المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بشرية القرآن: تعرض فكرة بشرية القرآن في إحدى صورتين: الصورة الأولى: أن - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي

[محمد البهي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة:

- ‌تقديم الطبعة الرابعة:

- ‌تقديم الطبعة الثالثة

- ‌تقديم الطبعة الثانية:

- ‌تقديم الطبعة الأولى:

- ‌فاتحة:

- ‌الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:

- ‌العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر

- ‌الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ

- ‌مفكرون من المسلمين مع الاستعمار

- ‌مدخل

- ‌حركة أحمد خان:

- ‌ المذهب القادياني:

- ‌الأحمدية:

- ‌المستشرقون…والاستعمار

- ‌مدخل

- ‌ النزعة الأولى

- ‌النزعة الثانية:

- ‌الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي

- ‌مقاومة مزدوجة

- ‌محمد جمال الدين الأفغاني

- ‌محمد عبده:

- ‌الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي

- ‌اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين

- ‌بشرية القرآن:

- ‌الإسلام دين…لا دولة:

- ‌الدين خرافة:

- ‌الدين مخدر:

- ‌الباب الرابع: الإصلاح الديني

- ‌الباب الخامس: الإسلام غدا

- ‌مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية:

- ‌الإسلام فوق الزمان والمكان:

- ‌الفراغ في الحياة التوجيهية العامة:

- ‌الأزهر:

- ‌الأزهر…في تنظيمه الجديد:

- ‌الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المستشرقون المعاصرون:

- ‌ المتطرفون من المستشرقين

- ‌ بعض الكتب المتطرفة

- ‌كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت

- ‌المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌ ‌بشرية القرآن: تعرض فكرة بشرية القرآن في إحدى صورتين: الصورة الأولى: أن

‌بشرية القرآن:

تعرض فكرة بشرية القرآن في إحدى صورتين:

الصورة الأولى: أن القرآن "انطباع" في نفس محمد -صلى الله عليه سلم، نشأ عن تأثره ببيئته التي عاش فيها.. بمكانها وزمانها.. ومظاهر حياتها المادية والروحية والاجتماعية.

- والصورة الثانية: أنه "تعبير" عن الحياة التي عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم بما فيها المكان، والزمان، وجوانب الحياة الاقتصادية، والسياسية، والدينية، والاجتماعية.

وإحدى الصورتين ملازمة للأخرى

فإذا كان القرآن انطباعا منبثقا من البيئة فهو يعبر عن ذات هذه البيئة، وبالعكس إذا كان تعبيرا عن البيئة فقد انطبع أولا بلا شك في نفس قائله قبل أن يعبر به وقبل أن يقوله!! وكلتا الصورتين إذن تفصح عن أن القرآن عمل خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم، تأثر فيه كما يتأثر الإنسان العادي، وعبر به عن المعاني التي كانت في نفسه ومن بيئته كما يعبر الإنسان عن أية معان تجول بنفسه قد تأثر بها من بيئته، وانطبعت في خاطره من ظروف الحياة التي تحيط به!!

ويتوقف اختيار إحدى هاتين الصورتين على الأخرى لدى الكاتب الذي يرى "بشرية القرآن"، على أحوال البيئة التي يعلن فيها الكاتب الرأي، فإن كانت بيئة أجنبية غير مسلمة أمكن مواجهتها بالصورة الأولى، وهي أن القرآن

انطباع نفسي! أما إذا كانت بيئة إسلامية فيقتضي الأمر أن يتبع فيها أسلوب اللف والمداورة، والصورة الثانية هي الأليق بهذا الأسلوب، وهي أن القرآن يعبر عن الحياة الجاهلية - أي: حياة ما قبل الإسلام- أصدق تعبير.

ص: 177

الصورة الأولى:

ولا أريد هنا أن أنقل عن أي مستشرق عبر عن "بشرية القرآن" بل سأتخير واحدا يعد مثلا للاتزان بينهم، وهو المستشرق الإنجليزي "جب" Gibb أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية.

وسنرى من النصوص التي ننقلها عنه هنا من كتابه: "المذهب المحمدي" Mohammedanism أنه آثر الصورة الأولى، بأسلوب بيدو فيه تجنب للألفاظ النابية فيما يحكيه عن الرسول، وتجنب الصراحة المكشوفة فيما يريد أن يودعه في نفس القارئ.

إن "جب" يرى:

- أن جو "مكة" بما فيه من زعامة اقتصادية وسياسية ودينية، ثم بما فيه من عيوب اجتماعية -كالرق والفوارق البعيدة المدى بين الطبقات، هو الذي أثر في نفس محمد صلى الله عليه وسلم ليكون صاحب ثورة! فـ"الحياة المكية" -بما فيها من عوامل إيجابية وأخرى سلبية- قد تفاعلت في نفسه، وهو يرتبط في رسالته بهذه الحياة أيما ارتباط، بحيث لو كان رجلا غير "مكي" لما صادف هذا النجاح.

