الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
173 -
قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(8)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 -
أخرج مسلم وأحمد والنَّسَائِي عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم قال: (وعليكم) قالت عائشة: قلت: بل عليكم السام والذام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لا تكوني فاحشة) فقالت: ما سمعتَ ما قالوا؟ فقال: (أوليس قد رددتُ عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم).
وفي لفظ له ففطنت بهم عاثشة فسبَّتهم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (مه يا عائشة فإن اللَّه لا يحب الفحش والتفحش) وزاد فأنزل الله عز وجل (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) .. إلى آخر الآية.
2 -
أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سام عليك ثم يقولون في أنفسهم: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)
فنزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ .. ).
3 -
أخرج الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهودياً أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: السام عليكم، فرد عليه القوا، فقال نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم:(هل تدرون ما قال هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، سلَّم يا نبي الله. قال:(لا ولكنه قال كذا وكذا، ردوه عليَّ) فردوه فقال: (قلتَ: السام عليكم؟) قال: نعم، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إذا سلَّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلتَ قال: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الأحاديث على تفاوت بينهم في ذكر بعضها أو كلها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) من اليهود (ثُمَّ يَعُودُونَ) فقد نهى الله عز وجل إياهم عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول).
وقوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى، الذين وصف اللَّه جل ثناؤه صفتهم، حيوك بغير التحية التي جعلها اللَّه لك تحية، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار أنهم كانوا يقولون: السام عليك) اهـ.
وقال البغوي: (نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين) اهـ.
وقال ابن العربي: (لا خلاف بين النقلة أن المراد بهم اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون السام عليك) اهـ.
وقال ابن عطية: (هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا فنزلت هذه الآية) اهـ.
وقال ابن كثير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين) اهـ.
وقال السعدي: (هؤلاء المذكورون إما أُناس من المنافقين يظهرون الإيمان ويخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيراً وهم كذبة في ذلك.
وإما أُناس من أهل الكتاب، الذين سلموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقالوا:(السام عليك يا محمد) يعنون: الموت) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وفي قوله: (عَنِ النَّجْوَى) وقوله: (وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) دلالة على أنهم منافقون لا يهود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عبَّاسٍ أنها نزلت في المنافقين).
ثم قال في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ): (لا يليق
حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفاً ولو حمل ضمير (جَاءُوكَ) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر) اهـ. بتصرف.
والراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الآيات نزلت في المنافقين وليست في اليهود.
قال ابن عطية: (وقال ابن عبَّاسٍ هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود) اهـ.
والحجة في هذا ما يلي:
1 -
أن آخر قبائل اليهود نقضاً للعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وكان ذلك في سنة خمس من الهجرة.
وأن سورة المجادلة من أواخر القرآن نزولاً حتى قال ابن عاشور: (وهي السورة المائة وثلاث في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم) اهـ. فإذا كان اليهود جميعاً قد خلت المدينة منهم سنة خمس إما بالقتل أو الإجلاء، وكانت سورة المجادلة قد تأخر نزولها إلى هذا الحد، فكيف يكون الخطاب فيها موجهاً لليهود؟!
2 -
أن سياق الآيات القرآنية يميل إلى المنافقين من وجهين:
الأول: ذكره ابن عاشور بقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم).
وهذا حق فإن الله قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) وهذا يعني أنه قد جرى نهي عن ذلك، واليهود كفار، والكفار لا يخاطبون بفروع الشريعة، فكيف يتوجه لهم الأمر والنهي، والحال ما ذُكر؟.
الثاني: أن اللَّه تعالى تحدث عن المنافقين بالأسلوب نفسه الذي تحدث به عن المتناجين فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وهذه الآية كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا
إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143).
وإذا كان أسلوب الحديث في الآيتين واحدًا فلماذا تكون الأولى في اليهود، والثانية في المنافقين؟
3 -
أن وصف المنافقين بذلك أقرب من وصف اليهود لأنهم يعرفون من أحوال المؤمنين ما لا يعرفه اليهود، ويشاهدون ما لا يشاهدون وذلك بسب القربى وإظهار الإيمان، وإذا كانوا كذلك فهم أقدر على المناجاة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وقد حكى الله عنهم في سورة عُنيت بفضحهم بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان فقال سبحانه:(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، ومعلوم أن اللمز والسخرية بالمؤمنين من الإثم والعدوان ومعصية الرسول. بينما لا أعرف بين دفتي المصحف آية تحدثت عن مناجاة اليهود في العصر النبوي.
وبناءً على ما تقدم يرد سؤالان اثنان:
الأول: ما الجواب عن قول عائشة رضي الله عنها فأنزل اللَّه عز وجل: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ).
فالجواب: أن الآية لما تضمنت التحية وكانت عائشة رضي الله عنها سمعت اليهود يحيونه بالسام ظنت أنها نزلت فيهم فقالت: فأنزل الله. وليس الأمر في الواقع كذلك لأن الحديث عن التحية محدود جدًا في ضمن الحديث عن النجوى، والنهي عنها، وأنها من الشيطان، وأَمْرِ المؤمنين بالتناجي بالبر والتقوى.
فلماذا ينصبُّ الحديث على المحدود ويترك الكثير المبسوط؟ أليس هذا خلاف المعهود؟.
الثاني: إذا كان المراد بالآية المنافقين، فما المراد إذن بقوله:(حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)؟.
فالجواب: ابن عاشور ذكر: (أنهم كانوا يقولون: أنعم صباحًا وهي تحية
العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبون أن يتركوا عوائد الجاهلية) اهـ.
قلت: لو ذكر لهذا دليلاً لَسَلَّمنا أما مع عدم الدليل فلا.
وعندي - واللَّه أعلم - أن قاعدة النفاق الراسخة وجهان ولسانان وحالان باطن وظاهر، والمنافقون دومًا لا يستطيعون الفصل بينهما بل لا يحسنون إلا الجمع بينهما وقد دلَّ على هذا كتاب الله. قال الله تعالى:(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).
وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5). ولك أن تعجب من اجتماع، حسن القول مع العداوة ولَيِّ الرؤوس.
وقال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14).
وقال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57).
وقال تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن المنافقين يحسنون دورين ويلبسون قناعين. وإنما الغرض من عرض الآيات السابقة أن أبين أن منهج المنافقين لا يتفق مع ما ذكره المفسرون هنا في تفسير التحية، وإنما الذي يتفق مع منهجهم هنا أنهم كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وإذا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّوه بأحسن تحية، ثم يقولون لبعضهم:(لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) أي: لِجمعنا بين ضدين صلاح ظاهر، وفساد باطن. واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الأحاديث المذكورة ليست سببًا لنزول الآية لمخالفتها السياق القرآني من عدة وجوه وإنما المراد منها الحديث عن حال المنافقين مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إظهار مودتهم مع ما تنطوي عليه قلوبهم من الحقد الدفين والشر المستطير. واللَّه أعلم.
* * * * *