الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول من الباب الأول «نشأة القراءات»
سأتحدث باذن الله تعالى في هذا الفصل عن عدة قضايا مهمة لها اتصال وثيق «بنشأة القراءات» مثل:
أ- تعريف القراءات ب- هل هناك فرق بين القرآن والقراءات؟
ج- الدليل على نزول القراءات د- بيان المراد من الأحرف السبعة هـ- السبب في تعدد القراءات وفوائد تعدد القراءات ز- متى نشأت القراءات؟
وسأتحدث باذن الله تعالى عن هذه القضايا حسب ترتيبها فأقول وبالله التوفيق:
أولا: تعريف القراءات:
القراءات جمع قراءة، وهي في اللغة مصدر قرأ يقال: قرأ، يقرأ، قراءة، وقرآنا، بمعنى تلا، فهو قارئ.
وفي الاصطلاح: علم بكيفيات اداء كلمات «القرآن الكريم» من تخفيف، وتشديد، واختلاف الفاظ الوحي في الحروف» (1) وذلك ان «القرآن» نقل الينا لفظه، ونصه، كما انزله الله تعالى على نبينا «محمد» صلى الله عليه وسلم، ونقلت الينا كيفية أدائه.
(1) انظر: لمحات في علوم القرآن لمحمد الصباغ ص 107 ط بيروت 1974 م.
كما نطق بها الرسول، وفقا لما علمه «جبريل» عليه السلام، وقد اختلف الرواة الناقلون، فكل منهم يعزو ما يرويه باسناد صحيح الى النبي عليه الصلاة والسلام (1) ثانيا: فان قيل: هل هناك فرق بين القرآن والقراءات؟
أقول: لقد ورد عن «بدر الدين الزركشي» ت 794 هـ (2) ما يفيد أنهما حقيقتان متغايرتان، واليك ما ورد عنه في ذلك:
قال الزركشي: «القرآن، والقراءات» حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على «محمد» صلى الله عليه وسلم للبيان والاعجاز.
والقراءات: هي اختلاف الفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما.
ولا بد من التلقي والمشافهة، لأن القراءات اشياء لا تحكم الا بالسماع، والمشافهة أهـ (3).
تعقيب:
ولكني أرى ان «الزركشي» مع جلالة قدره، قد جانبه الصواب في ذلك وأرى ان كلا من «القرآن، والقراءات» حقيقتان بمعنى واحد.
يتضح ذلك بجلاء من تعريف كل منهما، ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في نزول القراءات.
فسبق ان قلنا: ان القرآن مصدر مرادف للقراءة الخ.
(1) انظر: المقتبس من اللهجات العربية والقرآنية د/ محمد محيسن ص 66 ط القاهرة 1398 م.
(2)
هو: بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، أحد جهابذة العلماء الأثبات، ومن أهل النظر، وأرباب الاجتهاد، وأحد الأعلام في الفقه، والحديث، والتفسير، وأصول الدين، وله عدة مصنفات، ولد بالقاهرة سنة 745 هـ وتوفي بها سنة 794 هـ.
انظر: مقدمة البرهان ص 5 - 13.
(3)
انظر: لمحات في علوم القرآن ص 107 ط بيروت.
اذا فهما حقيقيان بمعنى واحد.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه «عبد الرحمن بن ابي ليلى» ت 83 هـ عن «أبيّ بن كعب» ت 20 هـ: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان عند «أضاة بنى غفار» (1) فأتاه «جبريل» عليه السلام فقال: «ان الله يأمرك ان تقرئ امتك القرآن على حرفين، فقال: اسأل الله معافاته ومغفرته، وان أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال «ان الله يأمرك ان تقرئ امتك القرآن على حرفين، فقال: اسأل الله معافاته ومغفرته، وان أمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاء الثالثة فقال: ان الله يأمرك ان تقرئ امتك القرآن على ثلاثة احرف، فقال: اسأل الله معافاته ومغفرته، وان أمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاء الرابعة قال: ان الله يأمرك ان تقرئ امتك القرآن على سبعة
احرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد اصابوا» أهـ (2)
الى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي سيأتي ذكرها، وكلها تدل دلالة واضحة على أنه لا فرق بين كل من «القرآن، والقراءات» ، اذ كل منهما الوحي المنزل على نبينا «محمد» صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: الدليل على نزول القراءات:
لقد تواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن «القرآن الكريم» انزل على سبعة احرف.
روى ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم اثنان وعشرون صحابيا (3)
(1) قال ياقوت الحموي: الأضاة: الماء المستنقع من سيل أو غيره، وغفار: قبيلة من كنانة، وهو موضع قريب من مكة.
انظر: معجم البلدان ل ياقوت ج 1 ص 280.
(2)
رواه مسلم ج 2 ص 103.
(3)
وهم: عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن ابي طالب، عبد الله بن مسعود، أبي بن كعب، أبو هريرة، معاذ بن جبل، هشام بن حكيم، عمرو بن العاص، عبد الله بن عباس، حذيفة بن اليمان، عبادة بن الصامت، سليمان بن صرد، أبو بكرة الأنصاري، أبو طلحة الأنصاري، أنس بن مالك، سمرة بن جندب، أبو جهيم الأنصاري، عبد الرحمن ابن عبد القاري، المسور بن مخرمة، أم أيوب.
سواء أكان ذلك مباشرة عنه صلى الله عليه وسلم، ام بواسطة.
واليك طرفا من هذه الاحاديث الصحيحة التي تعتبر من الادلة على ان القراءات القرآنية» كلها كلام الله تعالى، لا مدخل للبشر فيها، وكلها منزلة من عند الله تعالى على رسوله «محمد» صلى الله عليه وسلم، ونقلت عنه حتى وصلت الينا دون تحريف او تغيير.
فالله تعالى خص هذه الامة دون سائر الامم السابقة بحفظ كتابها، وتكفل بذلك حيث قال:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (1).
اما الامم المتقدمة فقد وكل الله تعالى اليها حفظ كتبها المنزلة على انبيائهم.
قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ (2) فلما وكل حفظ «التوراة» الى بني اسرائيل دخلها التحريف والتبديل، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (3).
اما «القرآن الكريم» فهو باق إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها، لا يندثر، ولا يتبدل ولا يلتبس بالباطل، ولا يمسه اي تحريف، لما سبق في علمه تعالى ان هذا الكتاب هو الدستور الدائم الذي فيه صلاح البشرية كلها ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (4).
لقد جاء على هذا القرآن زمان كثرت فيه الفرق، وعمت فيه الفتن، واضطربت فيه الأحداث.
(1) سورة الحجر الآية 9.
(2)
سورة المائدة الآية 44.
(3)
سورة البقرة الآية 79.
(4)
سورة البقرة الآية 2.
ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، مما جعل المسلمين المخلصين، وبخاصة العلماء الأتقياء يعملون فكرهم، وأقلامهم لتنقية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل دخيل عليها.
اما «القرآن الكريم» - فنحمد الله تعالى- حيث لم يستطع أحد من اعداء هذا الدين ان يبدل اي نص من نصوصه، او يدخل عليه وسلم اي تحريف او تغيير، بالرغم من حرصهم على ذلك، ولكنهم ما استطاعوا لذلك سبيلا.
الحديث الأول:
عن ابن شهاب ت 124 هـ (1) رضي الله عنه قال: «حدثني عبيد الله بن عبد الله» ت 98 هـ (2) ان «عبد الله بن عباس» ت 68 هـ (3) رضي الله عنهما حدثه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقرأني «جبريل» عليه وسلم السّلام على حرف واحد فراجعته، فلم أزل أستزيده، ويزيدني، حتى انتهى الى سبعة أحرف» أهـ (4)
(1) ابن شهاب هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، أبو بكر الزهري، أول من دون في الحديث، وأحد الفقهاء والأعلام بالمدينة المنورة ت 124 هـ انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان ج 1 ص 571 ط القاهرة وتذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 102 وغاية النهاية لابن الجزري ج 2 ص 262 وتهذيب التهذيب لابن حجر ج 9 ص 445.
