المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الدين خرافة: فكرتا. "بشرية القرآن".. و"الإسلام دين لا دولة" تمثلان اتجاه - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

[محمد البهي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة:

- ‌تقديم الطبعة الرابعة:

- ‌تقديم الطبعة الثالثة

- ‌تقديم الطبعة الثانية:

- ‌تقديم الطبعة الأولى:

- ‌فاتحة:

- ‌الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:

- ‌العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر

- ‌الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ

- ‌مفكرون من المسلمين مع الاستعمار

- ‌مدخل

- ‌حركة أحمد خان:

- ‌ المذهب القادياني:

- ‌الأحمدية:

- ‌المستشرقون…والاستعمار

- ‌مدخل

- ‌ النزعة الأولى

- ‌النزعة الثانية:

- ‌الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي

- ‌مقاومة مزدوجة

- ‌محمد جمال الدين الأفغاني

- ‌محمد عبده:

- ‌الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي

- ‌اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين

- ‌بشرية القرآن:

- ‌الإسلام دين…لا دولة:

- ‌الدين خرافة:

- ‌الدين مخدر:

- ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

- ‌الباب الخامس: الإسلام غدا

- ‌مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية:

- ‌الإسلام فوق الزمان والمكان:

- ‌الفراغ في الحياة التوجيهية العامة:

- ‌الأزهر:

- ‌الأزهر…في تنظيمه الجديد:

- ‌الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المستشرقون المعاصرون:

- ‌ المتطرفون من المستشرقين

- ‌ بعض الكتب المتطرفة

- ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

- ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌ ‌الدين خرافة: فكرتا. "بشرية القرآن".. و"الإسلام دين لا دولة" تمثلان اتجاه

‌الدين خرافة:

فكرتا. "بشرية القرآن".. و"الإسلام دين لا دولة" تمثلان اتجاه الاستشراق الغربي ونفوذه في تفكير "المجددين" في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث. منذ بداية القرن العشرين؟

وهما فكرتان ينصب أثرهما السلبي على الإسلام وحده، دون المسيحية أو اليهودية

وهذه هي ظاهرة الاتجاه الاستشراقي في تفكير الغربيين؟

أما الاتجاه الآخر في تفكير الغرب في القرن التاسع عشر، الذي تسرب نفوذه إلى الشرق في صورة "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث أيضا، فهو التفكير "الوضعي" أو "المادي" الذي انتهت قمته أو انتهى غلوه إلى تفكير "الشيوعية"

وهو تفكير انبثق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأصبح بعد الحرب العالمية الثانية يتصارع في عنف مع "الديقراطية" الغربية من جانب، و"الأديان" جميعا من جانب آخر.

وسنعرض من هذا الاتجاه الأخير، لمشكلتين أو لفكرتين أخذتا طابع الرواج في الشرق في الفكر الإسلامي الحديث، منذ نهاية هذه الحرب العالمية الثانية:

- المشكلة الأولى "خرافة الميتافيزيقا": وتتضمن خرافة الدين، وإنكار قيمته في التوجيه

وهي وليدة الفكر المادي السابق على ظهور الشيوعية.

- والمشكلة الثانية "الدين مخدر": وتتضمن مطاردة الدين وإبعاده عن مجال الإنسان والجماعة، "والدين مخدر" هو شعار الشيوعية أو الماركسية.

ص: 228

فيرجع إلى ما يسمى "المذهب الاسمي".

- وإلى مذهب يعرف "بالمذهب التجريبي".

المذهب الاسمي: Nominalism

أما "المذهب الاسمي" فهو مذهب فلسفي، يرى أن "العبارات العامة" وهي العبارات الدالة على الأنواع والأجناس -كعبارة "الوجود"

و"الإنسان".. و"الحيوان" مثلا- ليست إلا ألفاظا فقط، لا تحمل مدلولاتها طابع الواقعية، هي أسماء تستخدم كرسوم للأشياء وخصائصها، وليس هناك -خارج التصور الذهني لها- شيء موضوعي حقيقي يشار إليه، وذلك على عكس العبارات الدالة على الأفراد وهي أعلام الأشخاص، فإنها تدل على حقائق في الخارج وعلى أمور واقعية يمكن الرجوع إليها بطريق الحواس، ويشار إليها على أنها هنا أو هناك.

ويرجع هذا المذهب الاسمي -في نواته الأولى- إلى الفيلسوف أنتيستنيس Antisthenes الذي عاش في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد "444-368 ق م" وتتلمذ على السوفسطائي جورجياس Gorgias، ويعتبره مؤرخو الفلسفة في ثورته على الدين المتوارث والتقاليد الإغريقية -وهي تقاليد الأمة التي نشأ فيها:"روسو" Rousseau العصر القديم.

وكان أنتيستنيس هذا يدعو إلى القناعة، ويطالب بالرجوع إلى بساطة الطبيعة، ويرفض الدين الوراثي في ذلك الوقت، كما يرفض الدولة الوراثية، و"الحكيم" في نظره هو من ليس مواطنا في دولة معينة، بل هو مواطن عالمي، أما رأيه في الوجود فهو رأي أصحاب المذهب المادي Materialism1.

1 المذهب المادي: يعتبر المادة جوهر العالم، ويعتبر المظاهر النفسية والفكرية ناشئة عنها. والأخلاق في نظره يجب أن تهدف إلى المتعة الحسية في الآن الحاضر، وإلى تحصيل الطيبات الحسية فقط، أما القيمة المثالية فيجب أن تحتقر، والطيبات المادية هي أساس الحياة=

ص: 230

وعقب أنتيستنيس الفيلسوف الإغريقي، جدد روسلينوس فون كومبين Roscellinus von Compiegne مذهبه هذا في القرن الحادي عشر الميلادي "1050- 1120م" على عهد "المدرسيين" في آواخر القرون الوسطى.

