الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين مخدر:
الصراع بين الدين والعقل والحس في تاريخ الفكر الأوروبي:
مضت على التفكير الأوروبي منذ القرن الرابع عشر إلى الآن مراحل شهدت فيها العقلية الأوروبية صراعا فكريا، واتجاهات عقلية مختلفة، تدور حول "تبرير" مصادر المعرفة التي عرفتها البشرية في تاريخها حتى الوقت الحاضر، وهي: الدين، والعقل، والحس أو الواقع، وفي كل مرحلة من هذه المراحل ينشأ سؤال عن "قيمة" أي واحد من هذه الثلاثة، كمصدر للمعرفة المؤكدة أو اليقينية، ثم يكون الجواب على هذا السؤال إيجابا أو سلبا، ومن السؤال وما يدور حوله من جدل وأخذ ورد، تتكون المذاهب الفلسفية التي تعبر عن قيمة المصدر، الذي وضع للاختبار والتقدير.
سيادة النص أو الدين:
كان "الدين" أو "نص" سائدا طوال القرون الوسطى في توجيه الإنسان، سواء في سلوكه وتنظيم جماعته، أو في فهمه للطبيعة، وكان يقصد بالدين:"المسيحية" وكان يراد من المسيحية: "الكثلكة" وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية".
والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" باسم الله في يد البابا. وقصر حق تفسير "الكتاب المقدس" على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى الاعتبار بين نص الكتاب المقدس ومفاهيم الكنيسة الكاثوليكية.. وجعل عقيدة "التثليث" عقيدة أصيلة في المسيحية كما جعل "الاعتراف بالخطأ" و"صكوك الغفران" من رسوم العبادة
…
وغير ذلك مما يتصل بالكاثوليكية كمذهب وكنظام لاهوتي.
حتى كان القرن الخامس عشر، وحتى ابتدأت الحرب الصليبية تثمر ثمرتها الإيجابية في العقلية الأوروبية، فقام "مارتن لوثر " Luther1 "وكافح""تعاليم الشيطان" كما سماها..وهي تعاليم البابوية والكنيسة الكاثوليكية، فحارب "صكوك الغفران" ونظر إليها كوسائل للرق والعبودية، وألقى الأضواء على عقيدة "التثليث" كما حارب سلطة "البابا"، وجعل السلطة الوحيدة في المسيحية هي الكتاب المقدس وكلمة الله "النص" وطالب بالحرية في بحث الكتاب، ولكن ليست أية حرية على العموم.. ومع ذلك جعل الكتاب المقدس نفسه هو مصدر الحقيقة فيما يتصل بالإيمان، ثم جعل "الإيمان" في الاعتبار والقيمة مقدما على أي شيء آخر عداه، من العقل أو الطبيعة.
وجاء بعد لوثر -في طريقه- "كالفن" Calvin 2، وأقر لوثر على أن: الإنجيل وحده هو المصدر "للحقيقة المسيحية" دون تفسيراته وشرحه، وأوضح رأيه في عقيدة التثليث وفقا لأصول المسيحية الصحيحة.
وبحركة "لوثر" و"كالفن" الإصلاحية، تعرضت المسيحية للجدل الفكري وأصبحت موضوعا للنقاش العقلي والمذاهب الفلسفية، والمسيحية التي تعرضت لذلك هي المسيحية التي تناولها لوثر بإصلاحه أي: الكاثوليكية البابوية:
- من أنكر من الفلاسفة على الدين أن تكون له "سلطة"
…
أنكر سلطة البابوية.
- ومن وضع العلاقة بين الدين والعقل كشيئين متقابلين أو متناقضين.. حدد العلاقة بين "الكثلكة" وتصويرها لعقيدة "التثليث" وما فيها من مراسم "صكوك الغفران" من جانب، وبين العقل الإنساني العام من جانب آخر.
- ومن دافع عن المسيحية من الفلاسفة، كـ"هيجل": دافع عن "التعاليم النقية للمسيحية" التي احتضنها "لوثر"، في إصلاحه في مواجهة تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.
1 عاش بين سنتي 1438-1546.
2 عاش بين سنتي 1509-1564.
وهكذا: كان "الدين" الذي جعل موضوعا للصراع العقلي الأوروبي
…
نوعا خاصا من الدين.
وكذلك كان الذي قبل منه باسم الفلسفة أيضا كان جملة خاصة من تعاليمه.
كما كان الذي رفض منه باسم الفلسفة كان أيضا جملة خاصة من تعاليمه.
وفي عهد سيادة "الدين" كمصدر للمعرفة -سواء في عصر سلطة الكنيسة الكاثوليكية أو في عهد الإصلاح الديني للوثر -نظر إلى "الكتاب المقدس" وهو الإنجيل على أنه فوق العقل
…
على معنى أن للعقل أن يبحث ويرى- إن جاز له أن يبحث ويرى- ولكن للكتاب المقدس الكلمة الأخيرة فيما يرى العقل ويحكم.
والفلاسفة الذين ناصروا الدين والوحي، اعتبروا أن الألوهية المرجع الأخير للوجود وللمعرفة على السواء.
سيادة العقل:
استمر اعتبار الوحي كمرجع أخير للمعرفة على خلافة في تحديد تعاليمه، حتى كان النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهو عصر "التنوير" في تاريخ الفلسفة الأوروبية
…
وعصر التنوير له طابعه الخاص الذي يتميز به عن العصر السابق عليه، وكذا عن الآخر اللاحق له، وله طابعه المشترك في الفكر: الألماني والإنجليزي والفرنسي في الفترة الزمنية التي تحدده، وله فلاسفة في دوائر الفكر الثلاث كونوا الطابع الفكري الذي عرف به.
فمن فلاسفته في ألمانيا: ولف Chirstian Wolf ولسج Lessing وفي إنجلترا: لوك John Loke.
وفي فرنسا: فولتير Voltaire وبيلي Pieter Bayle ولامتري Lamettrie
وطابعه الفكري الذي يتميز به هو:
-نمو شعور العقل وإحساسه بنفسه، وبقدرته على أن يأخذ مصير مستقبل الإنسانية في يده، بعد أن يزيل كل عبودية ورثها من قبل -وهي عبودية الكنيسة وتعاليمها- حتى لا تحجبه عن التخطيط الواضح لهذا المصير.
- الشجاعة والجرأة التي لا تتأرجح في إخضاع كل حدث تاريخي لامتحان العقل وكذلك في تكوين الدولة، والجماعة، والاقتصاد، والقانون والدين والتربية، تكوينا جديدا، على الأسس السليمة المصفاة التي لكل واحدة منها.
- الإيمان بتعاون جميع المصالح والمنافع، وبالإخوة في الإنسانية، على أساس من هذه الثقافة العقلية وحدها، المستمرة في التزايد والنمو.
ومعنى ذلك كله. وجوب سيادة "العقل" -كمصدر للمعرفة- على غيره.. وغيره الذي ينازعه "السيادة" في ذلك الوقت هو "الدين".. أي: المسيحية "الكاثوليكية" أولا. وقد تكون معها "البروتستنتية" كمذهب عرف للإصلاح الديني هناك.
فللعقل -في نظر أصحاب عصر التنوير- الحق في الإشراف على كل اتجاهات الحياة، وما فيها من سياسة وقانون ودين.
و"الإنسانية" هي هدف الحياة للجميع، وليس الله أو المجتمع الخاص أو الدولة الخاصة.
وكما يسمى هذا العصر بـ"عصر التنوير" يسمى أيضا بـ"العصر الإنساني"
…
وكذا يسمى بعصر الـ"Deisin" أي: عصر الإيمان الفلسفي بإله ليس له وحي وليس بخالق للعالم إذ كل مسميات هذه الأسماء تعتبر من خواصه.
فالتنوير: لا يقصد به إلا إبعاد الدين عن مجال التوجيه، وإحلال العقل محله فيه.
والإنسانية التي يبشر بها هذا العصر: ليست إلا عوضا عن القربى "من الله" كهدف للإنسان في سلوكه في الحياة.
والإله الذي ليس له وحي ولا خلق: يتفق مع تحكيم العقل وحده، وطلب سيادته على أحداث الحياة واتجاهاتها.
وكانت في عصر "التنوير" إذن خصومة فكرية بين "الدين" و"العقل" واتجه التفكير فيه إلى إخضاع الدين للعقل.. لذلك عد زمن هذا العصر فترة سيادة "العقل"، كما عد العصر السابق عليه فترة سيادة "الدين".
ولكن مع ذلك، كان للدين في هذه الفترة أنصار من أرباب الفكر، كما كان للعقل وقت سيادة الدين في العصر السابق أنصار من رجال الدين "وهم المصلحون" ورجال الفلسفة كذلك:
بلانش:
فنرى -مثلا- Ballanche يعقد سيادة "العقل" كمصدر وحيد للمعرفة ويذكر: أن فلسفة "التنوير" أخطأت عندما قصدت إلى أن العقل -وحده ومن نفسه- يمكن أن يوجد "الحقيقة" وينظم الجماعة
…
وأخطأت كذلك عندما أرادت أن تقيم صورة العلاقة المشتركة بين الأفراد على ما بينهم من ميل ومحبة إنسانية، دون ما يربطهم من قبل من رباط اللغة والدين والتقاليد، وما أشبه ذلك من الروابط الأخرى السائدة.
ويستطرد بلانش فيذكر أنه في الواقع كل حياة عقلية للإنسان هي حصيلة للتقاليد الاجتماعية، واللغة بالذات.. فاللغة هي وحي الله للإنسان، و"الكلمة الإلهية" هي مصدر "الحقيقة" والمعرفة الإنسانية هي دائما قسم من هذه الحقيقة الإلهية، وتنمو من الضمير الذي بداخلها، والذي يجعل للعام اعتبارا خاصا بأنفسنا، و"الكنيسة" هي حاملة "الكلمة الإلهية" فتعاليمها هي "العقل العام" الذي هو منحة من الله، والتي تشبه شجرة نمت على مر الزمن ونضجت بها كل المعارف الإنسانية الخالصة من الزيف، ولهذا يمكن أن يعتبر "الوحي" وحده أساسا "للجماعة" ونظامها، كما يعتبر أساسا "للمعرفة" و"الحقيقة" معا.
ويعلق "فندلبند" على نقد بلانش لفلسفة عصر "التنوير" بقوله: و"العنصر الفلسفي لهذه النظرية الكنسية جاء من الاعتراف بـ"العقل النوعي" الذي تحقق ووجد في التطور التاريخي للجماعة، كسبب للحياة العقلية عند الأفراد.
ومن هذا يتضح: أن صراع العقل مع الدين هو صراع "الفكر الإنساني" مع "مسيحية الكنيسة الكاثوليكية".
وأن دوافع هذا الصراع هي الظروف التي أقامتها الكنيسة في الحياة الأوروبية.. سواء في مجال التوجيه والبحث، أو في مجال السياسة أو في نطاق العقيدة والإيمان!!
فيشته:
ومن الذين دخلوا في هذا الصراع -من أجل العقل وسيادته- الفيلسوف الألماني "فيشته" Fichte1.
أقام فلسفته على أساس من استخدام الإنسان لمبدأ "النقيض" في "تصور الإنسان لنفسه" وأكد في هذه الفلسفة:
- قيمة العقل الإنساني.
- وحريته.
- كما رأى -في الجانب العملي- أن "الخلقية الإنسانية" هي في العمل وحده
…
وعلى الأخص في تهذيب الجسم. وصقل العقل، واندماج الإنسان في الجماعة الإنسانية كعضو فيها.
- وجعل هذا التطور الإنساني "ذوبان" الجنس البشري في جمهورية تتكون من الشعوب صاحبة المدنية، على أن تخضع العامة لأصحاب المهارة السياسية، وعلى أن يحتفظ المدنيون جميعا بالحرية المقررة، وأن يتمتعوا بحق الوقاية من القهر والخضوع بالقوة، وبحق الملكية وفرصة العمل وبحق المشاركة في إنتاج الدولة الاقتصادي.
- وأخيرا، رأى أنه يجب على كل واحد في الجماعة أن يفهم رسالة العظماء وصانعي الخير في الإنسانية. وذلك بأن يعمل لإثراء الجنس الأخوي وإسعاده.
1 عاش بين سنتي 1762-1814. وهو: Johann Gottlieh Fichte.
ولم يخرج "فيشته" بفلسفته العقلية هذه عن الطابع العام لعصر "التنوير"، وهو طابع تقدير "العقل" وحده دون "الوحي" والدين في المعرفة، والنظر إلى "الجماعة الإنسانية" كهدف أخير للإنسان.. على أن يحتفظ فيها الفرد بحريته المشروعة، وعلى أن تقود الطبقة المفكرة صاحبة المهارة السياسية غيرها من الطبقات الأخرى فيها.
مبدأ النقيض:
وفي الوصول إلى هذه النتائج من الوجهة الفلسفية، قرر "فيشته" أن"تصور الإنسان لنفسه وحده" هو بداية الطريق، وأشبه بالمقدمات التي تسلتزم نتائجها
…
على النحو الذي حدد به غاية فلسفته.
فإذا تصور الإنسان نفسه.. أي إذا "أنا" تصورت "أنا".
نشأ عنه: أن "أنا" هو "أنا".
ونشأ عنه أيضا: ما "ليس أنا" غير "أنا".
-فهنا: "أنا" an-sich، وهنا أيضا:"ليس أنا" fure-sich وتصور "أنا" يسلتزم تصور "ليس أنا".
- ولكن وجود "ليس أنا" منطو في الوجود الحقيقي لـ"أنا".
- وإذن "أنا" باعتبار أنه يطوي في ذاته وجود "ليس أنا"، وهو جامع للشيء ومقابله an-sich und fure-scich.
وتصور الإنسان لنفسه ينتج إذن خطوات ثلاثا في الفكر.
Tiplily" Tripliziaet".
وبما أنه ليس هناك -عندما تصور الإنسان نفسه -إلا "أنا"، فالأشياء الخارجة عن أنفسنا أي: الأشياء التي هي "ليس أنا"، نتصورها فقط عن طريق: أن "أنا" يطوي في نفسه حقيقة أخرى، وهي:"ليس أنا" وهذه الأشياء الخارجة عن أنفسنا بعد ذلك ليست منطوية فقط في "أنا" بل هي عمل لـ"أنا" ومن إنتاجه.
وترجع فكرة: "تصور الإنسان لنفسه" وما تستتبعه من خطوات ثلاث، إلى مبدأ آخر هو مبدأ "النقيض" Der widerspruch وهو مبدأ قامت عليه الفلسفة الألمانية "العقلية" وتراه مبدأ ضروريا لا يقبل الرفع. ويتبع طبيعة العقل، وخاصة من خواصه. ومن أجل هذا المبدأ كان العقل حقيقيا، ثم بالتالي كان المبدأ نفسه حقيقيا
…
وقد استخدمه في هذه الفلسفة العقلية "فيشته" أولا، ثم تبعه فيها "هيجل"، ثم تبعهما "كارل ماركس" فاستخدمه في الفلسفة "المادية".
وكل من "فيشته" و"هيجل" وضع مصطلحات تعبر عن هذا المبدأ1: أما "كارل ماركس" فقد آثر أن يستخدم مصطلحات "هيجل" لأنه أحد تلامذة مدرسته، وإن نهج بتفكير هذه المدرسة إلى غاية أخرى غير غايتها الأولى التي هدف إليها "هيجل"، وتحول عن ذلك منذ بداية سنة 1840م، متأثرا في هذا التحول بـ"فيرباخ" الفيلسوف الوضعي الألماني.
ومنطق "مبدأ النقيض" على النحو الذي استخدمه "فيشته":
- أن العقل مستقل تماما عن غيره، وموجود من أجل نفسه، ووجوده هو وجوده هو، لا وجود غيره.
- وماهية العقل تتضح إذن من العقل نفسه، وليست مما هو خارج عنه مغاير له.. إذ لو توقفت ماهية العقل على غيره الخارجي عنه، لكان معناه أن:"ليس أنا" هو نقطة البداية، وفي ذلك الغاء لـ"أنا" فتوقف العقل في توضيح ذاته على غيره دون توقفه على ذاته نفي للعقل نفسه قبل أن يصل إلى غيره؛ لأنه لا معنى لوجود "ليس انا" إلا نفي وجود "أنا" أي: نفي العقل نفسه.
كما أن منطق هذا المبدأ على نحو ما يستخدم في "تصور الإنسان لنفسه". لا يجعل إدراك عالم الأشياء من إنتاج قوة التصور والفكر لدى
1 وضع فيشته المصطلحات السابقة:
an-sich und fuer-such. an-sich.
ووضع هيجل: syn-thesis، anti-thesis، thesis
أما كارل ماركس فقد استخدم مصطلحات هيجل.
الإنسان فحسب.. بل يؤكد "حرية الإنسان في هذا الإدراك، كما يؤكد حريته في العمل على العموم. ويؤكد بالتالي أنه غير مجبر لغيره، ولا مضطر في عمله: إذ هذه الحرية من تفكير الإنسان، لا يحددها الشيء الخارج عنه هي من العقل الذي يحدد غيره، وهو الشيء الخارج عنه.
وبهذا وصل فيشته إلى:
-استقلال العقل في الوجود عن الجسم أو أي كائن آخر، وإلى سيادته على نفسه، وعلى غيره وهو العالم الخارجي عنه.
- ثم إلى حرية الإنسان في العمل حرية تامة، لا يشوبها شبه تحديد من غير الإنسان نفسه.
- وأخيرا إلى تبعية عالم الأشياء في تصوره إلى العقل.
ويستمر "فيشته" -في استخدام "مبدأ النقيض"- فيصل إلى أن عالم الأشياء غير متوقف في تصوره فحسب على العقل، بل هو أيضا ليس سوى الشيء المادي لعمل الإنسان، أي ليس سوى المحسوس المادي لـ"واجب" الإنسان
…
هو تعبير عن "خلقية" الإنسان، هو في تصوره متوقف على الإنسان، وفي الوقت نفسه يمثل خلقية الإنسان؛ لأنه عمله. ويذكر "فيشته" أن بين موجودات العالم الخارجي: تهذيب الجسم، وصقل العقل، واندماج الإنسان في الجماعة الإنسانية، على أنها تمثل أعمال الإنسان الخلقية في العالم المحسوس.
الجماعة الإنسانية الخاصة والعامة:
وتكوين الجماعة الإنسانية غاية العقل الأخيرة في نظر "فيتشه" كعمل خلقي للإنسان، وثمرة من ثمرات تفكيره الحر
…
شأنها شأن عمل التهذيب للجسم، والتمدين للعقل على السواء، لا يتمتع المتمدينون فيها بالحرية المشروعة، وبحق الوقاية من القهر بالقوة فحسب، بل لهم الحق كذلك في الملكية، وفرصة العمل، والاشتراك في إنتاج الدولة الاقتصادي، والجمهور مع ذلك هو أداة في يد المهرة السياسيين، وحقه محفوظ في الدولة طالما يخضع بمحض اختياره للشخصية المنتجة "الخالقة"، وهي شخصية القادة وأصحاب المهارة السياسية.
ويكمن كل تحديد "للواجب" -كما تكمن كل قيمة للعمل- في أن كل واحد في الجماعة -بالاشتراك مع "الكل"- يضع نفسه في خدمة النوع البشري العام، وخدمة الدولة الخاصة. وهذا هو غاية العقل في إدراكه وحريته، وغاية خلقية الإنسان في العمل والتصرف.
واتجاه تطور الإنسان -كما يراه "فيشته"- يسير نحو اندماج الجنس البشري كله في "جمهورية" للشعوب صاحبة المدنية، وفي عمل مشترك منظم تنظيما دقيقا يقصد لرفع قوة الإنسان فوق قوة الطبيعة، عن طريق علم الطبيعة والفن، كما يقصد لإخضاع الطبيعة كلها إخضاعا تاما تحت سلطان الفكرة والعقل.
والندء الأخير لهذه الفلسفة "الفيشتية" هو: أن كل صانعي الخير والمجد في الإنسانية، وكذا كل العظماء في تاريخهم عملوا من أجلي
…
فواجبي أن أفهم رسالتهم، وأن أعمل على إثراء الجنس الأخوي وإسعاده، وعلى إتمام "المعبد" العظيم الذي اضطروا لتركه بدون إتمام.
وهنا ينتصر فيشته:
- للعقل: ويجعل غيره -وهو الطبيعة- تابعا له.
- وينتصر للحرية الفردية، وحرمات الفرد.
- ويجعل العمل من أجل الدولة، كإنتاج للإنسان، عملا يتسم بالخلقية والمدنية.
- وينتصر لقيادة الخاصة: وهم أصحاب العقل "الخالق"، ويجب أن يوضع بيدهم توجيه الجماهير والعامة، ويحدد رسالة هؤلاء الجماهير والعامة في أن يسيروا في ذات الطريق الذي عبده عظماؤهم، وإلى نفس الغاية التي قصدوا إليها في سيرهم.
ويرى أن تطور البشرية يجب أن يكون إلى الانصهار في جمهورية عامة، وهو عمل للعقل، صادر عن حرية في الفكر، وإرادة خلقية، ويوم تنصهر الشعوب في جمهورية واحدة يدل ذلك على أنها تمدنت بالفعل، وعلى أن العقل أدى رسالة عظيمة.
و"فيتشه"- لذلك كله- يؤمن بالفكر: بحريته وإرادته، ويؤمن بالفرد وبالجماعة، وبالإنسانية عامة. ويؤمن أيضا بأن الإنسان بعقله يسود الطبيعة وأنه بأداء ما يجب عليه يهذب نفسه وجسمه ويمدن جنسه، ويقوي أواصر الأخوة بينه وبين غيره.
هيجل:
وإذا كان فيشته قد استخدم مبدأ "النقيض" كي يدعم سيادة "العقل" كمصدر للمعرفة مقابل الدين أو الطبيعة -على نحو ما رأينا، فإن "هيجل" استخدم نفس المبدأ لتأكيد قيمة "العقل" أيضا، ثم لدعم فكرة "الألوهية" من جديد، وتأكيد "الوحي" كمصدر أخير "للحقيقة" وذلك على اعتبار أن "الله" عقل.
وبدلا من المصطلحات الثلاثة التي تعرف لـ"فيشته"، والتي يستخدمها في توضيح مبدأ النقيض، وهي التي تعبر عن الخطوات الثلاث للفكر عند تطبيقه، ويعبر "هيجل" عن ذلك بعبارات خاصة به أيضا وهي:
- الدعوى Thesis.
- ومقابل الدعوى Anti-thesis.
- وجامع الدعوى ومقابلها Syn-thesis.
والمجال الذي يستخدم فيه "هيجل" مبدأ "النقيض" كي يصل إلى غايته، وهو مجال "الفكرة""Idea" أولا، وليس مجال "الشيء" Das"Ding".
فقد تصور "هيجل" في مجال "الفكرة"، أن هناك فكرة مطلقة أسماها "العقل المطلق"، ولهذا "العقل المطلق" وجود ذاتي "an-sich" أزلي قبل خلق الطبيعة، وقبل خلق العقل المحدد. هذا العقل المطلق هو "الله"
…
ومنه تنبثق "الطبيعة"، وهي تغايره تماما، إذ إنها مقيدة محددة ومتفرقة، بينما العقل المطلق واحد وحدة مطلقة عن كل قيد.
وبوجود "الطبيعة" ظهرت -أو انتقلت- "الفكرة" التي في "العقل المطلق" غير المحدد، فيما وجوده مقيد محدد، فالطبيعة هي خروج "الفكرة" من دائرتها الأولى "fuet-sich". ومن أجل ذلك كانت ضرورة وصدفة،
وليس فيها حرية واختيار، وتعتبر لهذا مقابلا ونقيضا "للفكرة" في "العقل المطلق".
- وإذا كان "العقل المطلق" دعوى Thesis.
- فالطبيعة" عندئذ مقابل الدعوى Anti-thesis.
و"الفكرة" انتقلت بذلك من المطلق إلى المقيد، أو من النقيض إلى نقيضه، وإذن فالفكرة من حيث هي فكرة، انطوت على نقيضها حتى الآن. ولكن "الفكرة" في الطبيعة تسعى من جديد، لتكسب الوحدة الأولى- التي كانت في العقل المطلق- بعد أن افتقدتها في تفرق الكائنات فيها، وتسعى لتحصيلها وتحقيقها ثانية، وتحصيلها عندئذ هو "العقل المجرد".