(2)
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهلالي، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة، وأحد العلماء التابعين على خلاف ت 98 هـ.
انظر: وفيات الأعيان ج 1 ص 241، وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 74.
(3)
هو: عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل ت 68 هـ.
انظر: الاصابة ج 2 ص 330.
(4)
رواه البخاري ج 6 ص 100 ومسلم ج 2 ص 202.
انظر في هذا: المرشد الوجيز لأبي شامة ت 665 هـ ص 77 ط بيروت 1395 هـ.
الحديث الثاني:
عن «ابن شهاب» ت 124 هـ (1).
قال: اخبرني «عروة بن الزبير» ت 93 هـ (2) ان «المسور بن مخرمة ت
64 هـ (3) وعبد الرحمن بن عبد القارئ ت 80 هـ (4) حدثاه انهما سمعا «عمر بن الخطاب» ت 23 (5) يقول: سمعت «هشام بن حكيم» (6) يقرأ سورة «الفرقان» (7) في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فاذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت اساوره في الصلاة (8) فتصبرت حتى سلم (9) فلببته بردائه (10) فقلت: من اقرأك هذه السورة التي سمعت تقرأ؟
(1) تقدمت ترجمته في الحديث الأول
(2)
هو: عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة، وأحد العلماء التابعين ت 93 هـ على خلاف.
انظر الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 س 178، ووفيات الأعيان ج 1 ص 398.
(3)
هو: المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب القرشى الزهري، صحابي جليل ت 64 هـ.
انظر: الاصابة ج 3 ص 419، وتهذيب ج 10 ص 151.
(4)
هو: عبد الرحمن بن عبد القارئ، من خيرة علماء المدينة، ومن التابعين الأجلاء، ت 80 هـ على خلاف.
انظر: الطبقات الكبرى ج 5 ص 57، وتهذيب التهذيب ج 6 ص 223.
(5)
هو: عمر بن الخطاب بن نفيل، أبو حفص، القرشي، ثاني الخلفاء الراشدين، قتل شهيدا عام 23 هـ.
انظر: غاية النهاية ج 1 ص 591، والاصابة ج 2 ص 518.
(6)
هو هشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد القرشي، أحد الصحابة الفضلاء.
انظر: الاصابة ج 3 ص 60.
(7)
سورة الفرقان من السور المكية وعدد آياتها 77 نزلت بعد يس.
(8)
أي أواثبه، وأقاتله، يقال: ساور فلان فلانا اذا وثب اليه وأخذ برأسه.
(9)
أي تكلفت الصبر، وأمهلته حتى فرغ من صلاته.
(10)
أي جمعت ثيابه عند صدره، ونحره، مأخوذ من اللبة بفتح اللام وهي المنحر.
قال: اقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: اني سمعت هذا يقرأ سورة «الفرقان» على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعمر»:«أرسله» فأرسله «عمر فقال (1) لهشام: «تقرأ يا هشام» فقرأ عليه وسلم القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هكذا انزلت» ، ثم قال: اقرأ
يا عمر. فقرأت القراءة التي أقراني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت. ان هذا القرآن انزل على سبعة احرف فاقرءوا ما تيسر منه» أهـ (2)
. الحديث الثالث:
عن «ابي بن كعب» ت 30 هـ (3).
قال: كنت في المسجد (4) فدخل رجل (5) فصلى، فقرأ قراءة أنكرتها. ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:«ان هذا قرأ قراءة انكرتها عليه» ودخل آخر فقرأ.
وفي رواية: ثم قرأ هذا، سوى قراءة صاحبه، فأقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط فى نفسى من التكذيب ولا اذ كنت فى الجاهلية (6) فما رأى النبي صلّى
(1) أي النبي عليه وسلم الصلاة والسلام.
(2)
رواه البخاري ج 6 ص 100، ومسلم ج 2 ص 202، والترمذي ج 11 ص 61 وأبو داود ج 2 ص 101، انظر: المرشد الوجيز ص 77 - 78
(3)
هو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، أبو المنذر، صحابي جليل من الأنصار، وأحد كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ت 30 هـ.
انظر: صفوة الصفوة لابن الجوزي ج 1 ص 188، والاصابة ج 1 ص 19.
(4)
هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
(5)
لم تذكر الرواية اسم ذلك الرجل.
(6)
أي فوقع في نفسي من التكذيب ما لم يحصل لي في وقت من الأوقات ولا وقت ان كنت في الجاهلية قبل الاسلام.
الله عليه وسلم ما قد غشيني، ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما أنظر الى الله عز وجل فرقا (1) فقال (2):
«يا أبيّ ان ربي ارسل إليّ ان اقرأ «القرآن» على حرف، فرددت اليه ان هون على امتي، فرد الى الثانية: أقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة
رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم أغفر لأمتي، اللهم أغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب الى الخلق كلهم حتى «إبراهيم» صلى الله عليه وسلم أهـ (3).
وفي رواية:
عن «أبي بن كعب» ايضا قال: «فدخلت المسجد فصليت، فقرأت سورة «النحل» (4) ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي، ثم دخل رجل آخر فقرأ خلاف قراءتنا، فدخل في نفسي من الشك والتكذيب اشد مما كان في الجاهلية، فأخذت بأيديهما فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله استقرئ هذين، فقرأ احدهما فقال (5):«أصبت» ثم استقرأ الآخر فقال:
«أحسنت» فدخل قلبي اشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري وقال:«اعاذك الله من الشك وخسأ عنك الشيطان» ففضت عرقا، فقال: أتاني «جبريل» فقال:
اقرأ «القرآن» على حرف واحد فقلت: «ان امتي لا تستطيع ذلك، حتى قال: سبع مرات، فقال لي: اقرأ على سبعة احرف» أهـ (6).
(1) فرقا: بفتح الراء، أي خوفا.
(2)
أي النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
رواه أحمد في مسنده ج 5 ص 127، ومسلم ج 3 ص 203.
(4)
وسورة النحل من السور المكية وعدد آياتها 128 نزلت بعد الكهف.
(5)
أي النبي عليه الصلاة والسلام.
(6)
رواه الطبري ت 310 هـ في تفسيره ج 1 ص 37.
الحديث الرابع:
عن «عبد الرحمن بن ابي ليلى» ت 83 هـ (1) عن «ابي بن كعب» ان النبي صلى الله عليه وسلم كان عند «أضاة بني غفار» (2) فأتاه «جبريل» عليه السلام فقال:
«ان الله يأمرك ان تقرئ امتك «القرآن» على حرف، فقال:
«اسأل الله معافاته ومغفرته، وان أمتي لا تطيق ذلك» .
ثم أتاه الثانية فقال: ان الله تعالى يأمرك ان تقرئ امتك «القرآن» على حرفين، فقال: اسأل الله معافاته، ومغفرته، وان امتي لا تطيق ذلك».
ثم جاء الثالثة فقال: ان الله يأمرك ان تقرئ امتك «القرآن» على سبعة احرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد اصابوا أهـ (3)
وفي رواية الترمذي:
عن «ابي بن كعب» قال: لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم «جبريل» فقال: «يا جبريل اني بعثت الى أمة اميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، قال: «يا محمد ان القرآن انزل على سبعة احرف» أهـ (4)
رابعا: بيان المراد من الأحرف السبعة:
لقد اهتم العلماء قديما وحديثا ببيان المراد من الأحرف السبعة:
(1) هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى بن بلال الأنصاري، من ائمة التابعين.