وفي القرن الرابع عشر دافع ويلهلم فون أوكام Wilhelm von Occam "1270- 1347م" عن هذا المذهب الاسمي دفاعا حارا، وأرجع المعرفة الإنسانية كلها إلى التجربة الحسية أو النفسية، وليس إلى ما وراء الطبيعة مما يسمى بالرسالة الإلهية أو الفلسفة الميتافيزيقية

على معنى أن الوجود المشاهد هو مصدر المعرفة الصحيحة، وكذلك ما تحصله النفس وما يقوم بها عن طريق الاتصال بهذا الموجود المحس مصدر صحيح أيضا للمعرفة، أما ما يتلقاه مما وراء الطبيعة، من ذلك العالم الخفي الذي لا يرى ولا يحس فليس مصدرا للمعرفة وعلى الأقل ليس مصدرا للنوع اليقيني منها.

ولهذا يرى "أوكام": أن من غير الممكن معرفة الله معرفة يقينية عن طريق النظر العقلي، أو أن إقامة دليل على وجوده من هذا الطريق، وليس على الإنسان إلا أن يؤمن فحسب بالله؛ لأنه حصر إمكان المعرفة الإنسانية فيما يخضع للتجربة الحسية أو النفسية، ويقصد بالتجربة النفسية ما تتلقاه النفس من عالم التجارب الواقعية، وهو عالم المحسوسات، ومع ذلك يفرق "أوكام" بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية "الميتافيزيقية" عند نقده للميتافيزيقا، فلا يستهجن الحقيقة الدينية ولا يمسها أيضا مسا مباشرًا بقدر ما يستخف بتلك الحقيقة الفلسفية.

= الثقافية، والذي يفقدها عليه أن يشغل نفسه مع شيطان القيم المثالية وشعار هذا المذهب:"البطن قبل الروح".

أما المذهب المادي التاريخي: فيرى أن الاقتصاد هو المبدأ المحدد والمقدر في الحياة الإنسانية، حتى الثقافة العقلية والقيم غير المادية! وطريقة الإنتاج في الحياة المادية تحدد بوجه عام تطور الحياة الاجتماعية، والسياسية، والعقلية، وليس عقل الإنسان هو المحدد لوجود الإنسان، بل الوجود الجماعي هو المحدد لعقله

كما سيأتي تفصيله في فكرة "الدين مخدر" عند الحديث عن الشيوعية.

ص: 231

وعرف "أوكام" بمكافحته للسلطة الزمنية "السياسية" التي يمارسها البابا، ولما ينسب إليه من عصمة لا تقبل النقض في القول والعمل، أي: لا تقبل الخطأ على الإطلاق.

واستطاع المذهب الاسمي -ذلك المذهب الذي يرى في العبارات الدالة على الأنواع والأجناس مجرد رسوم وشعارات- أن يسود بالتدريج، ويشق طريقه في القرون التالية للقرن الحادي عشر حتى عصر "كانت" وذلك بفضل مجهود "أوكام" وحده.

فلما جاء "كانت" في القرن الثامن عشر، ساق في كتابه، "نقد العقل الخالص" تشبيه "العبارة" مطلقا بورق النقد، وجعل ضمانها:"المحسوس" المشاهد، فالعبارة التي ليس لها هذا الضمان المحسوس -وهي العبارة الدالة على النوع أو الجنس- تكون في نظره عديمة القيمة. أما العبارة التي تدل على الفرد وهي كذلك الدالة على الشخص فلها قيمتها واعتبارها؛ لأن المحسوس المشاهد عندئذ يمكن أن يشير إلى مضمونها، وإلى ما تدل عليه، يقول Schulze في ذلك، متأثرا بـ"كانت": إن أسماء الجنس والنوع هي كلمات تحمل ما لا يقوم الدليل عليه.

فهذا "المذهب الاسمي" بحث من بحوث "المنطق" إذن، يفرق في دلالة الألفاظ بين ما تدل عليه في الخارج مما يحس، وبين ما يبقى متصورا ذهنيا فحسب. وهو يفرق بين الألفاظ الدالة على الأنواع والأجناس من جانب، والأخرى الدالة على الأشخاص من جانب آخر.

- ولفظ "الله": لا يدل على نوع ولا على جنس ولا على شخص محدد يدرك بالحس؛ لأن مدلول لفظ الجلالة لا يصدق على كثيرين حتى يكون جنسا أو نوعا.

- ثم هو لا يدل على شخص يشار إليه في الحس والمشاهد ويقال عنه: هذا هو الله، وإن كان يدل على فرد لا شريك له.

وهو إذن خارج عن بحث "العبارة" في بحوث المنطق.

ولذلك يعقب أصحاب "المذهب الاسمي" فيما يتصل بالله- بأن مجال الله هو الإيمان والاعتقاد، وليس البحث العقلي الجدلي الإنساني.

ص: 232

قال بذلك "أوكام" وقال بذلك "كانت" ويقصد "أوكام" في تفرقته بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية "الميتافيزيقية": أن تكون الميتافيزيقا مجال التطبيق لفكرته "الاسمية" أولا وبالذات.

2-

المذهب التجريبي Empirieism:

وأما "المذهب التجريبي" فيرى أن تحصيل الإنسان للحقائق الكونية ومعرفته بها لا يكون إلا بالتجربة الحسية وحدها. ومعنى ذلك أن الحس المشاهد -لا غيره- هو مصدر المعرفة الحقيقية اليقينية: ففي العالم الحسي تكمن حقائق الأشياء، أما انتزاع المعرفة مما وراء الظواهر الطبيعية الحسية، والبحث عن العلة في هذا المجال، فأمر يجب أن يرفض، ولهذا تكون كل نظرية أو كل فكرة عن وجود له طابع الحقيقة واليقين- فيما وراء الحس- نظرية أو فكرة مستحيلة.

