المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلام دين…لا دولة: - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

[محمد البهي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة:

- ‌تقديم الطبعة الرابعة:

- ‌تقديم الطبعة الثالثة

- ‌تقديم الطبعة الثانية:

- ‌تقديم الطبعة الأولى:

- ‌فاتحة:

- ‌الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:

- ‌العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر

- ‌الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ

- ‌مفكرون من المسلمين مع الاستعمار

- ‌مدخل

- ‌حركة أحمد خان:

- ‌ المذهب القادياني:

- ‌الأحمدية:

- ‌المستشرقون…والاستعمار

- ‌مدخل

- ‌ النزعة الأولى

- ‌النزعة الثانية:

- ‌الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي

- ‌مقاومة مزدوجة

- ‌محمد جمال الدين الأفغاني

- ‌محمد عبده:

- ‌الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي

- ‌اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين

- ‌بشرية القرآن:

- ‌الإسلام دين…لا دولة:

- ‌الدين خرافة:

- ‌الدين مخدر:

- ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

- ‌الباب الخامس: الإسلام غدا

- ‌مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية:

- ‌الإسلام فوق الزمان والمكان:

- ‌الفراغ في الحياة التوجيهية العامة:

- ‌الأزهر:

- ‌الأزهر…في تنظيمه الجديد:

- ‌الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المستشرقون المعاصرون:

- ‌ المتطرفون من المستشرقين

- ‌ بعض الكتب المتطرفة

- ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

- ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الإسلام دين…لا دولة:

‌الإسلام دين

لا دولة:

ما "الدين"

وما هي طبيعته؟

ما هي "الدولة"

وما هو اختصاصها؟

سؤالان يجيب عنهما الغربيون المسيحيون، قبل الدخول في دراسة الإسلام.

ودراستهم للإسلام بعدئذ، هي محاولة إخضاعه للتحديد الذي يحددونه من قبل:"للدين" و"للدولة"

فإذا لم يطع الإسلام هذا التحديد، قضوا في شأنه بأنه ليس وحيا ولا رسالة من السماء، وهو على الأكثر رسالة إصلاحية بشرية قام بها زعيم أو مصلح إنساني.

أما تحديدهم "للدين" و"للدولة" معا، فمأخوذ من واقع الصلة بين المسيحية والحكومة في نظر الغربيين أنفسهم

تلك الصلة التي تأثرت بعوامل مختلفة، وتبلورت أخيرا فيما يسمى الآن بـ"الكنيسة" و"الدولة" أو بتمايز "السلطتين".

والحكومة الغربية -في تطورها الأخير- منتزعة من الصراع بين الكنيسة كسلطة إلهية حكمت وتحكم باسم الرب والإله، وبين الجهة الأخرى المعادية لسلطان رجال الدين في مجالات الحياة المختلفة، والتي حرصت على أن تشق عصا الطاعة لهم

جهة أصحاب الإقطاع وأصحاب السلطة من الأمراء، وأصحاب النفوذ الفكري من الفلاسفة، والأدباء، والعلماء.

والسؤال هنا الذي يختلف الطرفان المتصارعان في الإجابة عنه هو: إلى أي مدى يكون للكنيسة "أي: لرجال الدين" سلطة وسلطان؟. هل تمثل الكنيسة السلطة العليا والأخيرة في تتويج الملوك، وإقامة الحكومات واختيار قادة الجيش، وإعلان الحرب، وعقد السلام

إلى غير ذلك من المهام التي تباشرها "سلطة" لا تعقيب عليها؟

ص: 196

أم أن سلطتها وسلطانها يجب أن يقف عند حد التوجيه الروحي، أي: عد حد القلب والإيمان، دون أن يتجاوزهما إلى الشئون المدنية والسياسية وعندئذ تترك هذه الشئون للأمراء والحكومات التي تقيمها الشعوب؟

- قبل أن يتبلور الصراع بين الكنيسة والحكومة في صورة الوضع الحاضر من الفصل بينهما كان الأمر في الشعوب الغربية قبل دخول المسيحية روما، إلى الجيش والقانون.

- وبعد أن دخلت المسيحية تحول الأمر بالتدريج إلى أن أصبح كله رجال الدين وإرادة الكنيسة.

- ثم أعقبه الوضع الحاضر من الفصل بين الاثنين.

فالصراع كان بين طبقة وطبقة، وسلطة وسلطة.

- معنى "الدين"، فأرادوا به التوجيه الروحي للأفراد.

- كما حددوا معنى "الدولة" و"الحكومة": فقصدوا بهما تنظيم العلاقات بين الأفراد.

واستعانوا في هذا التحديد بموقف المسيح في قومه، وبطابع رسالته إلى شعب إسرائيل وهي: رسالة "المحبة بين ذوي القربى" وقد كانت هذه الرسالة تحمل الدعوة إلى إعادة الصفاء بين النفوس التي مزقت روح الحقد والاضطهاد العلاقة بينها.

وبهذا كان "الدين" في تصور الغربيين مشتقا من طابع الرسالة التي جاء بها عيسى، وكذا من الحال التي انتهى إليها النزاع بين الكنيسة والحكومة الغربية. وأصبحت "الروحية" أو الدعوة إلى صفاء النفوس التي كدرتها شرور المادة والتزاحم في الحياة الدنيوية مجال اختصاص "الدين". وما خرج عن نطاق هذه الدعوة فليس من شئون الدين، ويرجع فيه إلى المصلحة العامة التي تقدرها الرعاية البشرية العامة للجماعة، وهي تلك الرعاية التي تمثل في "السلطة الحكومية" أو "الدولة".

وبناء على ذلك، يجب لتحديد أي دين سابق على المسيحية أو آخر لاحق لها -في تصور الغربيين- أن تؤخذ في مفهومه خصيصة المسيحية وهي: الدعوة إلى الصفاء النفسي فقط، أي: الوقوف عند حد "الروحية".

ص: 197

و"الإسلام" -لأنه ينظم العلاقات بين الأفراد كما يقوم على الدعوة إلى الصفاء النفسي- يخرج إذن عن طبيعة "الدين"، ويدخل في مجال "الإصلاح" البشري عندهم! ومن ثم كان تنظيمه لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض آية على بشريته في تقدير الغربيين المسيحيين.

ومن الغريب أنهم يقفون بهذا التطبيق عند حد الإسلام وحده، لا يتجاوزونه إلى "اليهودية" مثلا، فلا ينكرون عليها طبيعة "الدين" إذا ما اتخذت أساسا لقيام دولة إسرائيل، وإذا ما حاول اليهود في العالم وضع خريطة هذه الدولة وتنفيذها طبقا لتعاليم "العهد القديم"، وطبقا لما جاء في هذا العهد خاصا "بشعب الله المختار". وإذا ما حاولوا أيضا جعل اليهودية دستورا لعلاقات بعضهم ببعض داخل إسرائيل، وكذا لعلاقات هذه الدويلة بالعالم الخارجي، وبالأخص بجيرانها من العرب.

وإذن "هذه الفضلة" في رسالة الإسلام، وهي التي تتصل بعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، كانت سببا في إخراج "الإسلام" عن طبيعة "الدين" وبالتالي كانت سببا في الحكم ببشريته من وجهة نظر الغربيين!

أما المسلمون المجددون -وهم أولئكم الذين تأثروا بالغربيين في نظرتهم إلى الحياة كلها. أو هم الذين يحاكون الغربيين لمجرد محاكاتهم فقط، وليس هنا مجددون في الشرق الإسلام لم يتأثروا بالغربيين- فبعد أن يقروا هؤلاء على نظرتهم إلى "الدين" وعلى تحديدهم لمعناه ومفهومه، يحاولون أن يجدوا تخريجا لهذه "الفضلة" في الإسلام، حتى يبقوه دينا، وحتى ينالوا في الوقت نفسه رضاء علماء الغرب عن "الإسلام" والمسلمين. لا كدين ولا كمؤمنين به، وإنما كمشاركين للغربيين في الحياة الحاضرة.