انظر: وفيات الأعيان ج 1 ص 345، وميزان الاعتدال ج 2 ص 115.
(2)
ياقوت: الأضاة: الماء المستنقع من سيل أو غيره، وغفار: قبيلة من كنانة، وهو موضع قريب من مكة.
انظر: معجم البلدان لياقوت ج 1 ص 280.
(3)
رواه مسلم ج 2 ص 103، وأبو داود ج 2 ص 102، والنسائي ج 2 ص 152.
(4)
رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح انظر في هذا: المرشد الوجيز ص 82.
فمن هؤلاء العلماء:
1 -
ابو عبيد القاسم بن سلام ت 224 هـ في كتابه غريب الحديث.
2 -
ابو جعفر محمد بن جرير الطبري ت 310 هـ في تفسيره المشهور.
3 -
مكي بن ابي طالب ت 437 هـ في كتابه الابانة عن معاني القراءات.
4 -
شهاب الدين عبد الرحمن بن اسماعيل المعروف بأبي شامة ت 665 هـ في كتابه المرشد الوجيز.
5 -
بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ت 794 هـ في كتابه البرهان في علوم القرآن.
6 -
جلال الدين السيوطي ت 911 هـ في كتابه الاتقان في علوم القرآن.
الى غير ذلك من المفسرين، والكتاب عن علوم القرآن الكريم.
ومن يطالع مصنفات هؤلاء العلماء يجد العجب العجاب، حيث ان الكثيرين من هؤلاء المصنفين يجعل كل همه نقل العديد من الآراء حتى ولو كانت غير معزوة الى أحد من العلماء والمفكرين (1).
وهذا ان جاز على السابقين فلا ينبغي ان يتأتى من علماء العصر الحديث، بعد ان اصبحت هناك مناهج علمية لأصول البحث والتصنيف، وهم يعلمون ان كل قول مجهول صاحبه لا يعتد به.
فان قيل: ما هو السبب في الاهتمام بهذه القضية؟
اقول: لعل ذلك يرجع الى اتصالها بالقرآن الكريم، والعلماء قديما وحديثا يهتمون بكل ما له اتصال بكتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومن يقف على الأحاديث الواردة في هذه القضية يجد هاتين الظاهرتين:
الظاهرة الأولى:
لم تتعرض تلك الأحاديث الى بيان ماهية الاختلاف في القراءات القرآنية التي كانت تجعل الصحابة يتخاصمون ويتحاكمون الى النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) لقد بلغت الأقوال التي ذكرها السيوطي في كتابه الاتقان نحو أربعين قولا.
الظاهرة الثانية:
لم يثبت من قريب او بعيد ان «النبي» صلى الله عليه وسلم بين المراد من الأحرف السبعة.
ولعل ذلك يرجع الى عدة عوامل اهمها:
ان ذلك كان معروفا لدى الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين، فلم يحتاجوا الى بيانه، لأنهم لو كانوا في حاجة الى معرفة ذلك لسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فعدم سؤالهم دليل على عدم خفائه عليهم.
ومنذ فترة طويلة وانا مهتم بهذه القضية كما اهتم بها غيري، فطوفت بين ثنايا الكتب والمصنفات ووقفت على العديد مما كتبه السابقون جزاهم الله خيرا، واقتبست من تلك الآراء ارجحها، وتركت ما تكرر منها، وما كان مجهول الأصل، ثم رتبتها ترتيبا زمنيا، وعلقت على ما يستوجب التعليق منها، وفي نهاية المطاف بينت رأيي في هذه القضية الهامة مع بيان سبب ذلك.
وقبل الدخول في بيان تلك الآراء اقول:
لقد اتفق العلماء قديما وحديثا على انه لا يجوز ان يكون المراد بالأحرف السبعة قراءة هؤلاء القراء المشهورين (1) كما يظنه الكثيرون من الذين لا صلة لهم بعلوم «القرآن» لأن هؤلاء القراء السبعة لم يكونوا قد وجدوا اثناء نزول القرآن الكريم.
قال «مكي بن ابي طالب» ت 437 هـ (2):
(1) وهم:
1 -
نافع بن عبد الرحمن أبي نعيم ت 169 هـ.
2 -
عبد الله بن كثير بن عمر بن عبد الله ت 120 هـ.
3 -
أبو عمرو بن العلاء البصري ت 154 هـ.
4 -
عبد الله بن عامر الشامي ت 118 هـ.
5 -
عاصم بن بهدلة أبي النجود ت 127 هـ.
6 -
حمزة بن حبيب الزيات ت 156 هـ.
7 -
علي بن حمزة الكسائي ت 189 هـ.
(2)
هو: مكى بن أبي طالب حموش القيسي الأندلسي، كان اماما في القراءات متبحرا في القراءات متبحرا في علوم القرآن، والعربية، والنحو، له عدة مؤلفات، توفي سنة 437 هـ.
انظر: معجم الأدباء ج 7 ص 173، وبغية الوعاة ص 396.
«فأما من ظن ان قراءة كل واحد من هؤلاء القراء مثل:
«نافع، عاصم، وأبي عمرو بن العلاء» أحد الاحرف السبعة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم فذلك منه غلط عظيم اذ يجب ان يكون ما لم يقرأ به هؤلاء السبعة متروكا» أهـ (1).
والآن اليك ايها القارئ الكريم أقوال العلماء في بيان المراد من الأحرف السبعة حسب ترتيبهم الزمني:
القول الأول:
ورد عن كل من:
1 -
الامام «علي بن ابي طالب» رضي الله عنه ت 40 هـ (2).
2 -
«عبد الله بن عباس» رضي الله عنهما ت 68 هـ (3).
فقد قالا: «نزل القرآن بلغة كل حي من احياء العرب» أهـ ثم قال «ابن عباس» : «ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ الناس بلغة واحدة، فاشتد ذلك عليهم، فنزل «جبريل» فقال: يا «محمد» اقرئ كل قوم بلغتهم» أهـ (4).
تعليق على هذا القول:
قال «ابو شامة» ت 665 هـ (5):
(1) انظر: المرشد الوجيز ص 151.
(2)
هو: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وأول الصبيان دخولا في الاسلام، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومناقبه لا تحصى، قتل شهيدا على يد عبد الرحمن بن ملجم عام 40 هـ.
انظر: الطبقات الكبرى ج 3 ص 19، وتاريخ الخلفاء ص 64، وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 10.
(3)
تقدمت ترجمة عبد الله بن عياش.
(4)
انظر: المرشد الوجيز ص 96
(5)
هو: شهاب الدين عبد الرحمن بن اسماعيل المعروف بأبي شامة المقدسي، كان استاذا وحجة في القراءات وعلوم القرآن، له عدة مصنفات توفي عام 665 هـ.
«هذا هو الحق، لانه انما ابيح ان يقرأ بغير لسان قريش توسعة على العرب، فلا ينبغي ان يوسع على قوم دون قوم، فلا يكلف أحد الا قدر استطاعته، فمن كانت لغته الامالة، او تخفيف الهمز، او الادغام، او ضم ميم الجمع، او صلة هاء الكناية، او نحو ذلك فكيف يكلف غيره؟ أهـ (1).
القول الثاني: رواه كل من:
1 -
محمد بن السائب الكلبي ت 136 هـ (2).
2 -
الأعمش ت 147 هـ (3).
عن «عبد الله بن عباس» رضي الله عنهما ت 68 هـ.
فقد قالا نقلا عن «ابي صالح» مولى «ام هاني بنت ابي طالب» عن «ابن عباس» :
«انزل القرآن على سبعة احرف، منها خمسة بلغة العجز من «هوازن» أهـ (4).