والعقل المجرد هو نهاية الطبيعة المحدودة وغايتها "an-sich، und fuer-sich" وهو نفسه عندئذ جامع الدعوى ومقابل الدعوى Syn-thesis.
فـ"الفكرة" في نظر "هيجل" انتقلت من ذاتها كـ"عقل مطلق"، إلى نقيضها وهو "الطبيعة" كعقل مقيد، ثم انتقلت من النقيض إلى جامع يلتقي فيه الشيء ونقيضه، وهو "العقل المجرد".
والعقل المجرد -هو جامع الدعوى ومقابل الدعوى- هو العقل في صورة اتصال العالم بعضه ببعض، سواء ما يأخذ منه طريقه إلى الظهور أو ما ظهر منه بالفعل وهذا العقل المجرد يتمثل في القانون، والأخلاق وفي الفن، والدين، والدولة، والجماعة، والفلسفة.
وإذن "العقل المجرد" الذي يتحقق في أي واحد من هذه القيم العامة المذكورة جامع للمتقابلين:
- جامع للفكرة في العقل المطلق وهو "الله".
- وللفكرة في العقل المقيد وهو "الطبيعة".
- ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق، ولا تحديد عقل الطبيعة. بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق، ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى Syn-thesis.
ففكرة الألوهية ظهرت وتجلت في الطبيعة المفرقة المحددة، واجتمعت من جديد في "العقل المجرد" وبقدر ما تبعد "الطبيعة" عن الله، يقترب "العقل المجرد" منه، و"العقل المجرد" إذن يمثل "الله" أكثر مما تمثله "الطبيعة"، وهو بمثابة نوع للعقل المنثور في الطبيعة، ويعلوه "العقل المطلق"، وهو الله.
فـ"الفكرة" كفكرة انتقلت من المطلق إلى المقيد، ثم من المقيد إلى ما فيه إطلاق وتحديد معا.
الدولة والله
…
الغاية الأخيرة للعقل:
و"هيجل" أراد باستخدام مبدأ "النقيض" أن لا يجعل "الطبيعة" غاية أخيرة للإنسان تحصل لذاتها، إذ هي ستنتقل وتتغير إلى "العقل المجرد"، الذي يتحقق في جملة من القيم العليا: في القانون، والأخلاق، والدولة، والدين، والذي هو أقرب شبها بالله، أو يعد موجودا إلهيا على الأرض.
ولذا يتحدث عن "الدولة" كصورة من صور العقل المجرد بأنها الإرادة العاقلة الإلهية، وبأنها "الإله" على الأرض، ويرى لذلك أن لها مطلق الحق قبل الأفراد، وأن على الأفراد بطريق الإلزام المطلق أن يكونوا أعضاء في الدولة، وأن يطيعوها طاعة تامة.
كما أراد -باستخدام هذا المبدأ- من جانب آخر، بل أولا وبالذات، أن يؤكد سيادة العقل، ولكن على الطبيعة، لا على الدين. وهذا هو الفرق بينه وبين "فيشته". إذ الله في نظره عقل، ويمثل العقل المطلق، الذي هو أصل الوجود كله، ولهذا فإن كلمته ووحيه أصل المعرفة. وهو يؤكد سيادة العقل؛ لأن العقل المطلق إذا كان أزليا وسابقا على وجود الطبيعة وظهورها، فالفكرة أو العقل هو أساس الوجود الطبيعي، وليست المادة أصلا للفكرة والعقل. والمادة إذن في وجودها تابعة ولاحقة لموجود الفكرة أو العقل، و"الحقيقة" إذن مصنوعة من الروح أو العقل، وليس ما يسمى بالعالم المادي سوى المظهر الخارجي للعمل الداخلي للعقل.
فالعقل والروح عنده حقائق.. والعالم المادي هو عالم الظاهر، هو نوع من عالم الخيال اليقظ بدون جوهر.
وإذا كانت "الفكرة" أو العقل سابقا على المادة، فليست "المعرفة الصحيحة" مستوحاة من الوجود الطبيعي أو المادي على عكس "كومت" كما سيأتي
…
بل العقل هو مصدرها الصحيح، والوحي -وهو كلمة العقل المطلق "الله"- يمثل كتاب المعرفة اليقينية، دون الطبيعة.
بين فيشته وهيجل:
ومبدأ "النقيض" عندما استخدمه "فيشته" في تصور الإنسان لنفسه، وصل به إلى تأكيد سيادة "العقل" ووقف عند هذا الحد، دون أن يسترسل في الاستنتاج إلى تأييد الدين، من حيث إن الله عقل أيضا
…
بل إن فلسفته تشعر بمناوأة الدين، ثم إن الخطوات الثلاث التي يتطلبها تطبيق هذا المبدأ -وهي: الدعوى، والجامع بينهما- لم تتجاوز عنده العمل الفكري في "تصور الإنسان لنفسه".
بينما أكد هيجل في استخدامه لهذا المبدأ سيادة العقل، وسيادة الدين معا. عن طريق أن الله عقل. ثم تجاوز به في التطبيق العملي الفكرة إلى الوجود نفسه: إذ "الفكرة" -التي طبق في دائرتها مبدأ النقيض- موجودة، ووجودها على سبيل الحقيقة، لا من حيث كونها سابقة على عالم الحس فقط، بل حيث إنها "الأصل" في الوجود الذي ينتقل من حال إلى حال آخر
…
وهكذا إلى أن يعود الوضع إلى الحال الأول، ولذلك صاحب استخدام مبدأ "النقيض" عند "هيجل" مبدأ "التغير" في الوجود، وإذن يشترك "فيشته" و"هيجل" في استخدام مبدأ النقيض في التدليل على قيمة العقل، وأرجحيته على الطبيعة في هذه القيمة.
ومبدأ "النقيض" عند "هيجل" هو بعد ذلك قانون عام للوجود، تخضع له كائنات الطبيعة كذلك، وهي "الأشياء"، وإن آثر هيجل تطبيقه أول الأمر في دائرة "الفكرة" وخضوعها له سيجعل مصيرها إلى العقل المطلق، وهو الله، فكل كائن من كائنات هذه الطبيعة يحمل في نفسه المقابل والنقيض له، ويصير إليه لحظة ما. أي: إن كل كائن يتضمن بذور عدمه. والشيء: هو ما ليس هو، والعالم كله ناشئ عن التعارض والتناقض، وكل شيء فيه متغير؛ لأن كل شيء ينطوي على سلب نفسه.
وإذا كان كل شيء -له حال الصيرورة- متغيرا، وإذا كان كل شيء كذلك له صلة وعلاقة بالشيء الآخر، فإدراك الحقيقة هو أن يفهم: كيف تتغير الأشياء.
ويرى "هيجل" أن تغير الأشياء يحدث بتأثر الصلة بين زيادة كمية الشيء ونقصها وخصائص الشيء وصفاته تتغير بدورها تبعا لتغير كميته زيادة ونقصا، أي: إن التغير للشيء من حال إلى حال، يحدث أما بزيادة كميته أو بنقصها، وتغير خصائصه وصفاته يتبع التغير في كمه. والشيء ينتقل إلى مقابله بتغير كمه زيادة ونقصا، كما تنتقل خصائصه الأولى إلى المقابلة لها، تعبا لتغير الكم فيه، فالماء يتغير إلى بخار بتغير كم الماء أولا عن طريق الحرارة، ويأخذ خصائص البخار بالتدريج تبعا للتغير السابق في كمه.
ومبدأ النقيض -هو الذي يصاحبه التغير والانتقال كظاهرة له- يقوم في تطبيقه في "الشيء" على الخطوات الثلاثة: الدعوى، ومقابل الدعوى، والجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى، كما قام على هذه الخطوات نفسها في تطبيقه في مجال: الفكرة "Idea" عند "هيجل" نفسه من قبل. وكذا في مجال: "تصور الإنسان لنفسه" عند "فيشته".
فـ"الشيء" دعوى
…
و"لا شيء" مقابل الدعوى..
لأن التفكير في "الشيء" ينساق حتما إلى المقابل وهو: "لا شيء" وكونه يفهم: أن "الشيء" يصير إلى "لا شيء" ويرتبط في التفكير بـ"لا شيء" كان في هذه الصيرورة أو في هذا الارتباط: جامع الدعوى، ومقابل الدعوى.
ويقول "هيجل": نحن إذا تأملنا كونه "يصير" وجدنا ذلك يتجزأ من جديد إلى دعوى، فمقابل الدعوى، فإلى الجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى وهكذا
…
حتى إن كل شيء سينتهي إلى الروح الأخير المطلق، وهي "الله".
وتوضيح ذلك في مثال "الماء" السابق:
- أن "الماء" دعوى
…
- و"لا ماء" وهو البخار مقابل الدعوى.
- وصيرورة الشيء إلى نقيضه -وهي هنا "صيرورة الماء إلى بخار"- جامع الدعوى ومقابل الدعوى.
وصيرورة الشيء إلى نقيضه ستنحل من جديد
…
إلى دعوى فمقابل الدعوى، فصيرورة الماء إلى بخار ستنحل من جديد
…
إلى ماء فبخار.. وهكذا
…
- فالشيء
…
- ومقابل الشيء
…
- وصيرورة الشيء إلى مقابله
…
تمثل الخطوات الفكرية لمبدأ النقيض، وهي:
- الدعوى
…
- ومقابل الدعوى
…
- والجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى "Triplizitaet".
و"هيجل" يطلق على هذا الشرح العقلي لمبدأ النقيض: "جدلا نظريا""Dialektik".
- وطالما هذا الجدل باق في شرح "الفكرة" في ذاتها "an-sich" وهي العقل المطلق، يأخذ عنده اسم: علم المنطق، أو علم الوجود، أو الميتافيزيقا
…
- فماذا تجاوز ذلك إلى شرح "الفكرة" -بعد أن تنتقل إلى المقابل والنقيض "Fure-sich" وهو الطبيعة -يأخذ اسم "فلسفة الطبيعة".
- حتى إذا وصل إلى "الفكرة" التي هي جامع الدعوى ومقابل الدعوى "an-sich" und "fuer-sich" -وهي العقل المجرد- يأخذ اسم فلسفة العقل.
وغاية الجدل النظري عنده -إذن- هي الاستخدام العلمي لـ"القانوينة" المستقرة في طبيعة التفكير، أي: الاستخدام العلمي لقانون النقيض Det- Widerspruch تلك "القانونية" التي توجد في حركة "الفكر" وانتقالها من وضع إلى وضع، هذه الفكرة التي تزول وترتفع من نفسها تبعا لمبدأ "النقيض" -المبدأ الذي يحتل "الفكرة" ويسكنها-كي تعود لنفسها من جديد في درجة أعلى.
إذ الفكرة تتحول فيما يقابلها ويناقضها
…
ثم تجتمع مع هذا المقابل سويا في فكرة أعم وأعلى، مما يترتب على ذلك ضياع التناقض وذهابه، بوساطة "سلب السلب"
…
"وسلب السلب إيجاب".
وقد وضح ذلك من قبل في أن "شيء" يستلزم "لا شيء" وكلاهما يجتمع في "صيرورة".
ونتيجة الاستخدام العلمي لمبدأ "النقيض" هي ذهاب مثل هذا التحديد الخاص وانتقاله إلى المقابل "النقيض" وبهذا تتطور "الفكرة" بعضها من بعض في تتابع لا يدخله شيء من خارج الفكر، حتى يصل الأمر إلى الأعم الأشمل وهو "فكرة المطلق"، أو الله.
وباستخدام مبدأ "النقيض"- كخاصة من خواص العقل الإنساني، وصل"فيشته" و"هيجل" معا من الوجهة الفلسفية إلى:
- ترجيح جانب "العقل" على الطبيعة والحس.
- وتقدير "الدولة" كعمل خلقي للعقل الإنساني.
- كما وصلا إلى أن سعادة البشرية رهن بالتعاون على العمل المثمر المنظم في الطريق الذي يرسمه عظماء الفكر والسياسة.
وبعد ذلك يختلف "فيشته" عن "هيجل":
في أن الأول يميل إلى سيادة العقل سيادة مطلقة على كل شيء آخر سواه، حتى على "الدين والوحي" بينما "هيجل" يميل إلى سيادته فحسب على الطبيعة وحدها.
- سيادة "الحس" ومذهب "الوضعية":
انتهى عصر التنوير بانتهاء القرن الثامن عشر تقريبا، وابتدأ عصر آخر من عصور الفكر الأوروبي بظهور فجر القرن التاسع عشر. وموضوع الصراع العقلي عند الأوروبيين واحد لم يختلف عن ذي قبل هو: الدين،
والعقل، والطبيعة، ولكن تميز القرن التاسع عشر بفلسفة معينة؛ لأن اتجاه التفكير فيه مال إلى سيادة "الطبيعة" على الدين والعقل معا، وإلى استقلال "الواقع" كمصدر للمعرفة اليقينية مقابل الدين والعقل
…
تميز القرن التاسع عشر بأنه عصر "الوضعية""Positivism" و"الوضعية" نظرية فلسفية نشأت في دائرة "المعرفة"، وقامت في جو معين وعلى أساس خاص، أما جوها المعين: فهو أولا وبالذات سيطرة الرغبة على بعض العلماء والفلاسفة في معارضة الكنيسة، والكنيسة تملك نوعا خاصا من المعرفة، وكانت تستغله في خصومة المعارضين فترة من الزمن. وهذا النوع الخاص من المعرفة الكنسية هو "المعرفة المسيحية الكاثوليكية" بوجه خاص -كما سبق أن ذكرنا- أو هو المعرفة الدينية، أو المعرفة الميتافيزيقية بوجه عام، يضاف إلى هذا الرغبة القوية في معارضة الكنيسة، ومعارضة ما تملك من معرفة خاصة، أن فلسفة عصر "التنوير" وهي الفلسفة العقلية أو المثالية- في نظر فلاسفة "الوضعية" قد أفلست فيما أرادت أن تصل إليه، وهو إبعاد التوجيه الكنسي كلية عن توجيه الإنسان، وتنظيم الجماعة الإنسانية على هذا الأساس. إذا مالت هذه الفلسفة على عهد "هيجل" إلى تأييد الوحي والدين من جديد، بعد أن أحاط "كانت"1 إبان عصر التنوير -في نقده "للعقل النظري"- المعرفة الدينية بمجموعة من الشكوك تجعلها ظنا بعيدا عن اليقين، كما جعل جدل "منطق" ما بعد الطبيعة يعلل الظاهر دون أن يهدمه، وادعى أن في كل ظاهرة -في تعليل ما بعد الطبيعة- تكمن علة شخصية للحكم يدعي فيها أنها علة مجردة.
وإذن الغاية الأولى للمذهب الفلسفي الوضعي هي معارضة الكنيسة وبالتالي معارضة معرفتها، ومن باب التغطية عارض هذا المذهب باسم "العلم" الميتافيزيقا والمثالية العقلية بهذا العنوان، وإلا فإن المذهب الوضعي في الوقت الذي ينكر فيه دين الكنيسة، يضع دينا جديدا بدله هو: دين "الإنسانية الكبرى"! ويقوم هذا الدين على "عبادة"" و"طقوس" -كما تقوم المسيحية، وله قداسة واحترام في نفوس التابعين على نحو ما للكثلكة.
وأما الأساس الخاص الذي قامت عليه الفلسفة الوضعية: فهو تقدير الطبيعة وتقييمها وحدها كمصدر للمعرفة، والطبيعة، أو الحقيقة،
1 عاش بين 1724-1804م: وهو: Immanuel Kant.
أو الواقع، أو الحس كلها تدل على معنى واحد في نظر الوضعيين، وتقدر هذه الفلسفة الطبيعية، لا كمصدر مستقل فحسب للمعرفة، بل كمصدر فريد للمعرفة اليقينية أو المعرفة الحقة، ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو: أن الطبيعة في نظرها هي التي تنقش الحقيقة في عقل الإنسان، وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة هي التي تكون عقل الإنسان والإنسان -لهذا- لا يملى عليه من خارج الطبيعة أي: لا يملى عليه مما وراءها، كما لا يملى عليه من ذاته الخاصة، إذ ما يأتي من "ما وراء الطبيعة" خداع للحقيقة، وليس حقيقة!! وكذا ما يتصوره العقل من نفسه وهم وتخيل للحقيقة، وليس حقيقة أيضا.
وبناء على ذلك: يكون "الدين" -وهو وحي "أي: ما بعد الطبيعة" -خداع! هو وحي ذلك الموجود، الذي لا يحدده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة، هو وحي "الله" الخارج عن هذه الطبيعة كلية.
وكذلك "المثالية العقلية" وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي، إذ هي تصورات الإنسان من نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله.
وإذن ما يتحدث به الإنسان -ككائن شخصي- عن الإنسان كموضوع للوصف أو ما يتحدث به الإنسان عن الطبيعة التي يعيش فيها كموضوع للحكم عليها، مستمدا حديثه عن هذا أو ذاك من معارف الدين أو المثالية العقلية، هو حديث بشيء غير حقيقي عن شيء حقيقي هو: حديث غير صادق، خضع فيه الإنسان المتحدث إلى خداع الدين بحكم التقاليد، أو إلى خداع "الوهم" بحكم غرور الإنسان بنفسه.
إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة -أي: ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة، التي تتمثل في الوراثة، والبيئة، والحياة الاقتصادية والاجتماعية....إنه مخلوق. ولكن خالقه الوجود الحسي
…
إنه يفكر، ولكن عن تفاعل مع الوجود المحيط به.. إنه مقيد مجبر، وصانع القيد والجبر هو حياته المادية
…
ليس هناك عقل سابق على الوجود المادي، كما أنه ليست هناك معرفة سابقة للإنسان عن طريق الوحي
…
عقل الإنسان ومعرفته يوجدان تبعا لوجود الإنسان المادي.. هما انطباع لحياته الحسية المادية التي يتنفسها.
الطبيعة هي التي تنطق عن نفسها، بل يجب على الإنسان أن يعتمد منطقها إذا أراد أن يعيش فيها. ومنطقها وحده -لا منطق "المؤلهين"،
ولا منطق "العقليين"، ولا منطق "أصحاب" النظرية السيكولوجية في معرفة الإنسان- هو الذي يخط الطريق المستقيم في حياة الإنسان، وهو الذي يحدد أهدافه فيها! وطريق الإنسان في حياته الطبيعية يبتدئ من الفرد وينتهي بالجماعة. وإذن: فالفرد نفسه ليس غاية، وحياته التي يعيشها ليست هدفا لسعيه، وإنما غايته الأخيرة التي يجب أن يسعى إليها، ويذهب فيها -كما يذهب العابد الصوفي صاحب عقيدة "الاتحاد" فيما يؤلهه ويعبده- هي الجماعة، وطالما كانت الجماعة هي غاية الفرد الأخيرة، فهي معبودة، وتذهب حريته فيها لتبقى لها الحرية، وتفنى حياته في سبيلها لتبقى لها الحياة الأبدية الخالدة.
كومت Comte:
و"أوجست كومت"، في مقدمة بناة هذا المذهب الوضعي، كما سبق أن تحدثنا عنه هنا فيما قبل1. ونعيد الحديث عنه مرة أخرى لصلة مذهبه بفلسفة "ماركس" وبما يراه هذا الآخير في أن "الدين مخدر" تلك القضية التي هي موضوع هذا الفصل من الباب. ولا تتجاوز نظرته الفلسفية في قليل ولا كثير الرغبة في الإصلاح الشامل للجماعة الإنسانية، وهو يحمل استقلال الأفراد والبحث الحر واستقلال الاتجاه في الحياة، مسئولية ما ينتج عن "الاستقلال" و"الحرية" من فوضى الآراء وفوضى الأحوال العامة
…
وهو إذن من أصحاب "الجبر" و"التقبيد".
وإصلاح الجماعة في نظره، يراه في سيادة المعلم على كل شيء. وفي الدرجة الأولى يراه في وجوب إخضاع أعمال الحياة إلى مبدأ عام له اعتباره، إخضاعا يقترب في اتساع نطاقه مما كان لنظام العصر الوسيط والكاثوليكي، وإن اعتبر هذا النظام مضللا في نظره.
كما يرى أنه يجب أن يحل "العلم الواقعي" محل "اللاهوت"
…
هذا العلم الذي يتحمل حرية الإيمان تحملا قليلا وفي نطاق ضيق، على نحو ما تحمل اللاهوت وقت سيادة الكنيسة!! فاللاهوت المسيحي كان لا يطبق
1 ص 220 من هذا الكتاب "الفكر الإسلامي"، وإعادة الحديث عنه مرة أخرى هنا كالحديث عن الاتجاهات الفكرية في تاريخ الجماعة الأوروبية منذ الإصلاح الديني إلى القرن التاسع عشر، هو لتوضيح فلسفة كارل ماركس.
حرية الإيمان إلا قليلا، فكذلك العلم الواقعي -في نظر "كومت"- لا يصح أن يطيق ما يسمى بـ"حرية الإيمان"، إلا على هذا النحو من الضيق والقلة.
وقد عنى "كومت" بهذه الغاية الإصلاحية للجماعة الإنسانية - كما يرينا هنا- ليس فقط فيما سماه "فلسفة التاريخ"، وليس فقط في المشروع الذي وضعه، وهو "دين الإنسانية"وما لهذا الدين من عبادة
…
بل قبل كل شيء فيما طلبه من وضع القوة الروحية بجانب القوة المادية في نظام الجماعة الجديد، ولكن على أن لا تكون القوة الروحية مستمدة من تعاليم الكنيسة.
والفلسفة الوضعية أو الواقعية، التي يجب أن يقام عليها نظام الجماعة الجديد ليست سوى النظام المنظم للعلم الواقعي نفسه، ونظام العلم الواقعي يقوم على أن "المعرفة الإنسانية" تستند إلى علاقات الظواهر بعضها ببعض، وأنه ليس هناك في دائرة المعرفة "مطلق" يجعل أساسا لمجهول. والمبدأ المطلق الوحيد الذي له اعتبار عام: هو أن كل شيء نسبي.. وإذن ليس هناك فائدة من الحديث عن الأصول والعلل الأولى للوجود، ولا عن أهدافها الأخيرة، وهي معرفة "الميتافيزيقا" و"الدين".
و"فندلبند"1 يعلق على فلسفة "كومت" الوضعية بقوله:
"إن تاريخ الفلسفة الذي سار به "كومت" كثير التعقيد
…
هو جذاب في بعض نقطه، ولكنه في الأكثر يقوم على الهوى وعدم المعرفة والحكم المغرض! ويمكن أن يفهم كبناء فقط لغرضه الإصلاحي.
وانتصار "النظرة الواقعية" مع انتصار تنظيم الحياة الصناعية في الوقت نفسه، هو غاية التطور التاريخي للشعوب الأوروبية، هذا الانتصار الذي سيزاوج فيه "الفكر العظيم""وهو الفلسفة الواقعية"، و"القوة العظيمة""وهي قوة العمال".
"وقانون الدورة الثلاثية، أو قانون المراحل الثلاث التي تمر فيها المعرفة، وهي: الدين، والميتافيزيقا، الواقعية -وهو القانون الذي
1 في كتابه المشهور: تاريخ الفلسفة "Philosophie der Geschichte. ص552.
وضعه "كومت" تأييدا لمعرفة الحس- تأكد بالذات بالحال التي وصل إليها واضع هذا القانون، وهو "كومت" نفسه!! فكومت سقط في المرحلة الأخيرة من مراحل تفكيره في المجال اللاهوتي مرة ثانية، أي: إنه عاد إلى "الدين" مرة أخرى بعد ما تركه، وبعد ما ترك الميتافيزيقا، ليستقر من جديد في "الواقعية" أو "الوضعية"! إذ إنه جعل "الإنسانية" كإله أكبر موضوعا للتقديس الديني، حول فيه كل "جهاز للخدمة المقدسة" في صورة واقعية.