إنه يقول في ذلك1:

"إن "محمد" ككل شخصية مبدعة، قد تأثر بضرورات الظروف الخارجية "عنه" المحيطة به من جهة، ثم هو من جهة أخرى قد شق طريقا جديدا بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه.

"وقليل ما هو معروف -على سبيل التأكيد- عن حياته وظروفه المبكرة

ولكن الشيء الذي يصح أن يبحث ماضيه الاجتماعي.

"لقد كان أحد سكان "مدينة" غير رئيسية.. وليس هناك ما يصح أن يصوره بأكثر من أنه "بدوي"، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرحل من الناس:

1 كتاب Mahammedanism ص27.

ص: 178

أ- و"مكة" في ذات الوقت لم تكن خلاء بعيدا عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل.. بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصادية، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.

ب- و"سكانها" مع احتفاظهم بطابع البساطة العربية الأولية في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارف واسعة بالإنسان والمدن

عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميين من رجال الإمبراطورية الرومانية.

وهذه التجارب قد كونت في زعماء مكة ملكات عقلية، وضروبا من الفطنة وضبط النفس، لم تكن موجودة عند كثير من العرب.

جـ- ثم إن "السيادة الروحية" التي اكتسبها المكيون من قديم الزمان على العرب الرحل، زادت قوة ونموا بفضل الإشراف على عدد من "المقدسات الدينية" التي وجدت داخل مكة وبالقرب منها.

"وانطباع هذا الماضي الممتاز "لمكة"، يمكن أن نقف على أثره واضحا في كل أدوار حياة محمد

وبتعبير إنساني: إن محمدًا نجح؛ لأنه كان واحد من المكيين!

ولكن بجانب هذا الازدهار في "مكة،" كانت هناك ناحية أخرى مظلمة خلفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصادية ثرية، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثل في الأرقاء والخدم، وفي الحواجز الاجتماعية، وواضح من دعوة محمد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أن هذه الناحية كانت سببا من الأسباب العميقة لثورته الداخلية "النفسية"".

فهنا يذكر المستشرق "جب"

أن "مكة"، كانت فيها حياة زاخرة بالتجارة والسياسة والدين، وأنه وجدت فيها زعامة وزعماء، وأنه وجد ظلم اجتماعي بين سكانها.. وأن "الرسول" محمد انطبعت في نفسه كل هذه الجوانب وكان على وعي تام بها، وترى آثارها في حياته: في قرآنه وفي كفاحه إلى أن مات!

- ويرى "جب" كذلك أن ثورة الرسول النفسية لم تبرز في صورة "إصلاح اجتماعي" ولم يقم بها على أنه مصلح للحياة المكية

ص: 179

الاجتماعية، وإنما برزت في صورة "دينية" وفي صورة أنه "رسول"؛ وذلك لأنه أراد أن يستغل قيم "المقدسات الدينية" بمكة في الزعامة والرواج الاقتصادي. ومعارضة المكيين إياه -لذلك- كانت معارضة في الزعامة السياسية، وخشية على ازدهارهم الاقتصادي من أن يضعف لو قبلوا دعوته، ولم تكن -معارضتهم إياه- بسبب العقيدة والإيمان!! وإلا فالقرآن نفسه، يدل على أن فكرة الوحدانية -وهي الفكرة الأساسية في الإسلام- كانت معروفة في غربي الجزيرة العربية!

يقول "جب" في ذلك:

"ولكن نواة هذه الثورة النفسية لم تظهر في صورة "إصلاح اجتماعي"، بل بدلا من ذلك دفعته إلى "اتجاه ديني" أعلنه في اعتقاد ثابت لا يتأرجح، بأنه رسول من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسل الساميين القديم توبوا فجزاء الله حق!! وكل ما جد بعد ذلك كان نتيجة منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد "بأنه رسول" وبين الكفر به، ومعارضته من فريق بعد فريق"1.

"وهناك حقيقة واحد مؤكدة "في تاريخه" وهي: أن الدافع له كان "دينيا" على الإطلاق، فمن بدأ حياته كداع كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليهما نظرة تأثر فيها بما عنده من صورة عن الحكومة الدينية وأغراضها في عالم الإنسان"2.

"ومحمد في البداية، لم يكن نفسه على علم بأنه صاحب دعوة إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكيين له، وخصومتهم له من مرحلة إلى أخرى، هي التي قادته أخيرا وهو بالمدينة -بعد أن هاجر إليها- إلى إعلان الإسلام كجماعة دينية جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصة.