هذه "الفضلة" هي موضوع التخريج، أو هي موضوع من موضوعات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث.

وادعاء أن الإسلام "دين لا دولة" واحد من تخريجات عدة لهذه الفضلة التي عابت الإسلام كدين، ووقفت في طريق اعتراف الغرب المسيحي المتحضر به. وترجع هذه التخريجات المتنوعة كلها أو تئول إلى شيء واحد هو: إلغاء "شخصية" الجماعة الإسلامية.

ولكي نفهم العلاقة بين هذه التخريجات أولا، ثم التقاءها عند هذا "الإلغاء" ثانيا، يجدر بنا أن نحدد شخصية "الجماعة الإسلامية" من واقع "القرآن" نفسه، تحديدا إجماليا.

ص: 198

شخصية أية "جماعة" تقوم على المقومات التي يطلب من الجماعة الاحتفاظ بها، أو صيانتها من الضعف أو التلاشي والإلغاء.

ومقومات الجماعة، بصفة عامة تتركز:

- في تنظيم العلاقات بين الأفراد.

- ثم في مباشرة هذا التنظيم.

وتنظيم العلاقات بين الأفراد هو: تنظيم التعامل بينها، وتنظيم لطريق فض الخصومات في هذا التعامل عند الاختلاف فيه، فنظام "المعاملات" التجارية والمالية، ونظام الأسرة" في الزواج والنسب، ونظام "القضاء" عند النزاع في فهم هذه النظم، أو في تطبيقها

من ضروب تنظيم العلاقات بين الأفراد.

ومباشرة هذا التنظيم هو: تولي إقرار النظم الناشئة عنه، وحمايتها. فالتمكين لهذه النظم من الاستقرار في الداخل، والدفاع عند مهاجمتها ومحاولة إحداث الانقلاب فيها من الخارج.. من صور المباشرة لتنظيم هذه العلاقات.

فشخصية "الجماعة" يحددها "دستورها" الذي قامت عليه، والذي يحتكم إليه أفرادها في شئونهم العامة والخاصة.

ودستور "الجماعة الإسلامية" في قيامها وتكوينها، تشرحه بعض آيات من "القرآن" الكريم، مثل قوله تعالى:

- {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} :

- {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ،

- {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ،

- {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ،

- {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ،

- {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ،

- {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ،

ص: 199

- {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ،

- {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ،

- {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ،

- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.

وهكذا جمع القرآن الكريم في هذه الآية، بين ثلاثة أنواع من الأسس:

- النوع الأول: ما يتعلق بعقيدة الفرد: فحرم عليه الشرك بالله في العبادة.

- النوع الثاني: ما يتصل بسلوك الفرد الأخلاقي، فأوصاه:

- بالإحسان إلى الوالدين.

- وبتجنب قتل الأولاد

والتعليل هنا بخشية الفقر صرح به القرآن؛ لأنه كان العلة الشائعة لدى العرب وقت مجيء الإسلام؛ وليس لأن النهي مرتبط به وحده. وإلا فتجنب قتل الأولاد مطلوب على الإطلاق، بعموم قوله تعالى هنا في هذه الآية:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 2.

- وبتجنب اقتراف الفواحش، خفيها وظاهرها.

- وبتجنب قتل النفس بغير حق.

- والنوع الثالث: ما يتصل بالمعاملات بين الأفراد، فطلب:

- عدم مساس مال اليتيم إلا بما يعود عليه بالنفع حتى يبلغ اليتيم رشده، واليتيم هو الضعيف في صورة من صور الضعف الإنساني.

- وبالوفاء في الكيل والميزان أي: بتحقيق التعادل في التبادل بين الناس.

1 الأنعام: 151-153.

2 الأنعام: 151.

ص: 200

- وبالقضاء بالعدل والتمسك به: مهما كانت عوامل الضغط على الانصراف عنه.

- وبالوفاء بالعهد والالتزام به: إذا لم يكن العهد على شر أو فساد، بل كان في سبيل خير ومصلحة، ولذلك عبر عنه "بعهد الله".

فهذه الآية وحدها لم تقف بالإسلام عند حد معنى "الدين" الذي حدده الغربيون "للدين" -وهو الذي يتصل بالعقيدة في الإله، ولا عند حد الوصايا الأخلاقية الفردية فقط.. بل تجاوزت هذين الجانبين إلى جانب التعامل في دائرة الأموال والتبادل التجاري، وفي دائرة القضاء، وفي دائرة الوفاء بالعهد والالتزام- ذلك العهد الذي يصح أن يضاف إلى الله وهو: كل عهد تتوفر فيه المصلحة الخاصة بطرفيه اللذين عقداه بينهما، أو تتوفر فيه المصلحة العامة للجماعة كالعهد الذي بين الراعي العام ورعيته في الجماعة.

والآية إذن، فوق أنها تحدد العقيدة والوصايا الخلقية الفردية، تقرر مبدأ التعامل، ومبدأ القضاء، ومبدأ الدولة نفسها وصلتها بالأفراد، فالدولة عهد بين الأفراد بعضهم مع بعض، ووجوب الوفاء به من البعض نحو البعض الآخر مرهون بأن يكون في سبيل المصلحة العامة.

وتجلي آية أخرى من كتاب الله، هذا الدستور لشخصية الجماعة الإسلامية.. يقول جل شأنه:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1.

فأضافت هذه الآية -إلى ما أفادته الآية السابقة- "استقلال" الجماعة الإسلامية

يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .. ومعنى ذلك أن الاعتبار في الترابط بين الأفراد والإخلاص فيه هو للإيمان

1 التوبة: 71.

ص: 201

وحده، فالإيمان أشبه بمنفذ في "سور" الجماعة، ينفذ منه إلى الجماعة من له صفة أفرادها، ويغلق دون من ليست له هذه الصفة، ولو كان ذا قربى لواحد من آحادها، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1.

وبهاتين الآيتين، يمكن أن يتحدد الدستور في قيام الجماعة الإسلامية، وفي استقلالها.. وتكون الجماعة الإسلامية إذن جماعة مستقلة في مواجهة غيرها من الجماعات الأجنبية عنها. وهي في استقلالها في مواجهة غيرها، يحدد الإسلام علاقتها بغيرها من الجماعات.

وفي تحديد العلاقة بين الجماعة المؤمنة والجماعات الأخرى: دعا الإسلام الجماعة الإسلامية إلى إقرار مبدأ "السلم" بادئ ذي بدء.

ويقول القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2.

ثم في حال وقوع اعتداء عليها من الجماعات الآخرى: طالب الإسلام جماعته بـ"رد" الاعتداء، دون أن تزيد فيه

فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 4.

ولأن جماعة المسلمين جماعة مستقلة في هدفها وغايتها، وفي منهجها في الحياة وفي ترابط أفراها بعضهم ببعض؛ ولأنه مطلوب منها أن تحرص على استقلالها برد العدوان عليها، وعدم التهاون في ذلك كان من المترقب لمثل هذه الجماعة أن يحتك بها غيرها من الجماعات الإنسانية التي تطمع في التوسع، أو تتعصب لفكرتها ومبدئها في الحياة. لذلك طلب الإسلام من "الجماعة الإسلامية" أن تكون دائما على حذر واستعداد مادي وروحي معا، لمقاومة من يحتك بها، قاصدا إضعافها وإذهاب استقلالها!

1 التوبة: 23.

2 البقرة: 208.

3 البقرة: 190.

4 البقرة: 194.

ص: 202

ولكن هذه التعبئة المادية والروحية التي يطلبها الإسلام من المؤمنين به، يضعها دائما في خدمة "السلام" لا للغزو والاعتداء:

يقول القرآن الكريم:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1.

