأ من يفسر قول الحلاج:"أنا الحق" على أنه الإفناء في الله.. يرى ذات الإنسان

1 كتاب: إقبال، سيرته وفلسفته، وشعره:"منظومة أسرار خودي" ص56.

2 المصدر السابق: 254.

ص: 354

أبدية خالدة، ولها ديمومة وخلود في العمل، وأن "الموت" حالة "استرخاء" و"البعث" بمثابة "جرد البضائع" و"النار" إدراك لألم الإخفاق في السعي، و"الجنة" إدراك لسعادة الفوز على قوى الانحلال.

أراد "إقبال" أن يشعر المسلم بنفسه، وبقيمته في الحياة، وأن يحمله على أن يعتد بنفسه كقوة "خالقة" على نحو ما تصور "نيتشه":"الإنسان المتفوق" ويتكون هذا الشعور عنده، يندفع في الحياة وإلى الحركة في "الواقع" الذي أصبح معبدا له الآن، بعد أن أعيد النظر إليه من الوجهة الإسلامية، وأصبح في نظر "إقبال" يرى أنه ليس شرا، وأنه المجال الطبيعي لحركة الإنسان وتنمية ذاتيته.

ولكن ما أراده "إقبال" للإنسان المسلم، كي يقوى ويندفع في الحياة، وفي بحث الواقع -خرج به تفسير الإسلام أحيانا على نحو لا يخالف فيه الجمهرة الكثيرة من مفسري القرآن فحسب، بل على نحو يجعله متكلفا في تخريج نصوصه على حسب أساليب اللغة العربية، وربما ينزلق به تكلفه في التخريج، إلى باب "التحريف" في التأويل.

فعن وحدة الذات يذكر أيضا:

"أرى أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي إثبات ذاته لا نفيها. وعلى قدر تحقيق إنفراده أو وحدته يقرب من هذا الهدف، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: $"تخلقوا بأخلاق الله"، فكما شابه الإنسان هذه الذات الوحيدة، كان هو كذلك فردا بغير مثيل

إنا نسأله: ما الحياة؟ وواضح أن الحياة أمر فردي، وأعلى أشكاله التي ظهرت حتى اليوم "أنا" وبها يصير الفرد مركز حياة، مستقلا قائما بنفسه، فالإنسان من الجانبين الجثماني والروحي، مركز حياة قائم بنفسه، ولكنه لما يبلغ مرتبة الفرد الكامل هو الأقرب إلى الله، ولكن ليس القصد من هذا القرب أن يفنى وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الإشراق، بل هو عكس هذا، يمثل الخالق نفسه"1.

كما يقول:

"يؤكد القرآن للنفس الإنسانية بأسلوبه البسيط، حريتها وخلودها المفعم بالقوة، كما يؤكد شخصية الإنسان وفرديته، وله -في نظري- رأي

1 المصدر السابق: ص56.

ص: 355

معين محدد في مصير الإنسان بوصفه وحدة من وحدات الوجود، وهذا الرأي في شخصية الإنسان وفرديته -وهو رأي يستحيل معه أن تزر وازرة وزر أخرى؛ بل يقتضي أن كل امرئ بما كسب رهين- هو الذي أدى بالقرآن إلى رفض فكرة الفداء"1.

والإنسان محتفظ بفرديته واستقلاله، لا تسلبه الرياضة الصوفية هذا الاستقلال بحال. وتاريخ "الرياضة" في الإسلام يؤكد أنها تجعل الإنسان كما قال الرسول: $"يتخلق بأخلاق الله". وقد عبر عنها بعبارات مثل: "أنا الحق" الحلاج و"أنا الدهر""النبي محمد"، و"أنا القرآن الناطق""علي"، و"سبحاني""بايزيد".

"وفي التصوف الإسلامي الرفيع ليس معنى أن: إرادة الإنسان هي عين إرادة الله، أن النفس الإنسانية تمحو شخصيتها هي بنوع من الاستغراق في الذات غير المتناهية، بل الأحرى أن الذات غير المتناهية تدخل بين أحضان محبها المتناهي"2.

وفي خلود هذه الذات الإنسانية المستقلة أبدا، يقول "إقبال":"إن خلود الذات أمل، ومن أراد أن يظفر به فليجد ويدأب لبلوغه، والظفر به موقوف على أن نسلك طريقا للفكر والعمل في هذه الحياة، يعيننا على حفظ التوازن، ولا يستطيع إبلاغنا هذا الأمل دين "بوذا"، ولا التصوف العجمي، ولا ما إلى هذين من نظم الأخلاق الأخرى، ولقد أضرت بنا هذه الطرق فأضاعتنا وأنامتنا، إن هذه المذاهب هي الليالي في أيام حياتنا.

"وإن قصدنا بأفكارنا وأعمالنا إلى حفظ حالة التوازن في ذواتنا. فأغلب الظن أن صدمة الموت لا تستطيع أن تؤثر فيها

تعرض بعد الموت حال من "الاسترخاء" يسميها القرآن الحكيم: "البرزخ" وتدوم هذه الحال حتى الحشر. ولا تبقى بعد الاسترخاء إلا النفوس التي أحكمت ذواتها أيام الحياة"3.

1 تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص109.

2 المصدر السابق: ص126.

3 محمد إقبال: سيرته، وفلسفته، وشعره:"أسرار خودي" ص58.

ص: 356

إن "إقبال" هنا شاعر في تصويره خلود النفس

إنه لا ينكر البعث ولا الحشر، كما لا ينكر موت النفس من قبل

إنه يحرص على فردية الإنسان ليجعلها مصدر قوة، ويحرص على أن تعمل وتفكر، لا أن تتواكل وتستجدي. النفس العاملة القوية هي النفس التي تحيا في هذه الحياة، وهي النفس التي تستمر لها الحياة في دار الجزاء، وعندئذ يكون "الموت" بمثابة مرحلة انتقال، فهي في عملها مستمرة، وفي حياتها مستمرة كذلك، فهي خالدة بهذا المعنى.

هو يريد أن يحرض الإنسان المسلم على القوة والعمل، يريد أن يدفعه دفعا، ولكن من ذاته لا من خارج ذاته. إنه يعشق القوة، ويعشق العمل، أو أنه يتوق إلى أن يرى المسلم قويا عاملا، غير مستذل وغير متواكل، إن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.

"حياة العلم من قوة الذات

فالحياة على قدر ما فيها من هذه القوة، فالقطرة حين تقوى ذاتها تصير درة، والجبل إذا غفل عن ذاته انقلب سهلا وطغى عليه البحر"1. "لا بتغ رزقك من نعمة غيرك، ولا تستجد ماء ولو من عين الشمس، واستعن بالله وجاهد الأيام، لا ترق ماء وجه الملة البيضاء، طوبى لمن يحتمل الضر من الحرور والظمأ، ولا يسأل الخضر كاسا من ماء الحياة"2.

والخلود بهذا المعنى -لا بمعنى إنكار الموت، أو إنكاء فناء العالم وعدم البعث- يزيد في شرحه "إقبال" مرة أخرى. إذ يقول أيضا.

"إن النهاية، أي: انقضاء الأجل ليس بلاء

{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 3، وهذا أمر بالغ الأهمية ينبغي أن يفهم على وجهه صحيح، حتى نضمن فهم رأي الإسلام في "الخلاص" فهما واضحا فالإنسان -أو الذات المتناهية- بشخصيته المفردة، التي لا يمكن أن يستعاض عنها بغيرها، سيق بين يدي الذات غير المتناهية، ليرى عواقب

1 المصدر السابق: ص74.

2 المصدر السابق: ص78.

3 مريم: 93-95.

ص: 357

ما أسلف من عمل، وليحكم بنفسه على إمكانيات مصيره {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 1.

"فأيا كان المصير النهائي للإنسان، فإنه لا يعني فقدان فرديته، والقرآن لا يعد التحرير التام من التناهي أعلى مراتب السعادة الإنسانية، بل "جزاؤه الأوفى" هو في تدرجه في السيطرة على نفسه، وفي تفرده، وقوة نشاطه بوصفه روحا، حتى إن منظر "الفناء الكلي" الذي يتحدث عنه القرآن في قوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} 2 الذي يسبق يوم الحساب مباشرة، لا يمكن أن يؤثر في كمال الروح التي اكتملت نموا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} 3. ومن يكون أولئك الذي ينطبق عليهم هذا الاستثناء، إلا الذين بلغت أرواحهم منتهى القوة؟! وتصل الروح إلى أسمى مرتبة في هذا النمو، عندما تكون قادرة على تملك النفس تملكا تاما، حتى في مقام الاتصال بالذات المحيطة بكل شيء، فتكون الروح كما جاء في القرآن في وصفه لرؤية النبي للذات الأولى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 4. وهذا هو المثل الأعلى للإنسانية الكاملة في الإسلام"5.

"فالإنسان في نظر القرآن، متاح له أن ينتسب إلى معنى الكون وأن يكون خالدا

إن كائنا اقتضى تطوره ملايين السنين، ليس من المحتمل إطلاقا أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع. وليس إلا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار، إذ يمكن أن ينتسب إلى معنى الكون: " {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 6، وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 7.

"فالحياة تهيئ مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب، وليست هناك أعمال تورث اللذة، وأعمال تورث الألم، بل هناك

1 الإسراء: 13، 14.

2 الأنعام: 73.

3 الزمر: 68.

4 النجم: 10.

5 كتاب: تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص124، 125.

6 الشمس: 7-10.

الملك: 1، 2.

ص: 358

أعمال تكتب للنفس البقاء، أو تكتب لها الفناء، فالعمل هو الذي يعد النفس للفناء، أو يكفيها لحياة مستقبلة، ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو: احترامي للنفس في وفي غيري من الناس، وعلى هذا فالخلود لا نناله بصفته حقا لنا، وإنما نبلغه بما نبذل من جهد شخصي.

"وأكبر ما وقعت فيه المادية من خطأ يبعث على الأسف، هو القول بأن الشعور المتناهي يستنفذ موضوعه. والفلسفة والعلم ليسا إلا طريقة واحدة من طرق البحث في هذا الموضوع. ولكن هناك طرائق أخرى متاحة لنا. وإذا كان العمل قد أمد الروح من القوة بما يكفل لها مواجهة الصدمة التي يحدثها فناء البدن، فإن الموت يكون مجازًا لا غير إلى البرزخ الذي جاء وصفه في القرآن"1.

والخلود، كما يقول "إقبال"، ليس حقا للإنسان، إنما هو غاية وهدف، ووسيلته العمل وحده

وهو استمرار للحياة، والموت فقط فقط ابتلاء.

"والبحث إذن ليس حادثا يأتينا من خارج، بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النفس، وسواء أكان البعث للفرد أم للكون، فإنه لا يعدو أن يكون نوعا من "جرد البضائع" أو الإحصاء لما أسلفت النفس من عمل وما بقي أمامها من إمكانيات

على أن القرآن يرى أن البعث يكسب الإنسان حدة في البصر - {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 2- يرى به مصيره الذي كسبه لنفسه معلقا بعنقه {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} 3.

أما الجنة والنار فهما حالتان، لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني، أو لصفة أو حال، فالنار في تعبير القرآن:{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} 4 هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنسانا، أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال.

1 المصدر السابق: ص126، 127.

2 سورة ق: 22.

3 المصدر السابق: ص141، والآية من سورة الإسراء:13.

4 الهمزة: 6، 7.

ص: 359

وليس في الإسلام لعنة أبدية.. ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفا للنار، يفسره القرآن بأنه حقبة من الزمان {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} 1 والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعا تاما. فالخلق ينزع إلى الاستدامة، وتكييفه من جديد يقتضي زمانا. وعلى هذا فالنار كما يصورها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم، بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله؛ وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة ومتصلة، والإنسان دائما قدما، فيتلقى على الدوام نورا جديدا من الحق غير المتناهي الذي هو:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 2. ومن يتلقى نور الهداية الإلهية ليس متلقيا سلبيا فحسب؛ لأن كل فعل لنفس حرة يخلق موقفا جديدا، وبذلك يتيح فرصا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد"3.