"ويبدو أن معارضة المكيين له لم تكن لمحافظتهم وتمسكهم بالقديم، أو بسبب عدم رغبتهم في الإيمان.. بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسية واقتصادية.. لقد تملكهم الخوف من آثار دعوته التي تؤثر على

1 المصدر السابق: ص28.

2 المصدر السابق: 27.

ص: 180

ازدهارهم الاقتصادي، وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أن تلحق ضررا بالقيمة الاقتصادية لمقدساتهم.

"بالإضافة إلى ذلك، فإن المكيين قد تصوروا -أسرع مما تصور محمد نفسه- أن قبولهم لتعاليمه رمبا يمهد لنوع معقد من السلطة السياسية داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتى ذلك الوقت"1.

ويقول أيضا:

"ومعروف من القرآن نفسه، أن فكرة "الوحدانية" كان معروفة في غربي الجزيرة العربية.. لقد كان وجود "الإله الأكبر" وهو الله، مبدأ مقبولا كأصل عام لدى محمد ولدى خصومه على السواء، والقرآن لم يناقش هذه النقطة أبدا، وحجته التي كان يقيمها فقط أن لا إله إلا الله"2.

إن مؤلف كتاب "المذهب المحمدي" يريد أن يقول إذن: إن محمدًا أراد أن ينافس في الزعامة القائمة بمكة، وأن يكون صاحب سلطة فيها. وبما أن "المقدسات الدينية" كانت لها صلة وثيقة بالازدهار الاقتصادي المكي، وبسيادة المكيين الروحية على بقية العرب الرحل!! لم يشأ محمد أن يظهر في منافسته للمكيين في صورة أخرى غير الصورة الدينية

لقد تحكمت فيه الرغبة إلى "الحكومة الدينية" منذ البداية في الصراع، ولقد كافح لأن يكون صاحب حكومة دينية حتى أعلن في النهاية -وهو بالمدينة- نظام هذه الحكومة فيما سماه "الإسلام" و"الجماعة الإسلامية".

ولأنه أراد أن ينافس "المكيين" في الزعامة السياسية، لم تكن مقاومتهم إياه ومعارضتهم لدعوته بسبب أنهم محافظون متمسكون بالقديم والتقاليد، إذ القرآن ليس جديدا عليهم كله، فأهم مبدأ فيه وهو التوحيد كان معروفا لدى العرب، وإنما خشية على ضياع مجدهم السياسي والروحي وفقدان رواجهم الاقتصادي!!

و"المكيون" لم يعارضوا شيئا في القرآن سوى ما انتزعه "محمد" من اليهود أو النصارى كفكرة الجزاء الأخروي وأوصاف الجنة والنار.

1 المصدر السابق: ص29.

2 المصدر السابق: ص38.

ص: 181

فـ"إن فكرة الجزاء الأخروي" لم تكن منتزعة بالتأكيد من التقاليد العربية، ولكنها مأخوذة من المصادر المسيحية، ومقابلة المكيين لهذه الفكرة بالكفر العميق والسخرية، تدل على أنها لم تكن معروفة تماما لديهم!

"وليست هذه الفكرة وحدها، بل أيضا ما يختص بالجنة والنار من تفصيلات تساوي تماما ما في المسيحية السريانية"1.

وملخص ما يقول "جب" حتى الآن هو:

- أن "مكة" كانت فيها حضارة وزعامة

ولم تكن أرضا جرداء، ولم يكن سكانها حفاة غلاظا، بل كانت لديهم فطنة، وملكة في السياسة ومعارف واسعة بالناس والمدن على السواء.

- وأن حياة "محمد" كانت حياة "مكية" خالصة.. بما فيها نشأته ودعوته، وصراعه.. فهي حياة محدودة بظروف الزمان والمكان.

فدعوته عندئذ ليست دعوة عامة، بل لأناس معينين! واختياره طابع الدعوة بأن تكون دينية، ثم اختياره هذه الدعوة الدينية بأن تكون في صورة حكومة إلهية، هو من تحديد عوامل الحياة المكية، وقد وقع "محمد" تحت تأثير ما دار فيها من اتجاهات سياسية واقتصادية ودينية!

- وأن "القرآن" ليس جديدا كله على العرب "المكيين" وأن ما فيه من مسيحية لا يتعدى المسيحية الشرقية السريانية2، وكذا ما فيه من يهودية لا يتعدى اليهودية المعروفة في "المدينة"! وليست معارضة "المكيين" له بسبب تمسكهم بالقديم أو بسبب الإيمان، كما يذكر القرآن مثلا في قوله تعالى:{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 3 وإنما جاءت معارضة، "مكة" في نظر "جب" بسبب

1 المصدر السابق: ص38.