و"فندلبند" يشير في تعليقه على فلسفة "كومت"، إلى أنه استخدم "التاريخ" في التدليل على أنه "المعرفة الواقعية" هي غاية التطور التاريخي للشعوب الأوروبية، بجانب تنظيم الحياة الصناعية، وبذلك تكون المعرفة الواقعية هي النوع الوحيد من المعرفة الذي تسعى إليه البشرية ويجب أن تسعى إليه، وهو الذي له اعتباره العام، وليس لغير هذا النوع اعتبار ما.
و"التاريخ" الذي استخدمه "كومت" هو "تاريخ المعرفة":
- فقد كانت معرفة الإنسان قبل تفلسف الإغريق: ذات طابع ديني.
- ثم أصبحت على عهد سقراط وأفلاطون من فلاسفة اليونان عقلية.
- ثم مالت بعد ذلك على عهد أرسطو: إلى "التجربة" والواقع.
ثم ابتدأت دورة أخرى من جديد
…
فاعتبر الدين في القرون الوسطى مصدرا للمعرفة، ثم جعل للعقل اعتباره -بدلا من الدين- في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، ثم قوي الميل إلى اعتبار المعرفة الحسية أو الوضعية وحدها -دون العقل والدين معا- في القرن التاسع عشر.
هذه دورة ثلاثية لـ"اعتبار المعرفة" في تاريخ الإنسانية
…
فإذا كانت هذه الدورة الثلاثية قانونا لا يتخلف "للمعرفة" أو بالأحرى "لاعتبار" مصدر المعرفة، فالمنتظر -بناء على سير "التاريخ"- أن يعود "الاعتبار" إلى الدين من جديد، بعد أن قويت موجة الواقعية أو الوضعية في القرن التاسع عشر
…
فتنكسر حدتها فتضعف، فيقل اعتبارها وعندئذ يعود الاعتبار في المعرفة للدين وحده.
ويلاحظ أن الإسلام -في تاريخ البشرية- أتى على إثر طغيان موجة "الإلحاد" وإنكار ما عدا "الحس" في المعرفة. يقص القرآن موقف الملحدين أرباب الحس من رسالة الإسلام، كمعرفة دينية موحى بها، وهو موقف إنكار لها، لاعتبارهم الحس وحده في المعرفة. يقول تعالى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، إِنْ هُوَ "الرسول" إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} 1.
و"كومت" -"ككارل ماركس" بعده، وككل الوضعيين "الحسيين" يعتمد على حركة "التاريخ" فهو في معالجته "المعرفة" اعتمد على تاريخها
…
وكذلك "ماركس" في معالجته "الاقتصاد" اعتمد على تاريخ الاقتصاد
…
وهكذا.. والنتيجة التي وصل إليها "كومت" في المعرفة وهي اعتبار المعرفة الواقعية وحدها، وكذلك النتيجة التي وصل إليها "ماركس" في الاقتصاد وهي: اعتبار الاشتراكية الجماعية وحدها، وكذلك كل نتيجة لبحث وضعي اعتمد على حركة التاريخ هي نتيجة إيمان بأحداث متعاقبة في تاريخ البشرية.
فإذا كان تعاقب هذه الأحداث قانونا للحياة البشرية لا يختلف، فما وصل إليه "كومت" في المعرفة، وما وصل إليه "ماركس" في الاقتصاد -كما سيأتي- أمر مؤقت ينتظر أن يذهب، ليحل محله ما أعقبه في صورة الحياة البشرية الثلاثية
…
وإذن هي نتائج ليس لها صفة الاستقرار والدوام، ومن يعتبرها من هؤلاء المفكرين أمرا دائما وطابعا للحياة لا يتغير، يكون مؤمنا بما وصل إليه، أكثر من كونه ملاحظا لأحداث التاريخ، تلك الأحداث التي تمر في سلسلتها المتعاقبة الحلقات، والتي تبتدئ من نقطة لتعود إليها من جديد بعد حين. وقد أنكر هؤلاء المفكرون "الإيمان" كمصدر للمعرفة، وقامت فلسفتهم الحسية على إنكاره. وهنا يسجل "فندلبند" في ملاحظته على "كومت"! أنه دار مع نفسه في البحث، بما يمثل المراحل الثلاث لقانون "الدورة الثلاثية" في تاريخ المعرفة: فأنكر الدين، ثم أنكر العقل، ليستقر بعد ذلك في الواقعية ثم رجع فعاد إلى الدين والإيمان، إذ جعل إلهه هواه الذي يتمثل في الإنسانية.
1 المؤمنون: 35-38.
ولكن ما نلاحظه نحن هنا على "كومت" هو ما ينتظر من تطبيق قانون الدورة الثلاثية في المعرفة كقانون لا يتخلف، وما تحكم به من توقع سير حركة "المعرفة" من جديد نحو الدين والإيمان، هو نتيجة تطبيق هذا القانون، وليس نتيجة لرغبة خاصة وهوى معين.
فيرباخ Feuerbach:
وثاني الفلاسفة المقدمين في الفلسفة الوضعية "فيرباخ"1 الفيلسوف الألماني تلك الفلسفة التي سيطرت على تفكير القرن التاسع عشر، والتي اشتد جدلها الفكري ضد الدين "المسيحي" على وجه خاص، وإن أصابت كذلك "المثالية العقلية".
"فيرباخ" يرى أن الفلسفة هي علم "الواقع" في حقيقته، وفي عمومه، وجوهر "الواقع" هو الطبيعة الشاملة، التي تدرك بطريق الحواس، وعنده أن الحقيقة، والواقع، والحس كلها سواء. وليست "الحقيقة" بل هي المادية، ولا هي المثالية النظرية، ولا هي علم الطبيعة، ولا علم النفس
…
هي علم الإنسان فقط، وعن طريق علم الإنسان يعرف أن ما يسمى "بالجسمي" وما يسمى أيضا "بالنفسى" يكونان في الإنسان "وحدة الحياة" و"وحدة الواقع" تلك الوحدة التي لا تنفصل ولا تنقسم إلى جسمي ونفسي إلا في الاعتبار فقط.
وفي نظره من جانب آخر: إن علم الإنسان أيضا هو الدين، والدين إذن محصول للعقل الإنساني، وليس موحي به من خارج الإنسان، والطبيعة الإلهية كذلك هي طبيعة الإنسان نفسه، التي تجردت من قيود الفردية والشخصية، أي: قيود الإنسان الواقعي الجسمي
…
هي الإنسانية، هذه الطبيعة الإنسانية المتجردة ينظر إليها في احترام وخشية وقدسية، على أنها شيء آخر مقابل لطبيعة الإنسان الفردية، والله بالنسبة للإنسان، هو
1 عاش بين سنتي 1804-1872، وهو Ludwing Feurebach وفلسفته تعتبر من الأسس القوية في بناء الماركسية، التي جعلت شعارها "الدين مخدر"، وهو موضوع هذا الفصل.
كتاب جامع لإحساسات الإنسان العالية، وأفكاره وآماله1. الله هو: صاحب كل قوة، وهو الرحيم، وهو المحبة
…
ومعنى ذلك: أنه في نظر "فيرباخ" ليس هناك شيء آخر غير القوة والرحمة والمحبة التي هي إلهية، والحكمة والعدالة والخيرية تسود الحياة الإنسانية فقط عندما يكون حكيما عدلا خيرًا.
وأيضا في نظره الحياة الأخروية ليست شيئا آخر غير هذه الحياة الإنسانية -على اعتبار أن الله ليس شيئا آخر غير الإنسان، إذا كان حكيما عدلا خيرا. لكن بعد أن ينظر إليها نظرة مثالية، والفجوة القديمة -على نحو ما تصور الأديان- بين هذه الحياة والحياة الأخرى يجب أن تزول، كي تركز الإنسانية نفسها، بنفس غير مشتتة وقلب موحد، في عالمها المشاهد وفي حاضرها القائم، وعن طريق هذا التركيز غير الموزع، في العالم الواقعي فقط، تقوم حياة جديدة للإنسان، وتنتج أعمال وتأملات كبيرة، وينشأ عظماء من الناس.
وإذا انقطع "إيماننا" وتصديقنا بحياة أفضل "في الآخرة"، وأردنا مع ذلك في غير تفرق إيجاد حياة أفضل، فسنخلق أيضا حياة أفضل، ولكن لكي نريد هذا، ونريد أن نحققه، يجب أن نضع مكان محبة الله محبة الإنسان كدين وحيد، حق، وأن نضع مكان الإيمان بالله، الإيمان بالإنسان نفسه وبإمكانياته الخاصة وبعظمته
…
الإيمان بأن تقرير المصير للإنسانية ليس من طبيعة خارجة عنها أو فوقها، وإنما يرتبط بها نفسها تمام الارتباط.
هذا مجمل ما تنطق به فلسفة "فيرباخ" وسنرى أن فكرة "التعويض" في الدين، التي احتلت منزلة كبيرة في فلسفة فيرباخ هذه -بعد أن تبنتها فلسفة "كومت" قبله- لا تقل تأثيرا في المذهب الماركسي وفي صراعه ضد الدين، عن الأفكار الرئيسية التي أقام عليها "كارل ماركس"
1 يردد هذا المعنى كثيرا في الكتب الشيوعية، وكنموذج في التأليف العربي للشيوعية يراجع كتاب "الله والإنسان"، ص100، 101 مصطفى محمود، من سلسلة: كتب للجميع، عدد مارس سنة 1957، صدر عن دار الجمهورية.
دعائم فلسفته الخاصة، والتي استعارها من "هيجل"، و"كومت"، بعد تعديل في فهم بعضها، وتوسع في تطبيق بعضها الآخر.
اشتين تال Steinthal:
وكان من الممكن أن لا يعنينا الحديث عن هذا الفيلسوف الألماني الآخر1 في هذا الفصل الذي نحاول فيه بيان الصلة بين دعوى أن "الدين مخدر" وتفكير القرن التاسع عشر في أوروبا، غير أنه لما مهد للماركسية باستخدام فكرة "العقل المجرد" المعروفة لـ"هيجل" على نحو آخر جعل به عقل الإنسان تابعا للمادة -آثرنا أن نذكر رأيه هنا في "العقل المجرد"، إذ إن تبعية العقل للمادة أساس رئيسي في تعاليم الماركسية- كما سنرى، وهو يلعب دورا قويا في الصراع بينها وبين الدين.
و"أشتين تال" أعطى مبدأ "العقل المجرد" عند "هيجل" صورة أخرى حينما فهمه كمبدأ "نفسي وتجربي خالص"، وليس كمبدأ عقلي ومثالي- كما فهمه "هيجل" نفسه، وبناء على ما صور به "اشتين تال" هذه الفكرة، أصبح للأحداث الكثيرة دور رئيسي في حياة الفرد العقلية فـ"العقل المجرد" عنده هو ترابط وصلات نفسية، ينمو فيها الإنسان. وبواسطتها كان ويكون، وهو عضو فيها لا ينفصل عنها بحال. وهذا الترابط ينشأ من التحديد التاريخي للجماعة ثم من العقل العام الذي يوضع أساسا، للحياة الفردية، والعقل العام -كما يراه "اشتين تال"- يعبر عن نفسه تعبيرا غير شخصي، يعبر عن نفسه في اللغة، والعادات، والمنظمات العامة. والذي يكون تاريخ الجماعة ثم عقلها العام هو أحداث الحياة، وما يقع فيها من تطورات، والإنسان الفرد متأثر بهذا العقل العام ويتحدد به.
وإذن "العقل المجرد": ليس فكرة عامة تعلو الكائنات المتفرقة، وتخرج عن نطاقها ثم تطلق هذه الكائنات مع تفرقها، كفكرة الدولة. والجماعة، والفن على نحو ما تصور "هيجل" وإنما هو بالأحرى جو
1 عاش بين سنتي؟ -1899، هو Heymann Steinthal فيلسوف يهودي وباحث لغوي.
نفسي، تكون أولا من أحداث مادية، ومن جملة من العلاقات والروابط تجمعت كصورة لما يقع في تاريخ الجماعة، ولما يكون لها من تقاليد، ومنظمات، ولغة، وعندئذ يعيش العقل المجرد في صميم الحياة، ويعتبر مرآة لما يجري فيها، ومصدرا أيضا لتكوين عقول الأفراد. وعقول الأفراد إذن بالنسبة له صور له وأفراد منه، وحادثة عنه.
ماركس Marx:
والآن يكفي ما قدمنا من فلاسفة مؤيدين لسيادة "الطبيعة" على العقل والدين معا، لكي ننتقل إلى "ماركس"1.
إنه الفيلسوف الذي أثر تأثيرا كبيرا في انتصار البحث الطبيعي الواقعي على الميتافيزيقا، وعلى طريقة التفكير الخاصة بعصر التنوير في القرن التاسع عشر. وآراؤه مع إنجلز Engles تعتبر دستور الماركسية فيما يسمى بالاشتراكية الجماعية، أو ما يسمى بالشيوعية، أو البلشفية.
أ- الصراع بين الطبقات:
وماركس له جدل "Dialektik" ومنطق، استخدم فيه "النقيض" Der Widerspruch Principium، الذي عرف للفيلسوفين الألمانيين قبله:"فيشته" و"هيجل"
…
ولكنه استخدمه في مجال آخر، غير مجال "التصور الذهني" الذي وجدناه عند "فيشته"، وغير مجال "الفكرة" التي عرفناها لـ"هيجل" استخدامه في مجال "الاقتصاد"، واستند في هذا الاستخدام إلى تاريخ الجماعة.
فكل "شيء" -في نظره- يتضمن نقيضه، بحيث إن كل "شيء" يهدم نفسه، وهذا هو التصوير العام لمبدأ النقيض، ولكن "ماركس" يستخدمه كي يدلل على وقوع انهيار "المجتمعات" وسقوطها، تلك
1 عاش بين سنتي 1818-1883، هو Karl Marx: فيلسوف يهودي ألماني، وعالم اجتماع، وصاحب المذهب المادي التاريخي، وصاحب فلسفة التاريخ المادية للمذهب الاجتماعي، بالاشتراك مع: Engles.
المجتمعات التي قامت على أساس من "الرأسمالية"، فالمجتمعات السابقة على الرأسمالية، وهي: دول الملوك، والمجتمعات الإقطاعية "أصحاب المزارع الكبيرة" انهارات -بناء على تفكير "ماركس"- لأنها تضمنت عنصر المقابلة، أو النقيض. وعلى هذا النحو ستنهار هذه المجتمعات الحديثة الرأسمالية، وتتحول إلى المقابل والنقيض لها وهو المجتمع الشيوعي ذو الطبقة الواحدة من العمال.
ومع أن مبدأ "النقيض" لا يقف بتحول الشيء إلى مقابله فقط، بل سيتحول الشيء ومقابله إلى "جامع" لهما، ثم هذا "الجامع" بدوره يصير إلى "شيء" يتحول هو أيضا إلى مقابلة، ثم إلى "جامع"
…
وهكذا مع أن منطق هذا المبدأ هو الاستمرار في "التحول"، فالماركسية تقف تترقب تحول المجتمع الرأسمالي إلى النقيض والمقابل له وهو المجتمع الشيوعي، عند حد هذا المجتمع، ولا تذكر -فضلا عن أن تترقب- توقع انهيار المجتمع الشيوعي وسقوطه، وهدم نفسه في مجتمع مقابل له، بناء على أن كل شيء يتضمن نقيض نفسه، وأن فيه عامل الهدم لنفسه!! وهذا مما يؤخذ على التطبيق الفلسفي لمبدأ النقيض في الفلسفة الماركسية، كما سنذكره في شيء من التفصيل فيما بعد.
ويرى "ماركس" أن انتقال الشيء وتغيره إلى نقيضه -تبيقا لمبدأ النقيض- يحدث بالتدريج، ولكن التدرج في التغير يصل إلى نقطة معينة، ثم يحصل انقلاب فجائي، وهذا التغير يحدث بسبب زيادة كمية الشيء أو نقصها، والتغيير في الكم يتبعه تغير في الكيف والطابع معا، "والشيء" بعد أن تتغير كميته يكون له طابع جديد، أو حال جديدة تختلف عن حاله الماضية1.
1 فإذا كان إنسان يسخن الماء، فإن سرعة الذرات ترتفع بالتدريج نحو أعلى إلى نقطة معينة، وبعد ذلك يأتي التغير المفاجئ الثوري، فليس عندنا ماء، إنما عندنا بخار. وفي بخار الماركسية، أن الزيادة في حرارة الماء تغير في الكم، ولكن عندما يحصل التغير المفاجئ يكون هناك بخار، الذي هو يختلف في الكيف والنوع عن الماء وبهذا المثل يثبت "ماركس" شيئين: أولا: أن تغير الكم يتبعه تغير الكيف، وثانيا: أن الانقلاب في التغير أمر ضروري.
وعندما يقول "ماركس": إن كل "شيء" يتغير بالتدريج ولكن إلى نقطة معينة فقط، يقصد حرفيا كل شيء. وهذا معناه أن كل شيء في الطبيعة مدفوع لأن يطفر ويطفح في الوجود، ثم يختفي عن طريق الانقلاب المفاجئ والتغير الثوري، ومن الخطأ في نظر "ماركس": قبول مبدأ التغير بالتدريج كحادث مستمر، بدون انقلاب، ولا يهم أن نتحدث هنا عن الجماعة، أو الكائن العضوي الحيوي، فكل شيء بالنسبة إلى الماركسية، يجب في وقت خاص أن يمر بانقلاب فجائي ثوري، و"الانقلاب ظاهرة طبيعية -في نظره- لكل موجود أو لكل ما يوجد".
ومعنى هذا القول أيضا أن كل شيء يوجد، هو في حال تغير دائم، كل شيء هو صيرورة، فلا شيء في الوجود يبقى على حال واحد. كل شيء جاء إلى الكينونة ينمو ويتطور، وفي النهاية يمضي ويذهب.
وكنتيجة لهذا القول: تدعي الماركسية أن الذي يعتقد من الناس في القيم أنها أزلية أي: يعتقد بقيم خالدة، هو مصدق بأشياء لا توجد في هذه الطبيعة، حتى هؤلاء الذين يعتقدون أن بعض القيم يجب أن يحتفظ بها للوقت الحاضر أو للحال الراهن، هم مصدقون أيضا بما لا يقع. فإذا اعتقد شخص أن كل شيء يتغير، فمن السذاجة بعد ذلك أن يكون محافظًا!! وقسم من الراديكالية الماركسية يتفرع عن هذا المنطق.
وهنا نجد أن الماركسية أدخلت على مبدأ النقيض -الذي يفرض الانتقال والتغير- ظاهرة أخرى هي ظاهرة "الانقلاب" و"الثورة" عندما يصل الأمر في انتقاله إلى مرحلة معينة، كما أنها تقيس انتقال المجتمع من طبقة إلى طبقة على الماء "الطبيعي" في انتقاله من حال إلى حال -أي: في انتقاله إلى بخار- وذلك أنه لا بد فيه من "انقلاب" و"ثورة". وبالإضافة إلى هذا وذاك نجدها وسعت دائرة "الشيء" فلم يعد الكائن الطبيعي، وإنما أيضا يشمل "القيم الأخلاقية"، ولم تصبح القيم الأخلاقية قابلة للتغير فحسب -في نظر الماركسية- بل واجبة التغير
…
وتنتقل القيمة إلى نقيضها في تدرج، ثم يتم التغير أو الانقلاب فجأة ودفعة واحدة.
وعلى نحو صنيع "هيجل" في صياغة "مبدأ النقيض"، وتوضح الماركسية أن كل شيء يتضمن قوتين رئيسيتين متقابلتين: واحدة تسمى "الدعوى" والأخرى تسمى "مقابل الدعوى"، هاتان القوتان تهدم إحداهما الأخرى، ولكن ينشأ من الهدم حالة جديدة تسمى "جامع الدعوى ومقابلها"، ثم يسقط هذا الجامع ويتحول إلى مقابله، وعندئذ نحصل على
دعوى أخرى وعلى مقابل الدعوى من جديد، ثم ينشأ من تقابلهما وتناقضهما جامع جديد، وهكذا
…
في تسلسل لا نهاية له، وصياغة مبدأ النقيض في هذه العبارات، ربما ناسب تطبيقه في دائرة المجتمع التي اختارتها الماركسية مجالا للتطبيق، وربما ناسبه أيضا معنى "الصراع" بين الطبقات في الجماعة الذي حرصت هي أيضا على أن يكون مصطلحا خاصا بها، وذلك بدلا من "التقابل" بين "الشيء" و"مقابله" وهو ما اصطلح عليه "فيشته" و"هيجل" من قبل، عند شرح "مبدأ النقيض".
وقد اختارات الماركسية مبدأ النقيض في دائرة "المجتمع"، واستخدمته لتحاول أن تبرهن به على أن الشيوعية مجتمع أسمى في القيمة من كل مجتمع وجد قبلها.
- فالمجتمع ذو النظام الملكي سقط وتحول إلى الجانب المقابل له.
- والجانب المقابل له طرفان، وهو حكام الملك من جانب والعبيد والفقراء في رعيته من جانب آخر.
- ثم من الفريقين المتقابلين "حكام الملك ورعيته من العبيد والفقراء" تكون الجامع بين "الشيء"، و"مقابله"، وهو المجتمع الإقطاعي -إذ حكام الملك أصبحوا أصحاب الأراضي، والفقراء أصبحوا هم المستأجرون لها.
- ومن الكفاح في المجتمع الإقطاعي بين الملاك والفلاحين نشأت الرأسمالية الصناعية، وبذلك سقط الإقطاع في القوة المقابلة له وهي الرأسمالية.
- وتريد الماركسية أن تقول لك الآن: إن الرأسمالية -وفيها طرفان متقابلان: أصحاب مال وعمال- سيسقه أحد طرفيها في القوة المقابلة له وهي قوة العمال، والمجتمع الجديد، هو المجتمع الاشتراكي ذو الطبقة الواحدة.
ولكن أيقف مبدأ "النقيض" عند هذا المجتمع الجديد ذي الطبقة الواحدة أم سيسقط هو بدوره في مقابل له كما هو منطق هذا المبدأ الذي يعد كضرورة حتمية في الوجود؟؟
وترى الماركسية أن انتقال المجتمع من حال إلى حال يصحبه تطور في القيمة
…
فالإقطاع أسمى من دولة الملك، والرأسمالية أسمى من الإقطاع، والشيوعية إذن أسمى من المجتمع الرأسمالي!! وادعاء أن كل مجتمع أسمى من سابقه مصدر براق للدعاية الشيوعية، وكثير من الناس يصيرون أتباعا للشيوعية؛ لأنهم يعتقدون أنهم يعملون من أجل عالم أحسن من أي عالم آخر وجد قبل ذلك.
وبما أن مبدأ "النقيض" مبدأ ضروري في الوجود -وإن كانت ضرورته لا تتجاوز دائرة "التصور الإنساني" أو دائرة "الفكرة"، كما عرف الأمر عند "فيشته" و"هيجل"- فدعاة الشيوعية يذكرون أنهم لا يخلقون الكفاح بين الطبقات أي: لا يوجدون التناقض بينها، بل هم يلاحظون الوجود في سيره فقط.
وهكذا استخدمت الماركسية مبدأ "النقيض" في دائرة الجماعة الإنسانية، وعدلت باستخدامه عن المجال الذي استخدم فيه من قبل، وطبقته على "القيم" الأخلاقية قياسا على تطبيقه في "الشيء" المحس، واستحدثت "الانقلاب" و"الثورة" في مجرى التغير، كظاهرة عامة له، يجب أن تخضع لها "الجماعة" الإنسانية و"القيمة" الأخلاقية، على نحو ما يشاهد في "الشيء" الطبيعي، وعلى الأخص على نحو ما يشاهد في تحول الماء إلى بخار.
وكما سار "هيجل" في تطبيق هذا المبدأ في دائرة "الشيء""Das Ding" أن "الشيء" متغير من حال إلى حال، ومن أن فهم هذا الشيء أو معرفته، من أجل ذلك، عبارة عن إدراكه في صلاته بغيره من الأشياء، تذكر الماركسية أيضا: أن كل شيء له علاقة بالآخر، وأن فهمه هو إدراكه في صلاته بغيره من الأشياء، وكل شيء هو كل شيء، وليس الشيء الطبيعي وحده. فالإنسان في نظرها، إذا أريد الوقوف على خصائصه، لا بد أن يدرس: ككائن حي، وككائن نفسي، وككائن عضوي، باعتبار وسطه الاجتماعي، متضمنا هذا الوسط أسرته وحياته، ومدينته، وبلده ونظامه السياسي والاقتصادي، وصلته بالعالم على نطاق واسع.