هذا هو تقدير "المذهب التجريبي" للمصدر الذي تستقى منه "الحقيقة" أما موقف هذا المذهب من "العبارات" على وجه العموم، فيرى أنها لا توجد ولا تنشى معرفة للأشياء على حقيقتها، ولا عن خواصها التي لها، إذ هي بعيدة الصلة عن ذلك. ولذا لا تقول إلا بما نحسه فقط، وبالشبه الذي يكون بين الأشياء بعضها وبعض.

وهذا المذهب عرف به في القرن الثامن عشر: الفيلسوف الاسكتلندي: "هيوم" Hume "1711 - 1886". أما عمل العقل في نظره فهو وقف على ما تأتي به هذه الحواس والتجارب: ليس له من عمل سوى أن يربط بين ما تأتي به هذه الحواس والتجارب، وهي المدركات الحسية أو صور المفردات في العالم الخارجي. وقد يغير العقل في وضع هذه الصور في نفسه عن وضع أصولها في الخارج وقد يوسع أو يقلل في الصور نفسها التي هي التجارب والمدركات المحسوسة. ولكنه على أي حال لا يخرج عن دائرتها. وبهذا العمل العقلي تنشأ الأفكار، ومن بينها فكرة:"الله".

فالعقل يحصل فكرة "الله" في نفسه، في الوقت الذي يرتفع فيه عن حدود الخصائص الإنسانية كلها من الحكمة والخير، أي: إذا أدرك من تجاربه خيرا للإنسان وحكمة له، فإنه ينتقل من هذا الخير الإنساني والحكمة الإنسانية- متجاوزًا الدائرة الإنسانية كلها- فيدرك مطلق الخير ومطلق الحكمة، وذلك هو فكرة الألوهية.

ص: 233

والرابط بين الأفكار على هذا النحو في نظر "هيوم" يمكن أن يتأتى بواسطة العقل والعمل الفكري وحده، بغض النظر عن الوجود "الخارجي" وهو الوجود المحس المشاهد.

أما الأسباب والمسببات -في مقابل هذا- وهي التي تتصل بالأشياء الواقعة فلا يمكن أن تعلم بواسطة العقل، بل تتم معرفتها بواسطة التجربة وحدها، ومن هنا ليس هناك -في نظره- معرفة في الأزل أو فيما وراء التجربة والحس لها الطابع العلمي، ومعنى ذلك أن التفتيش عن "علة" وراء هذا الوجود المحسوس لهذا الوجود المحسوس نفسه، لا يقوم على طريق علمي، أي: طريق تجربي، بل يقوم على طريق عقلي تصوري، كطريق "الربط" بين الأفكار، أو عن طريق "الوحي" والإيمان أي: طريق الدين.

وغاية المعرفة الإنسانية عنده -لهذا- هي تحصيل علل الظواهر الطبيعية، وترتيب آثارها في دائرة قليلة من العلل العامة، أما محاولة كشف علل أخرى لهذه العلل العامة أو كشف علة واحدة عامة مشتركة لها فمحاولة غير مجدية "من الطريق الإنساني"، أي: لا يصل إليها الإنسان وصولا علميا يقينيا.

والقول بأننا ننتظر من العلل المشابهة آثارا متشابهة، يرجع إلى العادة التي ألفناها والتي تحولت إلى اعتقاد جازم، ولا يرجع إلى القياس العقلي أو إلى المعرفة الأزلية السابقة.

والحقائق الدينية لا يمكن إذن أن تعلم أبدا عن طريق الإنسان، سواء بعقله أو حواسه، وإنما يصدق الإنسان بها فقط.

هذا المذهب التجربي -كما ذكرنا- عرف به "هيوم" في القرن الثامن عشر، ولكن نواته وجدت في القرن الخامس قبل الميلاد عند الفيلسوف الإغريقي بروتاجوراس Protagoras "480 - 410ق.م" ثم من بعد "هيو" تطور المذهب بعمل الفيلسوف الفرنسي بايل Bayle "1677 - 1706م" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ قد رفض Bayle التعليل العقلي للحقائق الدينية أي: رفض أن يقوم من العقل دليل على وجود تلك الحقائق، وبالأخص على وجود الحقيقة الإلهية، ونال بهذا الرفض من كل معرفة تتجاوز المحسوس ولا تكمن فيه وهي معارف "الميتافيزيقا" كلها.

ص: 234

ثم بعد أن نال من هذه المعارف، طلب في الحياة الأخلاقية أن يحكم الإنسان "العقل" وحده. وبذلك ينكر الإيمان الديني، والذي يعتبره مناقضا للعقل.

ولكن أي إيمان ديني أنكره Bayle؟؟ سينكشف فيما بعد أنه الإيمان بالتثليث، أي: إيمان الكنيسة الكاثوليكية، وهو الإيمان الذي يؤسس عليه أن يجمع عيسى في طبيعته بين طبيعتي الإله والإنسان.

وقد أثر اتجاه Bayle هذا ضد" الميتافيزيقا" وضد الحقائق الدينية التي وراء العالم المحسوس على السواء في التضييق على المعاني النظرية الصرفة، وبالتالي دفع إلى الحياة العملية "الواقعية" وكان أثر هذا الاتجاه في فرنسا أكثر منه في إنجلترا، وأصبح مفهوم "العلم" في المحيط الفرنسي إذ ذاك مقصوا على التجربة الطبيعية والإنسانية، أي: التي يجربها الإنسان في محيط الطبيعة، دون الحقائق الدينية والفلسفة الميتافيزيقية.