2 المسيحية الشرقية السريانية، هي مسيحية الزهد، التي تأثرت بالاتجاه الإشراقي الزهدي.

3 الزخرف: 22-24.

ص: 182

المنافسة في الزعامة والسياسة، والخوف من انهيار حياتهم الاقتصادية!

و"القرآن.. كما يريد جب" أن يقول إذن هو عمل "إنسان": إنسان معين هو "محمد"، عاش في حياة خاصة وهي حياة "المكيين" وتبلورت حايته الخاصة هذه فيما قاله فيه؟

الصورة الثانية:

أما الصورة الثانية للرأي القائل بـ"بشرية القرآن"، وهي أنه تعبير عن الحياة التي وجد فيها "الرسول" وهي حياة ما قبل الإسلام، فيحكيها كتاب1 "الشعر الجاهلي".

ولعل "إهداء" الكتاب وقت نشره، إلى صاحب السلطة الحكومية في ذلك الوقت، يشعر بأن الفكرة التي تروى فيه ليس لها مكان في الجو الإسلامي الخالص، ولذا تحتاج لشيء من حماية السلطة السياسية!

يقول المؤلف في "إهداء" الكتاب:

إلى صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا:

"سيدي صاحب الدولة:

كنت قبل اليوم أكتب في السياسة، وكنت أجد في ذكرك والإشادة بفضلك راحة نفس تحب الحق، ورضا ضمير يحب الوفاء.

وقد انصرفت عن السياسة وفرغت للجماعة، وإذا أنا أراك في مجلسها كما كنت أراك من قبل: قوي الروح، ذكي القلب، بعيد النظر، موفقا في تأييد المصالح العلمية توفيقك في تأييد المصالح العملية السياسية

فهل تأذن لي في أن أقدم إليك هذا الكتاب، مع التحية الخالصة والإجلال العظيم"!

22 مارس سنة 1926 طه حسين.

1 لطه حسين.

ص: 183

قدم المؤلف كتابه: "الشعر الجاهلي"، إلى "صاحب الدولة" رجل الحكم والنفوذ إذ ذاك

على عادة المؤلفين في عهد الركود الفكري في تاريخ التأليف الإسلامي قصدا إلى الترويج والحماية.

والنفس التي تحب الحق في واقع الأمر، تقدم البحث إلى راغبي المعرفة وطلاب العلم، لا إلى رجل السياسة وقت توليه السلطة، إذ إن المحب للحق يحميه الحق، والمحب للسياسة يحميه رجل السياسة! وشتان بين الحق والسياسة.. الحق يكشف عن الخداع، والسياسة تصطنع الخداع؟

فكرة كتاب "الشعر الجاهلي":

يقوم هذا الكتاب على فكرة واحد، هي: أن الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام

أي: لا يمثل الحياة التي عاش فيها الرسول قبل الرسالة، بما لها من جوانب وأجواء، إذ هو شعر مصطنع مفتعل، ولذا لا يعبر عن حقائقها ولا عما دار فيها! فهو في جملته يعبر عن حياة جاهلية فيها غلظة وخشونة، وبعيدة عن التمرس السياسي، والنهضة الاقتصادية، والحياة الدينية الواضحة، مع أن حياة العرب في الجاهلية كانت حياة حضارية، والعرب كما يقول المؤلف1:"لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالا ولا غلاظا، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى.. كذلك يمثلهم القرآن".

"وإذا كانوا أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها مؤثرة فيها -فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية، لا أمة جاهلة همجية! وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن ظهر في أمة جاهلة همجية؟ "2.

ومنطق المؤلف: بما أن الشعر الجاهلي لا يصح أن يكون مرآة صافية للحياة الجاهلية -وهي الحياة التي نشأ فيها الرسول، وقام بدعوته، وكافح من أجل هذه الدعوة فيها- فالشيء الذي يعبر عن هذه الحياة تعبيرا صادقًا،

1 الشعر الجاهلي: ص22، 23.

2 المصدر السابق: ص15.

ص: 184

وموثوقا به كل الثقة، هو القرآن

"فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي".

وإذا رجعنا إلى القرآن -هكذا يستنتج المؤلف- نجده قد صور العرب وحياتهم بما يجعلهم أمة سياسية، تنشد أن تكون "قوة ثالثة" بين الفرس والروم، كما كانت "أمة وسطا" بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، وبذلك كانت مركزا للتجارة "العابرة"

وعن هذا الوضع بين الشمال والجنوب أثرت ونافست في القوة، كما كان لها دين ومعتقد ناهض!