فان قيل: من هم عجز هوازن؟
أقول: قال عالم اللغة والتفسير، والقراءات، والحديث، «ابو عبيد القاسم ابن سلام» ت 224 هـ (5):
العجز من هوازن هم:
(1) انظر: المرشد الوجيز ص 97.
(2)
هو: محمد بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي، الكوفي، كان عالما بالتفسير وأنساب العرب، وأحاديثهم، ولم يعتبره العلماء ثقة في الحديث ت 136 هـ.
انظر: وفيات الأعيان ج 1 ص 624، وتهذيب التهذيب ج 9 ص 178.
(3)
هو: سليمان بن مهران الأسدي بالولاء، كان من علماء القراءات والحديث ت 147 هـ.
انظر: تاريخ بغداد ج 3 ص 9، وتهذيب التهذيب ج 4 ص 222.
(4)
انظر: المرشد الوجيز ص 92.
(5)
هو: القاسم بن سلام أبو عبيد الهروي البغدادي، من كبار العلماء بالعربية، والقراءات، والحديث، والفقه، له عدة مصنفات توفي سنة 224 هـ.
انظر: مراتب النحويين ص 93، وتذكرة الحفاظ ج ص 5.
1 -
سعد بن بكر.
2 -
جشم بن بكر.
3 -
نصر بن معاوية.
4 -
ثقيف.
وهؤلاء هم الذين قال فيهم «ابو عمرو بن العلاء البصري» ت 154 هـ:
«افصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم» (1) القول الثالث:
قال «ابو عبيد القاسم بن سلام» ت 224 هـ:
المراد سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه ان يكون في الحرف الواحد سبعة اوجه، هذا لم نسمع به قط، ولكن نقول: هذه اللغات السبع تفرقة في القرآن، فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه نزل بلغة هوازن.
وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة اهل اليمن، وكذلك سائر اللغات.
ومعانيها في هذا كله واحدة.
ثم قال: ومما يبين ذلك قول «ابن مسعود» رضي الله عنه:
«اني سمعت «القراء» فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم» أهـ (2) وقد وافق «أبا عبيد» في هذا القول كل من:
1 -
احمد بن يحيى ثعلب ت 291 هـ 2 - عبد الحق بن غالب المشهور بابن عطية ت 546.
وتعقب بعض العلماء هذا الرأي بأن لغات العرب اكثر من سبع لغات، واجيب على ذلك بان المراد افصحها (3).
ومع هذا فاني اقول:
مع اعتزازي بأبي عبيد، وثقتي فيه، حيث عشت معه زمنا طويلا اثناء
(1) انظر: المرشد الوجيز، ص 93.
(2)
انظر: المرشد الوجيز ص 91، الاتقان ج 1 ص 135، البرهان للزركشي ج 1 ص 217.
(3)
انظر: الاتقان ج 1 ص 135.
تحضيري للماجستير، ابحث عن تاريخه، وأنقب عن مصنفاته، وأحلل أقواله الخ.
فاني ارى ان رأي «ابي عبيد» هذا مع وجاهته يرد عليه انه هناك العديد من لغات القبائل العربية ورد بها القرآن الكريم.
القول الرابع:
قال «أبو العباس احمد بن واصل» المتوفى أوائل المائة الثالثة هـ (1) معنى ذلك سبعة معان في القراءة:
أحدها: أن يكون الحرف له معنى واحد تختلف فيه قراءتان تخالفان بين نقطة ونقطة مثل «تعلمون» و «يعلمون» (2).
الثاني: أن يكون المعنى واحدا وهو بلفظين مختلفين، مثل قوله تعالى:
«فاسعوا» و «فامضوا» (3).
الثالث: أن تكون القراءتان مختلفتين في اللفظ الا أن المعنيين مفترقان في الموصوف، مثل قوله تعالى: ملك ومالِكِ (4).
الرابع: أن يكون في الحرف لغتان والمعنى واحد، وهجاؤهما واحد، مثل قوله تعالى: الرُّشْدِ والرُّشْدِ (5).
الخامس: أن يكون الحرف مهموزا، وغير مهموز، مثل:«النبيء» و «النبي» (6).
السادس: التثقيل والتخفيف مثل: «الأكل» ، «الأكل» (7).
(1) انظر: غابة النهاية في طبقات القراء ج 1 ص 133.
(2)
نحو: «وما الله بغافل عما تعملون» البقرة/ 74
(3)
سورة الجمعة الآية 9.
(4)
سورة الفاتحة الآية 5.
(5)
سورة الأعراف، والأولى بسكون الشين، والثانية بفتحها.
(6)
الهمز قراءة نافع، وعدم الهمز قراءة باقي القراء.
(7)
سورة الرعد الآية 4 التثقيل ضم الكاف، والتخفيف اسكانها.
السابع: الاثبات والحذف، مثل:«المنادى» و «المناد» (1).
واختار هذا الرأي «أبو علي الأهوازي» ت 446 هـ (2).
وقال: «هذا أقرب الى الصواب ان شاء الله تعالى، ثم قال: وقد روي عن «الامام مالك بن أنس» ت 179 هـ أنه كان ذهب الى هذا المعنى» أهـ (3).
القول الخامس:
قال «القاسم بن ثابت» ت 302 هـ (4).
«لو أن رجلا مثل مثالا يريد به الدلالة على معنى
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»
وجعل الأحرف على مراتب سبعة فقال:
1 -
منها لقريش.
2 -
ومنها لكنانة.
3 -
ومنها لأسد.
4 -
ومنها لهذيل.
5 -
ومنها لتميم.
6 -
ومنها لضبة.
7 -
ومنها لقيس.
لكن قد أوتي على قبائل مضر في مراتب سبعة تستوعب اللغات التي نزل بها «القرآن» (5).
(1) سورة ق الآية 41 واثبات الياء وحذفها قراءتان صحيحتان.
(2)
هو: الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد، أبو علي الأهوازي، مقرئ الشام في عصره، له مصنفات توفي سنة 466 هـ.
انظر: ميزان الاعتدال ج 1 ص 237، ولسان الميزان ج 2 ص 237.
(3)
انظر: المرشد الوجيز ص 117 - 118.
(4)
هو القاسم بن ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف السرقسطي، عالم بالحديث، واللغة، والفقه ت 302 هـ.
انظر: فهرسة ابن خير ص 191، وبغية الوعاة ص 376، ونفح الطيب ج 1 ص 255.
(5)
انظر: المرشد الوجيز ص 131.
ثم قال: وأن في مصر شواذ لا نختارها، ولا نجيز أن يكون «القرآن» قد اتى بها، مثل:
1 -
كشكشة قيس، يجعلون كاف المؤنث شينا (1).
2 -
وعنعنة تميم، يقولون «عن» في موضع «أن» (2).
3 -
وكما ذكر عن بعضهم أنه يبدل السين تاء (3).
ثم يقول: وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما له وجوه سبعة من القراءات، من غير أن نقول: ان هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله: «انزل القرآن على سبعة احرف» أهـ (4).
القول السادس:
قال أبو محمد البغوي ت 510 هـ (5):
اظهر الأقاويل، وأصحها، وأشبهها بظاهر الحديث أن المراد من هذه الحروف اللغات:
وهو أن يقرأ كل قوم من العرب بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم من الادغام، والاظهار، والامالة، والتفخيم، والاشمام، والاتمام، والهمز، والتليين، وغير ذلك من وجوه اللغات الى سبعة أوجه منها في الكلمة الواحدة.
ثم قال: ولا يكون هذا الاختلاف داخلا تحت قوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (6).
اذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء مما يوافق لغته من غير توقيف، بل كل هذه الحروف منصوصة، وكلها، كلام الله عز وجل
(1) فيقولون في نحو: «ربك» «ربش» تحتك، تحتش.
(2)
فيقولون في نحو: «أن يأتي» «عن يأتي» .
(3)
فيقولون في نحو «الناس» «النات» .
(4)
انظر: المرشد الوجيز ص 131 - 133.
(5)
هو: أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، الملقب بمحيي السنة، عالم بالتفسير، والحديث، والفقه، وغير ذلك، وله عدة مصنفات توفي سنة، 510 هـ.
انظر: وفيات الأعيان ج 1 ص 182، وطبقات السبكي ج 4 ص 214.
(6)
سورة النساء الآية 82.
نزل بها الروح الامين على النبي صلى الله عليه وسلم، يدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام: «ان هذا القرآن انزل على سبعة أحرف»
فجعل الأحرف كلها منزلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض جبريل عليه السلام في كل شهر رمضان بما يجتمع عنده من القرآن فيحدث الله فيه ما
شاء، وينسخ ما يشاء، وكان يعرض عليه في كل عرضة وجها من الوجوه التي أباح الله له أن يقرأ «القرآن» به.
وكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الله تعالى «أن يقرأ ويقرئ بجميع ذلك، وهي كلها متفقة المعاني، وإن اختلف بعض حروفها» أهـ (1).
تعليق: اقول: ان هذا القول له وجاهته، وهو قول سديد، وأرى أنه لا اعتراض عليه، وسيأتي لذلك مزيد من الايضاح أهـ.
القول السابع:
قال «أبو الفضل الرازي» ت 606 هـ (2):
الكلام لا يخرج عن سبعة احرف في الاختلاف:
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر.
الثالث: اختلاف وجوه الاعراب.
الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة.
الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير.
السادس: الاختلاف بالابدال.
السابع: اختلاف اللغات: كالفتح، والامالة، والترقيق، والتفخيم، والادغام، والاظهار، ونحو ذلك أهـ (3).
(1) انظر: المرشد الوجير ص 135.
(2)
هو: فخر الدين محمد بن عمر الرازي، صاحب التفسير المشهور بمفاتيح الغيب ت 606 هـ. انظر: وفيات الأعيان ج 1 ص 474.
(3)
انظر: الاتقان ج 1 ص 133، ومع القرآن ص 284.
تعليق: ان هذا الرأي لا جديد فيه، حيث هناك العديد من الآراء القريبة منه، مثل قول كل من:
1 -
أبي العباس احمد بن محمد بن واصل المتوفى أوائل المائة الثالثة (1).
2 -
الحافظ أبي العلاء ت 569 هـ (2).
3 -
أبي علي الأهوازي ت 446 هـ (3).
4 -
أبي غانم المظفر بن احمد بن حمدان ت 333 هـ.
ونقله عنه «أبو بكر محمد بن علي احمد الأذفوي» ت 388 هـ في كتابه الاستغناء في علوم القرآن (4).
القول الثامن:
قال الشيخ أبو الحسن السخاوي ت 643 هـ (5):
فان قيل: أين السبعة الأحرف التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان القرآن انزل عليها في قراءتكم هذه المشهورة؟
اقول: هي متفرقة في القرآن، وجملة ذلك سبعة اوجه:
الأول: كلمتان تقرأ بكل واحدة في موضع الأخرى، نحو «يسيركم، وينشركم» (6).
(1) انظر: المرشد الوجيز ص 117.
(2)
انظر: المرشد الوجيز ص 109 - 110.
(3)
انظر: المرشد الوجيز ص 94.
(4)
انظر: المرشد الوجيز ص 179.
(5)
هو: علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري، أحد علماء القراءات، واللغة، والتفسير، والفقه، له عدة مصنفات توفي سنة 643 هـ.
انظر: انباه الرواة ج 2 ص 311، وطبقات السبكي ج 5 ص 126.
(6)
سورة يونس الآية 22 فقد قرأ «ابن عامر، وأبو جعفر» «ينشركم» بياء مفتوحة وبعدها نون ساكنة، وبعد النون شين معجمة، من النشر ضد الطي، أي يفرقكم. وقرأ الباقون «يسيركم» بياء مضمومة، وبعدها سين مهملة مفتوحة، وبعدها، ياء مكسورة مشددة، من التسيير، أي يحملكم على اليسير، ويمكنكم منه. انظر: المهذب ج 1 ص 294.
الثاني: زيادة كلمة نحو: «هو الغني» (1).
الثالث: زيادة حرف نحو: «من تحتها» (2).
الرابع: مجيء حرف مكان آخر نحو: «ويقول، ونقول» (3).
الخامس: تغيير في الحركات نحو: «فتلقى آدم من ربه كلمات» (4).
السادس: التشديد، والتخفيف، نحو:«تساقط» (5).
السابع: التقديم والتأخير، نحو:«وقاتلوا وقتلوا» (6).
(1) سورة الحديد الآية 24 فقد قرأ «نافع، وابن عامر، وأبو جعفر» بحذف لفظ هو على جعل خبر ان «المغني» وقرأ الباقون باثبات لفظ هو، على انه ضمير فصل.
انظر: المهذب في القراءات العشر ج 2 ص 276.
(2)
سورة التوبة الآية 100 فقد قرأ «ابن كثير» بزيادة «من» قبل «تحتها» موافقة لرسم المصحف المكي، وقرأ الباقون بحذف «من» قبل لرسم بقية المصاحف.
انظر: المهذب في القراءات العشر ج 1 ص 284.
(3)
سورة آل عمران الآية 181 فقد قرأ «حمزة» «ويقول» بياء الغيبة، وقرأ الباقون «ونقول» بنون العظمة.
انظر: المهذب في القراءات العشر ج 1 ص 145.
(4)
سورة البقرة الآية 37 فقد قرأ «ابن كثير بنصب ميم «آدم» ورفع تاء «كلمات» على اسناد الفعل الى كلمات «وايقاعه على «آدم» فكأنه قال: فجاءته كلمات وقرأ الباقون برفع ميم «آدم» ونصب تاء «كلمات» على اسناد الفعل الى آدم وايقاعه على كلمات.
انظر: المستنير في تخريج القراءات ج 1 ص 17 - 18.
(5)
سورة مريم الآية 25 فقد قرأ «حفص» «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف، على أنه مضارع «ساقط» والفاعل ضمير يعود على النخلة، ورطبا مفعول، وقرأ الجمهور «تساقط» بفتح التاء، وتشديد السين، وفتح القاف، على أنه مضارع «تساقط» أدغمت التاء في السين، والفاعل ضمير يعود على النخلة، ورطبا تمييز.
(6)
سورة آل عمران الآية 195 فقد قرأ «حمزة» ، والكسائي، وخلف «وقاتلوا وقتلوا» . وقرأ الباقون «وقتلوا وقاتلوا» .
انظر: المستنير في تخريج القراءات ج 1 ص 124.
انظر رأي السخاوي في المرشد الوجيز ص 123 - 125.
القول التاسع:
قال أبو شامة ت 665 هـ (1):
بعد أن نقل في كتابه (2) الآراء المتعددة التي وردت في هذه القضية الهامة قال: «وهذه الطرق المذكورة في بيان وجوه السبعة الأحرف في هذه القراءات المشهورة كلها ضعيفة، اذ لا دليل على تعيين ما عينه كل واحد منهم.
ومن الممكن تعيين ما لم يعينوا، ثم لم يحصل حصر جميع القراءات.
فيما ذكروه من الضوابط، فما الدليل على ما ذكروه مما دخل في ضابطهم من جملة الأحرف السبعة دون ما لم يدخل في ضابطهم.