ولم يأخذ هذا "المذهب التجريبي" مكانه في تاريخ الفلسفة -كمدرسة- إلا على عهد الفيلسوف الفرنسي "كومت" Comte في القرن التاسع عشر "1798 - 1857" ومنذئذ عرف "بالمذهب الوضعي" Positivism و"أوجست كومت" Aogust Comte: يعتبر إذن المؤسس الأول "للفلسفة الوضعية" Positive Philosophy. وهي الفلسفة التي لا تعتبر شيئا ما "حقيقيا" و"واقعيا" إلا ذلك الموضوع الوضعي، الذي جاء أثرا لتجارب الحس، ويمكن مع ذلك اختباره بالحس.

و"المذهب الوضعي" الذي استخلصه "أوجست كومت" من "المذهب التجريبي" السابق عليه، يرى أن الفلسفة يجب أن تجتاز ثلاث مراحل، وتنتقل من واحدة إلى الأخرى، لكي تستقر في المرحلة الأخيرة:

- يجب أن تمر في المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي يشرح فيها الإنسان الشيء الطبيعي، ويعلل وجوده ومظاهره من القوى الخارجة عن الطبيعة، وهي القوى الإلهية، أي: من دائرة الدين.

- وتنتقل الفلسفة إلى المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي يشرح فيها الإنسان الحياة الإنسانية وقوانينها وأغراضها، من عبارات نظرية تصورية إنسانية، أي: من دائرة الميتافيزيقا، أي: من العقل النظري الخالص.

ص: 235

ولكن أي دين وأية عبادة؟؟

- الدين: هو دين "الطبيعة الكبيرة".

- والمعبود هو "الإنسانية".

وقد كان تفكير هذا المذهب الوضعي، من العوامل القوية في قيام الماركسية و"الشيوعية" فيما بعد.

ومن أتباع هذه المدرسة الوضعية "ميل" واسبنسر" و"راسل" Russel في إنجلترا، و"لودفيج فيرباخ" في ألمانيا، مما سلف الذكر.

ملخص هذين المذهبين:

هذان مذهبان في تفكير القرن التاسع عشر.

كلاهما: يبحث في قيمة الميتافيزيقا -كمصدر من مصادر المعرفة- وهي فلسفة ما وراء الطبيعة.

فأولهما: "المذهب الاسمي" يجعل "العبارات" التي تدل على الأنواع والأجناس كالوجود، والإنسانية، والعلة

وغيرها: أسماء وإشارات إلى مدلولات متصورة في الذهن، وليست واقعة في الخارج وبما أن هذه العبارات هي مصطلحات الميتافيزيقا، فالفلسفة الميتافيزيقية ليست مصدرا لمعرفة واقعية، بل مصدر ذلك هو الواقع المحسوس وحده، والوسيلة الى التعرف عليه هي الحواس الخمس.

ويلاحظ أن "أوكام" Occam- من عمد المذهب- لا يدخل الحقائق الدينية في الحقائق الميتافيزيقية، ولذا لا يوجه إليها هجوما مباشرًا، بل يفصل بينهما فصلا تاما، وهو إذ يناقش فلسفة ما بعد الطبيعة يناقش صنعة إنسانية، تطلب لنفسها الاعتبار العام فيما تذكره من أفكار وآراء.

وهو أيضا إذا يعيب الدين -المسيحي طبعا- لا يعيب الرسالة المسيحية وتعاليمها كما يفهما العقل الصحيح، أو حتى كما تفهمها البروتستانتية، وإنما يعيب ما لحق بهذه الرسالة من سلطة سياسية عليا، وعصمة لشخص الباب -كرئيس للكنيسة الكاثوليكية- في قوله وعمله.

ص: 237

كما يلاحظ أن "كانت" الألماني، يشبه العبارات الميتافيزيقة بورق نقد بدون ضمان، ويهدف إلى بيان: أن صنعة العقل الإنساني فيما بعد الطبيعة لا تأتي بيقين واقعي؛ لأن العقل لا يستطيع أن يأتي بيقين إذا اجتاز مرحلة الإنسان ودائرته الحسية إلى دائرة أعلى منها فوقها، وكل ما يأتي به عندئذ لا يخرج عن الظن والتخمين. إذ العقل بحكم أنه محدد: بالبيئة وبالمكان والزمان والثقافة الخاصة، والجو الطبيعي والاجتماعي والسياسي، لا يستيطع أن يأتي بيقين عن الموجود غير المحدود، وهو "الله" فالله مطلق في وجوده، لا تحدده شهوة ولا رغبة، ولا يحدده زمان ولا مكان، ولا شيء مما يحدد به الإنسان. ولذلك لا يستطيع الموجود أن يتصور غير المحدد تصورا تماما، وكل ما يفعله أن يقيس وجوده على وجود نفسه. وذلك ظن وليس بيقين! ومن ثم يطالب "كانت" في فلسفته بإفساح مجال القلب للإيمان وإبعاد العمل العقلي عن مجال الألوهية؛ وليس ذلك لأنه ينكر الألوهية؛ بل لأنه يريد أن يبعد العقل البشري عن الظن والتخمين.

وعلى هذا النحو طالب "الغزالي" ومن قبله أبو بكر "الباقلاني" و"إمام الحرمين الجويني" بإبعاد الصنعة العقلية عن مجال الألوهية ووضع الإيمان وتركيزه في القلب، بدلا من تركه في مركز المناقشة العقلية وتشبه حجة هؤلاء العلماء من المسلمين في ذلك حجة "كانت" أيضا، من حيث إن العقل لا يصل إلى يقين فيما بعد الطبيعة، ولذلك كان علم الكلام في نظرهم علما لا ينشئ عقيدة ولا ينمي اعتقادا.

