المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

[محمد البهي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة:

- ‌تقديم الطبعة الرابعة:

- ‌تقديم الطبعة الثالثة

- ‌تقديم الطبعة الثانية:

- ‌تقديم الطبعة الأولى:

- ‌فاتحة:

- ‌الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:

- ‌العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر

- ‌الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ

- ‌مفكرون من المسلمين مع الاستعمار

- ‌مدخل

- ‌حركة أحمد خان:

- ‌ المذهب القادياني:

- ‌الأحمدية:

- ‌المستشرقون…والاستعمار

- ‌مدخل

- ‌ النزعة الأولى

- ‌النزعة الثانية:

- ‌الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي

- ‌مقاومة مزدوجة

- ‌محمد جمال الدين الأفغاني

- ‌محمد عبده:

- ‌الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي

- ‌اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين

- ‌بشرية القرآن:

- ‌الإسلام دين…لا دولة:

- ‌الدين خرافة:

- ‌الدين مخدر:

- ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

- ‌الباب الخامس: الإسلام غدا

- ‌مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية:

- ‌الإسلام فوق الزمان والمكان:

- ‌الفراغ في الحياة التوجيهية العامة:

- ‌الأزهر:

- ‌الأزهر…في تنظيمه الجديد:

- ‌الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المستشرقون المعاصرون:

- ‌ المتطرفون من المستشرقين

- ‌ بعض الكتب المتطرفة

- ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

- ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

1

1 دراسة للأستاذ الدكتور حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، نشرت بالملحق الأدبي لجريدة الأهرام "أهرام الجمعة" وتتضمن عرضا وتحليلا ومناقشة للفكر الاستشراقي من واقع إنتاجه العلمي.

ص: 457

"هذا "الكلام الفارغ" هو الحديد والنار اللذان يحاربنا بهما أعداؤنا.. والحديد والنار لا يقابلان إلا الحديد والنار، وفي ميدان العلم الحديد والنار هما العمل والعمل الطويل".

هذا واحد من عشرات الكتب التي تنشر هنا كل شهر

كتب كثيرة يكتبها الأعداء والخصوم.

مهما كان رأينا فيها، فإنها تمثل خطة وجهدا وسنوات من العمر

إنها أسلحة يحاربوننا بها، أسلحة تنفعهم في المعركة، لا مجرد فقاقيع يلعب بها الهواء ثم تتلاشى.

إننا قد نسخر منها، ولكنها في النهاية تؤذينا،

إنها سم يستقر في الجسد.

وماذا نفعل نحن لنتقي هذا السم؟

هل نتجاهله ونقول: كلام فراغ؟

هل نكتفي بمقال ننشره في صحفنا نطمئن به أنفاسنا على أن كل شيء بخير!!

إن هذه الكتب تنشر في الدنيا كلها على نطاق واسع

- والرد عليها لا يكون إلا في الدنيا كلها وعلى نطاق أوسع

وذلك يتطلب عملا شاقا

وهذا بالضبط هو واجبنا اليوم: العمل الشاق.

إن الدنيا لا تحترم كتابا يكتبه صاحبه وكأنه يتسلى، كلمتان من هنا وكلمتان من هناك، وعنوان

وهذا هو الكتاب.

ولكن الدنيا كلها تحترم أي مؤلف جاد.

مهما كان موقف القارئ منك، فهو يشعر أنه مرغم على احترامك

وليس في الدنيا شيء أدعى للاحترام من العمل الجاد.

ص: 459

إنني لا أعرض هذا الكتاب لأسلي القارئ، أو لأهون عليه أمر خصومنا:

إنني أعرضه لأهيب بأهل العلم: قوموا واعملوا، إذا كنتم تريدون أن يزيد احترامنا في قلوب الناس.

- المؤلف: لم يفهمنا ولم نفهمه:

هذه محاولة لإنجاز تاريخنا الطويل في نيف و350 صفحة، حاول "جاستون فييت" أن يقدم "بانوراما" لتاريخ الإسلام.

والطريقة التي سار عليها طريقة معروفة اتبعها غيره في تلخيص تواريخ غيرنا من الإمم، وهي عرض التاريخ عن طريق صفحات مختارة من أقوال المؤرخين والكتاب المعاصرين لكل فترة من فترات هذا التاريخ إذا أمكن.

ومهمة المؤلف في أمثال هذه الكتب هي تحديد الاتجاه الذي سيسير عليه الكتاب، ثم في اختيار الصفحات بناء على ذلك الاتجاه، وأخيرا الربط بينها بعبارات مختصرة قدر الإمكان.