ب- الدين مخدر:
ولـ"ماركس" نظرية مادية، تأثر فيها بـ"كوميت" وهو لا ينكر وجود "العقل" كما ينكره المذهب المادي الميكانيكي، ولكنه لا يدعي فحسب
إن المادة توجد قبل أن يوجد العقل. بل يدعي أيضا أن المادة أكثر أهمية وأكثر اعتبارا من العقل، إن العقل متوقف على المادة في وجوده ولا يمكن أن يوجد منفصلا عنها، ونتيجة ذلك: أن "ماركس" لا ينكر فقط أن يبقى العقل "أو الروح" بعد الجسم، بل يرفض الفكرة الأساسية في الدين، وهي الإيمان بالله، كموجود أزلي مستقل تماما، ومتجرد تماما عن المادة.
وكحقيقة واضحة في الماركسية: كل دين بالنسبة لماركس -من حيث المبدأ- لعنة.. وماركس يحدثنا أن "كل دين مخدر للشعب".
وتبعية العقل "للمادة" في الوجود، يصورها "ماركس" في صورة أن العقل انعكاس للمادة، وليس كما يصرح "هيجل" بأن المادة انعكاس للعقل. وهذا يعني أن العقل نوع من المرآة العاكسة للعالم المادي، وهذا التصور الماركسي للحقيقة المادية على أنها الأصل، يشمل في عموم منطق الماركسية كل الأحداث الطبيعية وما يحيط بها، ولكن في التطبيق لهذا المنطق الماركسي الأولي تعتبر المنظمات والأحداث الاقتصادية -من وجهات نظر متعددة- هي القوة المادية الرئيسية أيضا. أما الأحداث السياسية والاجتماعية، والأخلاقية فهي انعكاس للأحداث الاقتصادية الراهنة، و"ماركس" و"إنجلز" إن وجدا مغزى التاريخ في أحداث الحياة الاجتماعية بصفة عامة، لكنهما ينظران إلى الجانب الاقتصادي بالذات من بين أحداث هذه الحياة. والأحوال الاقتصادية تبعا لتقديرهما، هي العوامل المحددة في كل الحالات الاجتماعية وهي التي تكون البواعث النهائية لكل الأعمال الإنسانية في تاريخ الجماعة البشرية.
وتغير الأحوال الاقتصادية وتطورها يؤثر وحده بذلك على حياة الدولة، وعلى سياستها، وكذلك على العلم، والدين، وهكذا: كل الإنتاج الثقافي والذهني فرع عن الحياة الاقتصادية، وكل التاريخ لهذا يجب أن يكون تاريخ اقتصاد.
و"إنجلز" Engles1 على الخصوص يعبر عن هذا المعنى تعبيرا واضحا، فيذكر أن الإنتاج الاقتصادي في كل فترة من فترات التاريخ
1 عاش بين سنتي 1820-1895:وهو Freedrich Engels فيلسوف وعالم اجتماع، وزميل لماركس، والمخرج للجزأين: الثاني والثالث من كتاب "رأس المال" من تأليفه وتأليف "ماركس".
-الذي يتبعه بالضرورة عنده التقسيم الاجتماعي إلى طبقات- يصور أساسا التاريخ السياسي والعقلي معا لهذه الفترة، والتاريخ كله، بناء على ذلك، كان تاريخ الكفاح بين الطبقات: الكفاح بين المستغلين والمستغلين؛ بين الطبقات السائدة والمسودة على درجات مختلفة في التطور الاجتماعي، ويحكم مبدأ "النقيض" هنا "Der Widrspruch" متنبئا أن هذ الكفاح وصل الآن إلى درجة معينة عندما لم تستطع الطبقة المستغلة المستذلة -وهي الطبقة العاملة- أن تتخلص تماما من الطبقة المستغلة المذلة -وهي الطبقة المدنية البورجوازية Bourgeoisie- وتخلص الجماعة كلها من الاستغلال والاستذلال، وستحل محل الجماعة المدنية القديمة بطبقاتها المختلفة رابطة فيها التطور الحر لكل فرد، الذي هو التطور للجميع، ومن هذا التعبير جعل شعار الشيوعية:"التطور الحر لكل فرد، هو التطور الحر للجميع".
والعقل الإنساني إذا كان تابعا للأحداث المادية بوجه عام، فإنه الآن يخضع خضوعا مباشرا وقويا للجانب الاقتصاي منها، و"فاعلية" العقل في نظر الماركسية، هي في تبادله العمل مع المادة، ولكن الأفكار لا تأتي من العمل الحر للعقل، ولكن تظهر كنتيجة للقوى المادية المؤثرة على الجهاز الإنساني، وكنتيجة لأفكارنا، نحن نعمل ونغير بناء العالم، ثم العالم المتغير يعطينا أفكارًا جديدة، وهكذا بدون نهاية.
لأجل هذا الارتباط الوثيق بين العقل والمادة، في نظر الماركسية، ينكر "ماركس" أن يكون السؤال:"هل الحقيقة المجردة خصيصة من خصائص العقل البشري؟ " سؤالا نظريا يجيب عنه العقل وحده، دون الاختبار الواقعي والتجربة الحسية -كما يصنع أرباب الفلسفة "العقلية"، ويراه سؤالا عمليا، أي: تجيب عنه التجربة، كما يرى أن عزل "الحقيقة" وعزل "عدم الحقيقة" الفكرية عن الواقع العملي مسألة بيزنطية، وأن الفلاسفة في شرحهم للعالم، حتى الآن شروحا مختلفة قد تركوا النقطة الرئيسية، وهي تغير العالم. ثم إن كل شيء يمكن معرفته، ولكن الجواب الذي نبحث عنه -كما يرى ماركس- هو: طريقة البحث العلمي، والبحث العلمي كما يراه هو: الذي يؤسس على النظرة المادية في المنطق والجدل، أي: على ربط العقل بالمادة، وإخضاع كل شيء حتى القيم للتغير الذي هو ظاهرة مبدأ النقيض، كمبدأ ضرورة في شرح الوجود كله.
جـ- المذهب المادي التاريخي:
ولأن "ماركس" طبق مبدأ النقيض الذي تصحبه ظاهرة التغير في "المجتمع" وحاول أن يدلل على الانتقالات "إلى الضد" من تاريخه المادي، وبالأخص من الجانب الاقتصادي فيه، عرف مذهبه بالمذهب المادي التاريخي، وقد يذكر أيضا باسم "المذهب التاريخي الاقتصادي" وإذن هو: نوع من فلسفة التاريخ يحاول توضيح العادات التي تطورت فيها الجماعات. من الماضي البدائي إلى الوقت الحاضر، مع التنبؤ بما سيحدث في وقتنا الحاضر، وكذلك بما سيقع في المستقبل وليس من الممكن، في نظر "ماركس" أن تتطور الأحداث الاجتماعية وتتغير وبالتالي يتكون التاريخ للجماعة، في صورة عظماء من الزعماء أو المفكرين الذين يظهرون من وقت لآخر، ولكن نمو هذه الأحداث التاريخية وتطورها يكمن في القوى المادية وحدها، التي لها قيمتها في العمل في الجماعة، وهذه القوى -كما ذكرها- هي القوى الاقتصادية، وعلى الأخص نوع مخصوص منها، وهي التي بين المال والعمل، فالقوى الاقتصادية كلها تتبع العلاقة بين الملاك، والأجور التي تدفع للإنتاج من جانب، والعمال الذين يصنعون الإنتاج من جانب آخر. فإذا كانت هذه العلاقة متوازية توازيا سليما استقرت الجماعة، وإذا كانت خارجة عن هذا الضرب من التوازن تطلبت الجماعة التغيير: وتوضح الماركسية هذه العلاقة على النحو التالي:
- في أثناء الجزء الأول من القرن التاسع عشر كانت الصناعة في الجملة إنتاجا لعمليات صغيرة، وكانت تباشر مباشرة متفرقة، إذ إن كثيرا من المحال التجارية كانت محال الأفراد، وكانت مملوكة ملكا خاصا، وكان المالك للمحل لا يملك الأجور والنفقات فحسب، بل كان هو نفسه يصنع الإنتاج، وكانت الصلة لذلك بين الملك الشخصي والإنتاج الشخصي تساوي واحد لواحد. وهذه العلاقة المتناسقة عبرت عن عدم الاستقرار -تبعا لمبدأ أن كل شيء ينطوي على نقيضه- الذي تطور كنتيجة لسقوط النظام الإقطاعي القديم، ووصل إلى الحال الجديدة وهي المباشرة الحرة للرأسمالية.
- ولكن التقابل والتناقض المنطوي في الرأسمالية "أصحاب رءوس الأموال من جانب والعمال من جانب آخر" أنتج حالة جديدة، هي حالة عدم التوازن. فالصناعات والأجور بيد ملاك خصوصيين وهم قلة، بينما المصنوعات والمنتجات كانت تصنع بواسطة مجهودات متجمعة لعمال كثيرين، وهذا يعني أن العلاقة بين الملكية الخاصة للأجور
والإنتاج من جانب، والطريقة الجماعية للإنتاج من جانب آخر، هي علاقة عدم الانسجام، وهذا يقضي بأن الانسجام في الجماعة لا يعود حتى تكون الصناعات جماعية أي: إن استقرار الجماعة لا يكون حتى تولد الجماعة الشيوعية.
ولكن من جديد؛ إذا قامت الجماعة الشيوعية. هل سينتظر سقوطها في الجماعة المقابلة لها، تطبيقا لمبدأ النقيض الموجب للتغير المستمر وانتقال الشيء إلى نقيضه، أم تتوقف ضرورة هذا المبدأ عن قيام الدولة الشيوعية وحدها؟ هنا يصمت المبدأ، وتتحدث الرغبة.
فالمذهب المادي التاريخي عبارة عن تحليل للحوادث التاريخية، بواسطة تطبيق مبادئ البحث الجدلي، القائم على "مبدأ النقيض".
والنظرية الاقتصادية لماركس ليست نظرية اقتصادية للاقتصاد الجماعي، بل هي بالأحرى محاولة لفهم طبيعة الرأسمالية، فهو يدعي أن القيمة الحقيقية للمصنوعات تقاس بمقياس مبلغ قوة العمل الجماعي الضروري التي تنتج هذه المصنوعات، ولكن لا يدفع للعمال مقابل القيمة الكلية للمصنوعات؛ لأن ملاك الصناعات الرأسماليين يحتفظون بنصيب لأنفسهم، وهو النصيب الذي يمثل الفرق بين القيمة الحقيقية للمصنوعات المنتجة وجملة النقود التي دفعت للعمال، وطالما لا تدفع للعمال القيمة الحقيقية للمصنوعات فهناك فضلة في الإنتاج لا تباع، وبالتالي هناك "بطالة" بين العمال، وبالتالي هناك عدم استقرار.
د- الماركسية كنظام سياسي للجماعة:
وأخيرا ليس هناك في النظام الشيوعي مكان لأكثر من حزب واحد. هو الحزب الشيوعي، والاشتراكية يجب أن تحل محل الرأسمالية وكل الصناعات، والمزارع، ومصادر الثروة الطبيعية، والخدمات، يجب أن تملكها الدولة، وتشرف عليها.
وهذه الجماعة الجديدة الاشتراكية أو الشيوعية، تبرز للوجود عن طريق الكفاح بين الطبقات كنتيجة لحرب أو ضغط، ويسقط النظام القديم السابق عليها وتنشأ دكتاتورية من العمال، والمعارضون القدامى يجب أن يتحولوا.
و"ماركس" يعتقد أن جوهر الدولة هو في سيادتها وسيطرتها، وهذا يعني في الواقع القوة البوليسية، والقوة البوليسية تكون حيث توجد طبقات، وما دامت الجماعة الشيوعية طبقة واحد، فلا بد أن تختفي السيادة وتخفى معها القوة البوليسية وتبقى بالتالي الجماعة الشيوعية.
وبذلك يريد "ماركس" أن يضفي على المجتمع الشيوعي طابعا خلقيا، وهو أنه لا يحتاج إلى حراسة خارجية عن ذوات الأفراد، طالما أصبح هناك استقرار نفسي بتحوله إلى مجتمع ذي طبقة واحدة، إذ بذلك يتوفر الإطمئنان، ويرتفع الحقد.
وما يصنعه "ماركس" في هذا التبرير يشبه ما يتميز به المجتمع المؤمن بالله من عدم حاجته إلى حراسة خارجية؛ اكتفاء بأثر الضمير الديني الذي للأفراد.
ويعتقد أيضا -تطبيقا لمبدأ النقيض في مجال الجماعة- أن الشيوعية آتية لا بد منها، وأن الشعب سيضطر لأن يأخذ جانبا في كفاح الطبقات، لإحداث الانقلاب، الذي لا بد منه في المرحلة الأخيرة من مراحل التغير. ودكتاتورية العمال التي يئول إليها الأمر في الجماعة يجب أن تكون منظمة تنظيما محكما، كما يجب أن تكون مختارة من العمال المهرة الذين يعيشون في المناطق التي تسودها الصناعات.
قيمة الماركسية كمذهب فلسفي:
يتضح الآن: أن الماركسية امتداد للصراع بين "الطبيعة والحس" من جانب، وبين "الدين" والميتافيزيقا" من جانب آخر
…
إنها صراع فكري بين الله والعقل من جانب، والمادة من جانب آخر
…
هي صراع بين قيمة الإنسان والحياة الإنسانية، وبين ما عدا الإنسان والحياة الإنسانية من العالم المحسوس، وقيمة الحياة الحسية
…
هي صراع بين "حرية" الإنسان في أن يتصور، وفي أن يوجه الطبيعة ويرتفع بقوته البشرية فوق قوتها المادية، وبين "جبر" الطبيعة للإنسان وإملائها عليه تكوينه الخاص، وتوجيهه المعين، وهدفه الذي لا ينفك عنه في حياته.
إن الصراع بين الدين والميتافيزيقا، وبين الماركسية، صراع قديم منذ وجد الدين، وقبل أن تتكون الميتافيزيقا كعلم، وقبل أن يوجد "كارل ماركس"، إنه قديم منذ أن عتقد الإنسان في الله، والشيطان معا!! ثم أخذ ألوانا شتى، وأسماء مختلفة إلى أن وصل إلى "ماركس" في القرن التاسع عشر.
وصراع الدين والميتافيزيقا مع الماركسية صراع أوروبي، ومن إنتاج العقلية الأوروبية وحدها، وتحت ضغط الحياة الأوروبية وما فيها من قلق واضطراب، فهو يمثل حلقة من حلقات العقلية الأوروبية. وإن التفكير الأوروبي منذ النهضة الأوروبية -التي استغرقت القرنين الخامس عشر في فلورنس والسادس عشر في روما، حتى وقت هذا الصراع الماركسي العقلي- هو محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة:
- ما قيمة "النص" أو الدين في التوجه والمعرفة؟
- ما قيمة "العقل" أو المثالية في التوجيه والمعرفة؟
- ما قيمة "الحس" أو الواقع في التوجيه والمعرفة؟
والماركسية، كمذهب فلسفي، يؤمن بالحس وقيمته في التوجيه، هو ضد الدين والعقل معا، وقد تكون من عدة مدارس فلسفية وجدت قبل الماركسية أما في القرن التاسع عشر نفسه، أو في القرن الثامن عشر الذي قبله:
1-
فاستخدمت مبدأ "النقيض Der Widerspruch: Principium Contradiction" ضد العقل والوحي معا، ذلك المبدأ الذي قامت عليه فلسفة "فيشته" لتأييد العقل، وقامت عليه فلسفة "هيجل" لتأييد العقل والوحي على السواء، واستخدمت هذا المبدأ في "الأشياء"، وجعلت "القيم" و"الجماعة" من بين الأشياء.
- وطبقا لاستخدامه في دائرة القيم: أصبحت القيم في نظرها تتغير، وأصبح الاعتقاد بثباتها وهما.
- وطبقا لاستخدامه في دائرة الجماعة: أصبحت الجماعة غير مستقرة، وينتظر فيها التحول حتما، ثم الانقلاب من وقت لآخر.
- وإذ تدعو إلى تغير القيم: تكافح المثالية، والتقاليد، والمعاني الأخلاقية في نفوس الأفراد والجماعة.
- وإذ تدعو أيضا إلى تغيير الجماعة وتحولها إلى جماعة ذات طبقة واحدة عمالية: تكافح أصحاب العمل الذهني، وأصحاب رءوس الأموال، وأصحاب المزارع الواسعة، والأرستقراطية المالية أو الوراثية على السواء.
- وأصبح لديها الشيء الطبيعي يتغير إلى مقابله، والقيمة الخلقية تتغير إلى نقيضها، والجماعة تتحول على ضد نظامها، كما أصبح هذا التحول منتظرا وضروريا وما يتحول إليه الأمر هو "الأفضل" فالحال الجديدة للشيء والقيمة والجماعة، أفضل من الحال السابقة.
2-
واستخدمت مبدأ: "تبعية العقل في وجوده لوجود المادة" الذي أسس عليه "كومت" فلسفته "الوضعية" وبناء على ذلك هي:
لا ترى استقلالا للعقل، فضلا عن سيادته على غيره، وأصبح العقل في نظرها انعكاسا للمادة، أي: مظهرا لها، وعلى عكس ما ذكر "هيجل" من أن العالم المادي مظهر لعمل العقل الداخلي، وأصبحت الحياة المادية هي التي تكون العقل النظري للإنسان -وهو الفكر، والعقل العملي له- وهو المبادئ الخلقية في السلوك الإنساني، وأصبح الجانب الاقتصادي من الحياة المادية صاحب الأثر البالغ أو صاحب الأثر الأول في هذا التكوين العقلي النظري والخلقي معا، كما أصبح هو المقصود من الحياة المادية.
ولأن وجود العقل غير مستقل عن المادة، وإنما وجوده كظاهرة لها فقط أصبح الله غير موجود إطلاقا في نظرها؛ لأنه معنى أو عقل، أو روح بدون مادة. هو ليس مشخصا؛ بل مجرد عن التشخيص الحسي. ومجرد عن التحديد الواقعي في هذه الطبيعة، ولذا فهو غير موجود عندها؛ لأن الموجود مادي فقط، أو ظاهرة للمادة، والمادة هي الموجودة وحدها وجودا أوليا أصيلا، وظاهرة المادة تابعة في الوجود لها.
وعن تبعية العقل للمادة: أحلت "الجبر" محل "الاختيار" في توجيه الفرد وأصبح الفرد لذلك مجبورا لا اختيار له: مجبورا ببيئته، وبوراثته، وبحياته السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية على الخصوص، وهنا يبقى شعار الماركسية، "التطور الحر لكل فرد، الذي هو "أي: الفرد" التطور الحر للجميع" غير مفهوم!!
3-
واستخدمت مبدأ "التعويض" في الدين، الذي اتجه إليه "فيرباخ" في فلسفته الإنسانية الطبيعية، وعلى نحو ما دعا "فيرباخ" إلى جعل "علم الإنسان" بدل الدين، وإلى جعل "الإنسانية" معبود الإنسان وإلهه الأكبر جعلت الماركسية "الجماعة" و"الدولة""معبود" الإنسان، وجعلت "العلم المادي" مصدر التوجيه له في حياته، بدلا من الوحي، أو بدلا من العقل كمصدر للمعرفة وإذ تجعل الدولة "معبود" الإنسان، فالآخرة ليست وراء هذه الحياة التي نعيش فيها، والجزاء ليس في دار أخرى، بل هو في هذه الدار وحدها. و"القربى" التي كان يتقرب بها عابد الله إليه هي هنا في إنكار "الفردية"، وفي العمل من أجل الدولة.
4-
وإذ تختار الماركسية التفسير المادي التاريخي في التدليل على صحة مبدأ "النقيض" -كمبدأ ضروري- في تحول الجماعة وانقلابها إلى دولة ذات طبقة واحدة عمالية، لا توافق "فيشته" على أن التاريخ يكونه عظماء الفكر والسياسية
…
وإنما تقر عكس ذلك: تقر قوة واحدة مادية فيه كقوة مكونة له وموجهة لسيره، هي القوة الاقتصادية: فهي القوة الخالقة المحددة للمجتمع ولعظماء الفكر والسياسة.
5-
واستخدمت فكرة "العقل المجرد"، التي عرفت لـ "هيجل" على نحو "نفسي" لا فكري، وذلك كي تشرح نمو الإنسان وتطوره وتفكيره، واتجاهه في حياته، متأثرة في ذلك بتصوير "اشتين تال"، وهو ترتب على ذلك وجوب العناية بكل ما هو "شعبي": من لغة عامية، وفن، وعادات، وتبالغ في تقديرها وتفضيلها.
هذه هي الأسس الفكرية العامة للماركسية -كمذهب فلسفي- قبل أن يكون في صحبتها عمل "الدعاية" الشيوعية، وهي فلسفة أرادت أن تحل مشكلة "عدم التوازن" بين طبقات المجتمع الألماني، وبالأحرى تزيل التنافر هناك بين أصحاب الصناعات من جانب، وعمال المصانع من جانب آخر، ومن أجل ذلك أخذت الطابع الاقتصادي. هي علاج لحال قائمة إذ ذاك، أو هي "تبرير" لرغبة في وضع معين يسود علاقة خاصة في جو الحياة الأوروبية، والأسس الفكرية التي استعارتها من المدارس الفلسفية السابقة عليها، لم تعد لها -على نحو ما رأينا- لأنها في ذاتها تحتاج إلى تعديل من الوجهة الفكرية، وإنما لكي تتلاءم مع "الرغبة" المطلوبة، وتكون لها
صفة "التبرير" لشيء، تكون قبلا في نفس المؤسس الأول لها.
ملاحظات على الفلسفة الماركسية:
1-
تصف الماركسية الدين بأنه "مخدر" لأنه يدعو إلى تأليه غير المحدود في الوجود، وهي تقف عند المحدود الذي هو الحس، وبأنه يدعو إلى تقديس علة عامة للوجود وراء الحس والشاهد وهي تنكر وجود ما عدا الحس والشاهد، وبأنه يدعو إلى "القيم" الأخلاقية و"المثل العليا" الثابتة، وهي لا ترى ثباتا لشيء على الإطلاق! كما لا ترى قيما ولا مثلا فيما عدا ما يوحي به الحس وما يقدمه للإنسان من متع حسية، وما يسد به حاجة بدنه فقط، إذ المتع العقلية عندها ظواهر، أو صدى للمتع الحسية، ولعلاقات الإنسان الطبيعية التي يعيش فيها.
تصف الدين عامة بأنه مخدر؛ لأنه يقف في طرف مقابل لما تؤمن هي به.
وتصف المسيحية الأرثوذكسية على الخصوص بأنها "سلطة" تعوق "الانتقال" أو "التقدم" في سير العالم، كلازمة لمبدأ "النقيض" في الوجود؛ لأن لهذه الكنيسة نفوذا سياسيا وروحيا استخدمته في تأييد الوضع السابق على الثورة الحمراء ضد القيصرية، فكانت تؤيد "الرجعية" ولا تؤيد "التقدم" الذي يدعو إليه "التطور" بوجه خاص.
وهي لا تعيب الدين عامة؛ لأنه يدعو إلى الاعتقاد والإيمان، ويحمل أتباعه على تقديس ما يراه أهلا للتقديس من الموجودات، لا تعيب الدين بذلك؛، لأنه نفسها تدعو إلى "الاعتقاد" و"الإيمان"، وتحمل في عنف وإصرار- لا عن اقتناع- على "تقديس" ما تراه أهلا "للتقديس" و"العبادة". هي نفسها تدعو إلى عبادة "الدولة" وتدعو إلى الصلاة في محراب "العلم" وتأخذ على الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية نظام "الكهنة"، و"المجمع المقدس" وعقيدة "عصمة" البابا، وهي ذاتها تضفي على "الحزب" الشيوعي، و"رياسة" هذا الحزب لونا سميكا من "القداسة" و"الاعتبار" لا يتردد في قيمته فضلا عن أن يناقش فيه!! هي تدعو إلى "عبادة" و"معبودها" هو الدولة، وتدعو لذلك عن طريق الفلسفة، فهي "وثنية" باسم الفكر!! ثم إذا هي تنكر إله الكنيسة؛ لأنه فيما وراء الطبيعية لا يحس، تدعو في الوقت نفسه إلى عبادة ما لا يحس ولا يشاهد، وهو الدولة، أو المجتمع. وإلا فإين مكان الدولة ومكان المجتمع فيما وراء التصور الذهني؟!