وثاني المذهبين -وهو المذهب التجريبي كما تركه "هيوم" وقبل أن يتحول إلى "المذهب الوضعي" الذي تزعمه "أوجست كومت"- لا ينكر الوصول إلى "الله" عن طريق العمل العقلي، وهو العمل القائم على الربط والمشابهة بين الأفكار. وهو ينكر فقط أن تكون للمعرفة فيما بعد الطبيعة ميزة المعرفة الطبيعية في إمكان اختبارها والتثبت منها عن طريق التجربة.

نعم، بعد أن تحول هذا المذهب إلى "الفلسفة الوضعية" رغبت هذه الفلسفة الوضعية إلى "البحث الفلسفي" جملة أن ينهى توجيهه. ويبقى في "العلم" وفي الدائرة الإنسانية والطبيعية، إذا طلب لمعرفته صفة الحقيقة واليقين، وعلى الإنسان في سلوكه أن يبتدئ من ذات الفرد، وهي "أنا" ويسير منها للجماعة، وفي عبادته يجب أن يتجه إلى المجتمع والطبيعة الكبرى، دون أن يتجه بها إلى ما وراء الإنسان ووراء الجماعة وهو الله.

ص: 238

وبالموازنة بين المذهبين "الاسمي" و"التجريبي" نجد أن المذهب الأول وهو "المذهب الاسمي" عبارة عن بحث في الألفاظ والعبارات، وهو بحث منطقي، اتخذ موضوعه مصطلحات فلسفة ما بعد الطبيعة، وأعلام الأشخاص في هذا الوجود المشاهد، ولكنه لم يتجاوز ذلك إلى إنكار الألوهية، بل حرص قادة هذا المذهب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على الاحتفاظ بالإيمان وبالعقيدة.. وإن كان لهم نقد يتعلق بالدين، فهو موجه لما صاحب المسيحية في تطورها، لا للأسس التي تقوم عليها، على أنهم فرقوا في ذات العبارات، بين عبارات الأنواع والأجناس من جانب، وعبارات الأعلام الشخصية من جانب آخر. ولفظ "الله" ليس من عبارات النوعين.

خرافة الميتافيزيقا:

وهنا في مصر، كان من مظاهر التجديد في الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين ترديد الفكر الغربي في القرن التاسع عشر.

ولم يكن الترديد ترديد النافع منه الذي يصح أن يثمر في الجماعة الإسلامية الناهضة، كالفكر العلمي، في مجال التعمير والهندسة

في مجال الطب.. في مجال الكيمياء

في مجال الطبيعية أو الرياضة البحتة

وإنما كان ترديدا لفكر المستشرقين كما رأينا من قبل، أو للفكر المادي على نحو ما نذكر هنا.

وعند ترديد هذا الفكر باسم التجديد، قد يردد مشوها أو محرفا كما سنرى، مما يزيد الأمر لبسا، ويدفع إلى الشك السلبي، على نحو ما قيل بين طلاب الجامعة:"الدين إيحاء خرافي".

هنا في التعليم الجامعي في بعض كليات الآداب يدرس كتاب "خرافة الميتافيزيقا"

وهو كتاب منقول من الفكر الأوروبي المادي، الذي أشرنا إليه.

هذا الكتاب يصور الهدف الرئيسي منه في العبارة الآتية:

"الغاية الرئيسية من هذا الكتاب هي: بيان أن "العبارات" الميتافيزيقية خلو من المعنى، مع تحديد الميتافيزيقا بأنها البحث في أشياء

ص: 239

لا تقع تحت الحس، لا فعلا ولا إمكانا؛ لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تدرك بحاسة من الحواس"1.

لم يذكر الكتاب في سطر واحد منه، أن المراد من قوله:"البحث في أشياء لا تقع تحت الحس، لا فعلا ولا إمكانا هو "الفلسفة الميتافيزيقية" وحدها دون الحقائق الدينية، كما صرح بذلك مثلا "أوكام" فيما نقلناه عنه من قبل، وبهذا كان يمكن أن يضع أمام قارئه من أول الأمر أنه يهدف إلى مناقشة البحث الفلسفي الإنساني الذي له طابع ما بعد الطبيعة

أما الدين ورسالته.. أما الإسلام على وجه أخص فأمر آخر. وبذلك يبتعد القارئ عن اللبس، ويصون قدسية الدين، في الوقت الذي يناقش فيه صنعة الإنسان، وهي صنعته الميتافيزيقية.

لكن الكتاب ذكر كلمة "العبارات الميتافيزيقية" من غير أن يفرق بين عبارات الأنواع والأجناس من جانب، وعبارت الأعلام الشخصية من جانب آخر، كما صنع أساتذة هذا المذهب فيما عرضنا هنا من قبل. وبذلك لا يعرف القارئ أنه بصدد تحديد ألفاظ، ومدى ارتباطها بمدلولها في واقع الأمر، كما لا يعرف أن اسم "الله" جل جلاله ليس مصونا فحسب عن هذا النقاش، بل لا يدخل في دائرته بحال.

إنه يقول: مطلقا بدون تحديد:

"العبارة الميتافيزيقة التي تخبرنا عن شيء غير محس عبارة فارغة من المعنى، لسبب بسيط وهو: أنها ليست مما يجيز المنطق أن يكون كلاما على الإطلاق، فمتى يقبل الكلام عند المنطق؟ المنطق يقبل الكلام إذا كان لدى السامع وسيلة لتحقيقه، فإما أن يصدقه بعد التحقيق أو يكذبه، أما الكلام الذي يستحيل بطبيعة تركيبه أن نتصور وسيلة لمراجعة صدقه أو كذبه، فهو كلام خلو من المعنى"2.