وبهذا الاتصال في الحياة الإنسانية، رفع "إقبال" الفجوة بين "الدنيا" و"الآخرة" وجعل الحياة الإنسانية خط سير لا ينهيه الزمان، ومجال عمل مستمر متجدد.

وما أتى به الإسلام من عقائد البعث، والحشر، والبرزخ، مما يفهم منها أنها تصور حلقة في تاريخ الوجود، تنتهي بها حياة وتبتدئ بها حياة ثانية، ليس إلا تصويرا لمرحلة ابتلاء، وليس إلا إحصاء لأعمال الإنسان السابقة يعقبها استئناف سير الحياة وحركة العمل الإنساني من جديد.

وما أتى به أيضا من عقائد مثل الجنة والنار، مما يفهم منها أنها تحدد مكان حياة أخرى مستقلة تماما عما مضى في حياة الإنسان الدنيا، ليست أيضا إلا تصويرا لذلك الشعور الإنساني الذي يصحب نوع النتيجة التي أتى بها الإحصاء في مرحلة ما قبل استئناف السير وحركة العمل في دائرة الإنسان، والجنة ليست إلا شعور الإنسان بالبقاء، والفوز في الكفاح الماضي، والنار ليست أيضا إلا شعور الإنسان بخيبة أمله وفشله في هذا الكفاح السابق

ومعنى ذلك أنه يجوز للإنسان الذي فشل فيما مضى أن يفوز في كفاحه المستأنف، فيشعر بالبقاء والخلود، أو تكون له "الجنة" من جديد، وخيبة الأمل إذن موقوتة، والنار إذن ليست أبدية، إذ هي لمدة ما.

1 النبأ: 23.

2 الرحمن: 29.

3 المصدر السابق: ص141.

ص: 360

حياة دائمة متجددة، وعمل مستمر، وكفاح متواصل، ليس هناك تكرار وليس هناك مدار دائري للحركة، إنما هناك خيط مستقيم لا نهائي، ذلك كله يصور مجال الإنسان في الوجود.

فردية ذاته لا تمحى، ووجوده لا يبلى، وقربه من "اللانهائي" هو غاية حركته في سيره وفي عمله

ليس بعد هذا القرب نهاية؛ لأن ذات "اللانهائي" دائمة في وجودها، وفي خلقها.

هذا التصوير كله يصور به "إقبال" وجود الإنسان وحياته، كي يعمل الإنسان طالما ليست لحياته نهاية، وليدفع اليأس عن نفسه طالما تتجدد فرص الكفاح والنجاح فيه، وطالما تختفي "الأبدية" -كصفة- لخيبة أمله وإخفاقه.

أما كيف أن "إقبال" حمل النصوص القرآنية التي أوردها على المعنى الذي أراده -وربما خالف فيما أراده من معنى كثيرين من علماء المسلمين قبله- فذلك شيء سنشير إليه عند "التعليق" على تفكيره التجديدي الإصلاحي، عقب الفراغ من عرضه، تحت عنوان:"إقبال، فيما أرى".

الذات الكلية:

يريد "إقبال" فيما يتحدث به عن "الذات الكلية" أن يوضح أن الله هو حقيقة الوجود، أو وحدة الوجود، وأن دليل وجوده هو التجربة، ولكنها تجربة الدين، وليست تجربة الطبيعة، كما يوضح أنه لا ينفصل عن العالم الطبيعي أو الواقعي، لا على معنى أنه حال فيه، ولكن على معنى أن ذات الله تجلت فيه. والعالم الطبيعي أو الواقعي باق طالما هو تجلي الله

"نظرية هيجل".

"والذات الأولى توجد في "ديمومة" بحتة، ينقطع فيها التغير عن أن يكون تعاقبا لأحوال متخالفة، وتكشف الذات عن صفتها الحقة باعتبارها خلقا مستمرا {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 2.

و"وجود الله" هو تجلي ذاته، لا السعي وراء مثل أعلى يراد الوصول

1 سورة ق: 38.

2 البقرة: 255.

ص: 361

إليه. "وما لم يقع بعد" معناه بالنسبة للإنسان: السعي والطلب، وقد يعني الإخفاق، أما "ما لم يقع بعد" بالنسبة لله فيعني تحققا لا يخفق لإمكانيات وجوده، تلك الإمكانيات الخالقة غير المتناهية، التي تحتفظ بوحدتها التامة الكاملة خلال تجليه في الوجود"1.

"ولعلنا الآن في موقف يدعلنا ندرك معنى الآية": {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} 2. فقد أدى بنا التفسير الدقيق لتعاقب الزمان -كما يتجلى في أنفسنا- إلى فكرة عن الحقيقة القصوى، هي أنها "ديمومة" بحتة يتداخل فيها الفكر، والوجود، والغاية، لتؤلف جميعا وحدة متكاملة، ولا نستطيع إدراك هذه الوحدة إلا من حيث هي وحدة نفس متحققة الوجود محيطة بكل شيء، هي الينبوع الأول لكل حياة فردية، وكل فكر فردي"3.

والذات الكلية ليست ذاتا منعزلة عن هذا العالم، وليس هذا العالم "غيرا" لها.

و"الذات الأولى" في تعبير القرآن، غنية عن العالمين:{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 4. أما ما عداها فلا يستطيع أن يدعي أنه ذات أخرى مقابلة لها، وإلا وجب أن تكون الذات الأولى كذواتنا المتناهية، بينها وبين الغير المقابل لها نسبة مكانية. وما نسميه "الطبيعة" أو "غير الذات"، وليس إلا لحظة عابرة في وجود الله، ووجود الله من ذاته لا من غيره، وهو وجود أزلي مطلق ويستحيل علينا أن نتصور في عقولنا هذه الذات تصورا كاملا، فهو كما يقول القرآن الكريم:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5.

"وبعد: فإن العقل لا يمكن أن يتصور نفسا من غير أن تلحقها صفة، أي: من غير منهج مطرد من السلوك، والطبيعة -كما رأينا6- ليست

1 المصدر السابق: ص272.

2 الفرقان: 2.

3 المصدر السابق: ص66، 67.

4 آل عمران: 97.

5 الشورى: 11.

6 يشير إلى ما ذكره في ص243 من كتاب "تجديد الفكر الديني في الإسلام" عن نظرية "أينشتين" Albert Einstein "المولود في سنة 1879"، وهي نظرية النسبية The theory of relativity وما ذكره هو:=

ص: 362

ركاما من مادية بحتة شاغلة للفراغ، بل هي بناء من حوادث أو منهج منتظم من السلوك وهي بوصفها هذا، أساسية بالنسبة للذات الأولى، فالطبيعة بالنسبة للذات الإلهية كالصفة بالنسبة للنفس الإنسانية، وهي في التعبير القرآني الرائع:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 1. وعلى هذا، فإن الرأي الذي اصطنعناه يضفي على علوم الطبيعة معنى روحيا جديدًا: فالعلم بالطبيعة هو العلم بسنة الله، ونحن في ملاحظتنا للطبيعة إنما نسعى في الحقيقة وراء نوع من الاتصال الوثيق بالذات المطلقة

وما هذا إلا صورة أخرى من صور العبادة"2.

ويزيد "إقبال" توضيحا عدم "غيرية" العالم الطبيعي لذات الله، فيما يقوله هنا:

"والسؤال الذي يطلب منا أن نجيب عنه حقا هو: هل العالم يواجه الذات الإلهية بوصفه "غيرا" لها، وبينهما فراغ مكاني يتوسط بين الذات وبين هذا "الغير"؟؟ والجواب عن هذا: هو أنه بالنسبة للذات الإلهية، لا يوجد خلق بمعنى حادث معين له "قبل" وله "بعد"، فالعالم لا يمكن أن يعد حقيقة مستقلة الوجود مقابلة للذات الإلهية، ولو أننا نظرنا إلى الأمر كذلك. لأصبحت الذات الإلهية والكون منفصلتين، تقابل إحداهما الأخرى

= إن نظرية النسبية التي أدمجت الزمان في "الزمان المكاني" قد زعزعت معنى "الجوهر" كما اصطلح عليه السلف، أكثر مما زعزعه جدل الفلاسفة كله، فالمادة للإدراك العادي "هو الإدراك الفلسفي القديم" شيء يلبث في زمان ويتحرك في مكان، ولكن النسبية في الطبيعيات الحديثة لا تقر هذا الرأي، فالقطعة من المادة ليست شيئا ثابتا له أحوال متغايرة، بل أصبحت مجموعة حوادث مرتبطة بعضها ببعض وبهذا ذهبت صلابة المادة التي قيل بها قديما، وذهبت معنى الخصائص التي كانت تجعلها تبدو في نظر المادي شيئا أقوى في حقيقته من الأفكار التي تجول في العقل، وعلى هذا، فالطبيعة -طبقا لرأي الأستاذ Whitehad- ليست شيئا قارًا، يقوم في خلاء لا حركة فيه، بل هي تركيب من حوادث، لها خصيصة التدفق والإيجاد الدائمين، غير أن الفكر يقطع هذا التكريب إلى أشياء ساكنة، منعزلة بعضها عن بعض، وينشأ عن علاقة بعضها ببعض تصور المكان والزمان.

1 الفتح: 23.

2 المصدر السابق: ص267.

ص: 363

في ظرف فارغ من حيز غير متناه، وقد رأينا -فيما سبق- أن المكان والزمان، والمادة، تفسيرات يضعها الفكر لقدرة الذات الإلهية الخالقة الحرة، وهي لست حقائق لها وجودها في ذاتها وإنما هي أحوال للعقل في تصوره لوجود الله.

"وقد أثير البحث مرة في موضوع الخلق بين مريدي "بايزيد البسطامي" الصوفي المشهور، فأدلى أحدهم في صراحة بالرأي الذي تقبله الفطرة السليمة: "كان الله، ولا شيء معه" فأجاب الولي جوابا قاطعا، فقال: "الآن كما كان" فعالم المادة إذن ليس شيئا يشارك الله في الأزل، ويحدث فيه الله ما يشاء، وهو كأنه على مسافة منه

بل هو في طبيعته الحقيقية، فعل واحد متصل، يجزئه الفكر إلى كثرة من أشياء، منفصل بعضها عن بعض"1.

و"جاء في القرآن الكريم {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} 2. وماهية الجوهر غير وجوده، ومعنى هذا أن الوجود عرض يلحقه الله بالجوهر. وقبل أن يلحقه الوجود، يظل كما لو كان كامنا في قدرة الله الخالقة، وليس يعني وجوده، أكثر من تجلي القدرة الإلهية للعيان"3.

وإذا كانت "الذات الكلية" لا انفصال لها عن العالم الواقعي، وإذا كان العالم الواقعي ليس مادة جامدة، بل هو تركيب من أحداث متتالية تصور خلق الله، أو تصور تجليه للعيان، "فالسمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله وحده، هو الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية، بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية.

هذا من جانب

ومن جانب آخر، إذا كان الانفصال بين الله وبين هذا العالم المادي، فليس هناك اتحاد بينهما، وبالتالي لا يصير الإنسان الفرد يوما ما في الذات الإلهية، مهما أدرك هذه الذات، وإدراكه لهذه الذات إدراكا قريبا

1 المصدر السابق: ص278، 279.

2 فاطر: 1.

3 المصدر السابق: ص282.

ص: 364

يجب أن يبعده فقط عن أن يستغرق في "الواقع" أي: في مصدر الحس الظاهر للعيان، لا أن يحول بينه وبين أن يتحرك فيه ويسيطر على قواه.

- إن "إقبال" يعقد الصلة بين:

الذات الإلهية من جانب

والإنسان والعالم الواقعي من جانب آخر

يريد أن يزاوج بين "الواقعية""والروحية".