وإذا كانت الجماعة الإسلامية لها غاية وشخصية مستقلة، فهي لا تسعى فقط إلى تأمين استقلالها

بل يجب عليها كذلك أن تؤمن فكرتها، وغايتها في الحياة، كما يجب عليها أن لا تهادن الكفر بفكرتها، إذ في الكفر وحده يكمن العداء لها، والخطر على وجودها!

إن الكفر أينما وجد هو مصدر عدائها.. وهو يتمثل في الشرك، كما يتمثل في الإلحاد:

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2.

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 3.

فموقف "الجماعة الإسلامية" إذن في شتى بقاع الأرض من العالم الخارجي عنها، الذي لا يؤمن بما تؤمن به، يتمثل في المبادئ الآتية:

- التزام السلام والدعوة إليه.

- مقاومة العدوان ودفعه بحيث لا يتجاوز حدود الاعتداء.

- عدم مهادنة الإلحاد، والعمل على مقاومته في إصرار.

1 الأنفال: 60، 61.

2 الأنفال: 55-58.

3 التوبة: 29.

ص: 203

ولعل ما نراه الآن في الصراع بين "الشرق الشيوعي" و"الغرب الصليبي" وهو صارع حول فكرتين مختلفتين، وما يتخذ في هذا الصرع من أساليب مختلفة

يقرب لنا موقف الإسلام من "الإلحاد":

إن "الإلحاد" خطر على البشرية كلها، وليس خطرا على "الجماعة الإسلامية" وحدها. ومن هنا كان موقف الإسلام منه عدم المهادنة! وليست دعوة الإسلام إلى عدم مهادنة الإلحاد ميلا منه إلى الحرب في ذاتها، وإلا ما دعا إلى السلام وحرص عليه بادئ ذي بدئ كمبدأ عام من مبادئه وإلا ما ألزم المسلمين أيضا بالبقاء في حدود تصرف المعتدي، ولا يتجاوزون هذه الحدود بحال عند ردهم أي اعتداء عليهم. إذ مشروعية الحرب بالسيف ودفع المسلمين إلى القتال في ميدان الحرب، مرتبط بـ"رد" الاعتداء فقط على الجماعة الإسلامية.

إن عدم مهادنة "الإلحاد" دعوة لدفع الخطر المحدق بالإنسانية كلها، طلب الإسلام من المسلمين القيام بها. وفي دفع هذا الخطر، إقرار للسلم، واستقرار للجماعة الإنسانية، وكفالة إقرار السلم العالمي جانب من رسالة الجماعة الإسلامية في نظر الإسلام، ومن هنا كان دفع هذا الخطر فرضا ملازما لقيام "الجماعة الإسلامية" في أطوار حياتها وفي كل أجيالها، وعليها أن تكون متهيئة بصفة مستمرة للقدرة على دفعه.

وفي ذلك يقول القرآن الكريم:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1.

هذا التهيؤ والإعداد لدفع خطر "الإلحاد"، الذي يتمثل في الكفر وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو ذلك المبدأ المعروف في الإسلام بمبدأ "الجهاد".

وطالما أريد أن يكون للجماعة استقلال، وطالما يناط بها كفالة إقرار السلم العالمي، فإن التهيؤ لإمكان صيانة استقلال الجماعة، وإمكان تنفيذ إقرار السلم العالمي، أمر يجب أن تكون له صفة الاستمرار والدوام في

1 البقرة: 216.

ص: 204

حياة الجماعة نفسها. وفي نداء القرآن للرسول بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1 ما يشير إلى طلب الإعداد الدائم لمقاومة الضعف الداخلي والخطر الخارجي معا.

وتوجيه النداء على هذا النحو للرسول باعتباره راعيا ورئيسا للجماعة المؤمنة مما يؤيد أن الإسلام لم يكن وقفا على تبليغ رسالة، بل كان رعاية أيضا لاستقرار هذه الرسالة وتمكينها، سواء في وقت الرسالة أو بعده

أي: هو "دين" و"دولة" معا.

فإذا طلب الآن بعض شراح الإسلام: جعل "الجهاد"، الذي هو مقاومة الاعتداء، فريضة "مؤقتة" بوقت الرسالة، أي: بوقت الرسول ودعوته.. إذا طلبوا إنهاء العمل بالجهاد بعد قيام الجماعة الإسلامية واستقرارها منذ فتح مكة، فقد طلبوا في واقع الأمر إغفال الحرص على استقلال الجماعة الإسلامية، والتنازل عن استمرار بقائها كوحدة في مواجهة الجماعات الأخرى، وهذا معناه جعل الإسلام دينا "لأفراد"، وليس دينا "لجماعة"..أو بعبارة أخرى جعله "دينا" لا "دولة" بالمعنى المفهوم لدى الغربيين.

وإذا ساق بعض آخر من شراح الإسلام: تفسير "الجهاد" على أنه رياضة نفسية روحية، وليس ردا لاعتداء مادي خارجي، كان مؤدى هذا التفسير هو نفس مؤدى توقيت الجهاد، على النحو السابق!

وإذا صرح فريق ثالث: بأن الإسلام "دين لا دولة" كان هذا التصريح واضحا في قصر الإسلام على "الأفراد" دون "الجماعة" وبعبارة أخرى كان واضحا في إلغاء شخصية الجماعة الإسلامية، وكان واضحا أيضا في محاولة إلغاء "الجهاد" أو إنكاره على الإسلام، كرسالة من رسالات السماء، مع أنه جزء لا يتجزأ منها.

- حاول السير "أحمد خان" -زعيم الحركة الإصلاحية في الهند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر -المحاولة الأولى.

1 التوبة: 73، والتحريم:9.

ص: 205

وحاولت "القاديانية" -دعوة الولاء للتاج البريطاني- المحاولة الثانية

وحاول كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" المحاولة الأخيرة.

ولكها محاولات تصطدم مع الآيات التي ذكرت سابقا في تحديد الإسلام، وما يطلبه من "الفرد" المسلم، و"الجماعة" المؤمنة، وما وضعه من دستور للطرفين، وفوق ذلك تصطدم هذه المحاولات مع الآيات التي طلب فيها القرآن من المؤمنين به دفع خطر "الإلحاد" وهو الكفر

من مثل قوله تعال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1.

فليس المراد تجنيد المؤمنين على عهد رسول الله فقط، لمقاومة الكفر المحلي في وقته: كفر المشركين الوثنيين بمكة وبشبه الجزيرة العربية، ولمقاومة النفاق في أيامه

إذ الكفر أو الإلحاد، وكذلك النفاق، لا يزول من العالم الإنساني بزواله من الجزيرة العربية.

إن الكفر والإيمان -وكذلك النفاق- من ظواهر الجماعة الإنسانية تلك الظواهر التي تلازمها في حياتها في كل جيل ووقت، والشيء الذي يختفي حتى يكاد ينعدم، أو يبدو ويطفو حتى يكاد يسيطر، وهو أثر ظاهرة الكفر في مقابل ظاهرة الإيمان، أو العكس.

الإسلام وأصول الحكم:

وكتاب "الإسلام وأصول الحكم"2 -من كتب "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث- يعالج أو يعرض دعوى أن "الإسلام دين لا دولة".

1 الأنفال: 38، 39.

2 الطبعة الثالثة: سنة 1925، مطبعة مصر، ومؤلفه الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الأزهر وأحد قضاة المحاكم الشرعية، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية، وبعض المراجع الأساسية لعلم الاجتماع الإسلامي في دراسة الجامعات الأمريكية على الخصوص للإسلام وتعاليمه، ويأتي تقويمه على هذا النحو؛ لا لأنه يعرض فكرة جديدة على الغرب في الدراسات الإسلامية؛ بل لأنه صدر من مسلم -هو عالم أزهري- وفي ذلك ترويج لفكر الكتاب بين الطلاب الغربيين، الذين يدرسون الإسلام والشعوب الإسلامية، وهو كتاب يحكي عن الغرب أكثر مما يتحدث عن جوهر الإسلام ذاته.