ونحن بدورنا نتساءل: أي "منطق" له هذه الوظيفة؟ تراه منطق الإنسان عامة؟ وهناك أنواع متعددة من المنطق: منطق الرياضة ومنطق الصورة والقياس، ومنطق الفلسفة الوضعية.

1 كتاب خرافة الميتافيزيقا ص11.

2 المصدر السابق ص78.

ص: 240

لو حدد الكتاب هذا المنطق "بالمنطق الوضعي" لعرف القارئ أن هناك أنواع أخرى من المنطق تخالف هذه الوجهة من النظر، ومن هنا يكون هو إمام منطق محدد، لكن ليس من دافع لأن يجزم بأن المنطق الإنساني عامة -كما يوهم الكتاب- يحيل أن تكون هناك عبارات موجودة على سبيل الحقيقة، وهي تلك العبارات التي مدلولاتها توجد فيما بعد الطبيعة.

ويزيد الكتاب في هذا الإبهام في عباراته التالية:

"إن الميتافيزيقي" لا يقول حين يدعي ما يدعيه: أني أحلل لفظة إلى ما يساويها، هو يصف كائنات يزعم وجودها بصفات معينة، فإذا طلبت إليه أن يدلك على الخبرة الحسية التي من شأنها أن تطلعك على تلك الكائنات، حتى ترى لنفسك إن كانت حقا موصوفة بالصفات التي زعمها أو لم تكن، أجابك بأنها ليست مما يحس.. وإذن هو موقف عجيب: يقول كلاما عن أشياء، ثم يرفض أن يدلك كيف يمكن أن تلتمس الأشياء في خبرتك، لتصدقه أو تكذبه.

"فلا هو على استعداد أن يحقق لنا ما يقوله بالخبرة الحية كما يفعل الذين يحدثوننا عن الأشياء الخارجية في العلوم أو في الحياة الجارية، ولا هو بقانع أن يجيء كلامه تحصيل حاصل حتى تصفه بالصدق من غير التجاء إلى خبرة حسية!

"وإذن فلا هو يقول عبارات تركيبية كالتي يقولها العلماء الطبيعيون، ولا عبارات تحليلية كالتي يقولها علماء الرياضة.

"فأي نوع من الكلام يقول؟ كلام الميتافيزيقي فارغ لا يحمل معنى.

"يزعم لنا الميتافيزيقي أنه قد جاء بعلم عن الحقيقة التي لا تدخل في نطاق الطبيعة المحسوسة المشهودة، إذ هو يحدثنا عن أشياء تجاوز عالم الشهادة والحس، فنسأله: من أي المقدمات استخلصت نتائجك التي انتهيت إليها؟ أليس يتحتم عليك -كما يتحتم على سائر الناس- أن تبدأ بشهادة حواسك، وإن كان ذلك كذلك، فكيف يجوز أن تستنبط من مقدمات حسية نتائج عن حقيقة أخرى خارجة عن نطاق الحواس؟ إنك إذا بدأت بمقدمات

ص: 241

أكل كلمات "الميتافيزيقا" على هذا النحو، وجماهير الناس لا يعرفون "الميتافيزيقا" فضلا عن أن يقفوا على مصطلحاتها؟

"للميتافيزيقا" سوق يتعامل فيه جماهير الناس، وهي أبعد جوانب الفلسفة وأشدها عزلة عن الحياة العقلية العامة وحياة الرأي العام، وهي حياة الجماهير.

إن منطق الكتاب هو التعمية وعدم التفرقة.

- أولا: بين عبارات الأنواع والأجناس من جانب وعبارات الأعلام الشخصية والأفراد من جانب آخر.

- وثانيا: بين الحقائق الدينية والحقائق الميتافيزيقية كما صنع أرباب "المذهب الاسمي".

وهذا المنطق من السهل تحديد هذه "الكلمة المتداولة" في كثرة، والتي ظن الناس منذ مدة طويلة أن لها قيمة كبيرة وهي زيف لا قيمة لها في التعامل، لو تنبه الناس إلى ذلك، بأنها "الله". وهكذا يكون لفظ الله فارغ، ولا مدلول له وهو خرافة!!

قصد التعمية هنا، وتجاهل التفرقة التي التزمها أصحاب "المذهب الاسمي" كما رأينا، لا تدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية، بل تدل أيضا على أن "البتر" في النقل عن الغير يكاد يكون صفة من صفات "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين. قد قيم المشركون أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحس"، وحده، ورأوا أن مصدرهم في المعرفة هو عالم المحسوسات لا غيره، واعتقدوا أنهم وصلوا إلى حقائق لا يجوز لهم أن يستبدلولها بتلك الحقائق الأخرى التي ليست في شاهدهم.

ومع ذلك كانت معارفهم أسماء لا مسميات لها على سبيل الحقيقة، وتبين أنهم يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ويتحدث القرآن عنهم في قول الله تعالى:

ص: 243

{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 1.

فقد يقع "الحس" على أشياء وأشياء، ومع ذلك لا يدرك هو نفسه حقائقها ومدلولاتها في الخارج، وعندئذ تكون عباراتها أسماء، وتكون تلك الأسماء رموزا وأرقاما، لا تحمل حقائق، ولا تدفع "العقل" الخالص نحو إقرارها.

قد تدرك "الحواس" إذن إدراكا خطأ، وقد يكون تصور "العقل"وهما وظنا، ولكن حسن الظن بالحواس، أو الثقة بالعقل قد تحمل محسن الظن على أن ينخدع بأحدهما، أو بكليهما.