وهنا خطورة هذا الطراز من التأليف؛ لأن المؤلف مهما اجتهد في تحري الإنصاف في الاختيار لا يمكن أن يتخلص من شخصيته وميوله، ولا يمكن بالتالي أن يقول: إن الكتاب ليس من تأليفه وتوجيهه، أو إنه لا يمثل رأيه.

فالكتاب ليس كتابه من ناحية؛ لأنه مجموع مختارات:

والكتاب كتابه من ناحية أخرى؛ لأن هو الذي اختار ورتب ربط المتفرقات.

وهو منقود بسبب الاختيار.

وهو منقود مرة أخرى بسبب الربط والتوجيه.

وقَلَّ أن ألف رجل كتابا على هذا المنهج ثم سلم من النقد الشديد.

والمؤلف هنا فرنسي. والفرنسي، مهما بلغ علمه، ومهما قيل عن تجرده لا يمكن أن ترضى نفسه بإنصاف العرب والمسلمين بحال!

ص: 460

وهو رجل معروف لنا، كان مديرا لمتحف الفن الإسلامي لسنوات طويلة.

وقد كتب تاريخا عاما لمصر الإسلامية مرتين.

وترجم كتاب الأيام لطه حسين، ويوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم ومجموعة قصص "بنت الشيطان" لمحمود تيمور.

وكتابه الذي ألفه مع "لوي هو تكور" عن مساجد القاهرة معروف. وهو الذي نشر جزءا كبيرا من خطط المقريزي.

وقبل أن يصدر كتابه الذي نعرضه اليوم نشر قطعة كبيرة من بدائع الزهور لابن إياس بعنوان لطيف: "يوميات رجل من الأوساط من أهل القاهرة".

وهو إذن رجل كان من المنتظر أن يعرفنا جيدًا.

وكنا نحسب أننا نعرفه جيدا.

- هذا الحقد القديم المتجدد:

ولكن كتابه هذا يدل على أننا كنا مخطئين في الأمرين معا:

فلا نحن عرفناه؛ ولا هو عرفنا كما ينبغي أن يعرف الناس الناس

وفي عرضه المجهد لتاريخنا فاتته أهم الحقائق التي سيرت هذا التاريخ:

استحوذت على اهتمامه حوادث السياسة والوقائع والحروب، فمضى يتابع قيام الدول وسقوطها والحروب ووقائعها.

وفاته أن للعرب والمسلمين تاريخا آخر غير هذه السلسلة الطويلة من وقائع السياسة والميادين.

فاته تاريخ المجتمع الإسلامي: كيف تكون وكيف قام، وتاريخ اللغة العربية كيف سارت من الخليج إلى المحيط، وتاريخ الحضارة الإسلامية، وهو في الواقع كتاب تاريخ أممنا جميعا

فليس بين فصول كتابه فصل واحد عن انتشار الإسلام وكيف كان؟!

ص: 461

وليس هناك سطر واحد عن لغة العرب وكيف أصبحت لغة الملايين؟!

ولا ذكر في كتابه لنواحي حضارتنا كل ما هناك هو أنه يقف في نهاية الكتاب، فيقول: إن حضارتنا ركدت بعد القرن الخامس عشر؛ لأنها لم تقم على أساس حضارة اليونان!

وهذا أعجب ما سمعناه من مؤرخ!!!

وهذا أغرب ما يمكن أن يقوله عالم له هذه الخبرة بتاريخ المسلمين!!!

إن صاحبنا يجري في تيار هذا الخيال الفرنسي الذي يعود إلى حضارة الإغريق بكل شيء، والمؤرخون في الدنيا كلها قد نزعوا عن ذلك الوهم الذي ساد الفكر الأوروبي إلى الحرب العالمية الأولى

لأن حضارة أوروبا اليوم ليست استمرارا لحضارة الإغريق، ولو كانت استمرارا لها لكنا نقول اليوم بهذا الشطط الذي قاله أفلاطون في "الجمهورية" داعيا إلى جعل الحكم في أيدي طائفة مختارة من الناس يتصاهرون فيما بينهم، ويلدون أطفالهم بصورة جماعية، ثم تربيهم الدولة محافظة على سلامة الجنس الممتاز!!! وماذا أقول؟ ألا يعرف المؤلف أن أحدا من الشعوب لم يدرس أرسطو كما درسناه، وأن قوما لم يهتموا ببطليموس كما اهتممنا به؟!!