2-
وتعيب "ثبات" القيم الأخلاقية، وأن يكون هناك اعتبار عام للمقاييس الأخلاقية؛ لا لأن القيم الأخلاقية في نفسها ليست ثابتة وليس لها اعتبار عام؛ بل لأنها طبقت "مبدأ النقيض" في القيم، قياسا على تطبيقه في الأشياء المحسة، حتى تحفظ للأوضاع التي تطلبها في الجماعة -في دائرة الأسرة، وفي علاقة أحد الجنسين بالآخر، وفي علاقة الفرد بالدولة- والقيمة الخلقية، و"هيبة" المبدأ السلوكي. فتقاليد الأسرة في نظرها، وفضائل الجنس، وحرية الفرد -كما تريد أن تنظر إليها- ليس لها اعتبار ثابت قيمتها اليوم تتغير عن ذي قبل، ويجب أن تتغير، ويجب أن يكون الجديد أفضل من القديم في الوقت نفسه!! والدعوة إلى "الحيوانية" في علاقة الجنسين بعضهما ببعض، قد تكوم مبدأ أخلاقيا!! ونظام تبني الدولة للأولاد الشرعيين وغير الشرعيين على السواء، قد يكون نظاما أخلاقيا، بعد أن يعتبر نظاما اجتماعيا!! و"رق" الفرد قد يكون مبدأ أخلاقيا كذلك!! فإذا تم ووقع في المجتمع أحد هذه الأمور، فهو "أفضل" لأن الحال الجديدة التي ينتقل إليها الشيء -تحكم مبدأ النقيض- أدخل في القيمة والأفضلية!!
و"التقدمية" التي تطلبها الماركسية دائما هي: الحال التي تلي الحال القائم لشيء ما، وهي التي تنطوي على اعتبار الأكثر والقيمة الفضلى!!
أما ثبات القيم الأخلاقية -وبالتالي اعتبارها العام- فيتضح من تحديد القيم نفسها: فقيم السلوك في حياة الإنسان هي "النهايات العليا" في السلوك البشري، هي "آخر" ما يصل إليه تطور الإنسان في هذا الجانب، والإنسان في تطوره يبتدئ من نقطة الغريزة والأنانية -كالحيوان- ويغلب على تصرفه وسلوكه في طفولته مظهر الغريزة والأنانية، ثم يتدرج، فيدخل في سلوكه اعتبار "المشاركة الجماعية" وكلما تقدم الوعي الاجتماعي في تصرفه وسلوكه، كلما اقترب من مرحلة الرشد الإنساني، ومرحلة الرشد الإنساني تتميز بأن سلوك الإنسان فيها يقوم على يقظة قوية بالاعتراف بالغير ومشاركته في سرائه وضرائه، وليست القيم الإنسانية في السلوك إلا مظاهر هذا الرشد، وأخص هذه القيم: العدل والتعاون والمحبة، والإخاء.
3-
تستخدم مبدأ النقيض -Der Widerspruch- في أوسع دائرة، ويكاد يكون هذ المبدأ هو الأساس الأول في فلسفتها "التبريرية" أو الجدلية المنطقية، واللازمة الواضحة لهذا المبدأ: استمرار التغير والانتقال من حال إلى حال آخر مقابل له تماما، وتطبيقه في دائرة "الجماعة" يستلزم ترقب
ضياع "القوميات" وذهاب استقلال الشعوب فيما هو أعم منها؛ لأن انطواء الشيء على نقيضه، أو -بتعبير الماركسية- الصراع بين الشيء، ومقابله سينتهي بالجماعات الصغيرة، والدويلات، والشعوب، والدول، إلى الانصهار في العالمية، كجامع للدعوى ومقابل الدعوى Syu-thesis وتشجيع الشيوعية لاستقلال الشعوب، هو تمهيد لفصل هذه الشعوب وعزلها ثم الانقضاض عليها في صور شتى من صور الانقضاض، وهو -في الوقت نفسه- عمل دعاية أكثر منه نتيجة للفلسفة الماركسية، والإيمان بـ"الثورة والانقلاب".
كما أن الصراع بين الرأسمالية والعمل، أو بين أصحاب رءوس الأموال والعمال -بناء على تطبيق مبدأ النقيض- سينتهي بالطرفين إلى تمليك الدولة؛ لأنها عندئذ الجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى!! ولكن الدولة1 لا يمثلها ولا يباشر تنفيذ قوانينها إلا بعض من أفراد المجتمع، وهم "القادة" وقد اختارتهم "الطبيعة" -تطبيقا لمبدأ داروين- لأن يكونوا قادة! وشأن بقية أفراد المجتمع بعد ذلك مع هؤلاء القادة، شأن المساهمين في الشركات المساهمة مع مجلس الإدارة المنتدب، الذي تكون بحكم الكثرة العددية في حيازة الأسهم لدى أعضائه، فالشركات المساهمة وإن استوعبت جميع المساهمين، لكن مجلس الإدارة وحده هو الذي يمثلها ويدير شئونها، وموافقة الجمعية العمومية -التي تنعقد من المساهمين عامة على تصرفات مجلس الإدارة- موافقة شكلية.
وبمقتضى مبدأ "النقيض" أيضا، سينتهي الصراع بين الطبقات في الجماعة وينحل في حكومة الدولة، أي: سينتهي إلى حفنة من "المحتكرين" ولكن في صورة مغايرة لحفنة الرأسمالية، وإذا كانت الرأسمالية تمثل "عصابة" في نظر الماركسية، فإن الدولة الشيوعية في حقيقة أمرها أيضا "عصابة" بمقتضى منطقها هي نفسها.
فهل الفكر الفلسفي للماركسية هنا نوع من الخداع، قصد به إبعاد طرفي "الكفاح" -وهما أصحاب العمل والعمال معا- عن موضوع النزاع،
1 الدولة ليست هي المجتمع، فالمجتمع يشمل جميع الأفراد الذين يعيشون معا ضمن نطاق معين من الروابط، والدولة هي الجهازات المختلفة التي تصون الأمن الداخلي والخارجي لهؤلاء الأفراد.
كي تتمكن فئة قليلة من هذا الموضوع "وهو المال أو الملك"؟؟ هل منطق الماركسية يمكن أن يصفها هي نفسها بأنها "مخدر"، كما وصفت هي الدين بأنه "مخدر" قبل ذلك؟؟
إن الماركسية تصر -في تطبيق مبدأ النقيض- على أن كل شيء ينتقل إلى مقابله، ثم ينتقل المقابل إلى جامع بين الشيء ومقابله: فرأس المال سينتقل من الرأسماليين إلى مقابلهم وهم العمال، ثم ينتقل إلى "الدولة" التي تجمع الطرفين معا. ثم إن الصراع بين الدول الصغيرة سينتقل بها إلى دولة كبرى، والدول الكبرى بمقتضى الصراع بينها ستتحول إلى "العالم الواحد"!! ترى هل سيقف مبدأ النقيض هنا عندما تتحقق وحدة العالم؟ أم أن هذه الوحدة العالمية ستتفتت من جديد "تبعا؛ لأن الشيء -وهو هنا وحدة العالم- ينطوي على نقيضه" إلى دويلات، وهكذا؟ إن الماركسية كما تؤمن بمبدأ "النقيض" وتلزم الناس بقبول نتائجه، تؤمن أيضا بالتخلف عن كثير من نتائجه، تؤمن بالوقوف به في سيره عند الوصول إلى الدولة ذات الطبقة الواحدة، وهي الدولة الشيوعية! وهذا مما يجعل الفلسفة الماركسية فلسفة "تبرير"، أكثر منها فلسفة تخدم الحقيقة بالكشف عنها ويجعلها فلسفة هوى ورغبة أكثر منها فلسفة فكرة لها اعتبار عام!
4-
وأخيرا لم تكتف الماركسية في استخدام مبدأ النقيض في "الشيء" و"القيمة" و"الجماعة"، وفي أن تتوسع في هذا الاستخدام، حتى تصل إلى أن وقوع "الشيوعية" الدولية في الجماعة الإنسانية وفي مستقبل البشرية ليس حادثا مترقبا فحسب، بل هو ضروري الوقوع، وتصل كذلك إلى أن "الدولة الشيوعية" أفضل أنواع الدول السابقة عليها
…
لم تكتف بأن تتوسع في استخدام هذا المبدأ لتبلغ هذه الغاية، وإنما هي تتدخل في سير "الانتقال" و"تحول" الشيء إلى نقيضه، فتعلن أن الانتقال يسير بالتدريج من الشيء إلى مقابله، حتى إذا وصل إلى درجة معينة وقع "انقلاب" وحصلت "ثورة" فجائية تعجل بإتمام الانتقال إلى الضد! وتمثل لذلك بتحول الماء وانتقاله إلى بخار عن طريق الحرارة! وتنادي من أجل هذا بـ"الانقلاب" وبـ"الثورة الحمراء" في الجماعات غير الشيوعية، لتستعجل الوصول بهذه الجماعات إلى جماعات شيوعية، فيكف هي بعد ذلك تدعو إلى "السلام" مع أنها تؤمن بالانقلاب؟؟ !! ثم هل "السلام" الذي تدعو إليه يتضمن في نفسه العنصر المقابل له وهو "الحرب"، ككل
شيء -تطبيقا لمبدأ النقيض- يكمن فيه المقابل ونقيضه؟ حقيقة إن "السلام" معنى وليس "شيئا Ding"، ولكن الفكر الماركسي لا يفرق بين المادي والمعنوي في خضوعه لمبدأ النقيض، وفي الانطواء على المقابل والمضاد له.
إن الفلسفة الماركسية -فوق أنها جملة من المتناقضات- دعوى إلى انتكاس البشرية، وليس إلى "تقدم" الإنسانية: هي عود بالإنسان إلى الرق، وعود بالفكر والإيمان إلى "الجبر" وعود بالإنسانية إلى "الوثنية" وبالأخلاق والقيم إلى الانطلاق في "الحيوانية"!!
و"البطن" هي الهدف والوسيلة معا في حياة الإنسان، غاية الإنسان في حياته أن يعمل حتى يستطيع أن يأكل، والحرمان من الأكل هو الوسيلة إلى إخضاع الإنسان، وإلى اندماجه في الحلقة المفرغة التي أسمتها" العمل والإنتاج" من العمل إلى العمل ليأكل، لا ليعيش.
والذي يجب أن يعيش وحده هو "الدولة" أية دولة؟! هي: "رابطة فيها التطور الحر لكل فرد، الذي هو التطور الحر للجميع"! كما يقول "إنجلز" والتطور الحر للجميع معناه تخليص الجماعة من الرأسمالية، والوصول بالجماعة إلى طبقة واحدة عمالية! لكن أي تطور حر لكل فرد؟! أفي تجنيده لتخليص الجماعة من الرأسمالية؟! أية حرية للفرد في تطوره؟ أفي حمله على الإيمان بأن "معدته" مصدر تفكيره؟! أفي حمله على الاعتقاد بأن جسمه عامل حريته، وقد جعل الإغريق فيما مضى الجسم سجن هذه الحرية؟! متى كان خلاء المعدة، أو متى كان الجوع مصدر خرق في تصرف الإنسان؟! ومتى كان امتلاء المعدة عاملا من عوامل حرية الرأي وسلامة التفكير؟!
يتحدث عن "المعدة" عند الحيوان، ذلك الكائن الذي يساق ويدفع ليعمل ومن ثم ليأكل، ولكن الحديث عن الإنسان هو الحديث عن القوة "الخالقة" فيه، والقوة الخالقة فيه ليست شيئا آخر وراء "الحرية"! وحريته هي اختياره وموزانته، وتأمله، وترجيحه!! وليست حرية الإنسان هي "الانطلاق" ولا هي "الفوضى"
…
حرية الإنسان مصدر بنائه للحضارة.
ومن أجل أن الفلسفة الماركسية فيها من هنات التفكير، ومن تحكم "الرغبة" والانحراف عن الطبيعة الإنسانية -بما يصدم المفكر فيها- كانت الجولة الرابعة من جولات التفكير الأوروبي: هي جولة "الخصومة العنيفة للفكر الماركسي"، قبيل بداية القرن العشرين ومنذ بدايته حتى الآن، وخصوم هذا الفكر ما بين مؤيد للعقل وقيمته، أو مؤكد لصحة الوحي وحاجة الإنسانية إلى الإيمان بالله، وليس إلى دين أي يدين! إذ الماركسية تمثل فكرة وعقيدة معا، تمثل فلسفة ودينا، ولكن فلسفتها تبرير، ودينها وثنية وإيمانها وهم.
ومن الذين يشار إليهم في هذا الصراع الفكري ضد الماركسية: الفيلسوف الدانيماركي المعاصر لماركس "كير كجارد" Kier Kegaard 1 صاحب فلسفة "الصلة بين العلم والإيمان" والفيلسوف الفرنسي "برجسون" Henri Bergson2 زعيم المذهب الروحي في الفلسفة المعاصرة، والفيلسوف الألماني "هيدجر" Martin Heidegger3 صاحب فلسفة "الوجود الزماني".
أما "شيلر" Max Scheler4 الفيلسوف الألماني في القرن العشرين، فيعتبر في قمة هؤلاء الفلاسفة الذين كشفوا عن تهافت الماركسية خاصة، والاتجاه الواقعي الوضعي في التفلسف على العموم، وفلسفته تقوم على الصلة بين الفكر الديني والميتافيزيقي والعلمي، وبين الحياة الاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية كما تقوم على توضيح أن "القيم الأخلاقية" هي حقائق ثابتة.
وإذ نحن هنا في هذا الفصل، بصدد بيان أن "التجديد في الفكر الإسلامي الحديث" أثر للفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر -وهو الفكر
1 عاش بين سنتي 1813-1855، هو: Loeren Kire Keaggrd.
2 ولد سنة 1859.
3 ولد سنة 1889.
4 عاش بين سنتي 1874-1928. ونأمل أن نعرض لفلسفته في كتاب مستقل، نرجو أن يكون في القريب إن شاء الله، وهو فيلسوف ومن علماء النفس والاجتماع.
الوضعي، والماركسي معا- فإننا لم نشأ أن نتعرض الآن في هذا الكتاب للمرحلة الفكرية الرابعة والأخيرة في تاريخ الفكر العربي، وهي فلسفة القرن العشرين.
الماركسية والدعاية الشيوعية:
لو أن الثورة الروسية لم تقم في أعقاب الحرب الأولى، في سنة 1917، لما حفل الفكر المعاصر في القرن العشرين بالماركسية، ولطغت عليها اتجاهات المثالية، والأخلاق الدينية في هذا الفكر، ولكن حسن حظ الماركسية، أنها وجدت في الانقلاب الروسي قوة سياسية تؤازرها، وتجند لنشرها أقوى وأحدث أساليب النشر والدعاية.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، وحصل الاتحاد السوفييتي فيها على نصر عسكري وسياسي أضاف قوة جديدة إلى القوة السابقة التي آزرت الماركسية، ثم جاء ما وقعت فيه الدبلوماسية الغربية من مساندة الروس في هذه الحرب للقضاء على ما يسمى وقتذاك بـ"الدكتاتورية العسكرية" في برلين وروما، وذلك تحت ضغط اليهودية العالمية والكنيسة الكاثوليكية" فضاعف كذلك من قوة المؤازرة للماركسية في تثبيت دعائمها ونشرها.
ومنذ نهاية هذه الحرب الآخيرة، وجهاز الدعاية الشيوعية الماركسية يزداد في تأثيره، وفي توسيع دائرة الفكر الماركسي بين الجماهير والشباب في مختلف الشعوب والقوميات.
والدعاية الشيوعية لا يتضاعف أثرها بالاستناد إلى قيمة الماركسية كمذهب فلسفي، بل تستند -في أكثر ما تستند- إلى أخطاء الغرب في حل المشاكل التي تخلفت عن هذه الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمة هذه المشاكل: مشاكل البطالة، وتزايد السكان. مع عدم مواجهة زيادتهم المضطردة بالزيادة المناسبة في مصادر التغذية وكذا أثر الاستعمار الغربي في تخلف الشعوب المستعمرة والحيلولة بينها وبين حق تقرير المصير
…
إلخ.
وللشيوعية تفكير فلسفي، ودعاية في الرأي العام العالمي
…
هي مذهب فكري، ودعاية شعبية معا.
أما مذهبها الفكري -كما قدمنا- فيعتمد على المبادئ الآتية:
- على "التغيير" وأن كل شيء يتغير، حتى القيم والمعاني؛ فالخير والجمال والحق وبالتالي الأخلاق والدين تتغير. فليست هناك قيم ثابتة، ولا معان عامة لها اعتبارها الدائم في كل وقت. و"الله" لذلك، ليس له معنى ثابت!!
والشيوعية قامت في تلك المعاني والمقيم على الأشياء المحسوسة في الطبيعة، وآمنت بالطبيعة وبالقياس "الاختبار" و"التجربة" فيها لتعرف حقائق مظاهرها، واتخذته نفسه -دون أي مقياس آخر- مقياسا للمعرفة، وبذلك أنكرت "استقلال القيم والمعاني"، كـ"الروح" و"العقل" عن المادة، بعد أن أنكرت "ثباتها"وعدم تغيرها.
وهذا "التغير" ينتقل من حال إلى حال بالتدريج حتى يصل إلى مرحلة معينة، تتدخل عندها "الثورة" و"الانقلاب"!! ولذلك كانت الدعوة إلى "الانقلاب" في الصراع بين طبقات الجماعة -كأمر يخضع للتغيير- نتيجة لازمة لمبدأ التغير وخطوات سيره.
وكنتيجة لمبدأ التغير في الجماعة، والصراع بين طبقاتها، تنتقل الملكية للدولة دون الأفراد من الملوك، ثم من أصحاب المزارع، ثم من أصحاب رأس المال، ثم من عامة الرعايا، ويصبح المجتمع عندئذ جماعة من طبقة واحدة عمالية! وتسوق الشيوعية للتدليل على صحة هذه المبادئ ما تسميه بالتفكير المادي الاقتصادي للتاريخ، وما تحاول أن تفعله من قياس القيم الخلقية، والروحية والعقلية على الأشياء الحسية الطبيعية.
وأما الدعاية الشيوعية فتسلك -هنا في هذا القطاع- طريق الاستخفاف والتحقير لما يقف أمام أفكار الفلسفة الماركسية من مبادئ وتعاليم وتقاليد، كانت في المجتمع السابق عليها:
- فمبدأ كون القيم ثابتة -وهو ذلك المبدأ الذي يمثله الدين، وتمثله الفلسفة المثالية- عدو للشيوعية؛ لأنه يضاد عندها مبدأ التغير في كل شيء، في الشيء الطبيعي، والمجتمع الإنساني، والقيم الأخلاقية!! والأخلاق القائمة على المعاني والمثل الخالدة -التي لا تتغير في نظر علماء الأخلاق، وهي الفضائل والرذائل- يجب أن تحاربها الدعاية الشيوعية بأسلوب التهكم والاستهتار!! والدين -لأنه ينادي بالقيمة الثابتة لله،
كما جاءت في صفاته- يجب أيضا أن يحارب من الشيوعية، ولكن يجب أن تكون الحرب ضد الدين أعنف وأقسى، وأن يكون أسلوب الدعاية إزاءه أشد في البذاءة والسخرية؛ لأنه يسود عقلية الجماهير في أية جماعة لها دين، بعكس الأخلاق ومناهجها الفلسفية فهي قاصرة على خاصة الناس! وعندما تنزل الدعاية الشيوعية مجال المبادئ الدينية تستهتر بها استهتارا شنيعا، وعندما تنزل مجال رجال الدين تزدري بهم، وتسف في وصف رسالتهم!! وهي في مجال الدين عامة، لا تفرق بين الدين كمبادئ وبين أفهام التابعين له في الأجيال التي مرت عليه. ثم هي لا تفرق مع ذلك بين الأفهام المنحرفة في الدين على أنها الدين في واقع الأمر!! وهي لا تخلط في ذلك عن عدم فهم، وإنما تقصد إلى هذا الخلط قصدا، لتصل إلى الاستخفاف والازدراء بالدين وبرجاله معا!
- ووضعية المرأة في الأسرة، وفي المجتمع القائم على القيم الثابتة في الأخلاق والدين أو على التقاليد المعروفة فيه -تنال نصيبا كبيرا من عناية الدعاية الشيوعية ضدها، وتهدف هذه الدعاية في محيط المرأة إلى "تحريرها"- أي: إلى "عزلها" عن كل "القيود" الماضية!! والقيود الماضية في نظرها هي: أوضاع المرأة في علاقتها بالرجل في الأسرة وفي مكانها فيها كأم، وفي مكانها في المجتمع الذي تعيش فيه كعضو من أعضائه، حسب القيم الأخلاقية والدينية والتقاليد المتبعة!!
ثم تقصد بعد هذا التحرر إلى أن تضعها من جديد في مجتمع له نظرة إلى الحياة الجنسية، وإلى حياة الأسرة، وإلى القيم الاجتماعية!! وهذه النظرة أن تروض المرأة على أن تؤدي ما يطلب منها كامرأة في مقابل الرجل، وكعضو في المجتمع، دون قيد خاص، إلا قيد "الإنتاج" بما تستطيع من إنتاج كامرأة، وكعضو في المجتمع!! وهي كامرأة موضع لقاح الرجل، وعليها بعد أن يستوي هذا اللقاح عندها أن تقدمه وتقذف به للدولة بدون عنوان خاص يحمله!! وهي كعضو في المجتمع عليها أن تنتج ما يحدد لها إنتاجه من الدولة!!
- والاستخفاف بالطبقة المفكرة، وأصحاب المزارع، وبأصحاب رءوس الأموال في الصناعة -من جانب، وتمجيد عمل "اليد" أو الأيدي والسواعد العاملة، أو تمجيد العمل البدني والجسمي من جانب آخر- مظهر آخر من مظاهر الدعاية الشيوعية؛ لأن أصحاب العمل البدني في كل جماعة إنسانية هم الكثرة، أو هم الجماهير بالقياس إلى من عداهم. والدعاية الشيوعية تعتمد على هذه الكثرة؛ لأنها كثرة في ذاتها، ثم
لأنها لا تستطيع بعقليتها العامة المناقشة فيما توجه إليه من هدف وغاية!! وفي كل ذلك تسلك هذه الدعاية نفس المسلك الذي يسلكه الفكر الماركسي من قبل، وهو مسلك التدليل على ترويج هذه الدعاية بما يسمى بـ"التفسير المادي والاقتصادي للتاريخ" وبقياس القيم المعنوية: الروحية، والعقلية، والخلقية، على الأشياء المحسة الطبيعية!!
وإلى هنا تجد أن لكل من الفكر الماركسي، والدعاية الشيوعية، معالم ومظاهر خاصة بهما، ونجد أن كليهما يبتغي نفس الغاية، ولكن الفرق بينهما هو: الفرق بين التحديد والدقة من جانب، والتهويل والتفخيم والجرأة المكشوفة من جانب آخر!!
وإلى هنا أيضا، لنا أن نتساءل:
هل لهذا الجدل الفكري في الغرب، وما نشأ عنه من مذاهب فلسفية، اعتبار عام في كل المجتمعات الإنسانية الأخرى، بحيث تصلح مذاهبه أو يصل بعض منها على الأقل، لأن يردد في بيئة أخرى وفي جماعة أخرى، تختلف كثيرا عن البيئة والجماعة التي ولد ونما فيها؟؟
- كان الدين في أوروبا محورا للجدل الفكري طوال هذه القرون الخمسة -من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر- ولم يزل حتى الآن في مركز هذا الجدل
…
وما قام من مذاهب فكرية لتأييد اعتبار هذا الدين، حاول تبرير بعض معتقدات خاصة بدين معين هو المسيحية، وبفهم معين هو فهم الكثلكة المسيحية، وكانت هذه المعتقدات كعقيدة التثليث وعقيدة "النموذج الإلهي" على الأرض، وهو عيسى الإله الابن مثار النقد السلبي لقيمة المسيحية كدين موحى به من الله.