يقول في ذلك:

"لم يكن العرب إذن -كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي- معتزلين! فأنت ترى أن القرآن يصف عنايته بسياسة الفرس والروم: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} 1.. فهذا الذي ذكره القرآن في "سورة الروم"، يراه المؤلف "عناية سياسية"، أكثر منه إخبارًا عن طريق الوحي بمصير الإمبراطورية الرومانية في الشرق!

ويستطرد المؤلف فيقول:

"وهو -أي: القرآن- يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} 2

وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس.

"وسيرة النبي تحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة

ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد؟ وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا الحيرة إلى بلاد الفرس، وبأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر.. فلم يكونوا إذن معتزلين، ولم يكونوا إذن

1 من المصدر السابق: 22، 23.

- والآية من سورة الروم: 1-5.

2 قريش: 1، 2.

ص: 185

بنجوة من تأثير: الفرس، والروم، والحبش، والهند، وغيرهم من الأمم المجاورة لهم!

"أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية في القرآن، أنفع وأجدى من التماسها في هذا الشعر العقيم الذي يسمونه الشعر الجاهلي؟ أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغيير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهليين؟ "1.

ومعنى هذا القول كما يريد المؤلف أن يفهم قارئه: أن القرآن انطباع للحياة القائمة في وقت صاحبه، وهو النبي

وهو يمثل لذلك بيئة خاصة في عقيدتها ولغتها، وعاداتها، واتجاهها في الحياة

وهي البيئة العربية في الجزيرة العربية.

ويقول المؤلف في توضيح هذا المعنى:

"وليس من اليسير: بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب! فلو كان كذلك لما فهموه ولما وعوه، ولا آمن به بعضهم، ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر! وفي القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من وثنية، وفيه رد على اليهود، وفيه رد على النصارى، وفيه رد على الصابئة والمجوس

وهو لا يرد على يهود فلسطين، ولا على نصارى الروم، ومجوس الفرس، وصابئة الجزيرة2 وحدهم

وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها، ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه، وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة!

"أفترى أحدا يحفل بي لو أني أخذت أهاجم "البوذية" أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر؟؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية، وأحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام"3.

1 المصدر السابق: ص22، 23.

2 الجزيرة: هي الدلتا بين دجلة والفرات، وفيها مقر الصابئة.

3 المصدر السابق: 16، 17.

ص: 186

وإذن فالقرآن -بعبارة آخرى- دين محلي، لا إنساني عالمي، قيمته وخطره في هذه المحلية وحدها! قال به صاحبه متأثرا بحياته التي عاشها وعاش فيها، ولذلك يعبر تعبيرا صادقا عن هذه الحياة! أما أنه يمثل غير الحياة العربية أو يرسم هدفا عاما للإنسانية في ذاتها، فيس ذلك بحق!

إنه دين بشري"، وليس وحيا إلهيا.. قاله صاحبه لقوم معينين، ولذلك تجاوبوا معه، أو قاموا ضده! ولو أن صاحبه قاله في جماعة أخرى "لما حفل به أحد" لأن ما يقوله فيه لا يتصل عندئذ بحياة الجماعة الأخرى في قليل أو كثير!

فالقرآن مؤلف، ومؤلفه "نبيه" محمد! ويمتاز تأليفه بأنه يمثل حياة العرب المحدودة في شبه جزيرة العرب، في اتجاهات حياتها المختلفة: السياسة، والاقتصادية، والدينية!.

ومنهج دراسة الحياة الجاهلية للعرب قبل الإسلام دراسة علمية، كان يدور عند صاحب كتاب "الشعر الجاهلي" بين أمرين لا ثالث لهما: بين ما يسمى بالشعر الجاهلي، وبين القرآن.. كلاهما للإنسان، وكلاهما يتحدث عن الحياة العربية الجاهلية، ولكنه استبعد الشعر الجاهلي واختار القرآن لهذه الدراسة؛ لأنه صادق في كونه "انطباعا" دقيقا لهذه الحياة!.

القرآن إذن مصنوع ومؤلف:

وهو مرآة لأفق خاص من الحياة، هو أفق الحياة في شبه الجزيرة العربية، وفي مكة بوجه خاص.

وما في القرآن من عقائد لا يمثل إلا عقائد تلك البيئة

فحديثه عن النصرانية هو: حديث عن نصرانية العرب، دون نصرانية السريان، فضلا عن نصرانية القسطنطينية ونصرانية مصر، أو نصرانية روما! وحديثه عن مودة النصارى- في مقابل موقف اليهود من المسلمين- في قوله:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 1 حديث يرجع إلى أن احتكاك المسلمين بالنصارى كان

1 المائدة: 82.