ولكني أعود فأقول: إن المؤلف فرنسي، والفرنسي لا يفهم العربي أبدًا.

هناك ستار من الحقد عند أصحابنا أبناء فرنسا يحول بينهم وبين أن يفهمونا!

حقد قديم يرجع إلى أيام الحروب الصليبية، والفرنسيون يعتقدون أنها كانت حربا بين فرنسا والإسلام

وحقد جديد بدأ سنة 1830 عندما اعتدى الفرنسيون على الجزائر

حقد على عرب المغرب؛ لأنهم لم يستسلموا لفرنسا ويقدموا بلادهم هدية لها!

وحقد على عرب المشرق؛ لأنهم لم يتركوا إخوانهم لها تفعل بهم ما تريد

ص: 462

وحقد؛ لأن فرنسا لا تعرف كيف تخرج من المشكلة التي أوقعت نفسها فيها في المغرب

راحت الجمهورية الرابعة وستروح الجمهورية الخامسة.. هلك الألوف وضاعت الملايين!!

حقد نحن ضحيته ومنح ناره التي تتقد!!

حقد يفسد كل ما يكتبه الفرنسيون عنا، فلنر إذن كيف أفسد الحقد هذا الكتاب.

- التشويه يبدأ من الصفحة الأولى:

يبدأ ذلك من الفصل الأول عن محمد صلوات الله عليه.

وهو كغيره من المستشرقين الفرنسيين يردد نفس الأفكار التي حالت بين جمهور قرائهم وفهم صاحب الرسالة عليه السلام.

من هذه الأساطير مثلا: أن بني أمية كانوا قبل الإسلام أغنى وأعز من بني هاشم.

مع أنهم يعرفون أن أعلا ذروة بلغها قرشي قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانت لعبد المطلب وهو ابن هاشم وجد النبي المباشر.

وأن بني عبد شمس بن عبد الدار كانوا أفقر وأضعف بكثير من بني هاشم بن عبد مناف.

وهو يعتمد في حوادث السيرة على كتاب البدء والتاريخ للمقدسي، والمقدسي من أهل القرن العاشر.

وهو يصور لقرائه أن القرآن الكريم كتاب غير منزل.

ونحن لا نطالبه بأن يعتقد ما نعتقد، فليس من الضروري ألا يكتب عن الإسلام غير المسلم، ولكن إيمان المسلمين بنبيهم وألوهية رسالته، هو الإساس الذي يقوم عليه الكيان الإسلامي كله، لا بد أن يقول المؤرخ لقرائه ذلك، ولا بد أن يعينهم على إدراك قوة هذا الإيمان، حتى يضعوا أيديهم على سر القوة في تاريخ المسلمين.

ص: 463

أما إلقاء الشك والسخرية فيترك القارئ، وهو لا يدري كيف حقق المسلمون ذلك كله.

وعلى هذا فإن محمدا الذي يصوره أولئك المستشرقون ليس محمدا رسول الله الذي نحن على دينه: إنه رجل من صنع خيالهم وتصورهم.

وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم هو عماد تاريخ الإسلام كله، فإن تاريخ الإسلام الذي يصوره أولئك المستشرقون ليس تاريخ الإسلام.

ولكن "فييت" يختم هذا الفصل عن السيرة بعبارة للطبري في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم: صفته الجسمانية، أما صفاته الروحية وشمائله الخلقية فيوجزها في عبارة لا تخرج منها إلا بأنه كان سياسيا ماهرًا.

شتان بين إعجاب وإعجاب:

ويمر المؤلف مسرعا بأبي بكر وعمر دون أن يخطر بباله أن يتفكر لحظة في ملكات هذين العبقريين. الفتوح الإسلامية في نظره غزوات، ومعاهدات الصلح لا هدف لها إلا الجزية والخراج!!

ثم ينتقل إلى بني أمية

والفرنسيون معجبون ببني أمية

وسر الإعجاب أن جدهم أبا سفيان كان عدو الرسول صلى الله عليه وسلم، واقرأ إذ أردت ما كتبه عميدهم "هنري لامانس" عن معاوية ويزيد وبعد الملك وبقية بني مروان. ونحن معجبوب ببني أمية.

ولكن شتان بين الإعجابين:

فهم معجبون بهم عن طريق الحقد، ونحن معجبون بهم عن طريق الحب:

يعجبنا حلم معاوية ورجولته وسياسته وتوحيده أمر المسلمين.