- يريد أن يحول "الصوفية" الإشراقية في الإسلام إلى "زهد" فجر الإسلام، فيبعد منها "الفرار" من الدنيا، وينحي منها "الاتحاد" بالله.

- ويريد أيضا أن يحول "الواقعية" الحديثة التي جعلت للإنسان سلطانا على قوى الطبيعة لم يسبق إليه -ولكنها سجلت إيمانه هو بمصيره- إلى "واقعية" تصل الإنسان بأعماق وجوده إلى "الله" حتى لا يكون حبه للمال حبا طاغيا، يقتل كل ما فيه من نضال سام شيئا فشيئا، ولا يعود عليه منه إلا تعب الحياة.

والسبيل إلى إدراك الذات الإلهية -في نظر "إقبال" وهي وحدة الوجود، أو الحقيقة الكلية- الدين وحده

وليس العلم Science؛ لأن العلم يبحث عن جزئيات الطبيعة، ولكل جزئية منها علم خاص. وإذا سألنا عن تناسق بين علوم الطبيعة، أو علوم جزئياتها فلا نجده، وإذن لا مناص من اعتبار الدين بما فيه من عبادة "الصلاة"، وسيلة لإدراك الحقيقة باعتبارها كلا.

فالمسألة التي نبحثها إذن هي:

هل المدخل إلى الحقيقة عن طريق ما يكشفه الإدراك الحسي، يؤدي بالضرورة إلى رأي فيها يتعارض معارضة جوهرية مع رأي الدين في طبيعتها القصوى، الذات الكلية، "الله"؟؟

وهل العلوم التي تبحث في الموجودات الطبيعية قد خضعت نهائيا للمادية؟؟

ص: 365

وليس من شك في أن نظريات العلوم الطبيعية تفيد معرفة موثوقا بها؛ لأنه يمكن التحقق من صدقها؛ ولأنها تمكننا من التنبوء بالحوادث الطبيعية، ومن التحكم فيها، ولكن ينبغي أن لا ننسى أن ما نسميه:"العلم" Science ليس نظرة واحدة منسقة للحقيقة، بل هو مجموعة من النظرات الجزئية للحقيقة

هو شتات من تجربة كلية لا تظهر منسجمة بعضها مع بعض. فالعلوم الطبيعية تبحث في المادة، وفي الحياة، وفي العقل؛ ولكنك إذا سألت عن كيفية العلاقة المتبادلة بين المادة، والحياة، والعقل، أخذت تتجلى لك عند ذلك جزئية العلوم المختلفة، التي تتناول البحث فيها، وتبين لك عجز كل واحد منها عن أن يجيب وحده عن سؤالك هذا إجابة شافية.

والواقع، أن العلوم الطبيعية المختلفة، مثلها مثل الجوارح العديدة تنقض على جسم الطبيعة الميت، فيذهب كل منها بقطعة منه، والطبيعة من حيث هي موضوع للعلم أمر عملت فيه الصنعة إلى حد بعيد، صنعة نشأت عن عملية الانتقاء التي لا بد للعلم من أن يخضع الطبيعة لها. حتى تتحقق له الإجادة والتدقيق.

"وعندما نضع موضوع "العلم" في مجموع التجربة الإنسانية، يشرع يتكشف لك عن طبيعة مختلفة، ومن ثم، فإن الدين -وهو ينشد الحقيقة بوصفها كلا لا يتجزأ لهذا- يجب أن يتخذ له مكانا مركزيا في أي تركيب من موضوعات التجارب الإنسانية جمعاء لم يكن ليخشى أي رأي من الآراء الجزئية عن الحقيقة

والعلوم الطبيعية جزئية بطبيعتها، فإذا كان لها أن تظل أمينة لطبيعتها ووظيفتها، فإنها لا تستطيع أن تقيم نظريتها على اعتبار أنها رأي كامل عن الحقيقة، وعلى هذا فإن الأفكار التي تستخدمها في تنظيم المعرفة، جزئية بطبعها، وتطبيقها اعتباري بالنسبة لمستوى التجربة التي تستخدمها فيه"1.

وإذا كان الدين هو السبيل إلى معرفة "الذات الكلية"، فالعبادة فيه -وعلى وجه أخص "الصلاة"- هي المدخل، في نظر "إقبال" إلى إدراك تلك الذات الكلية إدراكا قريبا

- فالدين لا يقنع بمجرد الإدراك، بل يبحث عن علم أوثق، وعن اتصال أكد بموضوع علمه

1 المصدر السابق: ص52.

ص: 366

- والعبادة، أو الصلاة، التي تختم بالهداية الروحانية -وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر- هي الوسيلة لتحقيق هذا الاتصال"1.

فالصلاة التي تستهدف المعرفة تشبه التأمل؛ ومع ذلك فالصلاة في أسمى مراتبها تزيد كثيرا على التأمل المجرد. وهي كالتأمل أيضا في أنها فعل من أفعال التمثيل، ولكن التمثيل في حالة الصلاة يتجمع مترابطا، فيحصل بذلك على قوة، لا يعرفها التفكير المجرد. فالعقل في تفكيره يلاحظ فعل الحقيقة، ويتقصى آثاره، لكنه في الصلاة يتخلى عن سيرته بوصفه باحثا عن العموميات البطيئة الخطوة، ويسمو فوق التفكير ليحصل الحقيقة ذاتها، لكي يصبح شريكا في حياتها شاعرا بها.. وليس في هذا شيء من الخفاء، فالصلاة من حيث هي وسيلة للهداية الروحانية فعل حيوي عادي، تكشف به فجأة شخصيتنا، التي تشبه جزيرة صغيرة، مكانها في الوجود الخضم الأكبر للحياة

والواقع، هو: أن الصلاة يجب أن ينظر إليها على أنها تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمل في الطبيعة، وملاحظة الطبيعة ملاحظة علمية تجعلنا على اتصال وثيق بسلوك الحقيقة، فنشحذ بذلك إدراكنا الباطني لشهود الحقيقة شهودا أوفى وأعمق2.

"فالصلاة إذن، سواء في ذلك صلاة الفرد أو صلاة الجماعة، هي تعبير عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف

وهي فعل فريد من أفعال الاستكشاف، تؤكد به الذات الباحثة وجودها في نفس اللحظة التي تنكر فيها ذاتها، فتتبين قدر نفسها ومبررات وجودها بوصفها عاملا محركا في حياة الكون، وصور العبادة في الإسلام، في صدق انطباقها على سيكلوجية المنزع العقلي، ترمز إلى إثبات الذات وإنكارها معا"3.

- والدين إذن -والعبادة منه بوجه خاص، ورياضة الصوفي في صلاته على وجه أخص- مصدر ضروري لمعرفة الإنسان، ولوقوفه على

1 المصدر السابق: ص103.

2 المصدر السابق: ص104، 105.

3 المصدر السابق: ص107.

ص: 367

الوجود؛ على ما فيه من جزئيات، وعلى ما له من أصل عام وهو "الحقيقة الكلية".

- والدين إذن مكمل لتجربة الحس

ولمصدر آخر ثالث من مصادر المعرفة الإنسانية، وهو التاريخ.

- وكل هذه المصادر الثلاثة جاء بها القرآن الكريم.

فما يذكره القرآن

من الشمس، والقمر، وامتداد الظل واختلاف الليل والنهار، إمارة على طلب التجربة الحسية.

وما يذكره من اختلاف الألسنة والألوان، وتداول الأيام بين الناس هو طلب استخدام التاريخ في الكشف عن الحقيقة.

والآن -فيما أرى- قد اكتملت عناصر النظرة إلى "الوجود" عند "إقبال".

وبضم بعض هذه العناصر إلى بعض، تحس أنه يقصد إلى تعديل مفاهيم الفكر الصوفي الإسلامي، أو إلى تعديل المذهب الواقعي الغربي.

ولنا أن نعتبر نظرته هذه نوعا من المكافحة لسلبية التواكل في الجماعة الإسلامية، التي تسربت إثر خطأ في تصور بعض المبادئ الإسلامية.

وكذلك مكافحة لنزعة المذاهب الواقعية الغربية الإلحادية، التي جاءت إثر الغلو في تقدير الحس والحواس، والتجارب المشاهدة.

2-

الإسلام في توجيه الإنسان:

يرى "إقبال" أن الوجود كله عبارة عن ثلاث وحدات:

- "الذات الكلية" وهي "الله".

- و"الذات الفردية" وهي الإنسان.

- وعالم الواقع، وهو عالم الطبيعة.

ص: 368

أما الذات الكلية فتتجلى فيها عداها، وما عداها ليس غيرها ولا منفصلا عنها، وإنما هو مظهرها.

وأما الذات الفردية، فلا تلغي نفسها فيما عداها من الذات الكلية ولا تنتهي حركتها في هذا العالم الطبيعي.

وأما هذا العالم الطبيعي: فهو دائم التجدد، وهو ليس مادة جامدة وإنما هو تركيب من أحداث متتالية مستمرة في تتابعها، ومعنى هذا كله أنه ليس هناك شيء ثابت في الوجود: هناك حركة، وتجدد واستمرار.

وإذا كان الإنسان كذات فردية، مع العالم الطبيعي كتركيب من أحداث متعاقبة -هما مظهرا التجلي للذات الكلية- فالصلة بين الذات الفردية والعالم الطبيعي، هي الصلة بين شيئين متناسقين: عالم ينتقل من حادث إلى حادث، ومن حال إلى حال

عالم متغير ومتطور، وفيه إنسان يتابع بحركته وبسيره تغير العالم وتطوره.

مبدآن أو ظاهرتان:

- تغير العالم

- وحركة الإنسان

هاتان هما الخصيصتان اللتان يستدل منهما على تجلي الذات الكلية في عالم الطبيعة أو في العالم الواقعي.. وهما الأمارتان على استمرار الخلق لهذه الذات الكلية.

هذا ما وصل إليه "إقبال" في نظرته إلى الوجود

وهو في نظرته إليه لا يدعي أنه حر فيها.. وإنما ذكر أنه يستوحيها من الإسلام، ولذا هو يريد الآن أن يوضح من الإسلام هذين المبدأين: مبدأ تغير العالم، ومبدأ حركة الإنسان ومتابعته لهذا التغير في العالم.

وبذلك يكون الإسلام مصدر "معرفة" وتوجيه" معا

يضع أمام الإنسان خطوط الوجود أو خطوط الحياة، ويقدم له في الوقت نفسه المنهج الذي يلتئم مع هذه الخطوط.

ص: 369

وما في حياة الإنسان من "دين" و"علم" وما للإنسان من "حواس" و"إدراك" وما لجماعته من "تاريخ"

هو مجموعة متناسقة من طرق المعرفة تنتهي إلى غاية واحدة هي سعادة الإنسان.

مبدأ التغير في العالم الطبيعي:

وتغير العالم في نظر "إقبال" هو وسيلة زيادته ونموه: إذ العالم حقيقة لم تقع كلها، بل في سبيل وقوعها

"والرأي عندي، أنه ليس أكثر بعدا عن نظرة القرآن من القول بأن العالم تنفيذ في سياق الزمان لخطة سبق وضعها

فالعالم في نظر القرآن -كما بينت من قبل- قابل للزيادة

هو عالم ينمو، وليس صنعا مكتملا خرج من يد صانعه منذ حقب بعيدة، وهو الآن ممتد في الفضاء أشبه ما يكون بكتلة ميتة من المادة لا يفعل فيها الزمان شيئا، من أجل ذلك ليست شيئا"1.

وهذا التغير نفسه، يحملنا على أن نلائم بين أنفسنا وبين مقتضيات هذا التغير، ويثير فينا قوة الدفع للتغلب على ما يجد من ظروف جديدة.

"ويرى القرآن أن العالم له غايات جدية: فتطوراته المتغيرة تحمل حياتنا على التشكل بصور جديدة، والجهد العقلي الذي نبذله للتغلب على ما يقيمه العالم من عقبات في سبيلنا، يشحذ بصيرتنا، فيهيؤنا للتعمق فيما دق من نواحي التجربة الإنسانية الأخرى فضلا عن أن يمد في آفاق الحياة ويزيدها خصبا وغنى"2.