وكان أولى من جميع ذلك لو حملت على سبعة أوجه من الأصول المطردة مثل:
1 -
صلة ميم الجمع، وهاء الضمير، وعدم ذلك.
2 -
الادغام، والاظهار.
3 -
المد، والقصر.
4 -
تحقيق الهمز، وتخفيفه.
5 -
الامالة، وتركها.
6 -
الوقف بالسكون، وبالاشارة الى الحركة.
7 -
فتح الياءات، واسكانها، واثباتها، وحذفها (3).
تعقيب: أقول: هذا الرأي من الآراء المبتكرة حيث لم يسبقه أحد الى القول به فيما أعلم، الا أنه لم يف بالغرض المطلوب.
(1) هو: شهاب الدين عبد الرحمن بن اسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي المقدسي، أحد علماء اللغة، والقراءات، والتفسير، وصاحب المصنفات.
(2)
الكتاب: المرشد الوجيز الى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، ولقد استفدت منه كثيرا، أسأل الله أن يثيب مؤلفه ويجزل أجره آمين.
(3)
انظر: المرشد الوجيز ص 127.
القول العاشر:
قال محمد بن الجزري ت 833 هـ (1):
بعد ان نقل في كتابه النشر في القراءات العشر العديد من الآراء التي وردت في بيان المراد من الحديث الشريف قال:
«ولا زلت استشكل هذا الحديث، وأفكر فيه، وامعن النظر منذ نيف وثلاثين سنة، حتى فتح الله علي بما يمكن ان يكون صوابا إن شاء الله:
وذلك اني تتبعت القراءات صحيحها، وشاذها، وضعيفها، ومنكرها فاذا هو يرجع اختلافها الى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها:
الأول: أن يكون الاختلاف في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة، نحو:«يحسب» بفتح السين وكسرها.
الثاني: أن يكون بتغير في المعنى فقط دون التغير في الصورة نحو:
فتلقى آدم من ربه كلمات» (2).
الثالث: أن يكون في الحروف مع التغير في المعنى لا الصورة، نحو:«تبلوا، تتلوا» (3).
الرابع: أن يكون في الحروف مع التغير في الصورة لا المعنى، نحو «الصراط، السراط» (4).
(1) هو: محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن الجزري، كان حجة في القراءات، وله فيها عدة مصنفات في مقدمتها «النشر في القراءات العشر، وغاية النهاية في طبقات القراء.
(2)
سورة البقرة الآية 37 وسبق بيان القراءات التي فيها بالهامش.
(3)
سورة يونس الآية 30 فقد قرأ «حمزة، والكسائي، وخلف» «تتلوا» بتاءين من التلاوة، أي نقرأ كل نفس ما علمته، وقرأ. الباقون «تبلوا» بالتاء المثناة من فوق، والباء الموحدة، من الابتلاء، أي تختبر.
انظر: المهذب في القراءات العشر ج 1 ص 296.
(4)
سورة الفاتحة الآية 6 فقد قرأ «قنبل، ورويس» بالسين على الأصل، لانه مشتق من السرط وهو البلع، لغة عامة العرب. وقرأ الباقون بالصاد الخالصة، وهي لغة قريش.
انظر: المهذب في القراءات العشر ج 1 ص 45.
الخامس: أن يكون في الحروف والصورة نحو: «يأتل، يتأل» (1) السادس: أن يكون في التقديم والتأخير نحو: وقاتلوا وقتلوا» (2) السابع: أن يكون في الزيادة والنقصان نحو: «وأوصى، ووصى» (3) فهذه الأوجه السبعة لا يخرج الخلاف عنها، انتهى ببعض تصرف تعقيب:
مما لا شك فيه أن قول «ابن الجزري» هذا لا يعتبر قولا مبتكرا كما يفهم من كلامه، حيث سبقه بعض العلماء بما هو قريب منه (4).
القول الحادي عشر: للدكتور/ محمد بن محمد بن محمد بن سالم بن محيسن: مؤلف هذا الكتاب
لقد استخلصت الأقوال العشرة التي ذكرتها من بين الآراء الكثيرة التي وقفت عليها بعد ان صرفت النظر عما يلي:
أولا: الآراء ذات الدلالات الواحدة، أو المتقاربة.
ثانيا: الآراء مجهولة الأصل، أي التي لم يذكر المصنفون اصحابها.
ثالثا: الآراء التي لا تتمشى ومنطق العلم والاستنباط الصحيح.
(1) سورة النور الآية 22 قرأ «أبو جعفر» «يتأل» على وزن يتفعل، مضارع «تألى» بمعنى حلف، وقرأ الباقون «يأتل» على وزن «يفتعل» مضارع «ائتلى» من الألية وهي الحلف فالقراءتان بمعنى واحد.
انظر: المهذب في القراءات العشر ج 1 ص 72.
(2)
سورة آل عمران الآية 195 سبق بيان ما فيها من قراءات.
(3)
سورة البقرة الآية 132 فقد قرأ «نافع، وابن عامر، وأبو جعفر» «وأوصى» بهمزة مفتوحة بين الواوين مع تخفيف الصاد، معدى بالهمزة وهي موافقة لرسم المصحف المدني، والشامي، وقرأ الباقون «ووصي» بحذف الهمزة مع تشديد الصاد، معدى بالتضعيف، وهي موافقة لمصحف أهل العراق.
انظر: المستنير في تخريج القراءات ج 1 ص 39.
(4)
انظر: القول الرابع لأبي العباس أحمد بن واصل، والقول السابع لأبي الفضل الرازي، والقول الثامن لأبي الحسن السخاوي.
واذا كان من حق الباحث أن يسلط الأضواء على أقوال السابقين بالنقد والتحليل، فانني أرى أنه ينبغي أن يتم ذلك بأسلوب علمي مبني على الحجة والدليل، وأن يكون بعيدا عن التجريح والتشهير، اذ المتقدم بلا شك له دائما فضل السبق على المتأخر.
وقبل أن أدلي بدلوى في بيان هذه المسألة العلمية أريد أن أسلط الأضواء على بعض الآراء التي ذكرتها.
وكل هدفي من ذلك أن يوفقني الله لما أرجو أن يكون صوابا.
نقد وتحليل: والآن جاء دور النقد والتحليل فأقول وبالله التوفيق:
ان هذا النقد، وهذا التحليل ينبغي أن يكون مبنيا على ما سبق تقريره، وهو أن السبب في تعدد القراءات إرادة التخفيف والتيسير على الأمة لاختلاف لغاتها، وتباين لهجاتها.
اذا فكل تفسير لبيان المراد من الأحرف السبعة يعتبر معقولا، ومقبولا اذا كان متمشيا مع ما سبق تقريره من بيان السبب في تعدد القراءات. وكل تفسير يخرج عن هذا الاطار العام ينبغي رده، وعدم قبوله، واعادة النظر فيه.
بناء على هذا يمكنني أن أقرر وأنا مطمئن ما يلي:
ان هذه الأقوال العشرة يمكنني أن أقسمها الى مجموعتين حيث يوجد تقارب بين كل مجموعة منهما:
المجموعة الأولى: وهي المتضمنة للأقوال الستة الآتية:
1 -
القول الاول المروي عن كل من:
«الامام علي بن أبي طالب» رضي الله عنه ت 40 هـ.
«وعبد الله بن عباس» رضي الله عنهما ت 86 هـ.
2 -
القول الذي رواه كل من:
محمد بن السائب الكلبي ت 146 هـ.
وسليمان بن مهران الأعمش ت 147 هـ.
3 -
القول الثالث المروي عن:
أبي عبيد القاسم بن سلام ت 224 هـ.