ص: 206

وفي عرضه لهذه الدعوى يستعير من الدراسات الإسلامية للمستشرقين: القساوسة الصليبيين، واليهود الحاقدين ما لهم من آراء في هذا الجانب، وما لهذه الدراسة من أصول تواضعوا عليها عند النظر إلى الإسلام، لا نتيجة لبحث نزيه، ولكن انبثاقا عن غرض خاص!

وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" -في سير حركة التفكير فيه- يتخذ الطابع الذي عرفت به المسيحية بين أتباعها أساسا في تقدير الإسلام كدين، على نحو ما صنع الغربيون في حكمهم عليه، وحين يواجه الكتاب بعد ذلك ما ورد في المصدرين الأصليين للإسلام -وهما: القرآن، والسنة الصحيحة- مما يجعل الإسلام متجاوزًا حد "الدين" في عرف الغرب المسيحي إلى ما يسمى بـ"الدولة" عندهم، يتخذ الكتاب موقفا متأرجحا بين أمرين متقابلين:

- الأمر الأول: تأويل هذا "الزائد" عن حد الدين، في عرف الغربيين، بأنه لا يتصل بما يسمى بـ"الدولة" أو السياسة في قليل ولا كثير.

- والأمر الثاني: قبول هذا "الزائد" على أنه من مظاهر "السياسة" ومن شئون "الدولة" ومع ذلك هو خارج عن حدود الدعوة الدينية التي كلف بها الرسول، ولكن اقتضته فقط "الزعامة النبوية" على عهده.

ثم إن خصائص هذه "الزعامة النبوية" موقوته بوقت الرسول صلى الله عليه وسلم وبشخصه، فلا تكون لإنسان آخر بعده مهما بلغ من سمو المنزلة في نفسه أو بين المسلمين.

ويخلص الكتاب إلى أن الإسلام "دين" فقط، وأن ما يدعو إليه من "وحدة" بين المؤمنين به هو وحدة دينية

لا وحدة في "الحكومة"، أو في "الدولة"، أو في الترابط السياسي والعلاقات العامة.

ص: 207

وكان لا بد للكتاب من أن يتعرض لفكرة "الجهاد" في الإسلام كمظهر واضح من المظاهر التي تجعله دين "جماعة"، وليس دينا "لمجموعة" من الناس، مما لا يساعد على الوقوف بالإسلام عند حد "الدين" في عرف الغربيين.

وقد تعرض لها فعلا، وشرحها أخيرا على أنها من خصائص، الزعامة النبوية"، فهي إذن موقوتة بوقتها، ولذا فقد انتهى أمر "الجهاد" بوفاة صاحب هذه الزعامة، وانتهت بذلك شخصية "الجماعة" الإسلامية، وبقي المسلمون بعد وفاته أفرادا، يختار كل فريق منهم الاتجاه السياسي الذي ينزع إليه

ولو كان اتجاها شيوعيا.

وهذا الذي ينتهي إليه الكتاب من نتيجة، هو ذات النتيجة التي ينتهي إليها تفكير السير "أحمد خان" ومذهب "القاديانية"

من إلغاء الشخصية الإسلامية.

وهذه النتيجة أو هذا الهدف، هو دائما المركز الذي تلتقي عنده معاول الهدم باسم الدراسات الإسلامية في دراسات المستشرقين.. على نحو ما بينا، ونبين فيما بعد.

الإسلام دين لا دولة:

وفكرة: "الإسلام دين لا دولة" أولى النقط في تفكير الكتاب، أو بمثابة الدعوى التي يطلب البرهنة عليها. ويضعها الكتاب لذلك في صيغة السؤال، حتى يجيب عليه بما يريد أن يبديه من رأي، فيقول: "فاعلم أن المسألة الآن هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صاحب دولة سياسية ورئيس حكومة، كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دينية

أم لا؟؟ "1.

والسؤال على هذا النحو، يفرق من أول الأمر بين "دين"، و"دولة"

والجواب عليه محاولة لاختبار الإسلام على أساس من هذا الفرق، الذي أخذ الآن مقدما صفة الجزم أو اليقين في تفكير الكتاب!

1 الإسلام وأصول الحكم: ص47.

ص: 208

ولذا يجيب الكتاب عليه إجابة واضحة، تعبر عن الرأي الأخير له، ويعتبر النتيجة النهائية لتفكيره فيما يتصل بالإسلام.

يقول:

"ولاية الرسول على قومه: ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعا صادقا تاما، يتبعه خضوع الجسم".

"وولاية الحاكم: ولاية مادية، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلب اتصال".

"تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه الآية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض، تلك للدين.. وهذه للدنيا، تلك لله.. وهذه للناس، تلك زعامة دينية

وهذه زعامة سياسية

وما أبعد ما بين السياسة والدين"1.

وهذا المعنى الذي يجيب به الكتاب على سؤاله السابق، يقوم على أساس من "مثنوية" تفكير القرون الوسطى فيما يتصل بالإنسان.. وهو التفكير الذي ساد لدى الغربيين عند فصلهم بين "الكنيسة" و"الدولة".

و"مثنوية" الإنسان معناها: أن هناك "انفصالا" بين جسمه وروحه: وأنه ليس أحدهما تابعا للآخر، فضلا على أن يكونا "وحدة" واحدة!! وتفكير القرون الوسطى في المشاكل الفلسفية الإلهية والإنسانية، يستوي في التعبير عنه ما يوجد عند فلاسفة المسلمين أو فلاسفة المسيحيين من الآباء أو المدرسيين؛ لأن قوامه هنا وهناك ما خلفه الإغريق وورثوه للمسلمين والمسيحيين على السواء.

و"لإخوان الصفا" تعبير واضح عن هذه "المثنوية"

يقولون: "اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه: بأن الإنسان لما كان هو جملة من جسد جسماني، ونفس روحانية -وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال، ومشتركان في الأفعال العارضة والصفات الزائدة- صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء

1 المصدر السابق: ص69.

ص: 209

في الدنيا ومتمنيا للخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية طالبا للدار الآخرة ومتمنيا البلوغ إليها، وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله "مثنوية" متضادة:"كالحياة والممات، والعلم والجهالة"1.

وما ذكره "إخوان الصفا" هنا من رغبة الإنسان في البقاء في الدنيا، وتمنيه الدار الآخرة مع ذلك، هو ترتيب لبعض النتائج على "مثنوية" الإنسان في تفكير القرون الوسطى! وعلى هذا النحو يوزع الإنسان بين اختصاصين: هما "الكنيسة" و"الدولة"، للكنيسة روحه وللدولة جسده.. تماما كما يحكيه كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، هنا في نصه السابق.

و"مثنوية" الإنسان يعدها العلم الحديث، وهو البحث النفسي التجريبي، تصورا نظريا لا يركن إليه الرأي السليم في قيادة الإنسان وتوجيهه، والإنسان الآن -في نظر هذا البحث العلمي- وحدة واحدة لا انفصال بين جسمه ونفسه، ولذا يستحيل أن يوزع بين اختصاصين متقابلين، وسلطتين مختلفتين.. والأضمن إذن في سلامة توجيهه أن تكون قيادته واحدة.

وتجربة توزيع السلطة في الغرب بين "الكنيسة" و"الدولة" -وهو ما يعرف بالفصل بين "الدين" و"الدولة"- لم تثمر الاحتكاك بين السلطتين فقط؛ بل كان من ثمراتها إخضاع إحدى السلطتين للأخرى في النهاية، وفي واقع الأمر كان هو إخضاع "الدولة للكنيسة! فـ"الدولة" الغربية الحديثة في أوروبا وأمريكا تعتمد على النظام الديمقراطي، وهو نظام التصويت الشعبي

وفي معركة التصويت الشعبي يتفوق الحزب السياسي الذي يبذل لتنفيذ اتجاه الكنيسة من الوعود والعهود أكثرها، إذا ما وصل إلى كرسي الحكم.