ويستند "إقبال" في الحكم على تغير العالم الطبيعي من وجهة نظر الإسلام إلى مثل هذه الآيات القرآنية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 4.

1 المصدر السابق: ص66.

2 المصدر السابق: ص21، 22.

3 الفرقان: 45، 46.

4 الغاشية: 17-20.

ص: 370

المجتمع الإنساني:

أما المجتمع الإنساني، فلا يسير على التغير المطلق، وإنما يستند إلى بعض المبادئ العامة التي توازن ما يحدث فيه من تغيرات.

فعقدة "التوحيد" في الإسلام، مع أنها ترمي إلى صيرورة المجتمعات المختلفة في الهدف إلى عالم واحد يتخذ شعاره: عبادة الحق، والولاء للذات الإلهية.

ومع إن كتاب الإسلام المقدس بما له من نظرة يعتبر بها الكون متغيرا ولا يكون خصما لفكرة التطور.

مع هذا كله

فإنه ينبغي أن لا ننسى أن الوجود ليس تغيرا صرفا فحسب ولكنه أيضا ينطوي على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم، فالإنسان في الوقت الذي يستمتع فيه بنشاط الخالق، ويركز جهوده باستمرار في كشف مسالك جديدة للحياة، يحس بالقلق عندما ينكشف له ما في ذات نفسه، ولا مفر له في خطوه إلى الأمام من أن يرجع البصر إلى ماضيه، وهو يواجه نماءه الروحي في شيء من الخوف، وروح الإنسان يعوقها في سيرها قدما قوى يظهر أنها تعمل في الاتجاه المضاد. وما هذا إلا ضرب من القول بأن الحياة تتحرك وهي تحمل على عاتقها أثقال ماضيها، وأنه في أي تغير اجتماعي لا يمكن أن يغيب عن النظر ما لقوى التمسك بالقديم من قيمة وعمل.

وبهذه النظرة الجوهرية في التعاليم الأساسية للقرآن، ينبغي للمذهب العقلي الحديث أن يتناول بالبحث نظمنا القائمة، فليس في استطاعة أمة أن تتنكر لماضيها تنكرا تمام؛ لأن الماضي هو الذي كيف شخصيتها الحاضرة، وفيما يتعلق بمجتمع كالمجتمع الإسلامي، تصبح إعادة النظر في النظم القديمة أكثر دقة وحرجا، كما تصبح التبعات التي يضطلع بها المصلح موجبة عليه أن ينظر إلى الأمور نظرة جدية، وأن يزن ما لها من خطر1.

وذلك لأن المجتمع -في نظر "إقبال"- ليس ماديا كما تراه الماركسية فتخضعه للتغير المطلق، وتخضع ما فيه من قيم لمبدأ التطور الانقلابي.

وإنما أساسه "الروح" وليس "الاقتصاد" والورح تنمو دون أن تنسى

1 المصدر السابق: 191، 192.

ص: 371

ماضيها أو في ظل ماضيها والاقتصاد يتطور على حساب الانقلاب في مباشرة الإشراف عليه.

"والإسلام بوصفه نظاما وجدانيا يقول بوحدة الكلمة، ويدرك قيمة الفرد من حيث هو فرد. ويرفض اعتبار قرابة الدم أساسا لوحدة الإنسانية فقرابة الدم أصلها مادي مرتبط بالأرض، ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة الإنسانية إلا إذا أدركنا أن الحياة الإنسانية جميعا روحية في أصلها ومنشئها

ومثل هذا ينشيء صنوفا جديدة من الولاء من عبر شعائر تحفظ عليها الحياة، كما أنه ييسر للإنسان أن يحرر نفسه من أسر الروابط المادية، والمسيحية التي ظهرت في الأرض في صورة نظام من الترهب، حاول "قسطنطين"1 أن يتخذ منها نظاما لتوحيد الكلمة بين الناس، وقد حمل إخفاقها في تحقيق هذه الغاية، جوليان"2 على الارتداد إلى عبادة روما القديمة، محاولا أن يضع لها تأويلات فلسفية

وتجد الثقافة الجديدة في مبدأ التوحيد "في الوحي النبوي المحمدي" أساسا لوحدة العالم كله.

"والإسلام بوصفه دستورا سياسيا، ليس إلا أداة علمية لجعل هذا المبدأ عاملا حيا في حياة البشر العقلية والوجدانية، فهو يتطلب الطاعة والإخلاص لله لا للعروش والتيجان. وإذا كانت الذات الإلهية هي الأصل الروحي الأول لكل حياة فإخلاص الإنسان لله إنما يكون بمثابة إخلاصه لطبيعته المثالية الخاصة. والمبدأ الروحي الأول لكل حياة "وهو الذات الإلهية" كما يصوره الإسلام، هو مبدأ أبدي، يرينا الآيات الدالة عليه في التنوع والتغير، والمجتمع الذي يقوم على تصور الحق على مثل هذا الوجه، لا بد له من أن يوفق في وجوده بين مراتب الدوام والتغير.

- فلا بد أن يكون له مبادئ أبدية تنظم حياته الجماعية وتضبط أموره؛ وذلك لأن الأبدي الخالد يثبت أقدامنا في عالم التغير المستمر.

- ولكن إذا فهمنا أن المبادئ الأبدية تستبعد كل إمكان للتغير -والتغير في نظر القرآن آية من الآيات الكبرى على الذات الإلهية- فإن هذا الفهم يجعلنا ننزع إلى تثبيت ما هو -أساسيا- متغير في طبيعته.

1 قسطنطين الأول عام 337م.

2 عام 361: 362م.

ص: 372

وإخفاق أوروبا في علم السياسة والاجتماع، مثل يوضح المبدأ الأول:"وهو عدم اتخاذ مبادئ ثابتة لتنظيم الجماعة".

وركود المسلمين في القرون الأخيرة مثل يوضح المبدأ الثاني:

"وهو الميل بالمبادئ الثابتة في الجماعة إلى تثبيت ما هو بطبيعته متغير"1.

مبدأ الحركة في الإسلام:

ويقصد "إقبال" بمبدأ الحركة في الإسلام، ما في الإسلام من عوامل يواجه بها الإنسان تغير العالم وتطوره، وهي في ذاتها مبادئ ثابتة، ولكن يتخذ منها الإنسان عدته لملاءمة نفسه وأحوال التغيرات المتتابعة في عالمه المادي الواقعي، والإنسان هنا: هو الفرد والجماعة على السواء، والإسلام بالنسبة لهما حقيقة واحدة، وليس هنا إذن في الإسلام دين ودولة.

"والحقيقة في نظر الإسلام هي بعينها، تبدو دينا إذا نظرنا إليها من ناحية، وتبدو دولة إذا نظرنا إليها من ناحية أخرى، وليس صحيحا أن يقال: إن الدين والدولة جانبان أو وجهان لشيء واحد، فالإسلام حقيقة مفردة "غير مركبة" لا تقبل التحليل، وهو يبدو في صورة أخرى بحسب اختلاف نظرك إليه.

وهذا الأمر بعيد الأثر، وتوضيحه توضيحها وافيا يزج بنا في بحث فلسفي عميق، وحسبنا أن نقول: إن هذا الخطأ القديم "وهو الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية" نشأ عن تفريع وحدة الإنسان إلى حقيقتين منفصلتين متمايزتين، تتصل إحداهما بالأخرى على وجه ما، ولكنهما أساسيا متضادان، والحق هو:

- أن المادة: هي الروح، مضافة إلى الزمان المكاني.

1 المصدر السابق: ملخص من صفحات 168، 169، 170.

ص: 373

- والوحدة التي نسميها الإنسان هي: جسم إذا نظرت إلى عملها بالنسبة لما نسميه العالم الخارجي. وهي عقل أو نفس إذا نظرت إلى عملها باعتبار ما له من غاية، وإلى المثل الأعلى الذي يستهدفه هذا العمل1.

ويزيد إقبال في شرح "وحدة" الحقيقة الإسلامية في جوهرها وحقيقتها. وفي أن النظر الإنساني هو الذي يجعلها ذات اعتبارين فيقول:

"وروح "التوحيد" بوصفه فكرة قابلة للتنفيذ هو. المساواة. والاتحاد. والحرية. والدولة في نظر الإسلام هي: محاولة تبذل بقصد تمويل هذه المبادئ المثالية إلى قوى مكانية زمانية؛ هي إلهام لتحقيق هذه المبادئ في نظام إنساني معين. والدولة في الإسلام، ليست ثيوقراطية -أي: دينية- إلا بهذا المعنى وحده، لا بمعنى: أن على رأسها خليفة لله على الأرض، يستطيع دائما أن يستر إرادته المستبدة وراء عصمته المزعومة. وقد غاب هذا الاعتبار عن أنظار نقاد المسلمين.

"فالحقيقة القصوى في نظر القرآن روحية، ووجودها يتحقق في نظامها الدنيوي، والروح تجد فرصتها في الطبيعي، والمادي، والدنيوي. فكل ما هو دنيوي إذن هو طاهر وديني في جذور وجوده. وأعظم خدمة أداها التفكير العصري إلى الإسلام، بل في حقيقة الأمر إلى كل دين، هي تمحيص ما نسميه ماديا أو طبيعيا تمحيصا أظهر أن المادي فحسب لا يكون له حقيقة، إلى أن نكشف عن أصلها متأصلا فيما هو روحاني، فليس ثمة دنيا دنسة، وكل هذه الكثرة من الكائنات المادية إنما هي مجال تحقق الروح وجودها فيه فالكل أرض طهور

فالدولة في نظر الإسلام، ليست إلا محاولة لتحقيق الروحانية في بناء المجتمع الإنساني، وإلا بهذا المعنى تكون كل دولة ليست مؤسسة على مجرد السيادة والسلطان، بل تهدف إلى تحقيق المبادئ المثالية، دولة ثيوقراطية"2.

ويرجع إقبال فكرة الفصل بين الدين والدولة، التي شاعت في المجتمع الإسلامي، إلى تاريخ النظريات السياسية الأوروبية.

1 المصدر السابق: ص277.

2 المصدر السابق: ص187.

ص: 374

"فالمسيحية البدائية لم تقم كوحدة سياسية أو مدنية، وإنما كانت نظاما من الرهبنة في عالم غير طهور، لا تحفل بأمور الدنيا، وتدين للسلطة الرومانية بالطاعة في كل أمر تقريبا، وكان من نتيجة هذا أن الدولة عندما أصبحت مسيحية وقفت هي والكنيسة موقف التعارض، بوصفهما قوتين متمايزتين، شجر بينهما الخلاف على تنازع الاختصاص، ودبت لذلك خصومات لا حد لها.

ومثل هذا لم يكن من الممكن أن يقع في الإسلام؛ لأن الإسلام كان من أول الأمر مجتمعا مدنيا عني بشئون االدنيا، وأخذ عن القرآن طائفة من المبادئ التشريعية البسيطة -كالألواح الاثنى عشر في التشريع الروماني- انطوت كما أسفرت التجارب، على إمكانيات عظيمة للتوسع والتطور، عن طريق التأويل والتفسير. وعلى هذا، فالنظرية التي تقول بقومية الدولة، تجرنا إلى الخطأ من حيث إنها تفرض "ثنائية" لا وجود لها في الإسلام"1.

ويذكر إقبال: أن "ناومان""Naumann" -في كتابه: "رسائل عن الدين" Briefe uber Religion- يشاركه في هذا الرأي في المسيحية، ويعلل إذا كان هناك في الحياة الأوروبية المسيحية فصل بين الدين والدولة على هذا النحو:

"إن المسيحية البدائية لم تجعل قيمة ما لحفظ كيان الدولة، ولم تحفل بالتشريع والإنتاج؛ بل إنها لم تفكر في أحوال المجتمع الإنساني قط

ومن ثم فإما أن نتجه إلى أن نكون من غير حكومة، فنلقي بأنفسنا بين براثن الفوضى معتمدين، وإما أن نقرر أن تكون لنا عقيدة سياسية إلى جانب عقيدتنا الدينية"2.