ص: 187

ضعيفا، على العكس من احتكاكهم باليهود فقد كان قويا.. هكذا يعلل صاحب كتاب "الشعر الجاهلي" على نحو ما يعبر في قوله:

"وأما "يهودية اليهود" فقد ألبت عليه وجاهدته جهادًا عقليا وجدليًا؟ ثم انتهت إلى الحب والقتال!! وأما "نصرانية النصارى" فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية.. لماذا؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية، إنما كانت وثنية في مكة، ويهودية في المدينة.. ولو ظهر النبي في الحيرة أو في نجران، للقي من نصارى هاتين المدينتين ما لقي من مشركي مكة ويهود المدينة"1.

وليست إذن مودة النصارى للمؤمنين قائمة على أن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون كما أخبر القرآن في الآية السابقة؛ وإنما لأن النبي لم يلتق بهم كما التقى بمشركي مكة ويهود المدينة

ولو أنه التقى بهم في مدينة نصرانية لكان وضع هذه الآية غير وضعها الحالي.

ولقد وصل الأمر في نظر صاحب "الشعر الجاهلي" بالنسبة للقرآن، وأنه وحده -لا الشعر الجاهلي- يعبر تعبيرا صادقا عن حياة العرب قبل الإسلام، إلى أن القرآن في نظره لا يعبر عن "الحقائق" التي وقعت في هذه الحياة العربية الجاهلية، بل أيضا عن "الأماني" في هذه الحياة العربية وما يروج بشأنها من قصص.

فكتاب "الشعر الجاهلي" يرى أن فكرة: "العرب المستعربة"، و"العرب العاربة" التي تقوم على التقاء قبيلة "عدنان" في شمالي الجزيرة العربية "في الحجاز" بقبيلة "قحطان" التي تسكن الجنوب "في اليمن" في اللغة العربية وإن كانت في الأولى مصطنعة وطارئة، وفي الثانية طبيعية وأصيلة قصة مصطنعة، تعبر عن "أمل" قريش في قيام وحدة سياسية وكتلة قوية في مواجهة قوتي الفرس والرومان.

وبناء على ذلك تكون قصة إسماعيل بن إبراهيم الذي ينسب إليه العدنانيون قصة خيالية، وكذلك ما يروى من حديث نبوي:"إن أول من تكلم بالعربية ونسي لغة أبيه" وهي اللغة العبرية أو الكلدانية" إسماعيل بن إبراهيم" حديث موضوع.

1 المصدر السابق: ص18.

ص: 188

و"القرآن" أو "محمد" لم يشأ أن يغفل شأن هذه القصة لما لها من أهمية في قريش، وبالتالي لما لها من أهمية في الصراع بينه وبين قريش صاحبة السيادة في العرب، والحريصة على الاحتفاظ بهذه السيادة بعدما قام بدعوته.

يقول المؤلف في ذلك:

"وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح "قبل ظهور الإسلام بقليل"، فقد كانت أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في "مكة" وما حولها، وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البلاد العربية.

"فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية.. وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة، تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة، ودياناتهم في البلاد العربية"1.

ويقول أيضا:

"أمر هذه القصة "قصة إسماعيل" إذن واضح، فهي حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني سياسي! وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي أن يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن، إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأية لغة من اللغات السامية المعروفة، وأن قصة المستعربة والعاربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير، لا حظ له ولا غناء فيه"2.

"وفي الحق إن البحث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها

1 المصدر السابق: ص27، 28.

2 المصدر السابق: ص29.

ص: 189

في شمال هذه البلاد ولدينا نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ، وفي قواعد النحو والتصريف أيضا"1.

وهكذا لا يكون في نظر مؤلف كتاب "الشعر الجاهلي" معبرا عن واقع الحياة الجاهلية فحسب، بل إنه يعبر أيضا عن الأماني التي كانت تدور فيها وتشغل حظا كبيرًا من انتباه القوم، وتجذب وعيهم بالحياة وبالقوة فيها، ولذلك فهو يمثل تلك الحياة أصدق تمثيل.

يقول: فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية، فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس، والنابغة، والأعشى، وزهير؛ لأني لا أثق بما ينسب إليهم! وإنما أسلك إليها طريقا آخر، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته

أدرسها في القرآن: فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي"2.

وتخلص من الموازنة بين كتاب "المذهب المحمدي" وكتاب: "الشعر الجاهلي" إلى ما يلي:

أن كليهما يرى:

- أن الحياة الجاهلية قبل الإسلام، كانت حياة حضارية

كانت حياة حافلة بالكياسة السياسية، والنشاط الاقتصادي، والنهضة الدينية!