ثم ما قام من مذاهب فلسفية لمناوأة الدين، وإبعاده عن التوجيه، قام ليوضح ضعف بعض العقائد، وبعض "الطقوس" في العبادة، وفي السلوك الديني، في دين معين -هو المسيحية أيضا- وبفهم خاص هو فهم الكثلكة في المسيحية كذلك، وهذه هي العقائد السابقة من التثليث، والطبيعة الإلهية الإنسانية لعيسى والوساطة الروحية في صلة الإنسان بالله، وأما الطقوس فمنها "رسوم" صكوك الغفران والمنح الأخروية، والاعتراف، والتعميد..
فهل نقل هذه المذاهب الفلسفية، المؤيدة أو المعارضة للدين على السواء، إلى بيئة أخرى -كالبيئة الإسلامية مثلًا- غير أوروبية في الطابع، والاتجاه، والتقاليد يعتبر ذا جدوى من الوجهة الفكرية؟!
وهل القارئ المسلم يستطيع عندئذ أن يسير بتفكيره، ويتابع خطوات النقاش مع المؤيدين أو المعارضين، فيما ساقوه من آراء لترجيح كفة "الدين" أو ضد "الدين"؟!
وهل ستوجد هناك "انفصالية" ذهنية بين المنقول من هذا الجدل الفكري الأوروبي، وبين واقع الحياة التي نقل إليها، وهي الحياة الإسلامية؟
وهل المؤيد للدين هناك باسم هذه المذاهب المؤيدة، وكذا المعارض له هناك أيضا باسم المذاهب المعارضة منها، يكون هنا في المجتمع الشرقي الإسلامي أكثر من "حاك" و"مردد" لشيء يبعد كثيرًا عن واقع الحياة التي يردد فيها ما ينقل ويحكى؟؟ 1.
- وكانت السياسة في أوروبا عاملا أيضا من عوامل الجدل الفكري
…
وكانت "الكنيسة"، وكانت "البابوية" تلعب دورا في الحياة السياسية، وكان لها أنصار ومؤيدون يبررون دورها في الحياة السياسية، وكان لها معارضون يشنون عليها حملة من الهجوم، وعلى ما تنتسب إليه وتستمد منه قيمتها وهو الدين.
- وكانت الثقافة في أوروبا من عوامل الجدل الفكري
…
وكانت الكنيسة ترسم دور الثقافة، وتحدد نطاقها، وموادها، وغاية التثقيف الإنساني، وكان لدور الكنيسة هذا في الثقافة الإنسانية معارضون، ومؤيدون.
وجاءت "المثالية" الغربية لبعث قيمة العقل الإنساني، الذي قدره الإغريق في فلسفتهم، وجاء عصر "التنوير" في النصف الثاني من القرن
1 كمثال واضح لهذا ما عنون له بـ"الدين والكهانة" في كتاب "من هنا نبدأ" ص22-24، فهو منقول عن كتاب الغرب الماديين الاشتراكيين ضد الكنيسة الكاثوليكية، وما ورد فيه من عبارات تتصل بالمجتمع الإسلامي، بقيت في عزلة فكرية تامة عما تجاوره من المنقول!
الثامن عشر مختتمًا بـ"كانت" ليعارض تحكم الدين أي: الكثلكة، ويعارض استقلال الوحي المسيحي بالتوجيه، وتحديده "المعرفة" في دائرة الإنسان.
وقامت الفلسفة "الوضعية" الغربية، وشد أزرها "أوجست كومت"، لتعارض دين الكنيسة، ولتضع بدلا منه دين "الطبيعة" قامت هذه الوضعية لتحرم "عبادة"، كي تحل محلها "عبادة" أخرى: آمنت بـ"الطبيعة"على أنها الله، وكفرت بـ"الكنيسة" على أنها تمثل الله!!
فهل "مثالية" الغرب و"وضعيته" معا، تتفاعلان في البيئة الإسلامية؟ وهل يكونان هنا في المجتمع الشرقي الإسلامي ذا موضوع مع الإسلام؟؟
إن الماركسية -وهي مذهب وضعي- تصارع الدين، وتصارعها الكنيسة الكاثوليكية1 في المجال الدولي، وفي البلاد الأوروبية الغربية، وفي أمريكا اللاتينية، وأمريكا الشمالية، وقد قضت الثورة الشيوعية في بلاد الاتحاد السوفييتي، وفي بلاد شرق أوروبا الخاضعة للنظام الشيوعي، على اعتبار المسيحية وهيبة الكنيسة الكاثوليكية، بالدعاية ضد رجال الدين، وبإهمال شأن المؤسسات والقيم الدينية، وبالتراخي من الوجهة الرسمية في وقف الهجوم على الدين من الكتاب في الصحف والكتب، والمعلقين في الإذاعة، ذلك الهجوم الذي تثيره، بل تشجعه في الخفاء!!
فهل للماركسية مكان في الصراع مع الإسلام؟؟
هل الإسلام -من تعاليمه- يعطي فرصة لقبول الماركسية، كعلاج لأزمة فكرية، أو أزمة ثقافية، أو أزمة علمية؟؟ أم أن نقل الفكر الماركسي إلى البيئة الإسلامية يعبر إما عن:"الاحتراف" من الناقل له، أو عن "سطحية" لفهم الماركسية نفسها، أو يعبر من جانب آخر عن سوء فهم للإسلام، بقياسه على المسيحية أو على الكثلكة بوجه خاص منه؟!
1 كل الأحزاب الديمقراطية المسيحية في السياسة الأوروبية الغربية تلعب دورا رئيسيا ضد الماركسية في البلاد الغربية، تحت توجيه الكنيسة الكاثوليكية في روما، فهي أحزاب كاثوليكية، والدولة ذات الحزب الواحد في الغرب، كأسبانيا، تقدم جزءا كبيرا من نشاطها السياسي في الداخل والخارج لمؤازرة الكثلكة، أو تحت تصرفها، ولا يخلو بلد غربي، حتى فرنسا من حزب ديمقراطي مسيحي.
إن الماركسية نشأت وتطورت في ظل التطور الصناعي في ألمانيا البروسية، ومن ثم كان لها رأي في الاقتصاد القومي، وفي توجيه الجماعة وقيادتها هناك.
فهل للبلاد الإسلامية الآن جو الصناعة البروسية، وعلاقة أرباب المصانع بالعمال، على نحو ما كان الأمر وقت "كارل ماركس" في ألمانيا مما يدعو لتطبيق الماركسية، كحل لإعادة التوازن بين الرأسمالية والعمال؟!
هل هناك صراع بين طبقات الجماعة الإسلامية -سببه الإسلام- يدعو إلى "الانقلاب" في القيم الأخلاقية، وفي النظر إلى الحياة، حتى يتم تحول الأمر إلى ضده، تطبيقا لمبدأ النقيض؟! أم أن النداء الماركسي في الشرق الإسلامي مهنة وحرفة، أو تقليد، أو سوء فهم للإسلام؟!
إن الماركسية في الشرق الإسلامي.. ليس لها موضوع فيه
…
الماركسية في التجديد في الفكر الإسلامي:
ولكن رغم المفارقات في كل ظروف الحياة بين الشرق الإسلامي وبروسيا الألمانية، وأوروبا بوجه عام في القرن التاسع عشر الذي قامت فيه الماركسية في البيئة الأوروبية الألمانية، ورغم أن الفكر الماركسي بني تعبيرًا عن الجو الخاص الذي ولد ونما فيه، سواء في منطقه وجدله، أو في أسلوبه في التبرير، أو في إلحاده، أو في ميله إلى الانطلاق الحيواني. ورغم هذا كله، فالأدب العربي المعاصر بوجه خاص يحمل عناصر الفكر الماركسي والدعاية الشيوعية، كظاهرة "تجديد" في الفكر الإسلامي الحديث، والمبادئ التي تقوم عليها فلسفة "ماركس": يعبر عنها الأدب العربي المعاصر، ولكن في غير وعي تام بها، ويمسها مسا ينم عن عدم عمق في فهمها، أما عناصر الدعاية الشيوعية: فيعكسها الأدب العربي المعاصر في جرأة أشد، وفي تهويل وتجسيم أكثر، أو في إغراء لامع!!
وسنعرض هنا للدعاية الشيوعية، بقدر ما يوضح للقارئ مدى إفساح الأدب العربي -وهو نوع من الأدب الإسلامي- مكانا فيه لهذه النزعة الفكرية الماركسية، باسم التجديد في الفكر الإسلامي الحديث، وعلى وجه أخص: أدب "ما بعد الحرب العالمية الثانية".
سنعرض للدعاية الشيوعية؛ لأن ظهور الفكر الماركسي في الأدب العربي، وفي الفكر الإسلامي -بوجه عام- لا بد أن يظهر في صورة الدعاية الشيوعية قبل أن يعلن عن نفسه في فلسفة المذهب نفسه، وقد فرقنا بين النوعين من قبل: بأن أحدهما -وهو الفلسفة- يسير في دقة المصطلحات الفنية، وثانيهما -وهو الدعاية- يتحرك في أسلوب "التهويل" أو"الاستخفاف"!! لا بد أن يظهر الفكر الماركسي في الشرق الإسلامي في صورة الدعاية الشيوعية؛ لأن هذه الصورة أقرب إلى عقلية الجماهير من ذلك التحديد الفني الفلسفي الدقيق الجاف، الذي يتوقف فهمه من الوجهة الفكرية على ثقافة خاصة.
والدعاية الشيوعية عامة كما سبق تركز قوتها في ثلاث نقاط:
- معارضة ثبات القيم الروحية، والأخلاقية، والعقلية.
- معارضة وضعية المرأة في المجتمع غير الشيوعي.
- الاستخفاف بأصحاب المزارع، وأصحاب رءوس الأموال، وتمجيد أصحاب العمل البدني بعد ذلك كله.
ونجد هنا في الشرق الإسلامي أن توهين أمر الدين، ورجال الدين، هو الهدف الأول للدعاية الشيوعية؛ لأن الإسلام في هذا الشرق يعتبر مصدر أنواع القيم الثلاث الثابتة: الروحية، والعقلية، والدينية، ثم هو مع ذلك مصدر تحديد وضعية المرأة في المجتمع الإسلامي كذلك، وأخيرًا هو مصدر حق "الملكية الفردية" سواء للأراضي الزراعية، أو للصناعات.
يضاف إلى ذلك، أنه ليس في الشرق "رأسمالية" بالمعنى المفهوم في الفلسفة الماركسية، التي قامت هي لمقاومة نفوذها هناك في أوروبا، وتقاومها الدعاية الشيوعية اليوم في أوروبا وأمريكا، والخصومة بين الماركسية، ورأس المال هي التي طبعت الفكر الماركسي بالطابع الاقتصادي كما ذكرنا قبلا، وطالما لم تقم هنا في هذا الشرق الإسلامي صناعات كبيرة، وعديدة أيضا، وطالما يقترب عدد عمال المصانع من عدد عمال المزارع أو يزيد، فالحديث عندئذ عن الرأسمالية، في مهاجمتها، أو تأييدها، حديث سابق لأوانه، وتقليد هنا في غير ذي موضوع، كما أشرنا من قبل.
ويلي أمر الدين ورجال الدين -في الدعاية الشيوعية- السخرية والاستخاف بأصحاب المزارع الكبيرة، ووضعهم في الرتبة الثانية بعد رجال
الدين؛ لأنه ليس لهم من الاحترام والتقدير في نفوس "العامة" هنا في الشرق مثل ما لرجال الدين، لصلة هؤلاء بالدين، والدين له القداسة الأولى، والاحترام الكلي في نفوس الجماهير.
ولأن الدعاية الشيوعية، كالفكر الماركسي، في التجديد في الفكر الإسلامي مستوردة من الخارج -ككل فكر له طابع التجديد في الشرق الإسلامي، وبخاصة في مصر- تحاول هذه الدعاية أن تأخذ صبغة محلية كي تسير في المجتمع الإسلامي، على أنها منتزعة من واقع البيئة الإسلامية، أو لكي تبدو في نظر العامة والجماهير "الجموع! " منسجمة مع خصائص الجماعة الإسلامية.
لهذا نجد في الأدب العربي المعاصر، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعض نشرات الدعاية الشيوعية، التي تظهر في صورة كتيبات تنقل هجوم جهاز الدعاية للفكر الماركسي ضد رجال الدين، والكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، إلى علماء الدين في المجتمع الإسلامي في الشرق!! ولكي يبدو هذا الهجوم قريبا من البيئة الإسلامية، تصوغ هذه النشرات عبارت ومصطلحات متداولة في هذه البيئة بالنسبة لعلماء الإسلام، وللإسلام نفسه مع ترديد نفس العناصر الرئيسية التي قام بها هجوم الدعاية الشيوعية ضد الكنيسة، ورجال الكنيسة في أوروبا!! وسيكون حديثنا هنا عن ثلاثة من الكتيبات1 تمثل نشرات هذه الدعاية، التي تحمل في عناصرها الفكر الماركسي.
فبعضها2: أضاف إلى عناصر الدعاية الشيوعية بعض أحاديث منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض آيات من القرآن الكريم، قصرها في التفسير والشرح قصرا على أن تلائم ما أضيفت إليه من عناصر الماركسية.
1 الكتيب الأول: "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد، والثاني "الله والإنسان" لمصطفى محمود، وهو من سلسلة "كتب للجميع"، رقم 113، عدد مارس سنة 1958، وقد نشر أولا في صورة مقالات في مجلة "روز اليوسف"، والثالث:"رجل في القاهرة" ابن خلدون" لرشدي صالح، وهو من السلسلة السابقة، عدد مايو سنة 1957 رقم 115.
2 "من هنا نبدأ".
والثاني1 تحدث عن "الله" وعن "مكة" وعن "الصوفية"، ونحو ذلك من مصطلحات الثقافة الإسلامية.
والثالث:2 تضمن الحديث عن بعض "المجاورين في الأزهر"، وجعل حوار القصة يدور في القاهرة "في عهد المماليك" على لسان ابن خلدون! ومؤلف هذا الكتيب أمهر من المؤلفين الآخرين؛ لأنه سار بالعناصر الماركسية -وبالأخص تبعية القيمة المعنوية: الروحية والأخلاقية، والعقلية للمادة- في جو الثقافة الإسلامية، وإن كان في تعثر واضح.
ولكن الشيء الذي يجعل هذه النشرات ترديدًا للدعاية الشيوعية في البيئة الأوروبية التي نشأت فيها الماركسية، ليس فقط ما يرى من وحدة "العناصر" فيها وفيما يوجد هناك، ولكن نفس المحاولة التي قامت عليها هذه الكتيبات لاصطناع جو شرقي إسلامي لهذه العناصر هنا تقدم لقارئ الفكر الماركسي في يسر الدليل على هذا "الترديد"!! فالحديث مثلا عن "الكهنة" و"السلطة الدينية" في أحدها3، وعن "النظام الصراعي بين رأس المال والعمل" في ثانيهما4، وعن "التفسير المادي الاقتصادي للتاريخ" في ثالثهما5.. مع أنه لا موضوع لكل ذلك في المجتمع الإسلامي، يكشف عن استيراد هذه العناصر الماركسية من بيئة غريبة عن البيئة الإسلامية: إذ متى كانت هنا "كهنة وكهان"، وكانت "سلطة دينية"؟ ومتى وجد "الصراع" في الشرق بين رأس المال والعمل، مع أنه لم تقم بعد صناعات يتحدث عن رأس مالها وعمالها، ومتى كان ابن خلدون منكرا لثبات القيم الإسلامية في الأخلاق، والمثالية، وفي الله، والروح، ومفسرا إياها من المعدة، والطعام، والاقتصاد؟!
عناصر الدعاية الشيوعية في التجديد في الفكر الإسلامي:
سوف نجد في أية نشرة، في أي كتيب، باللغة العربية عن الدعاية الشيوعية ما يوضح الهدف منها
…
مثل هذه العبارات: "وإن هذا
1 "الله والإنسان".
2 "رجل في القاهرة""ابن خلدون".
3 "من هنا نبدأ" ص124، 125.
4 "الله والإنسان": ص292.
5 "رجل في القاهرة""ابن خلدون": ص66، 67.
الكتاب1، ليحاول محاولة صادقة أن يجيب على هذا السؤال، وهو يرسم الخطوط الرئيسية لتحول اجتماعي وديع، يفضي بنا إلى قومية شاملة لا تنافر فيها، وإلى اشتراكية عادلة لا استغلال ولا ظلم فيها
…
وإلى وعي ناضح سليم، لا سلطان للرجعية ولا للكهانة عليه، وإلى سلام غامر يبدل حقد المجتمع حبا وتربصه ولاء وأمنا، وقلقه استقرارا وسكينة"2.
ومثل: "الإصلاح الحقيقي يجب أن يبدأ في جيب الدولة، وحافظة نقودها وتوزيع ثرواتها، وتنمية مواردها
…
إذ أردت أن تصنع الناس فاصنع المجتمع أولا، اصنع الدولة"3.
أ- ثبات القيم المعنوية:
ومن البديهي أن نرى الآن جهاز الدعاية الشيوعية في نشراتها في الأدب العربي، يحاول في عنف أن يحدث اهتزازا واضطرابا في القيم الروحية، والخلقية، والعقلية، في المجتمع الشرقي الإسلامي بدعوى خضوعها لمبدأ التغير، كما تخضع الأشياء له، وهنا نلمس الفكرة الماركسية في ثوب الدعاية الشيوعية، كما نلمس هنا أيضا الفكرة الأخرى من فكرها، وهي فكرة ربط كل الأمور والقيم المعنوية بالحياة المادية، وتبعيتها للجانب الاقتصادي منها على وجه أخص.
- فعن الدين والقيم الدينية نقرأ: "فإن هذه الفكرة البلهاء التي تزعم أن "الروحانية"، هي علاج الشرق الوقائي، وأن "المادية" ستفسدنا كما أفسدت الغرب، وأن الروحانية شيء مستقل بذاته، وليست أثرا من آثار المادية المنظمة، المفعمة بالرغد والرفاهية
…
إلخ4"، و"إن الكلمة الأخيرة التي سنقولها للشعب دائما، وهي: أن طاقته الروحية وليد
1 "من هنا نبدأ".
2 المصدر السابق: ص19.
3 المصدر السابق: ص30.
4 المصدر السابق: ص242.
طاقته الاقتصادية.. إن الروحانية التي تدعو إليها لا تبدأ من نفسها، بل هي تبدأ من المعدة"1.
و"الدين يتفاعل مع الحياة والعلم.. ولقد وجدنا كيف أنه كان في العام الواحد، وأحيانا في اليوم الواحد "؟! " ينسخ حكما بحكم2، ويقيم مبدأ مكان آخر، متبعا في هذا قانون التطور، وهو التغير والانتقال من صالح إلى أصلح3. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] 4.
1 "الله والإنسان" ص 24.
ومن مثل هذه العبارات يدرك القارئ الهدف من هذه النشرات، وهو بيان أن كل عيب يرجع إلى الاقتصاد، وكل حسن يعود أيضا إلى الاقتصاد، وكل شيء من شقاء أو سعادة هو في الاقتصاد! والحل لرفع العيب والشقاء هو: تمليك الدولة، هو صنع الدولة أولا، تكن السعاد، ويكن الإصلاح
…
هو الشيوعية.
2 لا يفرق المؤلف بين الدين والفقه.. فالإسلام كدين: أصول عامة تضمنها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وهما خالدان ثابتان لا تغيير فيهما، والفقه، فهم المسلمين في هذه الأصول العامة، وهو متغير حسب الأجيال وعوامل الحياة، كما لا يفرق بين "النسخ" كظاهرة خاصة بتأييد الرسالات السماوية، وبين "التغير" كمبدأ ضروري للحياة الذي تستند إليه الماركسية، كظاهرة لمبدأ "النقيض"، فنسخ الآيات ليس معناه إبطال ما بالأمس من حكم بحكم جد اليوم، أو بحكم يجد غدا، فما وقع ذلك بحال على عهد نزول القرآن في فترة التشريع بالمدينة، وإنما معناه تغيير آيات الله كمعجزات، تلك الآيات التي تصاحب رسالة الرسل لتأييدها، ونسخ الآيات بهذا العنى موقوت، وقاصر على عهد الرسول، وهو إذن ليس ضرورة عامة تخضع لها الحياة في كل شيء فيها، وفي كل زمان.
3 يشير المؤلف بهذا القانون إلى المبدأ الضروري في الوجود عند الماركسية، وهو مبدأ "النقيض"، فهذا المبدأ -كما سبق- يقضي أولًا: بضرورة الانتقال والتغير، وثانيا: بأن الحال الجديدة أفضل من الحال التي كانت للشيء.
4 المصدر السابق: ص57. وقد فسر المؤلف الآية القرآنية على الفهم الماركسي قسرا على نحو ما تفسر الصوفية آية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} على "الاتحاد" و"الفناء" في الله! فقول القرآن في هذه الآية الكريمة: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} لا تحتم أن تكون الآية الأخرى التي هي بديل الأولى، أفضل وأصلح على الإطلاق، وبذلك لا تنسجم مع المبدأ الماركسي، على فرض أنه يقصد منها ما عناه المؤلف المفسر.
وكما نقرأ: إن "الله" عند جدي: يتمثل في شخص طيب رحيم غفور تواب، يداوي الروماتيزم، ويقوي المفاصل1
…
وعند أمي: مأذون يجمع رءوس بانتها على رءوس عرسان أغنياء في الحلال
…
وعند الأطفال يشبه عروسة المولد
…
وهو عند أينشتين معادلة رياضية، وقانون تخضع له الأشياء بالضرورة
…
وهو عند عاشق مثلي: حب.... وعند مشايخ الطرق الصوفية
…
وزير أوقاف يوزع الكساوى والمعاشات2
…
وعند الملحد: موضوع دراسة.. وعند المؤمن: موضوع عبادة
…
وهو دائما شيء حتى عند الذي ينكره"3!!
و"إن الله فكرة في تطور مستمر، كما تدل على ذلك قصة الأديان.. الله في العقل الحديث معناه الطاقة الخام التي في داخلنا، الله هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة، والعلم بهذا المعنى عبادة، والفن عبادة، والفلسفة عبادة؛ لأنها إدراك لهذا الإله بوسائل مختلفة.
و"الآخرة لا ترعى مصلحة الملوك والكهنة وحدهم، بل هي سلطة خلقية يستمد منها الشعب خيره وشره.. يقول فولتير: إذا لم يكن الباب موجودا فينبغي أن نوجده! ويقول نابليون: لو لم يكن الباب موجودا لكنت اخترعته، ويقول بلوتارخ: إن مدينة بلا أرض تقوم عليها أسهل من قيام
1 يحاول المؤلف، بجانب أسلوب التهكم، أن يعبر عن فكرة "الإله" التي تعرف لـ"فيبراخ" وفكرته هي أن كتاب الله هو كتاب الآمال والأماني الإنسانية، وهي الفكرة التي تبنتها الماركسية، يراجع الحديث عن هذا الفيلسوف، في هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث" ص250.
2 مثل هذه العبارة: "وهو عند مشايخ الطرق الصوفية وزير أوقاف يوزع الكساوى والمعاشات" من العبارات التي تنتزعها الدعاية الشيوعية من المجتمع الشرقي الإسلامي كي تروج فكرة أن الدعوة المطلوبة تقوم على وحي المجتمع نفسه، ومنبثقة من داخله، ولذا هي تناسبه.
3 كتاب "الله والإنسان" ص100، 101.
دولة بلا إله؟ لقد أدرك الثلاثة نشأة الروحية من الضرورة المادية، وأن العامل الآخر أرضي ناشيء من الأرض، ومن الحاجات الأرضية، ولا دخل للسماء فيه1.
"إن الله ليس فوق الجدل، وليس فوق العقل، وليس فوق الواقع.. إن الله هو العقل، وهو الواقع، وهو مجموع القوة الكونية التي تعمل لخيرنا في كل وقت.. وهي قوى تقبل المراجعة، والبحث، والتطور"2.