والإسلام كوحدة روحية مثالية لها مظهر خارجي واقعي أو مادي، يتضمن -في نظر "إقبال"- مبدأين أساسيين في معاونة الفرد والمجتمع على مسايرة التغير الحادث في العالم الواقعي، وهما:

- ختم الرسالة الإلهية.

- والاجتهاد في الأحكام.

1 المصدر السابق: ص179.

2 المصدر السابق: ص191.

ص: 375

ختم الرسالة المحمدية:

أما عقيدة أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فتحمل معها أمرين:

- انتهاء الوصاية على الإنسان في قيادته

وليس معنى ذلك إحلال العقل محل الرسالة، بل معناه أن وقت خوارق العادات قد انتهى أمره، وأن على الإنسان أن يحصل

كمال معرفته بوسائله الخاصة.

- والأمر الثاني: إبعاد ظهور الفكرة المجوسية، وهي فكرة الترقب لظهور أبناء "زرادشت" الذين لم يولدوا بعد، والحيلولة دون ظهورها في المجتمع الإسلامي، وقد تأثرت المسيحية بهذه الفكرة، عندما اعتقدت بـ"ظهور المسيح".

وشأن الإيمان بهذين الأمرين: ترك الحرية للإنسان في سيطرته على الطبيعة ومعرفته بها، وإبعاده عن مجال التبعية لغيره، أو دفعه إلى العمل دون انتظار مخلص له، أو معين آخر يعينه.

"إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه. وأن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد

في النهاية على وسائله هو. وأن إبطال الإسلام للرهبنة، ووراثة الملك، ومناشدة

القرآن للعقل والتجربة على الدوام، وإصراره على أن النظر في الكون والوقوف

على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية

كل ذلك صور مختلفة لفكرة

انتهاء النبوة"1.

"وفي هذا المقام يخفق "اشبنجلر" -كما يقول: "إقبال"- في تقدير ما لفكرة ختم النبوة في الإسلام من قيمة ثقافية

هذا إلى أنه مما لا شك فيه أن أهم خصائص الثقافة المجوسية "تبدو" في نزعة الترقب الدائم، والتطلع الدائب لظهور أبناء "زرادشت" الذين لم يولدوا بعد، أو ظهور المسيح المنتظر، أو المعزى الذي قال به الإنجيل الرابع2

ولقد

1 المصدر السابق: ص144.

2 إنجيل يوحنا، الفصل الرابع عشر آية 16.

ص: 376

سار ابن خلدون على هدى من نظرته إلى التاريخ، فأفاض في نقده، وقضى -فيما اعتقد- قضاء نهائيا، على الأساس المزعوم لفكرة ظهور مخلص في الإسلام، وهي فكرة شبيهة في آثارها السيكولوجية بالفكرة المجوسية الأصلية، التي كانت قد ظهرت في الإسلام، تحت تأثير الفكر المجوسي"1.

الاجتهاد:

والمبدأ الثاني: في معاونة المسلم -من إسلامه، لا من مصدر أجنبي عنه- ليتابع تطور العالم وتغييره هو: مبدأ الاجتهاد، وفي حديث "إقبال" عن الاجتهاد يوضح إمكان وقوعه الآن، أكثر من التدليل على وجوده أو غايته، فذلك أمر بدهي.

"ولا ريب عندي في أن التعمق في درس كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد لا بد أن يجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي الذي يقول بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور. ومن سوء الحظ أن جمهور المسلمين المتمسكين بالقديم في بلدنا هذا، لم يستكملوا الأهلية بعد لدرس الفقه دراسة نقدية. ومن المرجح أن مثل هذه الدراسة إذا حدثت، تسيء معظم الناس وتثير خلافات مذهبية، على أنني سأغامر بإبداء بعض الملاحظات عن النقطة التي نبحثها الآن:

- فأولا: ينبغي أن نذكر منذ ظهور الإسلام إلى قيام الدولة العباسية تقريبا، لم يكن قد دون من شرائع الإسلام سوى القرآن.

- ثانيا: مما هو جدير بالملاحظة أنه منذ حوالي منتصف القرن الرابع الهجري ظهر ما لا يقل عن تسع عشرة مدرسة من مدارس الفقه والرأي الشرعي في الإسلام، وهذه الحقيقة وحدها كافية في بيان مقدار ما بذل فقهاؤنا المتقدمون من جهد موصول لمواجهة ما تستلزمه حضارة نامية. وكان لا بد لهؤلاء الأصوليين -مع امتداد الفتح، وما نشأ عنه من اتساع نظرة الإسلام- من أن يصطنعوا رأيا في الأمور أكثر رحابة، وأن يدرسوا الظروف المحلية للحياة وعادات الشعوب الجديدة التي

1 المصدر السابق: ص166، 167، والفكرة التي ظهرت في الإسلام تحت تأثير المجوسية، ويشير إليها ابن خلدون، فكرة "المهدي" المنتظر.

ص: 377

دخلت في حظيرة الإسلام. والدرس الدقيق لمدارس الرأي الفقهي على اختلافها، في ضوء التاريخ السياسي والاجتماعي المعاصرين، يكشف عن أن المشرعين تحولوا شيئا فشيئا عن طريقة الاستنباط في تأويلهم إلى طريقة الاستقراء.

- ثالثا: عندما ندرس أصول الفقه الإسلامي الأربعة المتفق عليها، وما ثار حولها من خلاف، فإن ذلك الجمود المزعوم عن مذاهبنا المعترف بها يتبخر، ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد"1.

والآن....

إذا كانت عقيدة ختم الرسالة حافزة للإنسان المعتقد بها على "عدم الانتظار" والترقب، والبدء بعمل الإنسان كإنسان -وهو العمل الفكري- فإن مبدأ الاجتهاد يدفع الإنسان للتفكير، خاصة في مجال التعاليم الدينية، وإخضاع أحداث الحياة المتجددة، المستمرة في التجدد، وتكييفها بكيفية إسلامية.

محمد إقبال

فيما أرى:

لم تكن لنا حرية التصرف، عند عرض آراء "إقبال" فيما وضعه في دائرة ما سماه: بـ"تجديد الفكر الديني في الإسلام" في التعليق على هذه الآراء، سوى شرح ما غمض منها، والربط بين بعضها بعضا، وتمايز الفكر الرئيسية منها، وقد وجدنا هذه الفكرة الرئيسية تكاد تنحصر في:

- تقدير العالم الطبيعي.

- والاعتداد بالفرد الإنساني.

- وتأكيد عنصر الروحانية في حياة الإنسان.

أ- قد يقال: إن "إقبال" قرأ لـ"أوجست كومت" وتأثر بمذهبه الوضعي، فعنى بالعالم الواقعي، وبتخريج الإسلام على أنه يدعو إلى "التجربة" الحسية والتجربة في خصائصها العامة، وعلى أنه يحض المسلم على التماس السيطرة وتسخير الطبيعة عن طريق التجربة، فهي تجربي واقعي.

1 المصدر السابق: ص129.

ص: 378

وقد يقال: إن قرأ لـ"هيجل" وتأثر برأيه في: "أنا" وقرأ لـ"نيتشه" ومال إلى مذهبه في "السوبرمان" وهو رمز القوة والاعتداد بها، فنادى بالفردية، وقوم الإنسان كفرد، وجعله وحدة الحياة الإنسانية وأصل الجماعة وخالقها.

ثم قرأ لـ"فيشته" ما يراه في "التاريخ البشري" من أن عظماء الأفراد هم الذين يكونون التاريخ وليست أحداث الحياة، وبالأخص المادي منها، فقال بما يقول به "فيشته" في تاريخ الجماعة ودور الفرد في تكوين هذا التاريخ.

وقد يقال: إنه صوفي ينزع إلى "وحدة الوجود" ويفضل الرياضة الصوفية كطريق لصفاء النفس، أو كوسيلة للوصول إلى الذات العليا والقرب منها فقال هنا بعدم "التغاير" المطلق، أو عدم "الانفصالية" الواضحة في الوجود فليس الله "غيرا" لما عداه على الإطلاق، وليس الإنسان "غيرا" لعالمه الخارجي على الإطلاق، وليست الروحية في الحقيقة الإسلامية غيرا لمظهرها الدنيوي على الإطلاق، وبالتالي ليس الإيمان مغايرا للإسلام.

قد يقال هذا كله، أو بعضه

والذي لا شك فيه أن "إقبال" درس الفكر الغربي دراسة واسعة، وهضمه واستفاد من منهجه، وتعبيراته، ومصطلحاته

والذي لا شك فيه أيضا أن "إقبال" كان صوفيا، وكان يقدر الرياضة الصوفية

ليس فقط لصفاء النفس والروح، وإنما أيضا للوصول إلى المعرفة "الكلية"

ولكن مع ذلك ليس ما يذكره "إقبال" هنا، هو ترديدا للفكر الغربي

أو أثرا للصوفية.. أو مزاوجة بين الفكر الغربي والصوفية في الإسلام معا.

إن "إقبال" بالأحرى رأى ضعفا في المسلمين كأفراد وكجماعة، ورأى ركودا في أفهام المسلمين للإسلام، ورأى عزوفا من المسلمين -وبالأخص في الهند- عن حياة الواقع والحس

رأى إنسان سلبيا في كل جانب. ورأى مع في إسلامه دينا إيجابيا في كل جانب

رأى من جانب إنسانا لا يصلح لهذه الحياة، ورأى من جانب آخر دينا هو لهذه الحياة والحياة الأخرى معا.

ص: 379

فإن دفع "إقبال" هذا الإنسان السلبي الضعيف للعمل في الحياة، فليدفعه بقوة، وليجعل الدافع له قوته الذاتية

قوته الفردية التي يستمدها من ذاته هو، فهي قوة بنائية، قوة خالقة دافعة

لا يضعف هذه القوة الذاتية فيه أثر من آثار الجماعة؛ إذ هو منشئ الجماعة.

وعندئذ يبدو "إقبال" في جانب الفرد -أو في جانب الذاتية الفردية- أنه تأثر بـ"هيجل" في فكرته التي تقوم على "أنا" وبـ"نيتشه" في فكرته التي تقوم على تمجيد القوة، وقوة الفرد وحدها، وبـ"فيشته" في فكرته في استناد الجماعة إلى الفرد وعمله".

- ولكن "إقبال" في ذلك كله لم يكن إلا مسلما أولا

- ومفكرا غربيا في الصياغة والمنهج ثانيا.

إن الذاتية الفردية في الإسلام لها قيمتها ولها استقلالها، ولم تذهب في علاقة ما، ولا تفنى بحال فيما سوها: فلا الأسرة، ولا الجماعة، ولا الدولة بطاغية -في نظر الإسلام- على هذه الذاتية ولا على استقلالها، بل إن علاقة ذات بأخرى في نظر الإسلام، هي تنظيم للصلة بينهما، وليست لمحو الفوارق والخصائص والحقوق الفردية التي لكل واحد منهما، ولا يمحو قيام الأسر ملكية الذات الفردية، ولا حقها في التعبير عن الرأي، وحقها في الاعتقاد، ولا يمحو قيام الدولة حق نقد الفرد للدولة وحق مخالفتها، إن كانت هناك الملابسات التي حددها الإسلام لنقد الجماعة ومخالفتها.

إن الجماعة في الإسلام، هي في واقع أمرها وحدات ذات صلة بعضها ببعض وقوة الجماعة في قوة وحداتها وأفرادها، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.