فالقرآن هنا في الآية السابقة يحكي عن المشركين الذين انخدعوا بـ"الحس" فاعتقدوا في كائنات محسة -هي على الحقيقة أحجار- أنها صاحبة تأثير إيجابي أو سلبي في حياتهم، وأنها آلهة تعبد.. وطاوع "عقلهم" ما انخدعوا فيه من حس، فكان العقل ظنا وهوى، لا علما وحقيقة واقعة.

الإنسان المحدود قد يطغى أن رآه استغنى، ويدفعه طغيانه إلى إنكار عقله وإنكار أصل وجوده وخلقه

مع الإيمان فقط بما يتصل بشهوة بطنه وفرجه، وذلك هو الإنسان صاحب الفلسفة "الحسية".

وقد يدفعه هذا الطغيان مرة أخرى إلى إنكار عالمه الذي يعيش فيه، وإنكار العالم الأزلي السابق على وجوده الذي فيه خالقه

مع الإيمان فحسب، بأنه هو الوجود، أو على الأقل هو نفسه رب الوجود! فمن "عقله" يحدد خصائص الوجود، ومن "عقله" أو "نفسه" يلون العالم الذي يعيش فيه، وذلك هو الإنسان العقلي أو النفسي في تفلسفه.

1 النجم: 19-23.

ص: 244

وإذ ينتقل كتاب: "خرافة الميتافيزيقا" من الجانب النظري إلى الناحية العلمية -وهي الجانب الخلقي- يقول عن مصدر القيم الأخلاقية.

"القيم "الأخلاقية" جزء من ذات نفسه، وإن العالم الخارجي عن ذاته، لا خير فيه ولا جمال، وإنما هو عالم من الأشياء!! فإذا أراد أن يقف إزاءها وقفة العالم الذي ينطق كلاما ذا معنى، كان لا بد له من قصر الحديث على وصف ما يراه فعلا، وما يسمعه، وما يحسه بسائر حواسه، دون إضافة شيء من ذات نفسه إلى الوصف، وإلا فقد أراد لنفسه شيئا غير العلم ومجاله"1.

والكتاب في هذا الجانب العملي يشير إلى المذهب النفسي في التفلسف Psychologism

ذلك المذهب الذي ينكر وجود العالم الخارجي على نحو معين في ذاته من الخير أو الجمال أو نحو ذلك. ويرى أن وصف العالم الخارجي بشيء من ذلك يرجع إلى إحساسات الإنسان وانفعالاته المختلفة، دون ذوات الأشياء. فالإنسان هو الذي يضفي الوصف على الأشياء، وليس هذا الوصف للأشياء من ذواتها.

وتقابل هذه النظر، نظرة مذهب الوجود antolagism -وليس الوجودية- وهي نظرة ترى أن المبادئ الميتافيزيقية، وبالأخص فكرة "الوجود المطلق" -وهي الله- بداية التفلسف وبداية المعرفة، وليست الحقائق التجريبية النفسية. ويقصد بذلك أن التجارب النفسية من عواطف وإحساسات ليست هي التي تصبغ العالم الخارجي بصبغتها، بل مبادئ الوجود الثابتة، وفي مقدمتها مبدأ "الوجود المطلق" -أي: الله- هي التي يرجع إليها شرح هذا العالم وما فيه من موجودات، وإذن ما في العالم من خير وشر وجمال، مصدر تحديده فكرة الوجود المطلق، وليس إملاء عواطف الإنسان.

وكتاب "خرافة الميتافيزيقا" في الجانبين: النظري والعملي، يتشبث بدعوى "الاسميين" و"الوضعيين"

ولكن بالصورة التي عرض هو بها آراءهم وليس بالصورة التي أفرغوها هم في تاريخ مذهبيهم!

وقد رأينا من قبل في تاريخ "الاسميين" أنهم يحتاطون في فصل الدين عن الميتافيزيقا بأن وجهوا إلي هذه الأخيرة النقد باسم البحث

1 صفحة 112.

ص: 245

العلمي. كما رأينا في تاريخ "التجريبيين" و"الوضعيين" أنهم في فترة طويلة صانوا الدين عن النقد، ثم مسوه بعد أن قام كومت Comte ومن بعده فيرباخ Feuerpach على تدعيم "المذهب التجريبي" باسم "الفلسفة الوضعية" لكن لمذا تجاوز النقد في أوروبا الميتافيزيقا إلى الدين؟

يمكننا أن نقف على هذا السؤال من عمل الفلاسفة الذين قاموا في القرنين السابع عشر والتاسع عشر بمحاولة عقلية فلسفية للاحتفاظ بقدسية الدين، وقيمة الوحي

وسنرى أن السبب في ذلك هو الرغبة في مقاومة نفوذ الكنيسة الكاثوليكية أولا وليس في مقاومة الإيمان في ذاته.

في القرن السابع عشر قام "سبينوزا" Spinoza 1، و"ليبنيتز" Leibniz2 و"لوك" Locke3

وأراد ثلاثتهم أن يجمعوا الطوائف المسيحية الثلاث في أوروبا الغربية -طوائف الكاثوليك، وأتباع لوثر، والمصلحين- على أساس من التعاليم الأصيلة للمسيحية وابتدعوا لهذه المحاول ما سموه "بنظام العقيدة"

وكتب "لوك" خطابات ثلاثة عن "التسامح" وعبر عن هذا التسامح في كلمته المعروفة "كنيسة حرة، في دولة حرة".