4 -
القول الرابع المروي عن:
القاسم بن ثابت ت 302 هـ.
5 -
القول الخامس المروي عن:
أبي محمد البغوي ت 510 هـ.
6 -
القول السادس المروي عن:
أبي شامة شهاب الدين بن عبد الرحمن ت 665 هـ.
هذه الأقوال الستة تعتبر معقولة، ومقبولة، لانها جاءت متمشية مع الاطار العام في سبب نزول القراءات.
المجموعة الثانية: وهي المتضمنة للأقوال الأربعة الآتية:
1 -
القول المروي عن: أبي العباس أحمد بن واصل.
2 -
القول المروي عن: أبي الفضل الرازي ت 606 هـ.
3 -
القول المروي عن: أبي الحسن السخاوي ت 643.
4 -
القول المروي عن: محمد بن الجزري ت 833 هـ.
إن هذه الآراء الأربعة مع احترامي وتقديري لأصحابها لا أدري لم ذهب كل منهم هذا المذهب؟
علما بأن الناظر في هذه الأقوال المتقاربة في مدلولها لا يجد في معظمها شيئا من الأسباب التي من اجلها طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الله تعالى أن يخفف على أمته حتى نزلت القراءات.
وأنا عند ما أقول هذا انما ابني ذلك على أقوالهم.
ولعلك أيها القارئ الكريم تكون معي وتشاركني الرأي عند ما أنقل لك نماذج من الأمثلة التي أوردوها أثناء التدليل على آرائهم:
فمن ذلك ما يلي:
1 -
يعلمون بالغيب، أو تعملون بالخطاب.
2 -
ملك بحذف الألف، أو مالك باثباتها.
3 -
الرشد باسكان الشين، والرشد بفتحها.
4 -
ينادي باثبات الياء، ويناد بحذفها.
هذا لون من الأمثلة التي أوردها «أبو العباس بن واصل» اثناء التمثيل لأنواع التغييرات المرادة في الحديث.
وهذه نماذج لما جاء في قول «أبي الفضل الرازي» :
1 -
لأمانتهم بالأفراد، لأماناتهم بالجمع.
2 -
ننشزها بالزاي، ننشرها بالراء.
3 -
وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت بتقديم كلمة «الحق» على كلمة «الموت» .
واليك نماذج مما أورده الشيخ «أبو الحسن السخاوي» .
1 -
يسيركم، أو ينشركم.
2 -
فتبينوا، أو فتثبتوا.
3 -
تبلو، أو تتلو.
4 -
بما كسبت ايديهم، أو فيما كسبت أيديهم.
وهذه النماذج لما أورده «محمد بن الجزري» :
1 -
يحسب بفتح السين أو كسرها.
2 -
يأتل، أو «يتأل» .
3 -
وأوصى، أو «ووصى» .
4 -
وقاتلوا وقتلوا، أو «وقتلوا وقاتلوا» بالتقديم والتأخير.
اعتقد بعد هذا أنه اصبح جليا ان هذه الآراء الأربعة تعتبر مردودة، وغير مقبولة، لمخالفتها للاطار العام الذي من اجله أنزل الله القرآن على سبعة أحرف، حيث لا يجد أي إنسان صعوبة، ولا مشقة أثناء النطق بمثل هذه الأشياء أهـ.
«رأي» :
والذي أراه في هذه القضية الهامة:
ان المراد من الأحرف السبعة هو: أن «القرآن الكريم» نزل بلغة كل حي من أحياء العرب.
وهذا القول هو الوارد عن كل من:
1 -
الامام علي بن أبي طالب ت 40 هـ رضي الله عنه.
2 -
عبد الله بن عباس ت 68 هـ رضي الله عنه.
فإن قيل: لماذا رجحت هذا القول وأخذت به؟
أقول: من ينعم النظر في هذا القول يجد أنه يندرج تحته العديد من اللهجات العربية المشهورة.
وهذه اللهجات تندرج كلها تحت قولهما:
«نزل بلغة كل حي من أحياء العرب» .
فان قيل: نريد تفصيل هذا الكلام، والاتيان بأمثاله توضح ذلك.
أقول: استجابة لذلك قد خصصت بابا مستقلا في هذا البحث للحديث بالتفصيل عن اللهجات العربية في «القرآن الكريم» .
وإني أرجو أن أكون قد وفقت لتجلية هذا الموضوع الذي طال حوله الخلاف، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
فإن قيل: نريد أن تبين حقيقة اختلاف السبعة الأحرف.
أقول: ان حقيقة اختلاف هذه السبعة الأحرف المنصوص عليها من النبي صلى الله عليه وسلم، اختلاف تنوع، وتغاير، لا اختلاف تضاد، وتناقض، لأن هذا محال أن يكون في كلام الله تعالى، قال الله تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).
خامسا: السبب في تعدد القراءات:
بعد أن قدمت لك أيها القارئ الكريم النصوص الصحيحة التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن «القرآن الكريم» أنزل على سبعة أحرف، وهذه الأحرف
(1) سورة النساء الآية 82.
ممثلة في القراءات التي نقلت الينا نقلا صحيحا، أجد سؤالا يفرض نفسه وهو ما السبب في تعدد القراءات؟
أقول: ان هذا السؤال لا غرابة فيه، بل هو سؤال وجيه يمليه الفكر الذي يحب ان يقف دائما على علة الأشياء، ويحب ان يتعرف على حكمتها كلما تيسر له ذلك.
وان من ينعم النظر في الأحاديث المتقدمة، ويعرف طبيعة الأمة العربية، ذات القبائل المتعددة، واللهجات المتغايرة، يستطيع ان يتوصل من خلال ذلك الى عدة أشياء تعتبر بلا شك سببا موجبا الى أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم الله عز وجل ان ينزل عليه «القرآن» بأكثر من حرف حتى وصل الى سبعة احرف. وانني سأحاول هنا ان اقتبس من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأسباب التي من اجلها أنزل «القرآن» على سبعة احرف.
ولست أدعي أن ما اقوله هو كل هذه الأسباب، بل هو بعضها، والمجال لم يزل مفتوحا امام كل مفكر، وكل ذي عقل سليم.
واخالني استطيع ان اوجز هذه الاسباب. «في إرادة التخفيف والتيسير على الأمة» .
تمشيا مع قول الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (1) يتجلى ذلك من
قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الثالث: «يا أبيّ أن ربي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فرددت اليه ان هون على أمتي» الخ.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية عن «أبي بن كعب» : أتاني «جبريل» فقال: اقرأ «القرآن» على حرف واحد، فقلت:«ان أمتي لا تستطيع ذلك» حتى قال:
(1) سورة القمر الآية 17.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الرابع: «اسأل الله معاناته ومغفرته وان أمتي لا تطيق ذلك»
…
حتى قال له «جبريل» : «أن الله يأمرك ان تقرئ أمتك «القرآن» على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا».
بعد هذا لعلك توافقني أيها القارئ الكريم أن ما قدمته يعتبر سببا مقبولا، ومعقولا، في نزول القرآن على سبعة أحرف.
- والله أعلم- سادسا: فوائد تعدد القراءات:
ان الوقوف على فوائد تعدد القراءات أمر اجتهادي، ولست أدعي أن ما سأذكره هو كل الفوائد، ولكن يكفي أنني فتحت الباب أمام كل باحث لعله يأتي بجديد.
من هذه الفوائد ما يلي:
1 -
ما يكون لبيان حكم شرعي مجمع عليه، مثل قراءة «سعد بن أبي وقاص» رضي الله عنه:«وله أخ أو اخت من أم» (1) فإن هذه القراءة بينت ان المراد بالاخوة هنا الاخوة لأم، وهذا حكم مجمع عليه بين الفقهاء.