إن القرآن إن تحدث عن الجماعة، تحدث عن المؤمنين كأفراج تربطهم رابطة الإيمان بالإسلام

فـ"أنا" الذي يبدو عند "إقبال" هو في الإسلام أولا، و"قوة" الفرد وقوة ذاتيته التي يؤكدها "إقبال" هي قوة المؤمن في الإسلام أولا، وتكوين الفرد للجماعة وللتاريخ معا، هو نظرة الإسلام إلى الفرد أولا.

ثم صحبت كل هذه الآراء الإسلامية الصياغة الفلسفية الغربية.

ص: 380

ب- وإن تحدث "إقبال" عن عالم الطبيعة، وخفف من "شريته" و"نجسه" أو حاول أن يرفع منه الشر والنجس، ويجعله مجالا طاهرا للحركة والسير

ويطلب إلى المسلم، أن يسيطر عليه في كشفه والوقوف عليه والإفادة منه، فإنه يفعل ذلك ليقضى على تهيب هذا المسلم وخوفه من الحياة؛ ليزيل من نفسه صورة "الفرار" التي تركتها الصوفية الإشراقية أو العجمية في الفكر الإسلامي، كما يقول "إقبال".

إنه لا يطلب من المسلم أن يقتحم الطبيعة في كشفها ويسيطر عليها ويفيد منها إلا بدافع من الإسهام، لا بدافع من فلسفة "كومت"

إنه إذ يصور الطبيعة للإنسان المسلم على أنها "تجلي الله" أي: على أنها ليست مادة ميتة، بل هي تتابع من أحداث الخلق، يستوحى في هذا التصوير كتاب الإسلام قبل كل شيء. فإنه لا يطلب من المسلم عن طريق "التجربة" أن يفر ويسكن في جزئيات الطبيعة

إنه يطلب منه عن طريق التجربة أيضا، أن يصعد إلى "الذات الكلية". وبذلك يربط بين أصل الوجود من جانب، ومظهره من جانب آخر، أو يربط بين الحقيقة الكلية وتجليها

إنه في ذلك يتبع كتاب الإسلام إذ يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.

فالقرآن إذ ينهى الإنسان عن قصد الفساد في الأرض، يعتبر الطبيعة ليست فسادا في ذاتها.

وإذا ينصحه بالمشاركة في الدنيا وأخذ حظه منها، يعتبرها مجالا لنشاطه وحيويته

وإذ يذكره في الوقت نفسه بالدار الآخرة، وبأن هذا التوجيه جميعه من الله جل شأنه: فذلك لكي يكون على علم بحقيقة الوجود كله، حتى لا تقلق نفسه من أجل المال وحده، وتكافح في سبيله خاصة.

جـ- وإن لجأ "إقبال" إلى "وحدة" الوجود، فلا يلجأ إلى فكرة "اتحاد" الوجود القائمة على "فناء" وذهاب الفردية والذاتية للإنسان في "الحقيقة الكلية":

1 القصص: 77.

ص: 381

يلجأ لوحدة الوجود ليدفع فقط المسلم السلبي المعاصر إلى أن يمارس نشاطه في الحياة في قوة واطمئنان، إذ إن وحدة الوجود في نظره هي "عدم المغايرة" التامة بين الله والعالم الطبيعي؛ وبذلك يرفع في تصور المسلم "ثنائية" الاعتبار في الوجود، التي ترتبت عليها نظرية الكراهية والتوجس إلى عالم الواقع والطبيعة؛ أي: إلى عالم الدنيا

لقد أراد "إقبال" بوحدة الوجود المزاوجة بين الروحية والواقعية، وأرا بها في عالم الإنسان المزاوجة بين الدين والدولة، فالفصل -في نظره- بين الله وعالم الطبيعة هو الفصل بعينه بين الدين والدولة في عالم الإنسان، والفصل هنا وهناك بعيد عن الإسلام؛ لأن الحقيقة في الإسلام واحدة، إن نظرت إلى أصلها كانت الله والروحانية، وإن نظرت إلى مظهرها كانت العالم المادي الواقعي، وتحقق الروحانية هو تحقق العالم ووقوعه. وكذلك تعاليم الإسلام، هي روحانية ودين طالما لم تخرج إلى نطاق التنفيذ العملي في الحياة، وهي دولة وحكومة في تنفيذها فالدولة في الإسلام هي الصورة التنفيذية للروحانية الدينية فيه.

وإقبال أراد بتجديد الفكر الديني في الإسلام، أن يعيد "التوازن" الذي هو رسالة الإسلام

كانت هناك -فيما صور به الإسلام- نفرة بين الحياة الطبيعية والعمل فيها. وكان بجانب النفرة تواكل وتراخ من الإنسان، فعلى الإنسان المسلم الآن أن يعتبر الحياة متنفس نشاطه، وعلى الإنسان المسلم الآن أن يعمل فيها. وسعادته في اعتبار الحياة متنفس نشاطه والعمل فيها تبعا لذلك.. ولكن لا على أن ينتقل مما هو فيه ليقر فيما يطلب إليه وحده، فلا يتحرك بمعرفته وراء حدود الطبيعة التي يمارس الآن نشاطه فيها، بل يجب عليه -كما يعرف هذه الطبيعة- أن يعرف أصلها الذي خرجت عنه، وهو الله أو الذات الكلية.

نعم، يلاحظ على تفكير "إقبال":

- أنه في محاولته شرح استمرار العالم، أو شرح خلوده وبقائه، يرتفع في هذا الشرح عن المستوى الديني الذي يصوره الإسلام نفسه، وبذلك يبعد في تفسير النصوص التي استعان بها عن مدلولاتها الطبيعية التي تلائم هذا المستوى

ص: 382

فإذا جعل "البعث" فترة "لجرد البضائع" وربط "الدار الآخرة" بـ"الدار الدنيا" في حياة الإنسان، على أن "الآخرة" مرحلة استئناف لنشاط الإنسان في "الدنيا" فإنه يثير تساؤلا عن "التكليف" من قبل الشرع ومدته أهو في الدنيا والآخرة معا؟

وتفسيره الخلود في النار عندئذ في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} 1 بأن حقبة وفترة ما، يعطي بعدها الإنسان فترة أخرى "للبقاء" أي: للعمل الذي يدعو لبقاء الإنسان وخلوده، يرشح أن الإنسان في نظر "إقبال" مكلف في الدارين معا، وأن تكليفه من قبل الشرع مستمر هنا وهناك

وبهذا تكون "الدنيا" والآخرة سواء في طبيعتهما وفي الهدف منهما.

ولكن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها دار ابتلاء وامتحان، وينظر إلى الآخرة على أنها دار قرار وسكون، أي: دار ينقطع فيها الامتحان والاختبار، يقول الله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 2 ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 3.. فالدنيا وحدها هي دار "الفرصة" للعمل، وبموت الإنسان تذهب منه هذه الفرصة، كما يوحي ظاهر هذا النص، وهذا الظاهر هو الذي يلائم المستوى الديني، أو هو الذي يلائم طبيعة الدين كرسالة سماوية، جاءت محددة وقت العمل للإنسان. ومحددة أيضا اختيار اتجاه الإنسان في الحياة.

- كما يلاحظ على "إقبال" أنه يقف في تفسيره لبعض آيات القرآن، عند الحد العلمي لمدلول اللفظ

على نحو ما يرى في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 4، فهو يفسر "الروح" هنا بالنفس الإنسانية، وبأن وظيفتها للتدبير، أخذا من قوله تعالى:{مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 5

مع أن المقصود بالورح كتاب الهداية وهو القرآن؛ إذ القرآن كان موضوع الحديث قبل هذه، على نحو ما يقول جل شأنه:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} 6.

1 البقرة: 162 وسور أخرى.

2 آل عمران: 179.

3 آل عمران: 91.

4 الإسراء: 85.

5 المصدر السابق: ص118.

6 الإسراء: 82.

ص: 383

كما كان هو نفسه موضوع الحديث بعدها أيضا كما تذكر هذه الآية: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} 1.

وكما يستدل على أصل "الاجتهاد" الفقهي من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 2. مع أن هذه الآية في سورة العنكبوت، وهي تشير إلى "الجهاد" في سبيل الله لا إلى الاجتهاد في الفقه، وفرق واسع بين الاجتهاد والجهاد

أما الأصل القرآن للاجتهاد في نظر الفقهاء فهو في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 3.

- وقد يذهب "إقبال" في تفسير بعض آيات أخرى مذهبا علميا أو فلسفيا ويبعد المعنى عن أن يكون في مستوى توجه الإنسان المتوسط

كما يفسر قوله تعالى: {أُمُّ الْكِتَابِ} في آية {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 4. بـ"الزمان الإلهي" وهو يشرحه على هذا النحو التالي:

"وإذا ارتقينا درجة فدرجة في سلم المفارقات، فإنا نبلغ الزمان الإلهي، وهو زمان مجرد تجردا تاما عن صفة المرور والانصرام، ومن ثم فهو لا يقبل التجزؤ، والتوالي والتغير، وهو فوق القدم، لا أول له ولا آخر له، فعين الله ترى جميع المرئيات، وأذنه تسمع جميع المسموعات بفعل واحد من أفعال الإدراك غير منقسم، وقبلية الذات الإلهية لا تستند إلى قبلية الزمان بل الأمر بالعكس: إذ إن قبلية الزمان هي التي تستند إلى قبلية الذات الإلهية، وهكذا فالزمان الإلهي هو الذي يصفه القرآن بأنه:{أُمُّ الْكِتَابِ} 5.

وكما يفسر قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6: بقرب كمال الذات الإلهية إلى كمال الوجود في ذات الإنسان. إذ يقول:

"على أن هناك درجات في تجلي الروحية أو الذاتية، وتجلي هذه

1 الإسراء: 88، 89.

2 المصدر السابق: ص170، والآية من سورة العنكبوت:69.

3 المصدر السابق: ص170، والآية من سورة النساء 83.

4 الرعد: 39.

5 المصدر السابق: ص89.

6 سورة ق: 16.

ص: 384

الروحية يرتقي في سلم الوجود درجة درجة إلى أن يبلغ كماله في الإنسان

وهذا هو السر في تصريح القرآن: أن الله، أو الذات القصوى، أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد"1.

كما قد يندفع في هذا التفسير إلى رأي لا يرضى هو عنه بعد ذلك، فيقول: "والذات الأولى التي تجعل المولود يتولد، حاضرة في الطبيعة حالة فيها، يصفها القرآن بأنها:{الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 2

فتفسيره الأول والآخر، والظاهر والباطن على هذا النحو، يختلط على الأقل بفكرة "الحلول" التي تعرف للصوفية الإشراقية أو العجمية، والتي استبعدها "إقبال" نفسه، عند شرحه لـ"وحدة الوجود"، كما رأينا فيما سبق.

ولعل "إقبال" بشرحه الفلسفي أو العلمي لبعض آيات القرآن، يحاول فقط أن يوضح حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة، كما يعبر عن ذلك بقوله:"القرآن المجيد ليس كتاب فلسفة أو إلهيات، ولكن فيه هدى إلى مقاصد الحياة ورقيها، وفيه أصول فلسفة يقينية، ولو أن مسلما متفلسفا بَيّن المسائل القرآنية في ضوء الأفكار والتجارب الحديثة، ما صح اتهامه بأنه يقدم شرابا جديدا في زجاجة قديمة، كما يقول "مستر دكسن": "أنا لا أعرض أفكارا جديدة في ثياب قديمة، ولكن أبين حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة"3

وهو رأيه الذي أعتقد أنه عن طريقه يستطيع أن يبقى المسلم في دائرة إسلامية، ويسهم في الحقائق الواقعية، لا بتوجيه مدرسة فكرية غربية بل بتوجيه الإسلام وحده.

- على أن الشيء الذي يبدو فيه ضعف "إقبال" ثقته ببعض الحركات الإسلامية الحديثة، على أنها تمثل التجديد الفكري في الإسلام، وعلى أنها تمثل الوثبة المطلوبة للعالم الإسلامي أن يقتدي بها، وربما لم يدرس "إقبال" نفسه هذه الحركة من مصدارها، بل قرأ عنها من وصف المستشرقين إياها، فصدق ما وصفوا. والمستشرقون إن وصفوا شيئا في الإسلام أو في الحركات الإسلامية على أنه حسن؛ فلأنه يصادف غرضا خاصا، يتصل بإضعاف الإسلام والجماعة الإسلامية

1 المصدر السابق: ص85.

