الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
125 -
قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(11)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب فأنا أُحمل في هودجي وأُنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جَزْع ظَفَار قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه،
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه.
وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم، إنما تأكل العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها دلّ ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَرِيبُنِي في وجعي أني لا أعرف من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول:(كيف تيكم). ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر، حتى خرجت بعدما نقهت، فخرجت معي أم مسطح قبل
المناصع، وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً. قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تعني - سلم ثم قال: (كيف تيكم). فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فواللَّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة، عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا كثرن عليها. قالت: فقلت: سبحان اللَّه، ولقد تحدث الناس بهذا؟
قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فأشار على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود. فقال: يا رسول اللَّه، أهلك وما نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول اللَّه لم يضيق اللَّه عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: (أي بريرة،
هل رأيت من شيء يريبك؟). قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغدر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي).
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همو أن يقتتلوا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا، لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي.
قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا
يوحى إليه في شأني. قالت: فتشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال:(أما بعد، يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللَّه وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى اللَّه تاب اللَّه عليه).
قالت: (فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي، حتى ما أحسن منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما قال: قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت: ما أدري ما أقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قالت: فقلت، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني واللَّه لقد علمت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، واللَّه يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، واللَّه يعلم أني منه بريئة لتصدقني، واللَّه ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ). قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأن اللَّه مبرئي ببراءتي، ولكن واللَّه ما كنت أظن أن اللَّه منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اللَّه فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني اللَّه بها.
قالت: فواللَّه ما رام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي ينزل عليه. قالت: فلما سري عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها:(يا عائشة، أما اللَّه عز وجل فقد برأك). فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: واللَّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، وأنزل اللَّه:
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ) العشر الآيات كلها.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سببًا لنزول الآيات الكريمات كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال ابن عطية: (هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أُنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من أمر الإفك). اهـ.
وقال القرطبي: (وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة - رضوان اللَّه عليها - وهو خبر صحيح مشهور أغنى اشتهاره عن ذكره). اهـ.
وقال ابن كثير: (هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار اللَّه عز وجل لها ولنبيه - صلوات اللَّه وسلامه عليه - فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) اهـ.
وقال السعدي: (وهذه الآيات نزلت في قصة الإفك المشهورة الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد). اهـ.
وقول ابن عطية: (هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية) لا يعارض ما جاء في الحديث وأقوال بعض المفسرين أن ما نزل في شأنها عشر آيات؛ لأن هذه العشر تخص عائشة رضي الله عنها مباشرة، وما زاد يتعلق بأطراف القصة.
* فائدة:
قد أفاد الحديث فائدة جليلة وهي أن طول الأمد بين الواقعة والحدث وبين نزول الآيات لا يمنع السببية، قالت عائشة:(وقد لبث شهراً لا يُوحى إليه في شأني) ومع هذا فقد أجمع المفسرون على أن واقعة الإفك هي سبب نزول هذه الآيات.
* النتيجة:
أن هذا الحديث سبب لنزول الآيات لصحة سنده وموافقته لسياق القرآن وإجماع المفسرين على ذلك.
* * * * *