وتعجبنا عروبة عبد الملك بن مروان وإيمانه بها الذي خطا بسير التعريب خطوات حاسمة إلى الأمام.

ويعجبنا إيمان الوليد وسليمان وما تم على يديهما من فتوح

ص: 464

وتعجبنا من بني أمية الفحولة والأصالة والشهامة والعروبة

ولكن ماذا يعجب الفرنسي من بني أمية؟

يعجبهم أبو سفيان؛ لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويعجبهم معاوية؛ لأنه انتزع الخلافة من يد علي.

ويعجبهم يزيد؛ لأنه قتل الحسين وأمر جنده بمهاجمة مكة.

ويعجبهم تمثيل الحجاج بأهل العراق، ويعجبهم خبث المغيرة بن شعبة.

وهذه هي معظم الصفحات المختارة عن بني أمية!

وهذا تاريخ بني العباس:

وينتقل إلى بني العباس، فماذ يختار عن بني العباس؟

بناء بغداد "عن ابن واضح اليعقوبي".

وهو يختار هذه القطعة ليقول: إن الدولة الإسلامية خرجت من يد العرب، وهو يصر على هذه الفكرة إصرارا غريبا، كأنها وجدت من نفسه هوى

ثم ينقل عن أبي يوسف القاضي نص رسالة ابن المقفع في معاملة أهل الذمة، ينقلها لكي يؤكد ما يقوله غيره من المستشرقين عن سوء حالهم في ظلال الإسلام.

وهذه الرسالة مكذوبة، وقد أثبتنا في أبحاثنا أنها من مخترعات طوائف الفرس الحاقدة على العرب والإسلام.

ثم ينقل عن ابن خلدون فقرة قصيرة عن نشوء مذاهب التشريع الإسلامي.

وأي مؤرخ يعرف ما هو التاريخ، ينبغي أن يقف طويلا أمام عبقريات مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، تلك التي وضعت تشريعات تروع النفس، عاشت منها وفيها جماعات المسلمين جيلا بعد جيل.

ص: 465

وأين العبقرية التشريعية اليونانية من عبقريات مشرعي الإسلام!!

ويخصص المؤلف ضعف هذا الحجم لوصية عبد الحميد الكاتب للكتاب

وعندما يصل إلى هارون الرشيد لا يورد عنه إلا قطعة من يوميات "أجينار" مؤرخ شرلمان تصف سفارة الرشيد إليه

وهذه السفارة على ما هو معروف أسطورة من الأساطير

وما كان هارون الرشيد ليعنى بشارلمان هذا أو يرسل إليه سفارة وهدية..

ولكن المؤرخ الغربي يتمسك بها

لأنها تقول: إن الرشيد أرسل مفاتيح بيت المقدس للملك الفرنسي.

وهذا هو بيت القصيد!

وليس في تقاليدنا هذا الشيء الذي يعرف بمفاتيح المدن.

ولا يمكن أن نتصور سببا معقولا يجعل الرشيد يفكر في هذا

ولكن ما حيلتنا؟ إنهم يشعرون بالسعادة إذ يرددون ذلك!!

وقطعة أخرى يذكرها عن الرشيد: نكبة البرامكة برواية المسعودي.

وتلي ذلك حروب الأمين والمأمون.. إنه يخصص لها 6 صفحات بينما خصص لرسول الله صلى الله عليه وسلم 14 صفحة!

- الفضل كله للفرس والترك:

وفي أثناء ذلك يقف طويلا ليتحدث عن انفصال الأندلس.. ولكي يتكلم عما يسميه استقلال المغرب، وهو لا يسميه المغرب، وإنما باسم يولع به الفرنسيون، وهو "لا بربيري" أي: بلاد البربر.

وهذه التسمية في ذاتها دسيسة: دسيسة تافهة؛ لأن أهل المغرب عرب، وهم يؤكدون للفرنسيين أنهم عرب.

ص: 466

ولكن المستعمر الفرنسي خلال القرن الماضي تصور أنه يستطيع أن يفصل المغرب عن الوطن العربي إذا أوهم أهله أنهم ليسوا عربا.

وقد فشت الدسيسة، ولكن الوهم لا زال يعمر أذهان الفرنسيين.

وهم سعداء جدا -فيما يبدو- بذلك الوهم!!