2 المصدر السابق: ص122، والآية من سورة الحديد:3.

3 محمد إقبال: سيرته، وفلسفته، وشعره: ص121.

ص: 385

ويصف "إقبال" الحركة البهائية، أو البابية1: بأنها من الحركات الإسلامية التي تأثرت بالحركة الوهابية، "وليست سوى صدى

1 البابية: نسبة إلى "الباب" وهو علي محمد الشيرازي "ولد في المحرم سنة 1236هـ -26 مارس سنة 1821م"، وأعلن نفسه في 11 يونية سنة 1845م، باب المعرفة إلى الحق الإلهي، ومن أجل هذا لقب بـ"الباب".

والبهائية: نسبة إلى "بهاء الله" وهو ميرزا حسين علي نوري بقزوين، وهو خليفة "الباب" على حركته، التي يعتبرها أتباعه" إصلاحا إسلاميا"، وتعاليمه كما يلي:

- الله واحد، و"على مرآته التي ينعكس عليها، والتي يمكن لكل واحد أن يراه".

- الله خلق الخلق بسبع صفات تسمى حروف الصدق والحق، وهي: القدر، القضاء، الإرادة، المشيئة، الإذن، الأجل، الكتاب.

- السنة تنقسم إلى تسعة عشرة شهرا، وكل شهر ينقسم إلى تسعة عشر يوما، والسنة إلى ثلاثمائة وواحد وستين يوما.

-الحدود ألغيت، عدا حد السرقة، وحد الزنا.

- الحرية المطلقة في التجارة والعقد.

- دفع "الفائدة" مباح، سواء على البضائع المباعة، أو على الحسابات المصرفية.

- فريضة الصوم لمدة شهر بهائي، أي: تسعة عشر يوما من طلوع الشمس إلى غروبها، وهي على من بلغ الحادية عشرة إلى الثانية والأربعين.

- ينصح بالطهارة بالماء، ولكنها ليست فريضة مكتوبة.

- يجوز للمرأة السفور، وأن يتحدث إليها من غير إذن من أحد، ولكن لا تزاحم.

- صلاة الجماعة أبطلت، عدا الصلاة على الميت، ومع ذلك فالاجتماع للوعظ أمر لا بأس به وقد تحول البهائيون من فرقة دينية إلى حزب سياسي، ومن دعاتهم ميرزا فضل الله، وقد اتخذت هذه الحركة مدينة "عكا" مقرا لها، وهدفها توحيد الأديان، والخطوة الأولى: ادعاء حاجة المسلمين إلى الإصلاح، أما الخطوة الثانية فهي: الحاجة إلى شريعة جديدة.=

ص: 386

فارسي للإصلاح الديني العربي

فهو يراها حركة إسلامية، وإصلاحا دينيا1. مع أن البهائية مزيج عجيب من الثقافات الدينية والفلسفة، فلا يقال مطلقا: إنها تأثرت بحركة محمد بن عبد الوهاب؛ لأنها نشأت بعدها في القرن التاسع عشر.

ويصف حركة التجديد التي قام بها بعض الأتراك المحدثين -وفي مقدمة الدعاة لها الشاعر "ضياء كوك آلب" بأنها حركة مثالية في إصلاح الفكر الديني في الإسلام، يصح أن تسير في طريقها بقية الحركات الإسلامية الأخرى المعاصرة، ويقول في هذا الوصف: وإذا كانت نهضة الإسلام أمرا

= وتطور أمر التعاليم البهائية، في هذه الحركة: فأصبح تعدد الزوجات مقصورا على اثنتين فقط. وأصبحت ترى صحة جميع الأديان، والكتب الدينية، وتدعو جميع أهل الملل إلى دينها دعوة واحدة لأجل توحيد كلمة البشرية، وتستدل عند دعوة كل دين بشيء مما في كتبهم، ولا سيما التوراة والإنجيل والقرآن. وكل دين نفسه صحيح، وكل دين ناسخ لما قبله، كما أصبحت تعتقد بألوهية "البهاء" -بهاء الله- "ميرزا حسين علي نوري" على نحو ما تعتقد بعض فرق الشيعة الغلاة بحلول الجزء الإلهي

في الإمام.

وللباب "علي محمد الشيرازي" كتاب: "البيان" وهو الذي تأول فيه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] . وقد أخرجه الشيخ عبد الرحمن تاج، كبحث للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة السربون بباريس، تحت إشراف القس المستشرق الفرنسي "ماسينيون".

والبهائية أربع فرق:

البابية الخلص: أتباع "الباب" على محمد الشيرازي، مؤسس البهائية.

- البابية الأزلية: أتباع صبح أزل: الذي كان في قبرص.

- البابية البهائية: أتباع بهاء الله ميرازا حسين علي نوري.

- البابية العباسية: أتباع عباس أفندي، أحد الدعاة لهذا الدين الجديد، وكان يقيم في بيروت.

1 تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص175.

ص: 387

واقعا، وأنا أعتقد أنها أمر واقع، فلا بد من أن نفعل يوما ما فعله الترك؛ فنعيد النظر في تراثنا العقلي. فإذا لم نستطع أن نضيف جديدا إلى التفكير الإسلامي العام فقد نوفق -عن طريق النقد المحافظ السديد- في كبح جماح حركة التحلل الديني، التي تنتشر بسرعة في العالم الإسلامي1.

و"إقبال" نفسه، بعد ذلك، ينقل رأي الشاعر "ضياء كوك ألب" في خطوط الإصلاح للفكر الإسلامي. فيما يلي:

"وللشاعر السابق -ضياء- قصيدة عنوانها: "الدين والعلم" تلقي المقطوعة الآتية منها بصيصا آخر من الضوء على الرأي الديني، الذي يتكيف اليوم في العالم الإسلامي شيئا فشيئا، يقول الشاعر:

من هم أول من طالع الناس بالهداية الروحانية؟

لا ريب أنهم الأنبياء والقديسون

فلقد أخذ الدين بيد الفلسفة في كل عقد وقاد خطاها، وبنوره وحده استضاءت الأخلاق والفنون.

غير أن الدين يضعف ويفقد حماسته الأولى، ويختفي القديسون وتصبح الزعامة الروحية تراثا اسميا يرثه فقهاء الشريعة، ونجم الهدى الذي يهتدي به فقهاء الشريعة هو السنن، ويكرهون الدين على سلوك هذا المسلك.

أما الفلسفة فتقول: إن النجم الذي اهتدي بنوره هو العقل، فاذهبوا أنتم إلى اليمين، وسأذهب أنا إلى الشمال

والدين والفلسفة كلاهما يدعي "الروح"، وكلاهما يجذبها إلى ناحيته.

وبينما يكون هذا الصراع محتدما، تضع التجربة حملها، فتلد مولودها وهو "العلم الواقعي"

ويصبح هذا الزعيم الصغير الذي يقود العقل، فيقول: إن سنن الأوائل هي التاريخ، والعقل هو منهج

1 المصدر السابق: ص176.

ص: 388

التاريخ، كلاهما يفسر ويؤول، ويرغب في بلوغ ذلك الشيء الذي لا يمكن تحديده.

ولكن ما ذلك الشي؟ أهو قلب هذبته الروح.

وإذا كان الأمر كذلك فاستمع إلى كلمة البهائية: الدين هو "العلم الواقعي"، وهدفه هو تهذيب قلب الإنسان!! 1.

وما ينقله إقبال عن الشاعر التركي الداعية لحركة "التجديد" الآخيرة في تركيا هو ترديد لفكرة "أوجست كومت" في الدورة الثلاثية للمعرفة من أنها تمر بالدين، ثم بالفلسفة، ثم بالعلم التجريبي، و"إقبال" ذاته يؤكد هذا الاستنتاج بقوله:"هذه هي النزعة التي ينزع إليها التركي في العصر الحديث مستوحيا -على النحو الذي يفعله- حقائق التجربة، لا تفكير الفقهاء المتفلسفين الذين عاشوا وفكروا تحت ظلال أحوال من الحياة متباينة.. ويتجلى هذا المثال الجديد على أوضح ما يكون في قصائد "ضياء" الشاعر الوطني العظيم، الذي كان لقصائده، التي استلهمها من فلسفة "أوجست كومت" أثر عظيم في تشكيل الفكر التركي الحديث2.

أي فكر تركي حديث؟!

أهو ترديد الفكر المادي الإلحادي للمذهب الوضعي الغربي لـ"أوجست كومت"؟!

وإذا كان الشاعر التركي العظيم يعبر عن التجديد في النهضة التركية الحديثة، وما يعبر عنه هو مذهب "أوجست كومت" كيف يصح لـ"إقبال" أن يسمي "الترديد" و"التبعية" تجديدًا؟!

وكيف يسمي مذهب الفكر الإلحادي المادي "لأوجست كومت" تجديدا في الفكر الإسلامي؟!

1 المصدر السابق: ص183، 184.

2 المصدر السابق: ص182.

ص: 389

وكيف ينعت تركيا -لقيام الحركة التجديدية فيها على تقليد الفكر الغربي في هذا- بأنها الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة؟!

إنه يقول: "إن تركيا في الحق، هي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري، وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، تلك النقلة التي تستتبع كفاحا مريرا في ميدان العقل والأخلاق"1.

أي: فارق بين موقف "محمد إقبال" الآن من الفكر الغربي المادي الذي ساد القرن التاسع عشر، وموقف السيد "أحمد خان" من هذا الفكر. يوم نادى في محاولاته، الإصلاحية" بقبول هذا الفكر، ونصح شباب المسلمين في الهند بفهم القرآن في ضوئه، وبإخضاع الحياة الدينية لقوانين الطبيعة. الأمر الذي دعا جمال الدين الأفغاني، في كتابه الرد على الدهريين إلى بيان ممالأة السيد "أحمد خان" وخضوعه في ذلك للسياسة الاستعمارية في الهند؟!

إن "إقبال" تأثر بالمذهب الوضعي لـ"أوجست كومت" من غير شك، ولكن لم يرض عما فيه من إلحاد، كما يبدو في كتابه. والذات الإلهية الكلية كأصل للوجود

كيف يوفق "إقبال" الآن بين هذه النزعة الإلحادية عنده، وبين الحكم على دعوة "المساواة" التي ينادي بها الشاعر التركي "ضياء" بين الرجل والمرأة، أي: المساواة في الزواج والطلاق والمواريث: بأنها حركة إسلامية تجديدية2؟!

هل إلغاء الأحكام القاطعة في الإسلام، وهي أحكام الطلاق والإرث، ثم الاستعاضة عنها بأحكام الأسرة في القانون المدني الغربي، يعتبر نموذجا للحركات الإسلامية المقبلة في البلاد الإسلامية؟!

1 المصدر السابق: ص186.

2 المصدر السابق: ص194.

ص: 390

إن "إقبال" نفسه استشعر ضعفه عندما وصف الحركة التجديدية في تركيا بما وصفها به، فعاد إلى المطالبة بالتحفظ في الإسلام وعدم التهور فيه، فيقول:

"إنا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر الحديث في الإسلام

ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه: فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية -التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عرف عنها من قبل- قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرية الإنسانية العاملة الشاملة التي تشربتها نفوس المسلمين من دين الإسلام، أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح، وإذا انعدم ما يكبح جماح حميتهم الفتية، ونحن نمر الآن بعهد شبيه بعهد ثورة الإصلاح "البروتستنتي" في أوروبا، فينبغي أن لا يضيع سدى ما تعلمناه من قيام حركة "لوثر" ونتائجها، فدرس التاريخ في تعمق وعناية يظهر لنا: أن حركة الإصلاح كانت سياسية في جوهرها، وأن نتيجتها الخالصة في أوروبا أسفرت عن إحلال تدريجي لنظم أخلاقية قومية محل الأخلاق المسيحية العالمية، ولقد رأينا بأعيننا ما أسفر عنه هذا الاتجاه في الحرب العالمية الأوروبية "الأولى" التي عجزت عن التوفيق بين المذهبين الأخلاقيين المتضادين؛ بل جعلت الموقف الأوروبي أكثر شناعة مما كان عليه من قبل. والواجب على قادة الرأي في العالم الإسلامي اليوم، هو أن يفهموا المعنى الحقيقي لما حدث في أوروبا وأن يسيروا قدما نحو غايات الإسلام ومراميه مع ضبط النفس والبصيرة الثاقبة"1.