ومظهر الفصل بين السلطتين في الغرب يتجلى في فرض الضرائب وجبايتها: "فللدولة" ضرائب، و"للكنيسة" ضرائب أخرى. والسلطة التنفيذية لا تتدخل في تشريع ضرائب الكنيسة، وإنما تتدخل فقط في تحصيلها لصالح الكنيسة باسم القانون العام، أو تطبيقا للعهد بين السلطتين.

1 الرسالة السابعة من القسم الرياضي - فصل في مثنوية الإنسان ص169.

ص: 210

إن رجال السياسة في الغرب عامة يعرفون جيدا الثمن الذي دفعوه "للفاتيكان" مقابل تأييده للحلفاء ضد النازية والفاشية في الحرب الآخيرة، ويعرفون جيدا أيضا الثمن الذي يدفعونه الآن لقاء تعضيده مقاومة الشيوعية في العالم المسيحي! وكذا رجال السياسة في كل بلد غربي مسيحي الآن يعرفون متى يحكمون؛ وأنه لا بد لهم من تأييد "الكنيسة" المحلية لحكمهم! والتاريخ السياسي الحديث لم يزل يذكر ثورة الأرجنتين على ديكتاتورها السابق عندما شق عصا الطاعة على رجال الكنيسة الأرجنتينية.

ومع أن "مثنوية" الإنسان التي قام عليها الفصل بين الدين والدولة تعتبر فكرة غير سليمة من الوجهة العلمية، وغير عملية من الوجهة التطبيقية، فإن دعاة "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث لا يزالون يرون "الوحدة" في الإنسان وفي القيادة تخلفا؛ لأنها من أصول الإسلام.

وبعد أن يفصل كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في أمر الإسلام على أساس "مثنوي"، ويقصر رسالته على ما سماه ولاية القلب، يعود فيصرح بأنه يجب في فهم الإسلام على هذا النحو والحكم عليه بما حكم عليه أن يقتدي بالمسيحية ووضعها، عندما يعترض الإنسان في القرآن أو الحديث الصحيح شأن من شئون الحكم.

يقول:

"ولقد كان عيسى بن مريم عليه السلام رسول الدعوة المسيحية وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله1.

ويوضح المؤلف غرضه في قياس الإسلام على المسيحية عندما يواجه الإنسان فيه بشأن من شئون الدولة فيقول:

"تكلم عيسى بن مريم عليه السلام عن حكومة القياصرة، وأمر أن يعطى ما لقيصر لقيصر

فما كان هذا اعترافا من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شريعة الله، ولا مما يعترف به دين المسيحية، وما كان لأحد

1 المصدر السابق: ص49.

ص: 211

ممن يفهم لغة البشر في تخاطبهم أن يتخذ من كلمة عيسى حجة له على ذلك. وكل ما جرى في أحاديث "النبي" صلى الله عليه وسلم من ذكر الإمامة والخلافة، والبيعة.. لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه "المسيح" حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر

فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر البيعة، والحكم والحكومة، وتكلم عن طاعة الأمراء. "الولاة" وشرع لنا الأحكام في ذلك، فوجه ذلك ما عرفت وفهمت"1.

ولتأكيد ما ذهب إليه هنا يعقب المؤلف بقوله:

"لم يبق أمامك -بعد الذي سبق- إلا مذهب واحد، وعسى أن تجده مذهبا واضحا

ذلك هو القول: بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان إلا رسولا لدعوة "دينية" خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة. وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم "سياسة" من هذه الكلمة ومرادفاتها.. ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكا، ولا مؤسس دولة، ولا داعيا إلى ملك"2.

ويستعرض الكتاب بعض آيات من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 3.

وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 4.

كما يذكر الكتاب هذا الحديث: "أنتم أعلم بشئون ديناكم" ثم يعلق أخيرا بقوله:

"ترى من هذا أنه ليس "القرآن" هو الذي يمنعنا من اعتقاد أن النبي كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية، وليست "السنة" هي

1 المصدر السابق: 18، 19، 21.

2 المصدر السابق: ص55.

3 الفتح: 28.

4 الصف: 7-9.

ص: 212

وحدها التي تمنعنا من ذلك، ولكن مع الكتاب والسنة، حكم "العقل"، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها.. إنما كانت ولاية محمد صلى الله عليه وسلم على المؤمنين ولاية الرسالة، غير مشوبة بشيء من الحكم"1.

ومن هذا التعليق يفهم: أن كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" يرى أن الإسلام "دين" بالمعنى المحدد عند المسيحيين الغربيين، أخذا من وصف القرآن له في هذه الآيات بأنه "دين الحق"

وهكذا يستدل المؤلف على هذه الدعوى.

ولكن ترى كيف يكون المعنى، إذا أضيف إلى هذه الآيات آيات أخرى هي من صميم القرآن؟

ومن ذلك مثلا:

قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 2.

وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} 3.

ترى أيبقى الإسلام في حدود المعنى الغربي "للدين"، والذي أنس إليه كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هنا في تفسير الإسلام؟!

أم يكون تفسير الإسلام الصحيح باعتباره رسالة من السماء، فلا يحكمه سوى كتاب الله، وهو القرآن؟؟

- الآيات التي ساقها الكتاب يؤخذ منها حقا أن الإسلام: هداية، ودعوة وإرشاد.

- وفي الآيات الأخرى -التي سيقت هنا الآن- ما يدعو صراحة على أنه أيضا: كتاب للحكم به بين الناس.

1 الإسلام وأصول الحكم: ص90.

2 المائدة: 49.

3 النساء: 105.

ص: 213

في القرآن ما يفيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله كلف بتبليغ رسالته إلى الناس.. كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1. فمهته عليه الصلاة والسلام الآن أن يدعو للهداية والإرشاد، وليس من صميم رسالته أن يحمل على قبول دعوته من يأبى طبعه قبولها، كما يشير إلى ذلك عجز الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .

لكن في القرآن أيضا مثل قوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} 2، فهنا توضح الآية أن مهمته عليه السلام مزدوجة: الدعوة والعدل.

- والدعوة: كما تكون بالقول تكون بالعمل. ولذلك طلب القرآن منه عليه السلام الاستقامة في السلوك، والسلامة في الاعتقاد، فقال:{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} .

- وتحقق العدل لا يكون بمجرد الدعوة إليه؛ بل لا بد مع ذلك من القيام على أمره ومباشرة تنفيذه. ولذا يقول القرآن في مواجهة رسول الله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} بين المؤمنين، إذا كان مبلغا فقط وداعيا فحسب إلى الهداية؟

إن "العدل" قيمة من القيم، وقيمة بين طرفين، وليس لطرف واحد أو من طرف واحد كالقيم الفردية

هو قيمة جماعية. والقيم الجماعية لا تتحقق بالإرشاد بل بالإلزام، وحكم الجماعة وسياستها ليس أمرا خارجا عن قصد العدل وتطبيقه بين أفرادها بالقهر والإلزام.

- فرسالة الإسلام: رسالة تهذيب، وحكم.

- ومحمد رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: مبلغ الرسالة، وقائم على تنفيذ الرسالة.

1 المائدة: 67.

2 الشورى: 15.

ص: 214

والإسلام "دين" بالمعنى الذي يحدده "القرآن"

لا بالمعنى "المستورد" من الغرب المسيحي الصليبي.

أما حديث: "أنتم أعلم بشئون ديناكم". فهو لا ينحي الرسول من أن يكون قائما على العدل بين المؤمنين، أي: صاحب حكم وتدبير، على نحو ما طلب منه القرآن. إذ هذا الحديث قيل بمناسبة "تأبير النخل" وتلقيحه والنخل والعناية بثمره أمر محلي يخضع لتجربة القوم الذي يحفلون ويعنون به، وليس أمرا يحتاج إلى مبدأ عام تأتي به رسالة السماء، ويكلف الرسول بتبليغه للناس جميعًا.