وتحولت هذه المحاولة من الوجهة النظرية -عند الفلاسفة الثلاثة- إلى القيام بتعليل عقلي لـ"مسيحية عامة صافية"، وأطلقوا على هذا التعليل "دين الطبيعة" أو "دين العقل"، وجعل أساس هذا الدين: الإيمان الكامل بالوحي الإلهي، وعرفوا الوحي الإلهي بأنه ما كان فوق العقل البشري، لكنه ينسجم مع العقل، أي: إن الذي يعتبر وحيا هو ما لا يستطيع العقل أن يجده في نفسه، ولكن مع ذلك يمكن له أن يفهمه في وفاق وانسجام مع تفكيره الصحيح.

وقد زاد جماعة السوسينيين Socinienes4 في تأكيد وجود

1 عاش بين سنتي 1631-1677.

2 عاش بين سنتي 1646-1716.

3 عاش بين سنتي 1632-1704.

4 أتباع الفيلسوف الإيطالي Socin في القرن السادس عشر "1525-1562" وقد كان ضد الكثلكة.

ص: 246

الوحي الإلهي، ولكنهم عبروا بأنه ما ليس بوحي هو ما لا يستطيع العقل أن يفهمه، وتطبيقا لهذا اعتبروا ما جاء في كتب العقيدة المسيحية من التثليث، ومن جعل المسيح إلها إنسانيا -في وقت واحد- غير وحي.

ثم رأوا أن ما أوحى به الله له طابع القانون، ويجب العمل به. والدين لا يبقى في حيز الفكرة النظرية، بل هو خضوع تام للقانون الإلهي، هو عمل وسلوك طبقا لهذا القانون؛ لأنه طالما كان القانون الإلهي غير مؤسس على الأغراض الشخصية بل هو عام للإنسانية، يجب أن ينفذه الشخص؛ لأن في تنفيذه مصلحته ومصلحة غيره.

وفي القرن التاسع عشر أسس الفيلسوف الألماني "فريدريك هيرش جاكوبي" Friedrick Heirich Hacobi فلسفته التي سماها "فلسفة الإيمان" وجعلها في مقابل فلسفة "كانت" في "نقد العقل الخالص".

وتقول هذه الفلسفة: إن فينا عقلا مباشرا من الله، ذلك الذي صنع للإنسان طبيعته الخاصة، وواهب هذا العقل وهو الله، يعيش في قلوبنا حاضرا، كما تتمثل الطبيعة أمام حواسنا الخارجية.. هو:"ضوء في قلبي، ولكن عندما أريد إحضاره في العقل ينطفئ"!! أي: إن العقل لا يستطيع أن يحده وإن كان يملأ فراغ القلب بالإدراك الوجداني.

وجاء "هيجل" Hegel في القرن التاسع عشر أيضا، وأقام فلسفة خاصة به على أساس مما سماه "الفكرة"

ووصل بهذه الفلسفة الخاصة إلى وحدانية الله، وبذلك أغضب الكنيسة الكاثوليكية بإنكار التثليث في الألوهية! ويقول "هيجل" معلقا على الحركة الفكرية لـ"كانت":"في ألمانيا دارت هذه التمثيلية الخاصة، وهي: أن الشعب المثقف هو شعب من غير ميتافيزيقا، وأن المعبد الذي استكمل زينته وزخرفته هو المعبد الذي خلا من أقدس المجودات".

وعلى غرار هيجل، قام شلنج Schelling بعمل فلسفي سمي بالفلسفة "البنائية" وهي فلسفة تهدف إلى إقرار مذهب الوحدة في الألوهية.

وهنا نجد، من دفاع هؤلاء الفلاسفة عن الدين، ومن محاولاتهم الفلسفية لإصلاحه، أن الدين تجاوزوا من فلاسفة الغرب بنقدهم الميتافيزيقا

ص: 247

إلى الدين، لم ينقدوه إلا لتصفيته من العقائد غير المعقولة، في عصر تيقظ الإنسان فيه إلى قيمة نفسه.

لقد حاربوا التثليث، وعقيدة ألوهية عيسى، والاعتقاد بعصمة البابا وبسلطانه الزمني

ولم ينقدوا "الإيمان" في أصله، بل نقدوا الطارئ عليه، مما لا يستقيم مع العقل الإنساني الواضح.. مما سيكون موضع تفصيل في حديثنا عن المشكلة التالية: الدين "مخدر"، حتى يتضح موضوع النزاع على حقيقته في الفكر الأوروبي.

ولكن هنا في مصر والشرق الإسلامي، عندما ارتضى "المجددون" لأنفسهم أن يكونوا مرددين لمفكري الغرب، رددوا هجوما على دين ليس ثمة داع لمهاجمته "وهو الإسلام" لأنهم قرءوا ما يشبه الهجوم على المسيحية باسم النقد العلمي أو العقلي!!

فعندما أراد المجددون في مصر أن يقفوا على قدم المساواة مع الغربيين الأحرار -كما فعل صاحب "مستقبل الثقافة في مصر! "- رأوا من المساواة في الوقوف على قدم واحد معهم: أن ينقلوا عيب الغربيين المغرضين للإسلام، وأن يغمضوا ويبهموا فيما ينقلونه باسم الفكر التجريبي أو الاسمي، حتى يكون منهم في تجديدهم في الفكر انتقاص للإسلام، وبذلك يتساوون في الوقوف على قدم واحدة، وهي توجيه الملام والعيب للدين!!

والتساوي في الوقوف مع الإنسان الحر في البحث، هو أن لا تطغى عليه عاطفة فيما يبحث، وأن يكون صريحا في الحديث عن عاطفته -إذا تملكته هذه العاطفة في البحث- دون أن يغمط شأنها أو يرهق "الحرية في البحث" يوم يدعو من وراء ستار إلى ما يرى أو يرغب.

ص: 248