إن "إقبال" يبعد عليه في نظري أن يكون متناقضا؛ إذ يعد الحركة التجديدية في تركيا التي قادها الشاعر "ضياء كوك ألب" نموذجا للحركات الإسلامية الحديثة مرة، ثم يطلب الحيطة والتحفظ في التجديد وفي قبول الفكر الحر "المادي" مرة أخرى

إنه يأخذ من جديد على هذا الشاعر العظيم "كما وصفه من قبل" أخطاءه في فهم الإسلام كنظام للمجتمع، وبالأخص ما يتعلق بأمر الأسرة، فيقول:"أما فيما يتعلق بما ينادي به الشاعر التركي "ضياء كوك ألب" فإني أخشى أنه يبدو قليل العلم بقانون

1 المصدر السابق: ص187، 188.

ص: 391

الأسرة في الإسلام كما يظهر أنه لا يفهم المعنى الاقتصادي لقاعدة التوريث كما جاءت في القرآن، فالزواج في اعتبار الشريعة المحمدية عقد مدني.

وللمرأة أن تشترط عند الزواج أن تكون عصمتها بيدها. فيكتمل لها بهذا حق المساواة في الطلاق، والإصلاح الذي يقترحه الشاعر لنظام التوريث1 يقوم على فهم خاطئ، وينبغي أن لا يستنتج من اختلاف الأنصبة الشرعية، أن القاعدة تفترض تفوق الرجل على المرأة، فمثل هذا الافتراض يكون منافيا لروح الإسلام إذ يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} 2.

"والحقيقة هي: أن المبادئ التي قام عليها نظام التوريث في القرآن، ذلك الفرع من التشريع الإسلامي الذي يصفه "فون كريمر" بأنه بالغ الحد في أصالته وابتكاره، لم تلق بعد من مشرعي الإسلامي ما تستحقه من عناية. فالمجتمع العصري، بما فيه من كفاح مرير بين الطبقات، يجب أن يحملنا على التفكير، ولو أننا درسنا شريعتنا بالنسبة للانقلاب المنتظر في الحياة الاقتصادية الحديثة، فإن من المرجح أن نكشف في أصول التشريع، عن نواح جديدة لم تنكشف لنا بعد مما يمكننا أن نطبقه بإيمان متجدد بحكمة هذه المبادئ"3.

يبعد على "إقبال" إذن أن يكون متناقضا في الرأي،

وهو رجل مؤمن إيمانا عميقا بالرياضة الصوفية السليمة، ومؤمن بإسلامه إيمانا حقا، وبصلاحيته للتوجيه في الحياة المتجددة، ومؤمن في الوقت نفسه بعدم التخلي عن الحياة الواقعية

1 يرى الشاعر: "أن تنشئة الأسرة يجب أن تجري على أساس العدالة

ولهذا لا بد من مساواة المرأة والرجل في ثلاثة أمور: في الزواج، والطلاق، والميراث، وما دامت المرأة تعد نصف الرجل في الميراث، وربعه في عدد الأزواج، فلن ترقى الأسرة، ولن ترقى البلاد، لقد فتحنا للقضاء محاكم وطنية تقضي في الحقوق الأخرى، وتركنا الأسرة في أيدي مذاهب الفقهاء ولا أدري لماذا تخلينا عن نصرة المرأة؟ أليست المرأة تعمل في سبيل البلاد؟ أم يجب عليها أن تثور، وتتخذ من إبرتها سلاحا فاتكا تنزع به حقوقها من أيدينا؟ "، كتاب تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص186.

2 البقرة: ص228.

3 المصدر السابق: ص195، 196.

ص: 392

إن السبب في تمجيد "إقبال" للحركة التجديدة في تركيا، اتباعه للمستشرقين في ذلك.. هو تقليد لهم في الرأي، وليس نتيجة مباشرة لدراسته هذه الحركة. وإن أي مفكر يقدر قيمة الفكر، لا يصف هذه الحركة التركية إلا بأنها تقليد في غير وعي للغربيين، وأنا أقصد "في غير وعي" لأن الباعث عليها الرغبة في أن تكون تركيا من "أوروبا" لا من آسيا، وأن يكون للأتراك طابع الغربيين لا طابع الشرقيين، فيما هو ممدوح ومذموم، كما طلب لمصر يوما ما صاحب "مستقبل الثقافة في مصر"، فهي حركة اندفاعية لا حركة متئدة تتخير وتقدر في تخيرها الاحتفاظ بشخصية "الأمة" أو الجماعة.

اليابان جددت حقا؛ لأن حركتها التجديدية قامت على التخير، دون "الاندفاع" اليابان ظلت شرقية، ومع ذلك تفوقت على الغرب في مجال الصناعة، وفي المجتمع وتماسكه قبل ذلك، كمجتمع له شخصية بارزة.

أما تركيا فليس لحركتها طابع معروف حتى اليوم، فلا هي بالشرقية ولا هي بالغربية

يجعلها الغرب "غربية" في اللحظة التي يريد أن يحرضها على الإمعان في البعد عن الإسلام والجماعات الإسلامية، وفي مقدمة هذه الجماعات الشعوب العربية؛ لأنه نزل بلغتها القرآن، ويجعلها "شرقية" يوم يتحدث عن حضارتها المعاصرة بأنها حضارة مستعارة من الغرب ليس لها فيها إلا التقليد الأعمى!!! من السهل على الفرد، وكذا على الجماعة، أن يهدم ويلغي، ولكن ليس من السهل أن يبني

وأشد عسرا أن يكون أصيلا في البناء! إن تركيا الحديثة، مظهر تجديدها إلغاء الدين، وفقدان شخصيتها، وتبعيتها تبعية مطلقة في السياسة والتوجيه، والاقتصاد، للغرب الصليبي!.

ولأن "إقبال" يمجد نهضة تركيا الحديثة من جانب، ويشجع الرياضة الصوفية من جانب آخر، يمتدحه المستشرقون في حديثهم عند تعرضهم للحركات الإسلامية المعاصرة، ويذكرون له من حسناته فقط هذين الأمرين بينما يعيبون عليه في الوقت نفسه رأيه في أن الإسلام دين ودولة معا، وفي أن الحقيقة الإسلامية أمر واحد لها اعتباران فقط. يعيبون عليه أكثر من تشجيعه قيام دولة إسلامية على أساس إسلامي، مع عنايته تمام العناية بنفس الطابع الثيوقراطي عن الدولة التي تقوم على هذا الأساس الإسلامي.

- وحسن ظنه بالمستشرقين جعل فيه نقطة ضعف أخرى، وهي ثقته فيما يكتبون، وتقبله له دون امتحان لم يكتبونه، فهو مثل يستحسن ما كتبه "هورتن" Horten الذي كان يوما ما أستاذا للغات السامية

ص: 393

بجامعة بون، عن الإسلام في مجال الفقه، أو مجال الفلسفة والكلام، و"هورتن" ليس العالم الذي يكتب عن بحث ودراسة، أو فهم ودقة في الفهم، فضلا عن أن يكون له طابع الباحث العلمي، وهذا هو تقديره في ميدان الاستشراق الألماني.

كما أن حسن ظنه بالمستشرقين قد يجعله يوافق على حل لمشكلة، قام على أساس عقيدة مسيحية، تتنافى هذه العقيدة مع العقائد الأساسية في القرآن؛ لأنه ردد هذا المحل بعض علماء اللاهوت المسيحيين المشتغلين بالدراسات الإسلامية فيذكر مثلا مشكلة "الشر" في العالم، ثم يطلب حلها في رأي بعض هؤلاء ويوافق عليه، ويقول في ذلك:

"وإذا كانت الإرادة الإلهية التي يحددها العقل إرادة خيرة، فإن معضلة جديدة تعترض سبيلنا، تلك هي: أن سير التطور كما أظهره العلم الحديث، يتضمن آلاما وظلما تكاد تشمل العالم كله، ولا شك أن الظلم مقصور على البشر وحدهم، ولكن ظاهرة الألم تكاد تكون عامة، وإن كان من الحق أيضا، أن البشر في مقدورهم احتمال الألم، وقد احتملوا المرير منه في سبيل ما اعتقدوا أنه خير. وهكذا، فإن حقيقتي الشر الأخلاقي، والشر المادي، تبرزان في الوجود الطبيعي، وليست نسبية الشر، ووجود قوى تعمل على تبديله، بمصدر عزاء لنا؛ لأنه على الرغم من كل هذه "النسبية" وهذا "التبديل". فإنه فيه ناحية إيجابية رهيبة، فكيف يمكن إذن التوفيق بين قدرة الله المطلقة واتصاله بالخير، وبين شيوع الشر في خلقه؟؟

"وهذه المعضلة هي في الواقع مشكلة الألوهية

ولم يتناول واحد من الكتاب المحدثين تقرير هذه المعضلة تقريرا أدق وأوفى، مما كتبه "نومان" Naumann في كتابه:"رسائل في الدين" إذ قال: إن لنا معرفة بالكون ترينا إله قوة وقدرة، يبعث الحياة والموت متلازمين تلازم الظل والنور، وتعلمنا كذلك عقيدة "النجاة والخلاص" إذ تقرر: أن هذا الإله نفسه هو أب البشر، فالتأسي بإله العالم يولد خلق الكفاح في سبيل الوجود. وعبادة أبي:"يسوع المسيح" تبعث خلق الرحمة، ومع هذا فهما ليسا إلهين، بل هما إلها واحد تتشابك ذراعاهما بطريقة ما، غير أنه لا يستطيع مخلوق أن يقول: وأين؟؟ وكيف يحدث؟؟ ".

إن "إقبال" في تجديد الفكر الديني في الإسلام، كان جامعيا في محاولته

في عمله الفكري للخاصة، وفي اعتبار هذا العمل لجيل معين،

ص: 394

وهو جيل التفكير الوضعي، أو التفكير المادي الإلحادي، وهو لهذا يعتبر عملا فكريا مضادا لحركة "التجديد" في الفكر الإسلامي في مصر، التي يتزعمها بعض التابعين للفكر الاستشراقي، أو بعض المرددين للفكر الآخر المادي الإلحادي، الممثل في وضعية "كومت" وماركسية "ماركس".

و"إقبال" بهذا، يعتبر المصلح الفكري في الإسلام في الوقت الحاضر، ويتميز بذلك عن الشيخ محمد عبده في اتجاهه الإصلاحي؛ ولكن لأن محاولة "إقبال" الفكرية هي محاولة للخاصة، فهي في حاجة إلى حركة الشيخ عبده؛ كي تكون حركة إصلاحية فكرية عامة للجماعة الإسلامية في كل طبقاتها.

والعصر الحاضر يتطلب، بالإضافة إلى هاتين الحركتين، حركة أخرى فكرية تقوم على بيان "التوازن" في رسالة الإسلام، الفرد والجماعة على السواء.

إن لكل من حركتي "محمد عبده" و"إقبال" اعتبارها في مواجهة ما سيطر على وقتهما من فكر وتوجيه أجنبي

- كان "الاستعمار" فكانت حركة الشيخ عبده بعد جمال الدين الأفغاني.

- وكانت "الوضعية" و"الماركسية" فكانت حركة "إقبال".

ص: 395