والقرآن نفسه -بعد العبادات التي حددها، وبعد مبادئ المعاملات العامة التي أوصى بها- ترك للمؤمنين به المجال لإبداء الرأي وتبادله في شئونهم وفي مدى انطباق هذه المبادئ عليها، وعدم قيام المؤمنين بالنزول في هذا المجال أمرا يحسب لهم في الجزاء، كقيامهم بالواجبات والوصايا التي وجههم للعمل بها.

يقول تعالى:

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ،

{لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ،

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} ،

{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ،

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} ،

{وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} ،

{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ،

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 1.

وهذا النهج من القرآن يساير طبيعة الأمور وسنة الحياة.

الشورى: 36-38.

ص: 215

وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" -بعد هذا- استمد تحديده للإسلام كـ"دين" من فكرة الفصل بين الكنيسة والدولة في الغرب، دون أن يستشري في هذا التحديد بادئ ذي بدء: مصدره الأول، وهو "القرآن" وكتاب "الخلافة"1 للمستشرق الإنجليزي "توماس أرنولد" الذي كتبه عقب الثورة الكمالية في تركيا تمجيدا لهدم الخلافة وإبعاده الإسلام عن مجالات الحياة العامة في تركيا، ومن المصادر الموجهة للكتاب الذي نحن بصدده في التجديد في الفكر الإسلامي، عند تحديد طبيعة الإسلام كدين لا دولة.

ليس في الإسلام سياسة، وما فيه من سياسة لا يتصل بالدين:

وإذا كان كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" لا يرجع إلى القرآن في بدء الأمر عند تحديد طبيعة الإسلام، واقتنع من قبل الدخول في البحث بما حدده به مصدر أجنبي عنه، فإنه سيسلك طريق "التأويل" حتما لما يواجهه في القرآن من آيات تثير الشك فيما اقتنع به من قبل.

وقد يكون "التأويل" عبارة عن إنكار لما يفهم من اللغة بطبيعتها، وقد يكون مرة أخرى محاولة للجمع والتوفيق بين الجانبين: جانب أن الإسلام فيه سياسة وحكم، وجانب أنه "دين" فقط

وهذا هو ما جرى عليه الكتاب.

فالمؤلف يقول: في تصوير "النمط الأول" من التأويل، وهو "الإنكار": إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي ولا من أنظمة الدولة المدنية. وهو بعد، إذا جمعته، لم يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين.

"إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير1 وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى عنا، وسيان أن يكون

1 Thomas W. Arnold طبع أكسفورد سنة 1924.

ص: 216

منها البشرية مصلحة مدنية أو لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول"1.

فهذا النص:

- في الفقرة الأولى منه يدفع: أن الأنظمة التي جاء بها الإسلام لها صلة بأساليب الحكم السياسي.

- لكنه في نفس الفقرة يقر من جديد بأنها من أساليب الحكم السياسي، ولكن مجموعها ضئيل إذا قيس بما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين.

والفقرة إذن صدرها يناقض عجزها.. وتنحل العبارة إلى الوضع التالي:

- أنظمة الإسلام وقواعده ليس فيها قليل ولا كثير يتصل بالسياسة.

- ما في الإسلام من نظم سياسية جزء يسير مما تحتاجه الدولة!

والفقرة الثانية من هذا النص تعني أن ما في الإسلام من عقوبات ومعاملات هي لمصلحة البشر الدينية، ولم تقصد منها المصلحة المدنية.

ترى ما هي "المصلحة الدينية" من العقوبات والمعاملات؟؟

وما هي "المصلحة المدنية" من العقوبات والمعاملات؟؟

هل ما يوضع من حدود في العقوبات، وتشريع في المعاملات، لم يقصد به سوى تمكين الأمن والاستقرار.. تمكين العدل في تبادل المصالح بين الأفراد، الذين وضعت لهم العقوبات وشرعت لهم المعاملات؟؟

إن هذه الفقرة الثانية -كعجز الفقرة الأولى- اعترفت بوجود النظم السياسية في الإسلام، ولم تستطع أن تواجه الإسلام بإنكار هذه النظم فيه كلية

ولكي ينسجم الرأي في الكتاب الكله، حملت هذه النظم على أنه

1 الإسلام وأصول الحكم ص85.

ص: 217

قصد بها أن تكون شرعا دينيا خالصا لله تعالى، ولم يقصد بها مصلحة البشر المدنية.

والفرق بين المصلحتين شيء لم يستطع الكتاب، بعد ذلك أن يوضحه.

ففي هذا النص جميعه نرى:

-إنكارا كليا لوجود نظم سياسية في الإسلام.

- ثم نرى بعد ذلك اعترافا بوجودها ولكن مع ضالة كميتها.

- ثم نرى ثانية حملا لها على أنها لله وليست للدنيا!

ويأتي النص التالي، وهو ما يمثل "النمط الثاني"

نرى حملا لهذه النظم السياسية من جديد على أنها "للدنيا"

وليست لله.

يقول:

"الخلافة" ليست في شيء من الخطط الدينية! كلا، ولا "القضاء" ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها! فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة، كما أن تدبير الجيوش الإسلامية، وعمارة المدن والثغور، ونظم الدواوين لا شأن للدين بها"1.

وبهذا النص مع سابقه.. يوضح كتاب "الإسلام وأصول الحكم" المعنى الآتي:

- ما جاء في الإسلام لا يتصل بالسياسة.

- وما كان فيه من سياسة لا يتصل بالدين.

فهو ليس فيه "سياسة"

وفيه "سياسة" في الوقت نفسه!! وإذن أي شيء هو الإسلام؟؟

ليس "سياسة"

وليس "دينا".

1 المصدر السابق ص103.

ص: 218

ولكن مرد هذا الاضطراب، وسبب هذا الاضطراب هو في قبول فكرة الغرب أولا، ثم محاولة إخضاع الإسلام لها.

الزعامة النبوية:

ويبدو لأول نظرة أن التعبير بـ"الزعامة النبوية" مستحدث في اللغة العربية.

وهو فعلا جديد فيها، ولكنه في واقع الأمر بديل عن تعبير آخر هو "صاحب الحكومة الدينية" الذي يردده المستشرقون في وصفهم للرسول.

فالمستشرق جب "Gibb"، كما ذكرنا هنا قبلا1 يقول:"إن هناك حقيقة واحدة مؤكدة "في تاريخ محمد" وهي أن الدافع له كان دينا على الإطلاق، فمن بدء حياته، كداع، كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث، وحكمه عليها، نظرة تأثر بما عنده من: صورة عن الحكومة الدينية، وأغراضها في عالم الإنسان.

ويعلل جب انطباع صورة الحكومة الدينية وأغراضها في عالم الإنسان في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، بجو مكة السياسي والاقتصادي والديني، وما فيه من زعامة تقوم دعامتها السياسية على صيانة المقدسات الدينية في مكة وما حولها2! والرسول في نظر جب -كبقية المستشرقين- إنسان سعى إلى "الزعامة" في مكة، عن طريق استغلاله قيم المقدسات الدينية لدى الشعب المكي، فقد كان يبغي حكومة ويبغي زعامة، ولكنه لم يستطع أن يغفل شأن الجو الديني، إذ ذاك، فأعلن حكومة دينية وهو بالمدينة بعد هجرته من مكة إليها

من أجل ذلك غزا وحارب، وعاهد وتخالف.

فالدراسات الإسلامية في "الاستشراق":

- تعيب الإسلام كـ"دين" لما جاء فيه من نظم سياسية.

1 راجع ص164 من هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث".

2 راجع صفحات 161، 163 من هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث".

ص: 219

- وما وضعه من مبدأ "الجهاد" خاصة لصيانة الجماعة الإسلامية.

- وهذه الدراسات تفسر الإسلام لذلك على أنه "حركة إصلاحية إنسانية".