- وأن "محمدًا" -أو الإسلام، أو القرآن- استغل المقدسات الدينية في مكة، وفي مقدمتها "البيت الحرام" أول بيت وضع للناس بمكة، والذي قام على عمارته إبراهيم والد إسماعيل! وظاهرة استغلال هذه المقدسات كما يرى كتاب "المذهب المحمدي" هي في أن ثورة محمد أو الإسلام أخذت طابع الدين، دون الطابع الاجتماعي! أما كتاب "الشعر الجاهلي" فيرى هذه الظاهرة في أن محمدا أو الإسلام اضطر إلى قبول قصة إسماعيل وتعلمه العربية اضطرارا مع أنها خرافة أثبتت الحقائق العلمية عدم وقوعها! اضطر إلى ذلك حتى لا يفقد سلاح "المقدسات الدينية" القائمة في مكة وحول مكة في صراعه مع خصومه "المكيين" إذ المكيون أنفسهم كانوا على استعداد نفسي لقبول هذه

1 المصدر السابق: ص25.

2 المصدر السابق: ص15.

ص: 190

القصة، رغبة في الوحدة والتكتل، ليكونوا قوة ثالثة في مواجهة قوتي الفرس والروم!

- وأن "القرآن" لم يكن جديدا كل الجدة على العرب، فما فيه من عقائد كانت تعرفها مكة، وتعرفها العرب في شبه الجزيرة، لكن صاحب كتاب "المذهب المحمدي": يرى أن آية معرفتهم لذلك هي عدم معارضة المكيين له فيما ذكر من عقائد حتى عقيدة الوحدانية، وأرجع معارضتهم إياه إلى المنافسة السياسية والخشية على انهيار اقتصادهم! بينما يرى صاحب كتاب "الشعر الجاهلي": أن آية ذلك هي قبول من قبل منهم ومعارضة من عارض من بينهم. فلو لم يكن القرآن مألوفا لديهم لما عارض من عارض ولا قبل من قبل، ولا حفل به أحد، ولا كان له أي خطر!!

- وأن "دعوة الإسلام" دعوة محلية، في جماعة خاصة، وفي حياة خاصة، ولذا فالقرآن أو الإسلام انطباع واضح لهذه الجماعة الخاصة -في حياتها الخاصة! ويمكن أن يتبع آثار هذه الجماعة الخاصة في حياتها الخاصة- في حياة محمد في جميع أدواره

وهذا ما يصوره صاحب كتاب "المذهب المحمدي" ولهذا السبب يعتبر القرآن تعبيرا صادقا عن هذه الجماعة الخاصة في حياتها الخاصة، حتى عن أمانيها، كما يصوره صاحب كتاب "الشعر الجاهلي"

وإذن فالقرآن محدود القيمة، محدود المكان، محدود الزمان!

ومنطق هذا كله أن القرآن ليس وحيا لرسالة الله، إذ لو كان وحيا من عند الله لكان للناس جميعا، في كل مكان وفي كل جيل! ولو كان وحيا أيضا لرسم خطة جديدة لهداية الناس في عقيدتهم، ولم يكن حاكيا لما كان عليه بعض أفراد الجماعة الإنسانية، ثم إن العرب أنفسهم -قبل الناس الآخرين- لم يكونوا في جهل، ولم يكونوا على ضلال، حتى يحتاجوا لرسالة جديدة تدعو إلى الهداية!

والفرق بعد ذلك بين الكتابين في عرض فكرة "بشرية القرآن" هو:

- أن أحد الكتابين في وصفه للقرآن، وفي وصفه لصلة القرآن بالعرب يقول:

- فيه "أي: القرآن" أخذ من "الوثنية" العربية.

ص: 191

- وفيه أخذ من "المسيحية" العربية.

- وفيه أخذ منه "اليهودية" العربية.

وهذا الكتاب هو كتاب "المذهب المحمدي".

ويهم الاستشراق دائما أن يردد أن القرآن أخذ من المسيحية أو اليهودية، بدلا من أن يذكر أنه رد على المسيحية أو اليهودية!

-بينما الكتاب الثاني، في تحديد هذه الصلة -وهو كتاب "الشعر الجاهلي"- يذكر أن القرآن:

- فيه رد على الوثنية العربية.

- وفيه رد على المسيحية العربية.

- وفيه رد على اليهودية العربية.

وذلك كي يوهم القارئ المسلم أن القرآن لم يلتق مع المسيحية القائمة، ومع اليهودية الموجودة إذ ذاك.