هذا نموذج من الحديث عن القيم الدينية والروحية في هذه النشرات.. أما أسلوب هذه الكتيبات عن علماء الدين، فإنه يضعهم موضع رجال الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، فيبعد كل البعد عن المناقشة المهذبة!!
…
وهذا نمط منه:
"وأما الأئمة: فرجال ضائعون، يترنحون على الطرق، يقولون للتتار والأكراد: إن أبواب الجنة مفتوحة للصديقين والشهداء، وهم يعلمون أن الجنة لم يوعد بها الفاسقون ولا القتلة"3.
"رأينا الكهانة المصرية "علماء الأزهر! " تختط مذهبا عجيبا. إذ راحت تمطر الناس بخرافاتها، وسال جشاؤها، حاملا مبادئها الحزينة المدبرة، داعية الناس إلى القناعة المقدسة، بيد أن الكهنة أنفسهم ألد أعداء القناعة، وأسبق العالمين إلى اقتناص المغانم، والبحث عن المال والجاه!! وهذا خلق لها قديم كشف عنه العلامة" هـ. ج. ولز" في كتابه الجليل "معالم تاريخ الإنسانية"4.
1 المصدر السابق: ص111-119.
2 المصدر السابق: ص131.
3 كتاب "رجل في القاهرة": ص11.
4 "من هنا نبدأ": ص24، ونلاحظ أن المؤلف في حديثه عن "الكهنة" ينقل عن "ولز"!! هذا ولعله H.G. Wells من دعاة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الأولى في إنجلترا، ودعاة تنظيم العلاقة بين أصحاب العمل والعمال، عن طريق منظمة مشتركة يشترك فيها الطرفان بنصيب إيجابي على قدم المساواة، كما يلاحظ أنه ينقل هنا عن "فولتير""Francots Maurie Voltaire" الكاتب الفرنسي في القرن الثامن عشر "1694-1775" وألد أعداء الكنيسة الكاثوليكية، من بين دعاة الثورة الفرنسية.
ونمط آخر: "هل رأيت الخوف والذهول في عين الكلب، وهو يتأمل ورقة طائرة في الهواء؟ إنه لا يرى الهواء، وأراهن أنه ينظر إلى الورقة كما ينظر إلى مخلوق حي، ويظن أن بها روحا تحركها
…
إنه كلب متدين، وفي الماضي كان الإنسان أحمق "إذ كان متدينا" مثل هذا الكلب"1.
ومثل هذا الحديث تتحدث به هذه النشرات عن المؤسسات الدينية، أو تصف به التنظيم أي تنظيم، إن قام في أساسه على ما يتصل بالدين من نحو: "فتنشئ جمعية الرحمة
…
وجمعية لتحفيظ القرآن
…
وجمعية لتربية القطط الضالة؟ "2، ومثل "أنفر من عهد حرية الفكر، وحرية القول، وحرية النقد -مهما يكن ذلك ضئيلا- إلى عهد من قال لأميره: لم؟ فقد حل دمه، وبرئت منه ذمة الله؟! أم نثبت هذا العهد، ونعاونه على النضوج والاستواء؟ "3؟
1 "الله والإنسان": ص103، ويلاحظ في هذه النشرة بصفة خاصة نبو الألفاظ وقسوتها، واستخدام الدعاية الشيوعية للألفاظ القاسية الشديدة نقطة مهمة في منهاج إثارة الطبقات ضد بعضها بعضا، وخلق الصراع بينها، أو التعجيل بنتائجه في الوصول إلى جماعة اشتراكية ذات طبقة واحدة. وهي تعتمد على "الاستفزاز" دائما في المناقشة والكتابة، وعلى إثارة روح "العصيان" في المصانع الكبيرة، وعلى "إضرار" العامل في المصنع الصغير أو في المحلات الصغيرة للمهن المختلفة للعميل "الزبون" فلا يقدم له عملا يساوي الأجر، كما تغلب عليه روح عدم الاكتراث.
2 المصدر السابق: ص52.
3 "من هنا نبدأ": ص135، ويلاحظ في حديث المؤلف هنا عن "السلطة الدينية" أنه ينقل عن "فولتير"، وعن كتاب:"الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق "كما يبدو في صفحات: 142، 167، 168"، وفولتير هو من أشير إليه من كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ترديد لعرض المستشرقين للإسلام، كما بدأ في مناقشة هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث" له، في فصل من فصوله الماضية تحت عنوان:"الإسلام دين لا دولة" وفي سنة 1952 نصح أحد كبار موظفي وزارة التربية والتعليم لممثل "مجلس الثقافة الأمريكي" بواشنطن، أثناء إقامة هذا الممثل بالقاهرة، في زيارة له اختيار بعض الكتب العربية لنقلها إلى اللغة الإنجليزية. ترجمة "من هنا نبدأ" وكتاب:"الإسلام وأصول الحكم" والمشير المصري راعى في مشورته ما يحس به من رغبة لدى ضيفه، وميله إلى الكتب الإسلامية التي تعرض الإسلام في صورة المسيحية، فكتاب "الإسلام وأصول الحكم" أنكر صلة الإسلام بالحكم والحكومة، و"من هنا نبدأ" ردد هذا الإنكار في فصل منه تحت عنوان: الحكومة القومية. فلما نقل هذا الكتاب الثاني إلى الإنجليزية، تبين لمجلس الثقافة الأمريكي ولقراء الإنجليزية أنه صورة من الدعاية الشيوعية!
- وعن الأخلاق، والقيم الأخلاقية: تردد الفكرة الماركسية القائمة على "التغير" لكل شيء، على "تبعية كل شيء" للجانب الاقتصادي على وجه أخص في أسلوب مليء بالقسوة والنبو؛ لأن القسوة، والنبو جزء من تكتيك الدعاية الشيوعية لإثارة "حرب الطبقات"، والتعجيل بـ"الانقلاب" في الجماعة وتحويلها إلى دولة شيوعية، وتقرأ الفكرة الماركسية الأخلاقية في الأدب العربي المعاصر، في الأسلوب التالي:
"هل يستطيع الإنسان الذي اختلت غدده، وأجدبت خلاياه، أن يكون ذا سلوك وديع؟.. لقد أثبت العلم بتجاربه التي لا ريب فيها، أن أخلاق الإنسان ليست شيئا بعيدًا عن ذاته، وتركيبه وأجهزته
…
وليست شيئا يناله صاحبه بـ"دعوة صالحة" أو "موعظة حسنة"، وليست شيئا يهبط من السماء فيصيب أقواما ويخطئ آخرين1. ما السلوك البشري كله: خيره وشره، صالحه وفاسده، إلا وليد حالتنا الصحية، وحالتنا العقلية، وما هنالك ريب في أن هذا الذي ينطبق على الفرد، ينطبق على الجماعات والمجتمعات: فالمجتمع المتمتع بعافية اقتصادية هو الذي تزدهر فيه الفضائل!. أما المجتمع السغبان المضني فلا وجود فيه للفضيلة"2.
1 مثل هذه العبارات من أساليب الدعاية الشيوعية، التي تقوم على الاستخفاف بما يتصل بالدين من معان، وفي الوقت نفسه هي مثل للملاءمة بين الدعاية الشيوعية المستوردة من الخارج وبيئة المجتمع الإسلامي.
2 "من هنا نبدأ" ص30، 40.
وهذا الذي يذكر هنا على أنه منطق، تناقضه تماما حياة المجتمع الأمريكي، فمما لا شك فيه أنه أرفع مستوى بين مجتمعات العالم في الناحية الاقتصادية، وفرق شاسع بينه وبين مستوى الحياة في الاتحاد السوفييتي
على الأخص، ومع ذلك فلا يمثل المستوى الرفيع في الفضائل، لا الفردية ولا الجماعية منها، بل ربما كان يمثل نقصا خلقيا كبيرا، فجرائم السرقات، وجرائم القتل، فضلا عن الانطلاق الحيواني، توجد في المجتمع الأمريكي بصورة لا نظير لها في المجتمعات الأخرى.
ومثل:
"والأديان سبب من أسباب الخلط في معنى السعادة؟..لأنها قالت عن الزنا والخمر لذات وحرمتها، فتحولت هذه المحرمات إلى أهداف، يجري وراءها البسطاء والسذج على أنها سعادة، وهي ليست بسعادة على الإطلاق"1.
ومثل:
"كل ما هو خير، وما هو شر، موضوعات تتغير مع المواسم والأعياد، ويخرج من حاجات الناس وضروراتهم!! كل هذه المثل، والكلمات الطنانة الرنانة تخرج من الأرض، وتمر على المعدة أولا، فإذا هضمتها صعدت إلى العقل وعششت فيه
…
الحق المطلق، والخير الصرف، والفضيلة المجردة، توجد في عقول المتصوفين والمجاذيب، والحالمين، ولكنها لا توجد في مجتمعنا الذي يأكل ويشرب، ويمرض ويموت، والطريقة العصرية في بلوغ الفضيلة ليست الصلاة، وإنما هي الطعام الجيد، والمسكن الجيد"2.
"الإنسان ابن بيئته، والبيئة المادية هي صاحبة الأمر والنهي في تشكيل أخلاق الناس"3! "الإنسان عندي مجبر على ما يفعل، لا يترك له التاريخ مهربا، ولا مجال اختيار. والإنسان عندي ابن بيئته، وابن عصره، وابن مجتمعه"4.
- وشأن العقل، والعمل العقلي -في نشرات الدعاية الشيوعية في الأدب العربي- شأن الدين والقيم الدينية، وشأن الأخلاق ومقاييس الفضيلة
1 الله والإنسان: ص54.
2 المصدر السابق: ص23، 24.
3 رجل في القاهرة: ص257.
4 الله والإنسان: ص118.
والرذيلة، في أنها تخضع لظاهرة التغير، وأنها تتبع دائما البيئة المادية الاقتصادية وحدها
…
كما يرى مثل هذا النص:
"إن الفهم العصري للنفس البشرية، يدل على أنها موقوته خاضعة للزمان والتغير والموت خضوع البدن، وأن العقل ليس شيئا سابحا في الهواء، وإنما هو مرتبط بالمخ كارتباط النور بالسلك الكهربائي ينبعث منه
…
ليست هناك نفس منفصلة عن الجسم، إنها كالحرارة المنبعثة من الفرن، إذا انطفأ الفرن وتحول إلى رماد، انطفأت وضاعت
…
إن العقل والجسم ينموان معا، ويفسدان معا"1.
ب- تحرير المرأة:
وعلى أساس من المبدأ الماركسي في التغير والانتقال من حال إلى حال، وعلى أساس من تبعية القيم المعنوية للمادة -وللجانب الاقتصادي في الحياة على وجه أخص- تقوم الدعاية الشيوعية في الأوساط غير الماركسية، بطلب رفع "الحواجز" وبتحرير المرأة في نفسها وفي وضعيتها في المجتمع، بحيث لا يبقى اعتبار للتفريق بين ما يسمى علاقة شرعية وما ليس بشرعي في صلة المرأة بالرجل، وفي النظرة إليها في ممارسة ما تنادي به طبيعتها كفرد، وفيما تنتجه للدولة كعضو في المجتمع
…
هذا هو الأساس العام الذي تقوم عليه الدعاية الشيوعية فيما يتصل بالمرأة.
ولكن صياغته تختلف باختلاف المجتمع الذي تتسرب إليه، كي تقبل هذا الأساس بادئي ذي بدء، ثم تتدرج إلى أن تصل في وضوح إليه مكشوفا غير مقنع!! وإذن يكفي بالنسبة للمجتمع الشرقي الإسلامي أن تكون البداية على النحو الآتي:
"هل صحيح أن الغيرة على الفضيلة والتقاليد هي التي تحفزنا إلى مقاومة التطور، والكيد للمرأة؟؟ إن يكن ذلك، فما أحوجنا إذن إلى تحديد معنى الفضيلة والرذيلة ومعرفة مدى ما يجب على الأمم أن تقدمه للتقاليد من طاعة وولاء. إن الفضائل الاجتماعية والقيم العليا التي تنظم حولها حياة المجتمع وتناط بها وجهته، ليست التي يرتضيها فرد أو جماعة من الناس، وتلائم تفكيرهم وإحساسهم، بل هي التي تنسجم مع القاعدة،
1 الله والإنسان: ص118.
وتسمو عن الشذوذ، والقاعدة هنا هي التطور، والشذوذ هو الرجعية والانتكاس.. فكل زحف إلى الوراء مهما يتسم بحسن النية وسذاجة القصد، ليس سوى رذيلة في ثوب تنكري خداع، وليس هناك إثم أشد، ولا خطيئة أفحش من مقاومة التطور، وإخضاع مستقبل الأمم لجهلها القديم"1.
أي تطور تعنيه هذه النشرة؟
إنه التغير
…
وإنه تغير الماركسية وحدها!! إنه "الانقلاب" في معنى الفضيلة والرذيلة، وإخضاع هذا المعنى للحياة المادية الاقتصادية وحدها.. أن التطور هنا هو تحكيم "الجسمية" و"المادية".
وأي جهل قديم للأمم تعينه هذه النشرة أيضًا؟؟
هو طبعا ثبات القيم المعنوية واستقلالها عن التبعية للمادة، وهو تحديد وضع المرأة ووضع الرجل في الحياة، وتحديد العلاقة في الأسرة والعلاقة بين الجنسين على العموم
…
هذا هو جهل الأمم، وذلك هو التطور المنشود.
ولكن هذه الدعاية قد تفصح عن ذلك إفصاحا أكثر على نحو:
"والخير والشر خضعا لناموس التطور، فتغيرت معاني الرذيلة، ومعاني الفضيلة، كانت المرأة رمزا للشيطان، وكانت الغريزة الجنسية خطيئة تحمل أوزارها المرأة وحدها، فأصبحت المرأة نصفا مكملا للرجل، وأصبحت الغريزة الجنسية حالة فسيولوجية تنظم لصالح المجتمع ومسرة أفراده"2. وهذا التطور الذي يعنيه النص السابق.
ومعنى ذلك: ليس هناك خطيئة في صلة المرأة بالرجل على أي نحو.. فلقد أصبحت نصفا مكملا له، أي: متساوية معه في التصرف والفعل! ثم إن الاتصال الجنسي في ذاته لا ينظر إليه الآن على أنه مصدر تنفيس للمرأة والرجل سواء كأفراد، وكذا على أنه مصدر ثروة قومية تستغل وتنظم لصالح المجتمع، فهو فضيلة في المجتمع الحديث في أية صورة.
1 "من هنا نبدأ": ص186.
2 "الله والإنسان": ص2.
جـ- العمل البدني:
وظاهرة ثالثة في نشرات الدعاية الشيوعية في الأدب المعاصر، وهي ظاهرة تمجيد العمل اليدوي وإبراز تفوقه على العمل الفكري، وبالتالي تفضيل الطبقة العاملة على الطبقات الأخرى، وهذه الظاهرة أثر للفكر الماركسي، الذي يرمي إلى تحويل الجماعة إلى دولة ذات طبقة واحدة، هي طبقة العمال، كما أنها مادة للدعاية الشيوعية، لكسب الأتباع في أوسع دائرة ممكنة
…
ومن أمثلة ذلك:
"والكدح الخصب المنتج يسعد صاحبه، أكثر من الراحة والتفكير المتراخي المفلس"1.
وتقرأ أيضا: "أنا أعرف أن هذا القفطان يلزمه مقدار معين من القماش، وأنه ينبغي أن يفصل على هذا النحو، ويخاط من هنا، ويترك من هنا، ولكني لست خياطا.. لذلك يمتاز على الخياط بأنه منفذ، بأنه يضم أجزاء الثوب معا، سأضرب لكم "على لسان بان خلدون" 2 مثلا أقرب إليكم: تسمعون في الجامع خطيبا يقول: إن الرحمة بالبائسين واليتامى من واجبات المؤمنين، وإن هذه الرحمة تقتضي أن يخرج المسلم الزكاة، وأن يمد يد العون للآخرين، وقد يشرح لكم هذا الشيخ شرحا مستفيضا كل شيء عن التكافل والتعاون، ولكن ما إن يترك المنبر حتى لا يصنع شيئا مما يقول!
…
إنه رجل ذو معرفة لا جدال، غير أن معرفته قليلة الجدوى. والمطلوب عندي هو المعرفة المقترنة بالتجربة والممارسة"3. وأيضا:"لقد قرأ المجاورون نسخة من مقدمة عبد الرحمن، وخيل إليهم أن الرجل الكبير يشاركهم التجربة، فهو يتكلم عن الزراعة والصناعة، وعن أن العمل هو الذي يعطي الأشياء قيمتها"4.
1 "الله والإنسان" ص: 56.
2 مؤلف: "رجل في القاهرة" يقص ما يقصه في مؤلفه كله على لسان ابن خلدون، محاولا إخضاع ما كتبه هذا "في مقدمته" للتفسير الماركسي، وبالأخص للتفسير المادي للتاريخ.
3 "رجل في القاهرة": ص82.
4 المصدر السابق: ص52.
وكثيرا ما يتصل بتفضيل العمل البدني على العمل العقلي إثارة العمال ضد أصحاب المزارع والمصانع، أو تحميسهم لمعاونة الانقلاب نحو الجماعة ذات الطبقة الواحدة "الشيوعية"
…
من نحو:
"وكان "خادم ابن خلدون" أبو الحسن ثرثارا عظيما يحتقر الصناع ويحتقر أكثر من الصناع: العتالين، وأما تقديره للفلاحين فأسوأ ما يكون وكان الخادم ينتظر كلمة من مولاه ليصب احتقاره على الصناع، قال:
"مولاي! هذا الصنف من الناس لا يمكن أن يعود إلى الشغب بعد أن تكلمت السياط! وكان أبو الحسن عبدا اشترته عائلة عبد الرحمن "ابن خلدون" وهو طفل، وعلموه أن الدنيا هرم: في القاعدة أرض، وفلاحون، وصناع، وفي أعلى سادة، وما دام أنه عبد عائلة كبيرة فهو فوق! "1.
والمؤلف لم يفرق هنا بين عادة تكونت -إن كان على نحو ما يصف من المبالغة- وبين رأي الإسلام، وللرسول صلى الله عليه وسلم حديثه الصحيح: "إخوانكم خولكم
…
" فهو قد أوصى برعاية الخدم، بأن جعلهم إخوانا لمخدوميهم في الإحساس والشعور، قبل المعاملة والرعاية.
وكذلك من نحو:
"لقد اكتشفت حقائق مؤلمة ومخجلة!! ففي بعض التفاتيش وجد الرجل يستأجر بخمسة قروش في اليوم، بينما يستأجر الحمار بعشرة قروش
…
ومعنى هذا: أن المساواة لم تتحقق بعد، بين الإنسان المصري والحمار المصري2.
وإذا أقيمت الجسور، فالفلاحون هم الذين يقيمونها، وإذا شقوا الترع فالفلاحون هم الذين يحفرونها، ويرفعون ترابها، ويطهرونها، وإذا جاء الفيضان وغرقت القرى، فالفلاحون هم الذين يغرقون أو يفرون إلى سفوح الجبال الشرقية وأطراف الصحراء الغربية، وإذا جاء القحط فعلى الفلاحين أن يموتوا، وإذا انتزع مملوك إقطاعية مملوك آخر، انتقل
1 المصدر السابق: ص22، 24.
2 "رجل في القاهرة": ص49.
الفلاحون مع الأرض تابعين لها؟ فالسيد هو سيد، وأما هم فيلحقون بالأرض"1.
والحديث عن تمجيد العامل وإثارته هو حديث في الجملة عن الجماهير
…
وتتصل بالجماهير لغتهم، وفنهم، ولذا ترى الدعاية الشيوعية تعنى بتمجيد اللغة العامية، وبالفن الشعبي، على نحو ما نقرأ هنا:
"وما رأيك في أني سمعت بلسان عامة الأندلس، وبلسان عامة البربر في المغرب، أعذب الأشعار وأصدقها؟؟ أتريدني أن أنكر ما سمعت أذناي، أم أنك أصبحت متعصبا للنحو والصرف؟؟ إني لا أعتقد بأنك وأصحابك هؤلاء الذين أسمعوني أخبارا متصلة بالحياة، يمكن أن تموت فيكم حاسة الذوق، فتقولون -كالذين ماتت أذواقهم- ليس للعامية لغة وللعامية شعر أو بلاغة2.
"وطرب لقصائد الهلالية، ورأى في هذا الشعر العامي خطا من نور، كان هو البادئ في التقاطه وتسجيله في ذلك السفر العظيم، الذي أسماه "المقدمة"، والذي لم يكن متكبرا حين قال عنه: إنه لا يعرف له سابقة في التفكير الإسلامي ولم يقع على شيء قريب منه وإنما هو إلهام خلق جديد! "3.
التفسير المادي الاقتصادي للتاريخ:
ومكافحة القيم المعنوية، وتغير الأخلاق، تبعيتها للحياة الاقتصادية، وتحرير المرأة في غير حد إلا حد "الإنتاج"، وتمجيد العمل البدني وإبراز تفوقه في القيمة على العمل العقلي.
تلك هي عناصر الدعاية الشيوعية في الأدب العربي المعاصر، وهي نفسها قوام الدعاية الشيوعية في كل أدب إنساني قائم في عصرنا الحاضر.
1 "من هنا نبدأ": ص98.
2 المصدر السابق: ص61.
3 المصدر السابق: ص64.
ولكن يستخدم في تروجيها التفسير المادي الاقتصادي للتاريخ: إما بصفة عامة، وإما في صورة تقترب من طبيعة المجتمع الذي تروج فيه، وفيما يلي بعض النماذج لهذا التفسير.
"لقد كان الطغاة يكتسحون الأرض بسكانها، ويحولون الكل إلى عبيد أرقاء، ثم تطور الطغيان "دولة الملوك" فأصبح الغازي يكتفي بأن ينهب الأرض ويترك سكانها أحرارا ليعتصر دماءهم في الضرائب "دولة الإقطاع" ثم تطور أخيرًا إلى شيطان عطوف دائم الابتسام، لا يمس الأرض ولا يمس سكانها، وإنما فقط يستولي على ثروتهم "دولة الرأسمالية".. لقد بدأنا عبيدا للأرض، وانتهينا عبيدا للأجر1.
"والآن ليس هنا إلا طريق واحد، هو أن يتحرر العقل من النظام الصراعي "بين رأس المال والعمال" الذي يعيش فيه، ويحتم عليه الحرب! عليه أن يقضي على الاستعمار أولا، ثم يفرغ لتنظيم اقتصادي جديد، يسلم فيه مفتاح المصنع ومفتاح الدكان للدولة، ويقضي على الحرب الصامتة بين صاحب المصنع والعامل، ويحول المجتمع إلى أسرة واحدة "إلى مجتمع ذي طبقة واحدة، هي طبقة العمال" والحكومة إلى أب، والعالم إلى دول متآخية، وبهذا يصبح سوق الشرف هو العمل والإنتاج، لا الكسب والاستغلال ويتحول الإنسان مرة أخرى إلى جده البدائي المسالم الذي كان يحارب الطبيعة القاسية"2.
وذلك الجد البدائي إنسان الغابة.. الإنسان الحيوان الذي لا يعرف الملك والقيم!!
هذا نموذج من التفسير المادي لتاريخ الاقتصاد، وقد يستخدم التفسير المادي لتاريخ الكائنات، للتدليل أيضا على الانتقال والتغير، الذي يعم كل شيء حتى الجماعة، وحتى الاقتصاد
…
كما في النموذج التالي:
"إن التاريخ في رأي هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو بجيل. أتدرون "الخطاب على لسان ابن خلدون موجه إلى طلابه المجاورين الخمسة
1 "الله والإنسان": ص7.
2 المصدر السابق: ص92.