- وبالتالي تفسر هذه النظم السياسية فيه على أنها "خارجة" عن نطاق الدين. وليست من طبيعته.

وكتاب: "الإسلام وأصول الحكم" يرغب في أن يتفق مع هذه الدراسات على أن هذه النظم السياسية خارجة عن نطاق الدين، وليست من طبيعته، ولكنه لا يبرر أخذ النبي بها في تدبير أمر جماعة المؤمنين بأنه لم يكن صاحب دين سماوي، أو بأنه كان فقط صاحب حركة إصلاحية إنسانية كما يشرح المستشرقون.. إنه يريد أن يبقى للإسلام صفة "الدين" ثم ينزع منه سمة القوة والحكومة والنظم السياسية، ويجعلها ملحقة بالدعوة الدينية على أنها من مستلزمات ما سماه:"الزعامة النبوية"

وهنا إذن فرق بين "الدعوة الدينية" و"الزعامة النبوية" على نحو ما يسأل الكتاب ويجيب.

يقول:

"فهل كان تأسيسه صلى الله عليه وسلم للمملكة الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب خارجا عن حدود رسالته صلى الله عليه وسلم، أم كان جزء مما بعثه الله له وأوحى به إليه.

"فأما أن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو مع ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا وإلحادًا"1.

ولكن، ترى هذه المملكة، أو هذه "الزعامة الدينية" التي تخرج عن نطاق الرسالة، وتخرج عن نطاق الوحي الإلهي.. هل كانت ضرورة لصالح الرسالة، أو هي ضرورة لإقامة حكم وتثبيت دولة سياسية "دنيوية"؟؟

1 الإسلام وأصول الحكم ص55.

ص: 220

شأن الكتاب هنا كشأنه فيما سبق، عند الحديث عن أن الإسلام "ليس فيه ما يتصل بالسياسة". إذ له موقفان متقابلان، أو له على هذا السؤال جوابان متغايران تغايرا واضحا.

- فمرة يقبول: "فقد غزا صلى الله عليه وسلم المخالفين لدينه من قومه العرب، وفتح بلادهم، وغنم أموالهم، وسبى رجالهم ونساءهم. ولا شك في أنه صلى الله عليه وسلم قد امتد بصره إلى ما وراء جزيرة العرب، واستعد للانسياب بجيشه في أقطار الأرض، وبدأ فعلا يصارع دولة الرومان في الغرب، ويدعو إلى الانقياد لدينه: كسرى الفرس في الشرق، ونجاشي الحبشة، ومقوقس مصر.

"وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله. وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان، وتوسع الملك"1.

فـ"الجهاد" الذي هو مظهر القوة والسلطة، أو بعبارة أخرى: الجهاد الذي هو شعار حيوية2 الجماعة، يفسر هنا على أنه كان وسيلة التوسع في الملك وتثبيت السلطان. وهو إذن من لوازم الدولة وسياستها التوسعية، ولا شأن له بالدين. "إذ لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله".

ويزيد الكتاب هذا الأمر -أي: القول بأن "الجهاد" ليس من خصائص الرسالة الإلهية أيا كانت -إيضاحا بنص آخر:

"وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلا حمل الناس على الإيمان بالله بحد السيف ولا غزا قوما في سبيل الإقناع بدينه! وذلك هو بنفس المبدأ الذي يقرره صلى الله عليه وسلم وفيما كان يبلغ من كتاب الله.

1 المصدر السابق 52.

2 يقول الزهاوي الشاعر:

كتب الفوز بالبقاء على الأر

ض لناس تدججوا للنضال

لم يفز بالسلام إلا أنا

س قد أعدوا سلاحهم للقتال

ص: 221

"وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، ولا تقوم حكومة إلا على السيف وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم هو سر "الجهاد" النبوي ومعناه"1.

- ومرة أخرى ترى المؤلف على الضد من ذلك يذكر:

"لا يريبنك الذي ترى أحيانا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبدو لك كأنه عمل حكومي ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إليها تثبيتا للدين، وتأييدا للدعوة! وليس عجيبا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل، هو وسيلة عنيفة وقاسية.. ولكن ما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان، وربما وجب التخريب ليتم العمران"2.

فهنا لم يكن الجهاد لتأييد ملك ولا حكومة، ولا لتثبيت دولة، بل كان:"تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة".

وسر هذا التضارب هنا، هو سره فيما سبق.

قبول لرأي غريب عن طبيعة الإسلام، ثم محاولة بعد ذلك لإخضاع الإسلام لهذا الرأي الغريب المتنافر.

خصائص الزعامة النبوية موقوته بوقتها:

وسواء أكانت مظاهر الحكم والسياسة -ومنها الجهاد- من وسائل توسيع الملك وتدعيم شأن الدولة، أو لتثبيت الدين وتأييد الدعوة، فهي في نظر كتاب:"الإسلام وأصول الحكم" موقوتة بوقت الرسول، وقاصرة على شخصه لا تتعداه إلى من يخلفه في الجماعة الإسلامية بعده!! ثم ليس هناك أيضا من داع وسبب بعد وفاته، لأن تكون للمسلمين دولة وحكومة.

1 المصدر السابق ص53.

2 المصدر السابق ص79.

ص: 222

إذ القرآن لم يدع إلا إلى وحدة في الدين، دون وحدة في الدولة، لم يدع إلا إلى رباط القلب، دون رباط السلطان، وتكتل الجماعة، وتزايد العلاقات.

"الإسلام دعوة دينية إلى الله تعالى، ومذهب من مذاهب الإصلاح لهذا النوع البشري، وهدايته إلى ما يدنيه من الله جل شأنه، ويفتح له السعادة الأبدية التي أعدها الله لعباده الصالحين، وهو وحدة دينية، أراد الله جل شأنه أن يربط بها البشر أجمعين"1.

وحكمة هذا التوقيت -كما ذكر الكتاب: "أن مقام الرسالة يقتضي لصاحبه سلطانا أوسع مما يكون بين الحاكم والمحكومين، بل أوسع مما يكون بين الأب وأبنائه، قد يتناول الرسول من سياسة الدولة مثل ما يتناول الملوك، ولكن للرسول وحدة وظيفة، لا شريك له فيها.

"من أجل ذلك كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، بمقتضى رسالته سلطانا عاما، وأمره في المسلمين مطاعا، وحكمه شاملا، فلا شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نوع من الرياسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين

ذلك سلطان ترسله السماء من عند الله على من تنزل عليه ملائكة السماء بوحي الله"2.

كما يذكر المؤلف:

"تلك زعامة كانت لمحمد بن عبد الله بن عبد الملطب الهاشمي القرشي، ليست لشخصه ولا لنسبه؛ ولكن لأنه رسول الله

فإذا ما لحق عليه السلام بالملأ الأعلى، لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني"3.

وهذه النصوص مع كونها تفيد أن مظاهر الحكم في الإسلام قاصرة على الرسول صلى الله عليه وسلم تفيد أيضا أن مظاهر الحكم والسلطان، ونظم الدولة والسياسة، مصاحبة لكل رسالة دينية، ولكنها فقط وقف على الرسول المرسل: تلغى بعد وفاته ولا يتمتع بها شخص آخر سواه! 1 وما تفيده النصوص على هذا النحو يؤكده نص آخر هنا:

1 المصدر السابق ص77.

2 المصدر السابق ص66-68.

3 المصدر السابق ص87.

ص: 223

"طبيعي معقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأم الذي يمكن أن يتصور ويوجد بعد ذلك. فإنما هو نوع من الزعامة جديد، ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين.. هو إذن نوع لا ديني.

"وإذا كانت الزعامة لا دينية، فهي ليست شيئا أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية

زعامة الحكومة والسلطان، لا زعامة الدين، وهذا هو الذي كان"1.