وطالما حدد الكتابان القرآن بالبيئة العربية، فما وراء ذلك من اختلاف لا يحدث فرقا أصيلا بينهما؛ لأن التعبير بأنه "أخذ" من المسيحية واليهودية قصد التمهيد إلى الحكم بأن القرآن لم يكن كله جديدا على العرب، وهذا عين ما قصده التعبير بأنه "رد"! وبيئة الكاتبين هي التي أوحت إلى كل منهما بالاختلاف في التعبير، على نحو ما رأينا!

ولم يكن القصد في الموازنة بين الكتابين في عرض "بشرية القرآن" إلى بيان أن أحدهما أخذ من الثاني.

بل كان القصد أولا وبالذات، إلى توضيح أن كتاب:"الشعر الجاهلي" في العالم العربي يحكى رأي المستشرقين في هذا الجانب.

ذلك الرأي الذي تنوعت أساليبهم في عرضه، والذي يعد مع ذلك هدفا سياسيا في بحوثهم منذ أن نشأ الاستشراق، ومنذ أن اتجه الاستشراق من مبدأ أمره إلى تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، عن طريق إضعاف قيمة الإسلام كدين ورسالة من رسالات السماء!

ص: 192

رأي القرآن في كتابي: المذهب المحمدي"، و"الشعر الجاهلي".

أما القرآن الكريم نفسه فنقرأ فيه قوله تعالى:

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1.

والقرآن في ذلك يفيد ثلاثة أمور:

- أن الله أرسل رسولا أميا يتلو آيات الله.

- وأنه أرسله بالتزكية، والتعليم، والحكمة، لقوم أميين، وكانوا من قبل نزول القرآن في ضلال مبين.

- وأن رسالة هذا الرسول الأمي ليست مقصورة على هؤلاء القوم الضالين، بل تتجاوزهم إلى آخرين بعدهم، لما يلحقوا بهم.

وهذا الذي تفيده الآية الكريمة على هذا النحو يدل على:

- أن العرب خاصة كانوا في مسيس الحاجة إلى الرسالة الإلهية، لما كانوا عليه من ضلال مبين.

- وأنهم لم يكونوا أصحاب حضارة ومعرفة بالصورة التي يصورهم بها الكتابان السابقان.

- وأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة محلية، ولا مقيدة بمكان، أو زمان، أو جيل {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} 2.

والقرآن أيضا يقول:

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} 3.

1 الجمعة: 2-4.

2 الجمعة: 3.

2 النمل: 6.

ص: 193

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 1.

وإذا يقول القرآن هذا

وذاك، ويقول كثيرا غيره، يقرر تقريرا واضحا وحي القرآن، ووضعية الرسول صلى الله عليه وسلم كرسول بعث للناس كافة بهداية واضحة، هي هداية السماء التي أرسل بها من قبله من الرسل.

ولكن هذا الذي يقوله القرآن هنا وفي آيات أخرى، لا يواجه به إلا مسلما غير متردد في إيمانه بالإسلام! أو هو يواجه به من كان صافي الطبع غير مبيت سوء القصد من البشر، وعندئذ يكون القرآن له شفاء وهداية

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ! 2.

أما لو واجهنا بالقرآن غير المسلم، من متعصبي أهل الكتاب، فإنه لا يكون له دليل هداية وإقناع على أن القرآن وحي من الله، وإنما الذي يجب أن يسلك معه مطالبته بتحديد موقفه من "الوحي" كقضية عامة للديانات السماوية الثلاث، وليست قضية الإسلام وحده، فما يقوله الغرب المسيحي باسم العلم تأييدا لوحي عيسى أو موسى يصح أن يقال تأييدا لوحي محمد!. فإذا كان "الوحي"، كأمر غير عادي، يخضع للطريقة العلمية الحديثة، أو لا بد أن يقف عن حد اعتقاد المؤمنين به في كل دين، فكل أنواع "الوحي" سواء في هذا

أو ذاك.

أما الأمر الذي يجب أن ينكره البحث العلمي -بهذا التحديد- فهو أن يناقش نوع من "الوحي" ويتشكك فيه باسم العلم، ثم يصان نوع آخر منه على أنه بديهي التسليم، وبعيد عن مجال الجدل العقلي النظري أو العلمي التجريبي.

ولذا لا نحاول هنا أن نؤيد وحي الرسالة الإسلامية خاصة؛ لأن قضية "الوحي" إذن قضية عامة مشتركة، ما يصلح دليلا عليها هناك يصلح دليلا عليها هنا

فيجب أن تخرج القضية في جملتها عن محل النزاع!

وقديما حاول فلاسفة القرون الوسطى أن يؤيدوا الوحي السماوي بالدليل العقلي

ولكن لم تخرج برهنتهم عن شرح عقلي لوضع الرسول

1 الأنعام: 50.

2 الإسراء: 82.

ص: 194