في الأزهر" أنه قد خطر لي خاطر غريب، لم أحب لنفسي الخوض فيه كثيرا
…
ذلك أن بين الإنسان، والجماد، والحيوان قرابة!! اسمعوا هذه الفقرات "في المقدمة""ثم نظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن، ثم الحيوان، على هيئة بديعة من التدريج، إني لأرى "المتحدث على لسان ابن خلدون، والمؤلف يشرح" الكائنات في هذا العالم سلسلة تتدرج من الأدنى إلى الأعلى: أرى آخر مراتب المعادن وأرقاها متصلة بأول أنواع النبات، وأرى آخر أفاق النبات وأعلاها متصلة بأدنى آفاق الحيوان
…
إني لأرى أنه من المعادن، أو قولوا: من الجماد حدث نبات. ثم حدث حيوان، وقد شرحت قدر استطاعتي الفكرة -فكرة الانتقال من طور إلى طور- بأن قلت: "ومعنى الاتصال في هذا الملكوتات: أن آخر أفق منها مستعد لأن يصير إلى الأفق بعده
…
"وتصورت عالم الحيوان على هذا النحو: تصورته في البداية قريب الصلة بالنبات، ثم تطور واتسع وتعددت أنواع الحيوان، وانتهيت إلى الإنسان، ولا أملك نفسي، حين أرى قردا ذكيا يشعر ويكاد ينطق، أن أقول لنفسي: يا عبد الرحمن، هذا ابن عمك! أنا أؤمن بأن حالة ما تستمر إلى الأبد، لا في الحيوان، ولا في النبات، ولا في الإنسان، وأؤمن أن كل شيء قابل بطبيعته للتطور، وأرى أن التطور التدريجي هو أوسع قاعدة تحكم ما أعرف، وإن كنت لا أنكر أنه قد تتبدل أحوال الأمم أحيانا تبدلا كليا، فكأنها تخلق من جديد، وتدخل عالما محدثا"1.
وبهذا أوصل المؤلف، صاحب هذا النص "ابن خلدون"، إلى أنه بشر" بالتفسير المادي للتاريخ، وآمن بتطور كل شيء وانتقاله إلى حالة أخرى، حتى الأمم "كأنها تخلق من جديد، وتدخل عالما محدثا"، وهي حال المقابل والنقيض.
كما أوصله إلى أنه يرى كما يرى "ماركس" لا كما رأى "فيشته" و"هيجل" في انتقال الشيء إلى نقيضه -أن الانتقال أو التطور يكون تدريجيا، ثم إنه قد تتبدل أحوال الأمم أحيانا تبدلا كليا" أي: يكون فجأة انقلابا وثورة.
1 "رجل في القاهرة" ص 69، 70.
إيمان بحيوانية الجسد.. وكفر بإنسانية الإنسان، وبخالقه:
وبعد، فالماركسية مذهب فلسفي قصد إلى إيجاد توازن في العلاقة بين أصحاب رءوس الأموال والعمال، فحرم كلا الطرفين من الملكية، وفرض قيام "وصاية" عليهما سماها "الدولة" ووكل أمر مباشرة هذه الدولة والتصرف في شئون الوصاية إلى حراس هذا المذهب وهم المريدون له. وبذلك نزع من صاحب رأس المال ماله، ومن العامل حريته في العمل، ووضع المال كله كما وضع التوجيه في العمل بيد الدولة وحدها. وأصبح كل من صاحب رأس المال "سابقا" ومن العامل عنده "سابقا أيضا" في حاجة إلى أن يعيش لأن يأكل!! واتخذت الفلسفة الماركسية من هذا الوضع -وهو الحاجة إلى الأكل وملء "المعدة"- فرصة إلى أن ترى هدف الحياة الإنسانية في الأكل وملء المعدة وحده، دون هدف آخر وراءه، وبذلك بالغت في قيمة هذا الهدف الأرضي الحيواني، كما شددت في إنكار ما وراءه من هدف آخر فوق الحيوانية.
وتبع ذلك إنكار الدين وإنكار الفلسفة المثالية
…
وأصبحت التضحية وإنكار الذات، وأصبح الصبر على الشدائد والرضا بالقدر عند العجز عن الدفع، وأصبحت الأخوة في الوطن أو في الإنسانية معان جوفاء لا مدلول لها.. وأصبحت الدعوة إلى الله والقيم الذاتية -كمصدر لإشعاع التوجيه للبشرية عامة- دعوة إلى التخدير.
شجعت الفلسفة الماركسية الحيوانية في جميع جوانبها
…
شجعتها في امتلاء المعدة، وفي إشباع الرغبة الجنسية في أية صورة، وفي احتقار العقل، وازدراء الطبقة المثقفة، وأغرقت الطبقة العاملة بأن "الدولة" دولتهم، حتى تضمن ولاء الكثرة العددية في الجماعة الإنسانية لنظامها.
وواقع الأمر: إن جميع الأفراد في النظام الشيوعي أجراء، ولكن لا حرية لهم في قبول العمل أو في اختياره!! هم جنود محاربون، ولكن لا في سبيل الوطن أو في سبيل الله، أو بدافع التضحية لذات التضحية، وإنما هم مساقون من الخلف، والسوط في هذا الدفع الخلفي هو الذي ينطق، دون التذكير بمعاني المجد، والحرص على سلامة الوطن!! وجميعهم في ظل هذا النظام أيضا "منتجون" ولكن إنتاجهم إنتاج "كم"، أكثر منه إنتاج "كيف"، إذ تنقصهم الرغبة في العلم، ويدفعهم إلى قبوله "خلاء المعدة" والرغبة في ملئها فقط.
هذه هي الماركسية:
عدوة الحياة الإنسانية
…
وعدوة الدين والإيمان بالله، وعدوة الملكية الفردية.. وعدوة الحرية في الرأي، وفي التعبير، وفي العمل وفي نظام الحياة، وفي بناء الأسرة!!
التمليك الجماعي خداع، والدولة ذات الطبقة الواحدة خداع.. الكل مسوقون، والسيد حفنة من القادة، واتجاه السير في الحياة إلى:"المعدة""المعدة"، و"المعدة".. وبدل أن تعين أتباعها على أن يرفعوا رءوسهم لينظر بعضهم بعضا تحملهم على أن يخفوا وجوههم حتى لا يرى الواحد منهم الآخر على حقيقته.. ثم عليهم، ولهم أيضا، أن يتحسسوا بطونهم، ويسمعوا إلى ندائها وحده.
الأفراد الشيوعيون مقضي عليهم بالفناء في صور ما، والدولة هي الباقية.. هذا هو شعار الماركسية في حياة الإنسان
…
الدولة هي الخالقة للأفراد، وليس الأفراد هم صانعو الدولة.
"إن كل واحد منها كالخلية في جسد المجتمع، مثل كرة الدم البيضاء في الجسم، تخرج لتموت في معركة مع الملاريا، ليعيش الجسم ويتغلب على المرض. إننا في اندفاعنا في عمرنا القصير لنحقق إرادة مجتمعنا، نحس بإرادة "الكل" نحس بأننا نساهم في صحة الجميع وبقائه، ومن هنا كان أحساسنا بالخلود؛ لأن الكل "الدولة" خالد فعلا، باق فعلا، والذي يموت هو نحن الأجزاء الصغيرة، كرات الدم التي يدافع بها جسم المجتمع عن نفسه"1.
هذا هو تعبير الماركسية في نشراتها في الأدب العربي
…
وهو تعبيرها عن هدفها الأصيل: تموت الأفراد، ويحيا المجتمع.
أي مجتمع يحيا إذا ماتت أفراده
…
في حياتهم، وفي قبورهم على السواء! أهو مجتمع العبيد، أم مجتمع الإنسان الحر الكريم؟!
1 "الله والإنسان": ص122.
مع الأسف إنها لا تؤمن بالحرية، ولا بالكرامة، ولا بأمثال هذه "المثاليات" إنها لا تؤمن إلا بالجسد، وبحيوانية الجسد.. وتكفر بإنسانية الإنسان وبخالق الإنسان معا، وهو الله جل شأنه.
الشيوعية إفلاس في الجماعة.. وأمار يأس في التفكير الماركسي:
الدين يطلب "التوازن" إذ تطلب العدالة.. والماركسية ترى أنها تطلب "التوازن" إذ تطلب تمليك الدولة دون الأفراد.
ولكن الفرق بين الماركسية من جانب، وبين الدين والفلسفة من جانب آخر هو:
- أن التوازن الذي تطلبه الماركسية هو "سلب الجميع" لما يملك الجميع، من كل شيء، من مال وإنسانية على السواء.
- بينما التوازن الذي يطلبه الدين هو: التوازن في الفرد بين ثنائيته1. وفي المجتمع بين طبقاته، بحيث يكون للفرد الحرية ولكن في نطاق الإنسانية ويكون في المجتمع تفاضل ولكن في غير طغيان.
1 هناك ثلاث عبارات وردت في تاريخ الفلسفة، تعبر عن "التقابل" هي:"التضاد" و"الثنائية" و"النقيض".
- وقد عرف التعبير بالتضاد: في الفلسفة الطبيعية القديمة واستخدمه "النظام" المفكر الأديب المعتزلي في الإسلام، في الاستدلال على وجود الله فهو يقول: إن في هذا العالم أشياء متضادة بالطبع، كالحار والبارد واليابس والسائل، والمظلم والمضيء، وهكذا ولكنها مع ذلك مجتمعة ومقهورة على غير طباعها، فإذا كان الامر كذلك فلا بد وأن يكون هناك قاهر لها، قاهر لتلك الأشياء المتضادة، وجامع بينها لتؤدي غاية سامية، وإذن تكون تلك المتضادات قد جرى عليها القهر، وما كان كذلك فهو ضعيف وقاهره قوي، وضعفه دليل حدوثه فإذا كان المقهور حادثا فالقاهر هو القديم.
- وعرف مبدأ "الثنائية" في الفلسفة الأرسطية، بين الصورة والمادة، وإن كان عرف قبله عند أستاذه "أفلاطون" بين المثال وظل المثال، ولكن أمر هذه الثنائية كان أوضح عند "أرسطو" منه عند "أفلاطون".=
والتوازن الذي تطلبه الفلسفة المثالية أن تكون للدولة قيمة عليا، ولكن يكون الفرد مع ذلك هو صانع الدولة والمجتمع معا، ولذا يجب على الفرد أن يكون عضوا حرا في المجتمع، وعلى المجتمع أن يصون حريته ويرعى مصالحه.
فتوازن الدين والفلسفة
…
توازن "توزيع" و"تقابل" لا توازن "سلب" ثم "تسخير"!!
=
- ومبدأ "النقيض" أعمق لمبدأ الثنائية ومبدأ التضاد فالتضاد استخدم كمبدأ للتقابل بين الأشياء، أي: إن شيئا من الأشياء يقابل شيئا آخر منها، وهكذا أشياء هذا العالم متقابلة في ذواتها، ومبدأ الثنائية لم يقف بالتقابل عند علاقة الأشياء بعضها ببعض، كمبدأ التضاد، بل تجاوز ذلك إلى أجزاء الشيء الواحد، وأصبح هناك في الشيء الواحد تقابل بين أجزائه، كالتقابل بين النفس والجسم في الإنسان، وهناك فرق آخر بين التضاد والثنائية، هو أن التضاد "جامد"، يكشف فقط عن وجود تقابل بين شيئين لا يصير أحدهما ولا يتحرك نحو الآخر والثنائية كما تكون على هذا النحو، تكون بين أمرين متقابلين في ذاتهما، ولكن يسعى ويتحرك أحدهما نحو الآخر، كالممكن والواجب، أما النقيض فهو ليس بين أجزاء الشيء الواحد، وإنما في طبيعته الواحدة، على أن يكون أحد طرفيه قائما بالفعل والآخر يتحول إليه الشيء كلية، بعد أن يذهب هذا القائم بالفعل ويفنى، ومن هنا كان النقيض مبدأ يقوم على "الحركة"، ويستلزم الصيرورة في الشيء الواحد صاحب الطبيعة الواحدة، وهو لهذا تطور في مبدأ الثنائية، الذي هو بدوره تطور لمبدأ التضاد.
- والمبادئ الثلاثة: التضاد، والثنائية، والنقيض، استخدمت في بحث الميتافيزيقا للاستدلال على وجود العلة العامة للكون، وفي بحث الدين للاستدلال على وجود الله، وانفرد مبدأ النقيض بأن استخدم النقيض أولا في الاستدلال على سابقيه في وجود العقل، وعلى استقلاله في الوجود عن الحسن، ثم وقف الاستدلال به عند الحس، دون العلة العامة في الميتافيزيقا، ودون الله في الدين، ودون العقل في الفلسفة العقلية، وانتهى أمره لبيان أن الأشياء المحسة تصير إلى نقيضها في استمرار، وأن طابع العالم التغير والتحول من طرف إلى مقابله تماما، وأن ما فيه لا يخضع للثبات بحال، سواء كان شيئا، أو قيمة، أو جماعة.
إن الثنائية أو "النقيض" موجود مع الإنسان نفسه.. وأحد طرفي "الثنائية" هو أحد طرفي "النقيض" فيه، و"الاستمرار" في البقاء في أحد الطرفين "خروج" عن طبيعة الشيء صاحب الثنائية، للإنسان نفس وجسم، وفيه الاستعداد للحياة والفناء، وعنده "الإمكان" لأن "ينتقل" من أحد الطرفين إلى آخر، ولكن الحكم عليه بأن يبقى في طرف الجسمية وحدها كالحكم عليه بأن يبقى في طرف الحياة وحدها، فلا يجوز عليه الموت، أو بأن يبقى في طرف "العدم" وحده فلا يرى الوجود وحياة الموجودين.
والمجتمع كالفرد له ثنائية، وثنائيته من خصائص طبيعته
…
فليس أفراده متساوين في "قيمة" ما جسمية، أو نفسية، أو إنتاجية، وكذا في القيم العرضية كالفن والمعرفة، وإذا كان أفراده مختلفين، فهناك تقابل فيه، والتقابل هو الثنائية، هذه هي طبيعة المجتمع، فمن الانحراف عن طبيعة المجتمع إذن، أن يلغى فيه التقابل أو الثنائية؛ لأنها من طبيعته أن يترك في أحد طرفي التقابل يطغى في المقابل، ووجود التقابل في المجتمع إذن خاصة من خواص طبيعته، وطغيان طرف فيه يعبر عن انحراف طبيعة أيضا.
فحكم الماركسية على بقاء المجتمع في طرف واحد من طرفي ثنائية وعلى أن هذا البقاء خيره الدائم
…
مخالف لطبيعة الشيء صاحب الثنائية وبالتالي مخالف لمبدأ "النقيض" الذي قامت عليه.
إن استقامت الثنائية في تعادل طرفيها، لا في إلغاء طرف منهما. و"النقيض" ولا يكون نقيضا إلا إذا بقي له "إمكان" أن يدور بين شيئين متقابلين، وليس في تجميده في طرف واحد، وإلا لألغى نفسه ولم يصبح نقيضا.
وإذن "التوازن" هو علاج الانحراف، والعدل هو وسيلة عدم الانحراف.. إما "الإلغاء" فهو انحراف آخر في المجتمع، وسيلغي المجتمع الإنساني حتما ما طرأ عليه من انحراف، ولو بعد حين؛ لأنه ليس من طبيعته، وستزول الشيوعية، صاحبة نظم الطبقة الواحدة، من حياة المجتمع الإنساني؛ لأنها انحراف فيه وخروج عن طبيعته.
وطبيعة أي شيء لا بد أن تكافح ما يتنافر معها. وجعل الجماعة الإنسانية إذن ذات طبقة واحدة -كما يدعو النظام الشيوعي- يدل على إفلاس في سياسة الجماعة، وهو كذلك أمارة يأس في التفكير الماركسي.
الماركسية تنتظر الشيوعية:
الماركسية تؤمن بمبدأي "النقيض" و"التغير" وتستعين بأحداث التاريخ الاقتصادية في التنبؤ بصيرورة العالم كله إلى الشيوعية، فإذا صار العالم إلى الشيوعية، أي إذا تم انتقال الثرورة من: المالك
…
إلى الإقطاع
…
إلى الرأسمالية
…
إلى الدولة، عندئذ تكون قد تمت دورة "الانتقال في التمليك.
وبما أن طبيعة كل شيء له ثنائية، أو هو يحمل في نفسه نقيض نفسه، أي: له إمكان الانتقال من حال وصل إليها إلى حال آخر معارضة ومقابلة له -فـ"إمكان" استئناف الانتقال من "تمليك الدولة"، أي: من النظام الشيوعي، إلى تمليك الأفراد، قائم ومحتمل، والماركسية التي أقامت الشيوعية بناء على ذلك- عليها أن تترقب هي نفسها زوال الشيوعية، وفناؤها فيما يقابلها، وهو تمليك الأفراد. وعندئذ لا بد للعالم من أن يستأنف "دورة" أخرى في اقتناء الثرورة وتمليكها، ولكنها عندئذ دورة عكسية، أي: تبتدئ من "الدولة" المالكة، إلى الأفراد من جديد.
واستئناف العالم لدورة أخرى أمر حتمي، إلا إذا كانت الماركسية تؤمن بنهاية العالم كله، وعندئذ يبقى النظام الشيوعي إلى فناء العالم، لكنها تؤمن بالخلود للطبيعة المحسة، لأرض هذا العالم وما عليه من موجودات، وليس لله ولا للمثل العليا، فإيمانها بخلود الطبيعة من جانب، وبـ"الانتقال" المستمر من حال إلى حال فيها من جانب آخر يؤذن حتما بهزيمة الشيوعية في كفاح الطبيعة، وكفاح الوجود صاحب الثنائية.
الإسلام:
أما موقف الإسلام -من الأديان السماوية خاصة- في"توازن الجماعة" في الجانب الاقتصادي وفي تمليك الثروة، فقد وضع مبدأ "الميراث" بين جملة من المبادئ لضمان التوازن، إذ الميراث تفتيت لرأس المال، وهو بذلك يحول دون وقوعه في يد قلة تحتكره، وبالتالي يحول دون طغيان الرأسمالية، ومن جانب آخر هو تمليك لـ"الأفراد" لا للدولة
…
وبذلك يحول دون حرمان الأفراد من التملك، كما يحول دون إذلال الأفراد لما يسمى "الدولة".
ولم يعرف لمبدأ من مبادئ الإسلام أن له هذا التحديد "الرياضي" في الدقة التي لا تقبل الاحتمال بحال، مثل ما عرف لمبدأ الميراث فقد جاء في سورة واحدة هي سورة النساء، وجاء في جملة من الآيات هي ثلاث1، وجاء في صيغة تحديد الحساب "علم العدد"، هذا التحديد في السورة، وفي الكمية والعدد، وفي الصيغة يؤذن بأهمية مبدأ الميراث وبأثره في المجتمع الإنساني.
وكما أن الميراث عامل في "التقليل" بسب توزيع الأنصبة، فهو قد يكون عاملا في "التكثير" والزيادة بسب ضم نصيب جديد إلى نصيب قائم فعلا، ولكن بحيث تعود هذه الزيادة من جديد عن طريقه نفسه "أي: الميراث" أيضا إلى "التقليل".
فإذا وصل الحال في "التقليل" إلى درجة دنيا لا ينتفع فيها بالمال الموزع يتدخل مبدأ آخر جاء به الإسلام وهو: مبدأ "التخارج" أو "الاستبدال".
وأما موقف الإسلام من "القيم" في حياة الإنسان فآخر "قيمة" في نظره، هي "شهوة البطن" وشهوة الفرج
…
إن كانت شهوة البطن والفرج تعتبر قيمة.
الإسلام يؤكد إنسانية الإنسان، ويرتفع بها فوق حيوانيته
…
ويؤكد بالتالي القيمة العليا في الوجود كله، وهي "خالق" هذه الإنسانية؟ الإسلام لا يرى أن الإنسان تخلقه الأرض، أو يخلقه المجتمع، وإنما خالقه هو خالق الأرض والمجتمع، وهو الله
…
والإسلام بهذا يقابل الماركسية تماما.
والتحول المقبل للماركسية، في جانب القيم -تطبيقا لمبدأ النقيض"- سيكون إلا الإسلام، دين الإنسان الفرد ودين المجتمع، ودين القيم.
إن الانحراف عن "التوازن" في الجماعة ذات الإيمان بالله، أو صاحبة الفلسفة المثالية، لا يرجع إلى ضعف ذاتي في قيمة الدين كدين، أو في قيمة
1 آيات: 11، 12، 176 من سورة النساء، وهذه ملاحظة يشكر عليها فضيلة أستاذنا الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت.
التفكير المثالي
…
وإنما يرجع إلى ضعف في قوة الإنسان التي تصاحبه، سواء أكانت قوة السلطة التنفيذية، أو تلك القوة التي تتمرس على فهمه وعرضه، كما أن بقاء النظام الشيوعي حتى اليوم -مدة لا تبلغ نصف القرن- وهي مدة قصيرة في تاريخ أية جماعة إنسانية، لا يعود إلى القيمة الذاتية لـ"السلب" و"التسخير" فيه، أي: سلب ملكية الأفراد جميعا وتسخير الأفراد جميعا وجعلهم أجزاء من أجل لقمة العيش
…
وإنما يعود بقاء هذا النظام حتى هذه اللحظة إلى القوة الحارسة التي تصون هذا النظام وتسنده، وإلى اليقظة، الممثلة في نظام المخابرات والجهاز السري الدقيق، ذلك الجهاز الذي تعددت درجاته، وتنوع إلى أنواع مختلفة.
أما تقدم الصناعة "الثقيلة" والبحث العلمي في "الذرة" في روسيا السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية -فجأة وفي غير انتظار- فيرجع إلى "استغلال" العقلية الألمانية العلمية، التي وقعت في الأسر بعد هزيمة الألمان" والتي تمت من قبل في ظل نظام البحث الألماني، وهو نظام يقوم على الحرية، وعلى احترام الإنسان، وتقدير الفرد، هو نظام "المثالية" الألمانية، وعقلية "الواجب" في السلوك العملي للألمان، ولا يرجع هذا التقدم بحال في بادئ الأمر إلى وجود "العقلية الخالقة" وتطور هذه العقلية بين أتباع النظام الشيوعي!! إذ هو نظام يدفع إلى كمية الإنتاج دون كيفيته، ونظام يمجد العمل بالساعد على العمل عن طريق الفكر، على أن التقدم العلمي المادي يتوقف قبل كل شيء على "المعمل" وأجهزته، ولا يدل بحال على أن العقلية التي ترصد حركات "الاختبار" في المعمل قد بلغت مستوى الإنسانية في خصائصها، في حبها للسلم والخير، وأنه قد توفرت لها الحرية الفردية في الرأي والقول والاعتقاد، وتوفرت لها الكرامة في النفس، والملك، والعرض، والبشرية، بحيث لا تنتهك حرمتها.
والآن نرى أن التجديد في الفكر الإسلامي في الوقت الحاضر، يعيش في التفكير الغربي الذي خلقه القرن التاسع عشر، وينقل منه ما لا يفيد التوجيه في الشرق الإسلامي.
- ينقل منه آراء المستشرقين الصليبيين فيما يصور الإسلام على أنه رسالة بشرية لمصلح إنساني، أو قائد ناجح، يرتبط اعتبارها بوقت حياة هذا المصلح.
- أو ينقل منه آراء بعض المدارس اليسارية والإلحادية ضد الدين عامة.
ونرى أن "المجددين" في الفكر الإسلامي الحديث في الشرق، أتباع مرددون، وليسوا أصحاب حكم ونقد
…
تدفعهم رغبة الترديد وسطحية الفهم، أو يدفعهم الاحترام، إلى ترديد ما يرددون! وهم -لأي واحد من هذه الأسباب- ليسوا أصحاب فلسفة، ولا أتباع مدرسة فلسفية خاصة؛ لأنه تنقصهم "الذاتية" في بناء الفكر، و"نقده".
والأدب العربي المعاصر -بوجه خاص- يعاني أزمة "انفصالية" في التعبير عن الحياة المعاصرة، وعن الفكر والتوجيه القائم فيها، وذلك لفقد هؤلاء المجددين استطاعة "الهضم" للغريب، وبجانب كونهم يعيشون في ماضي الآخرين وهم يوهموننا دوما أنهم يعيشون في حاضر الحياة، وبجانب كونهم يعيشون على "البقايا" التي فقدت اعتبارها في الاتجاهات الإنسانية المعاصرة لدى هؤلاء الآخرين، رغم أنهم يطلبون منا أن نعترف لما يقولون بأنه:"جديد" وبأنه صاحب قيمة.