وبدلا من أن يقف المؤلف طويلا عند قيام الدولة الأموية بالأندلس، ويدل قراءه على عبقرية عبد الرحمن الداخل، لا يذكره إلا في سطور، ثم يسرع للتحدث عن بني رستم الخارجين في تاهرت "برواية الخارجي أبي زكريا" وعن الأدارسة.. بل عن بني مدرار أصحاب سجلماسة، ثم يقول بكل سعادة:"وهكذا سيكون الشمال الإفريقي كتلة ترفض الطاعة للخلافة المشرقية".

ثم يعود إلى المشرق ليتحدث عن المأمون:

وما يقول عن المأمون؟

إن دولته دولة فارسية لا أثر للعرب فيها!

وما دام قد انتهى إلى أن المأمون غير عربي، فهو لا يجد غضاضة في أن يتحدث عن نهضة العلوم أيام المأمون

فهي نهضة غير عربية!

ويتبع ذلك بفقرة ينقلها عن ميخائيل الصوري يتحدث فيها عن مدرسة حران.

ثم يقف طويلا عند المعتزلة، ومن عجب أن ينقل كلامه عنهم عن المسعودي دون غيره من الأصول.

وينتقل للحديث عن المعتصم والترك، ويتخير بالذات فقرات من رسالة الجاحظ في فضلهم

ولم ترض نفسه قبل ذلك بإيراد فقرة -ولو نصف هذه- عن فضل العرب؛ لأن العرب بالنسبة له ولأمثاله سم ينبغي أن يتحاشاه.

- القرامطة طلاب عدالة وإصلاح:

وهو يختار من تاريخ الأعصر العباسية ما يحس في نفسه أنه يسيء إلى العرب والإسلام.

ص: 467

يروي قصة مصرع الخليفة المتوكل "برواية الطبري"

ويقص تفاصيل فتنة الزنج في جنوب العراق "برواية النويري".

ويطيل الحديث عن القرامطة برواية الطبري.

ويأتي بنص خطاب أحمد القرمطي إلى الخليفة المقتدر، وهو خطاب يصورهم في صورة طلاب عدالة وإصلاح:

ويتلذذ إذ يورد فقرة للمسعودي تصف سرقة القرامطة للحجر الأسود..

- صورة تقبض النفس:

وهكذا تتوالى الصفحات والمختارات..

كلها يرمي إلى تصويرنا كما يود أن يرانا العدو اللدود:

فهو يتحدث مثلا عن قيام دولة الفاطميين في المغرب. فلا يجد ما يختاره إلا قطعة طويلة لابن الأثير. تصور ثورة أبي يزيد بن مخلد عليهم، وهي ثورة كادت تقضي على دولتهم، وأبو يزيد هذا مشعوذ محتال.

وينتقل إلى الأندلس ليتحدث عن عبد الرحمن الناصر، فلا يجد من الصفحات الجميلة التي كتبها المؤرخون عن ذلك الخليفة المجيد -الذي كان أعظم حكام أوروبا في عصره- إلا وثيقة إعلان نفسه خليفة.

ويعود مسرعا إلى الشرق ليتحدث عن الدول المنشقة، تلك التي انتهت بالقضاء على وحدة الدولة العباسية، الصفاريين، والسلمانيين، والطاهريين، والبويهيين، ويطيل الوقوف عندهم وينقل الصفحات بعد الصفحات.

لماذا؟

لأنه يرى أنها دولة فارسية!

وللفرنسيين من زمن بعيد حب للفرس، كما حاولوا في المغرب فصل المغاربة عن العرب، فكذلك في أقصى الشرق، حاولوا -ولا زالوا يحاولون- الإيقاع بين العرب وبين شعب فارس، وصاحبنا هنا يكاد يرد كل شيء في تاريخنا إلى الفرس، وهو إذ يطيل الحديث عن رجل مثل يعقوب بن الليث

ص: 468

الصفار، يعود بين الحين والحين ليلقي نظرات سوداء على خلافة بغداد

المقتدر والراضي والمتقي.... إلخ. والصفحة المشرقة الوحيدة التي يأتي بها هي التي تتحدث عن التجارة، وكيف كان تجار المسلمين يقطعون الأرض بمتاجرهم، من "خرغانة إلى غانة"، كما قال الحريري على لسان صاحبه أبي زيد السروجي.

وقد اعتمد فيما نقله على ابن خرداذبة وناصري خسرو والبيروني والإدريسي وابن جبير.

ويعود ليتحدث عن الفاطميين.

يقف طويلا عند خطاب الأمان الذي أذاعه جوهر الصقلي عند دخوله القاهرة ثم يحكي قصة اختطاط القاهرة برواية المقريزي.