والسؤال الذي يتردد الآن، بعد عرض هذه النصوص ومقابلة بعضها ببعض: أي حال يكون بعد وفاة الرسول؟

أتلغى النظم العامة للحكم، وقواعد السياسة؟

إن كانت الأولى

فلم كانت ملحقة بالرسالة الإلهية؟

وإن كانت الثانية.. فأي فرق بين عهد الرسول -وقد وقع فيه اجتهاد إنساني في تطبيق تلك النظم والقواعد، وبين عهد من يكون بعده- وسيقع فيه أيضا اجتهاد إنساني في تطبق تلك النظم والقواعد؟؟ ربما يكون الفرق في أن عهد من جاء بعد الرسول سيتأسى بعهد الرسول في التطبيق: أسسه وكيفيته. ولكن مع ذلك كلا العهدين فيه رسالة دينية، وفيه أيضا عمل بشري داخل إطار هذه الرسالة.

ثم إن كانت هذه النظم من ملحقات الرسالة والدعوة الدينية، وهي "سلطان ترسله السماء من عند الله، على من تنزل عليه ملائكة السماء بوحي الله"، تثبيتا للدعوة وتأييد للرسالة

يصح أن يسئل الآن: أهي نظم تنسجم مع طبيعة الإنسان كإنسان في توجيهه وقيادته للتهذيب وفعل الخير، وربط أفراد الإنسانية بعضهم ببعض؟ أم ترى يكون تأثيرها على الإنسان في توجيهه وقيادته قاصرا على عهد الرسول وعلى شخصه، وعندما تنجح تكون نتائج تطبيقها في قبول الدعوة معجزة للرسول؟؟ ولكن لم يكن قبول دعوة أي رسول من المؤمنين لما جاء به "معجزة" له، خاصة به؟!

لو صح هذا الزعم لما كان لمدلول الآية الكريمة الآتية معنى يقع ويتحقق يوما ما. وهي: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. فإن القرآن لا يطلب من جماعة المؤمنين الدعوة

1 المصدر السابق ص9.

2 آل عمران: 104.

ص: 224

إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باستمرار في كل جيل، إلا إذا توقع أنهم يصادفون نجاحا.. ومع ذلك هم ليسوا رسلًا.

إن النظم السياسية التي طبقها الرسول في تأييد دعوته هي من النظم التي تنسجم مع طبيعة الإنسان، وطبيعة الجماعة الإنسانية، وطالما كان هناك "اجتهاد" ومحاولة بشرية في فهم هذه النظم تحت تأثير الأحداث والظروف وفي تطبيقها، فالتفرقة: بأن لهذه النظم الصبغة الدينية في عهد الرسول، والصبغة المدنية في عهد من بعده، تفرقة فيها غموض ولبس.

وربما نجد توضيح هذه التفرقة الغامضة فيما يقول به المستشرقون من أن كثير مما جاء به الإسلام على عهد الرسول لا يصلح للتطبيق بعد حياته في جماعة المسلمين ويجب أن يقصر اعتباره على عهده ووقته فقط.. فالمستشرق الإنجليزي جيوم Alfred Guillame في كتابه "الإسلام" يقول:

"كل مسلم يعلم أن كثيرا من القرآن جاء للوجود كي يلتقي مع بعض أزمات معينة، أو لأحوال مؤقتة في حياة محمد! لكن من هو الذي يعلم أن الواجبات والمحرمات والمكروهات التي جاءت في الإسلام مقصود أن تساس بها حياة الملايين "بعده"، كي تظل تعيش في أوضاع لا تتصور، وهي أوضاع القرن السابع الميلادي"1.

فكتاب: "الإسلام وأصول الحكم" قد تقبل مثل هذا الرأي، سواء في هذه العبارة أو في عبارة أخرى، وحاول أن يبررها في صورة مقنعة.. فكان هذا الإيهام، أو هذا الخلط، الذي رأينا.

وحدة الدين لا وحدة الحكومة:

والآن، بعد عرض فكرة الكتاب الأصلية، وهي إلغاء جزء من رسالة الإسلام، وهو ما يتعلق بالجماعة الإسلامية في تكوينها، وربط بعضها ببعض وصيانة قوتها والحرص على إيقاظ وعي المقاومة فيها، وهو وعي الجهاد، يبرز الكتاب مرة أخرى فكرة: أن الإسلام لا يحفل بالجماعة ونظامها، بل يعني بوحدة القلب، وهو ليس دينا للجماعة، وإنما هو دين لمجموعة من

1 صفحة: 73.

ص: 225

البشر! وليس من المعقول لدى هذا الكتاب أن تكون هناك جماعة إسلامية لها سياسة واحدة، ولكن من المعقول أن تكون هناك وحدة دينية.

"معقول أن يؤخذ العالم كله بدين واحد، وأن تنتظم البشرية كلها وحدة دينية.. فأما أخذ العالم كله بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة، فذلك مما يوشك أن يكون خارجا عن الطبيعة البشرية، ولا تتعلق به إرادة الله! على أن ذلك إنما هو غرض من الأغراض الدنيوية، التي خلى الله سبحانه وتعالى بينها وبين عقولنا، وترك الناس أحرارا في تدبيرها، على ما تهديهم إليه: عقولهم وعلومهم، ومصالحهم، وأهواؤهم ونزعاتهم"1.

وعندئذ.. "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية"2.

أي للمسلمين أن يتخيروا أي نظام لحكمهم.

لهم أن يتخيرو نظام الحكم: المطلق أو المقيد، الفردي أو الجمهوري، الاستبدادي أو الشوري، الديمقراطي أو الاشتراكي، البلشفي أو الشيوعي.

"إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة، كان صحيحا ما يقولون: من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع: مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية، أو بلشفية"3.

ولقارئ هذه النصوص أن يسأل الآن:

كيف يمكن إقامة الشعائر الدينية "الإسلامية أو غيرها" في ظل حكومة تخضع للهوى والنزعات، وفي حكومة بلشفية لا دينية، وفي ظل حكومة إلحادية مادية؟؟

1 الإسلام وأصول الحكم ص78.

2 المصدر السابق ص103.

3 المصدر السابق ص53.

ص: 226

إن القرآن يقول في توجيه أمر الله إلى المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} 1.

ويزيد على ذلك فيطلب القرآن منهم مقاومة الإلحاد والملحدين وأهل الأهواء والنزعات: إذ يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 2.

إن إقامة شعائر المؤمن لا تؤدي إلا في ظل رعاية مؤمنة بالله، وأن تماسك المؤمنين لا يقوى إلا في ظل سياسة موحدة متجانسة، وإن وعي الأفراد بجماعتهم لا ينشأ ولا يبقى إلا تحت حماية ودفع لهذا الوعي الجماعي، وذلك لا يكون إلا إذا كان الإشراف العام في الجماعة يصدر عن العوامل المشتركة في هذا الوعي بين الأفراد جميعا.

واليوم يسعى العالم إلى "حكومة عالمية" ولا ينكر أحد عليه هذا السعي، اليوم تقترب الثقافات والجماعات والطوائف، ولا ينشد أحد من بين هذه الجماعات والطوائف أن يقف في سبيل هذا التقريب، فإذا جاء الإسلام بوحدة في الرباط والنظم والقواعد لجماعته المؤمنة، أنكر فريق من المسلمين عليه ما جاء به في هذا الجانب.. باسم التجديد، والحضارة، ورغبة في اللقاء مع الأمم المتمدينة في صعيد واحد.

ولكن -كما ذكرنا- أن "تجديد" الشرق في الفكر الإسلامي الحديث هو تقليد لفكر الغرب في القرن التاسع عشر.. تقليد لفكر إنساني انكشف ضعفه، وهواه وعصبيته، وانتهى أجله واعتباره.

إنه الشرق يستورد

ولا يخلق؟؟

هل نرجو الآن أنه قد وعى، وسيخلق يبني، ثم يرود لغيره كما كان يفعل؟؟

1 النساء: 144.

2 التوبة: 29.

ص: 227