2 -
ومنها: ما يكون مرجحا لحكم اختلف فيه كقراءة «أو تحرير رقبة مؤمنة» (2) بزيادة «مؤمنة» (3) في كفارة اليمين قال تعالى:
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ (4).
فكان زيادة لفظ «مؤمنة» في بعض الروايات ترجيح لاشتراط الايمان في الرقبة المعتقة، كما ذهب اليه الشافعي، رحمه الله.
(1) سورة النساء الآية 12، وهذه القراءة شاذة وغير متواترة.
(2)
سورة المائدة الآية 89.
(3)
وهي قراءة شاذة.
(4)
سورة المائدة الآية 89.
3 -
ومنها: ما يكون للجمع بين حكمين مختلفين مثل «يطهرون» بالتخفيف والتشديد، من قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (1).
فقد قرأ «شعبة، وحمزة، والكسائي، وخلف العاشر» «يطهرن» بفتح الطاء، والهاء، مع التشديد فيهما، مضارع «تطهر» اي اغتسل، والأصل «يتطهرون» فأدغمت التاء في
الطاء.
وقرأ الباقون «يطهرن» بسكون الطاء، وضم الهاء مخففة، مضارع «طهر» يقال طهرت المرأة اذا شفيت من الحيض (2).
فالأولى الجمع بين المعنيين، وهو أن الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع دم حيضها، وتطهر بالاغتسال.
4 -
ومنها: ما يكون لأجل اختلاف حكمين شرعيين، كقراءة «وأرجلكم» بالخفض، والنصب، فقد قرأ «نافع، وابن عامر، وحفص، والكسائي، ويعقوب» بنصب اللام، عطفا على «أيديكم» فيكون حكمها الغسل كالوجه.
وقرأ الباقون بخفض اللام، عطفا على «برءوسكم» لفظا ومعنى (3) والخفض
يقتضي فرض المسح، والنصب يقتضي فرض الغسل، وكيفية الجمع بينهما ان يجعل المسح للابس الخف، والغسل لغيره.
5 -
ومنها: ما يكون لايضاح حكم يقتضي الظاهر خلافه، كقراءة «فامضوا الى ذكر الله» (4).
فان قراءة «فاسعوا» (5) يقتضي ظاهرها المشي السريع، وليس كذلك، فكانت القراءة الأخرى موضحة لذلك.
6 -
ومنها: ما في ذلك من عظيم البرهان، وواضح الدلالة، اذ هو مع
(1) سورة البقرة الآية 222.
(2)
انظر: النشر في القراءات العشر ج 2 ص 430.
(3)
انظر: النشر في القراءات العشر ج 3 ص 40.
(4)
سورة الجمعة الآية 9 وهي قراءة شاذة.
(5)
هي القراءة الصحيحة المتواترة.
كثرة هذا الاختلاف، وتنوعه، لم يتطرق اليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض نمط واحد وأسلوب واحد، وما ذاك الا آية بالغة، وبرهان قاطع على صدق جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
7 -
ومنها: إعظام اجور هذه الامة من حيث انهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك، واستنباط الحكم، او الاحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين اسراره، وخفي اشاراته، وانعامهم النظر في الكشف عن التوجيه، والتعليل، والترجيح، والتفصيل، بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل اليه نهاية فهمهم.
8 -
ومنها: ما ادخره الله من المنقبة العظيمة، والنعمة الجليلة، لهذه الأمة من اسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السبب الالهي بسببها.
9 -
ومنها بيان فضل هذه الامة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي، واقبالهم عليه هذا الاقبال، والبحث عن لفظة لفظة، والكشف عن صيغة صيغة، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه،
واتقان تجويده، حتى حموه من خلل التحريف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا، ولا تفخيما ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات.
10 -
ومنها: ظهور سر الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز، فان الله تعالى لم يخل عصرا من العصور، ولو في قطر من الأقطار، من امام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى، واتقان حروفه، ورواياته، وتصحيح وجوهه، وقراءاته (1).
سابعا: متى نشأت القراءات؟
بعد ان وقفنا على الادلة القاطعة، والبراهين الساطعة، التي تثبت ان القراءات القرآنية كلها منزلة من عند الله تعالى على نبيه محمد صلّى الله
(1) انظر: النشر في القراءات العشر ج 1 ص 28 فما بعدها.
عليه وسلم، ولا مجال للعقل ولا للرأي فيها، لأي شخص مهما كان حتى النبي عليه الصلاة والسلام، يرشد الى ذلك قول الله تعالى:
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ* وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ* وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ* وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ* وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (1).
وقوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (2).
فاذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس في مقدوره، ولا في استطاعته ان يبدل، او يغير شيئا من القرآن، فما ظنك بغيره ومن هو دونه منزلة، وفصاحة، وبلاغة.
لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (3).
وبعد ان عرفنا الأسباب التي ادت الى تعدد القراءات، ووقفنا على العديد من الفوائد التي استطعنا ان نقتبسها من اختلاف القراءات.
بعد كل هذا اطرح سؤالا طالما فكرت فيه منذ زمن طويل، ذلك السؤال هو: متى نشأت القراءات؟
او بمعنى آخر: متى نزلت القراءات؟
او بمعنى اخص: متى بدأ نزول القراءات؟
هل بدأ ذلك بمكة المكرمة؟ اي منذ بدء البعثة النبوية وقبل هجرته صلى الله عليه وسلم الى المدينة المنورة؟
أم كان ذلك بعد الهجرة وبالمدينة المنورة؟
وبالبحث عن جواب لهذه التساؤلات وجدت قولين:
(1) سورة الحاقة الآية 41 - 51.
(2)
سورة يونس الآية 15 - 16.
(3)
سورة يونس الآية 64.
القول الأول:
ان القراءات نزلت بمكة المكرمة، ويشهد لذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأني جبريل على حرف واحد فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى الى سبعة احرف» (1).
فهذا الحديث وغيره من الأحاديث الواردة في نشأة القراءات كلها تفيد ان القراءات نزلت بمكة المكرمة منذ بدء نزول «القرآن الكريم» على النبي عليه الصلاة والسلام.
القول الثاني:
يفيد ان القراءات انما نزلت بعد الهجرة وفي المدينة المنورة. واستدل اصحاب هذا الرأي بالأحاديث الواردة في اختلاف الصحابة فيما بينهم بسبب سماعهم قراءات بحروف لم يتلقوها من الرسول عليه الصلاة والسلام وكل ذلك كان بالمدينة لا بمكة.
تعقيب وترجيح:
بعد أن قدمت ما ورد في هذه المسألة أرى ان القول الأول القائل بأن القراءات نزلت بمكة المكرمة هو القول الراجح الذي تطمئن اليه النفس، حيث لا اعتراض عليه، وفيه الأخذ بالأحوط.
اما القول الثاني الذي يقول ان القراءات نزلت بالمدينة المنورة فأرى انه مرجوح، حيث يعترض عليه بأن معظم سور القرآن الكريم وعددها: ثلاث وثمانون سورة نزلت بمكة المكرمة، ومما لا شك فيه انها نزلت بالأحرف السبعة لأنه لم يثبت بسند قوي، ولا ضعيف انها نزلت مرة ثانية بالمدينة المنورة.
فعدم نزولها مرة ثانية دليل على انها عند ما نزلت بمكة المكرمة انما نزلت مشتملة على الأحرف السبعة.
وغير ذلك فالسبب الذي من اجله طلب الرسول صلى الله عليه وسلم التخفيف على أمته حتى نزلت الأحرف السبعة كان موجودا بمكة المكرمة.
- والله أعلم-
(1) رواه البخاري عن عبد الله بن عباس ج 6 ص 100.