وهو معجب بالفاطميين؛ لأن مذهبهم لم يلق قبولا من جماعة المسلمين.

إنه ينقل الصفحات بعد الصفحات عن ناصري خسرو.

ويقف طويلا عند الخليفة الحاكم.

وينتقل إلى السلاجقة فيمر بهم تمهيدا للحملة الصليبية الأولى.

ويختم الفصل بعبارة لوليم الصوري يقول فيها: إن الصليبيين عندما دخلوا بيت المقدس قتلوا من أهله 65 ألفا

- واجبنا اليوم: العمل حتى الموت.

ويطول بنا الحديث لو مضينا نستعرض المقتطفات حتى آخر الكتاب.

إنه لا يقف به إلا عند سليمان القانوني.

وعنوان كتابه "مجد الإسلام" من محمد إلى فرنسوا الأول".

ولا ندري ما العلاقة هنا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الملك الفرنسي الذي يذكره التاريخ بهزيمته المشينة عند مارينيافور سنة 1551.

ولكنها بدعة جروا عليها هناك

فالمؤرخ البلجيكي "هنري بيرين" له كتاب مشهور عنوانه محمد وشرلمان.

ص: 469

وفي العام الماضي نشر راهب كندي كتابا عنوانه محمد والقديس فرنسوا

نحن لا يرضينا أن يذكر اسم نبينا على هذه الصورة المجرد الحصول على أسماء جذابة لمؤلفات.

والمهم هنا أن "جاستون فييت" يقول في آخر كتابه: إنه يقف بالكتاب عند أسماء باهرة كأسماء "البابا ليو العاشر ومارتين لوثر وهنري الثامن وفرنسوا الأول وشارلمان وكالفين وسليمان القانوني" وهم في رأيه أعلام التاريخ العالمي في القرن السادس عشر!!

وهذا القرن يعتبر في رأيه نهاية مجد المسلمين وأول مجد الأوروبيين.

فكل اسم ذكره يعني في حسابه نهضة شعب من شعوب أوروبا، أو قيام حركة إصلاحية كبرى فيها، وسليمان القانوني هو في حسابه آخر العظماء من ملوك الإسلام.

وأن العالم الإسلامي اتجه بعده إلى الانحدار السريع

وهنا ينبغي أن نقف ونفكر..

لأننا كأمة ناهضة وكناس يأخذون الحياة مأخذ الجد

لا يليق بنا إذا رأينا شيئا لا يعجبنا أن نلقيه بعيدا ونقول: كلام فارغ..

صحيح أن فيه كذبا وتضليلا، صحيح أنه صادر عن حقد عميق، ولكنه ليس كلاما فارغا، ولا يخدمنا في شيء أن نلقيه بعيدا ثم نجر اللحاف وننام..

لأن هذا "الكلام الفارغ" هو الحديد والنار اللذان يحاربنا بهما أعداؤنا.

والحديد والنار لا يقابلان إلا بالحديد والنار.

وفي ميدان العلم، الحديد والنار هما العمل، والعمل الطويل.

إذا كان هذا الذي كتبه فييت "كلاما فارغا.. فلنشمر عن سواعدنا ولنكتب نحن الشيء المليان".

ص: 470

هل تذكر العبارة المضحكة التي قالها مراد بك عندما سمع أن الفرنج نزلوا بساحل الإسكندرية؟ قال: هؤلاء مثل حب الفستق، للكسر والأكل!

ثم تبين بعد ذلك أنهم ليسوا فستقا ولا بندقا، وإنما هم حرب ودمار

لقد ندم مراد بك على كلمته وهو يجمع ملابسه ليجري هاربا إلى الصعيد بعد معركة الأهرام.

أما نحن فليس أمامنا وقت للندم.

ليس أمامنا إلا أن نعمل.. ونعمل حتى الموت.

لنتصور الجهد الذي بذله هذا الرجل الفرنسي وهو في سن السبعين:

جهد في الجمع والترتيب والاختيار.

وهو في الواقع جهد شاق، ولا يعرف الشوق إلى من يعانيه.

لنعمل إذن.. ففي أعناقنا مسئولية عالم كبير..

إن بعضنا يلعب ويتصور أنه يعمل: ينظر في الصفحات التي كتبها الطبري أو ابن سعد مثلا عن عمر بن الخطاب ثم يكتب سلسلة كتب عن عمر بن الخطاب

لو كان هذا هو العمل لما حمل الهم أحد

والهموم على قدر الرجال

ورحم الله أبا الطيب حين قال: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم".

ص: 471