الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
الجزائر
تسكن الجزائر طبقات مختلفة من الناس، وكان سكانها في الأصل من العرب الذين فروا من إسبانيا عندما كان الإسبانيون يستعملون مضيق جبل طارق لاقتراف جريمة الإغراق إلى درجة أن عدد الضحايا بلغ ثلاثة ملايين نسمة. وفي ذلك الحين جاء الأتراك لنجدتهم، ولقد عرفنا التاريخ بهذه الفترة المشؤومة حق المعرفة. وإذن، فإن جزءا كبيرا من سكان مدينة الجزائر مكون من العرب والأتراك. والأطفال الذين يولدون نتيجة الزواج بين هذين الصنفين يسمون الكراغلة. ويسكن المدينة، أيضا، أعراب وقبائل لهم نفس عادات ونفس حضارة العرب والأتراك. وإن مر الزمن قد أتى على الأصول الأولى وأصبح جميع الذين يسكنون مدينة الجزائر اليوم يسمون جزائريين.
ولهؤلاء السكان صفات خاصة وأخرى عامة، وإن المناخ لذو تأثير كبير على طبيعة الإنسان. وعلى العموم، فإن سكان هذه المدينة شجعان واجتماعيون وأوفياء للعهود وكرماء وبسطاء في نمط حياتهم ونظيفون في منازلهم، وصناعيون
وتجار. وإذا وضعوا ثقتهم في شخص فللأبد، وكذلك إذا خدعوا فإنهم سيحذرون إلى الأبد الشخص الذي خدعهم. إن معظم مبايعتهم يتم بدون عقد وبدون شهادة، وبكل أمانة ينفذون جميع التزاماتهم.
عندما تقع أفراح الزواج أو عندما تكون هناك أعياد عائلية، فإن هؤلاء السكان يستلفون من بعضهم حليا وجواهر ثمينة يفوق سعرها في بعض الأحيان عشرة أو خمسة عشر ألف فرنك. وكل شيء في هذه الظروف، يرتكز على الثقة ولا يشترط أي دليل لإثبات الدائنية. ولقد يوثق بامرأة عجوز إذا كانت معروفة حتى ولو كانت فقيرة. وإننا لا نذكر أن مشكلا قد وقع من جراء ذلك. ولقد جرت العادة كذلك أن بعض الأسر الغنية (التي نفي مغظمها من الجزائر نتيجة الحكم الفرنسي الجائر) تشتري جواهر وحليا فاخرة تعار للأيتام عند زواجهم وللفقراء الذين لا يستطيعون الحصول عليها. وتعتبر الأسر هذا التصرف كعمل من الأعمال الخيرية ونحن نعتقد أن الخير لا يتم فقط بواسطة التصدق على الفقراء، وإعطاء فرنك أو ألف فرنك لشخص معين، ولكن الخير يكون كذلك في كل ما يفرح الجار ويحدث في نفسه شعورا بالغبطة والسرور. وهكذا، فإن هذه الحلي مخصصة فقط للاستعمال المحلي كما فصلنا ذلك أعلاه، ومن ثمة، فإن قيمتها تشكل نوعا من الرأسمال الجامد. إن الجزائريين مسالمون بالطبع، ويخضعون للسلطة حتى ولو جارت.
وإن المحنة التي سلطها عليهم الفرنسيون لخير دليل على ذلك، إذ ما أكثر الآلام التي تعرضوا لها من طرف السادة الحكام ابتداء من بورمون (1) نفسه إلى
(1) هو قائد الحملة الفرنسية. ولد سنة 1773 وتوفي سنة 1846. كان من جنرالات الامبراطورية ثم انضم إلى لويس الثامن عشر. هو الذي وقع على ثيقة الاستسلام وأول من نكث العهد الذي عقده مع الجزائريين باسم الأمة الفرنسية.
هذا الذي يحكم الجزائر اليوم (2)، إلا أنه يجب أن نستثني الجنرال بارتوزين.
إن الجزائريين صريحون وصادقون، لا يعرفون الحقد والبغضاء، وهم كرماء في أعمالهم، يحترمون الجيران كما لو كانوا أقرباء. وعلى الرغم من أن النساء عند المسلمين يحجبن عن الرجال الأباعد، فإن الأسر التي تنتمي إلى الطبقة الفقيرة والتي لا تستطيع أن تسكن وحدها، تجتمع في دار مشتركة على أن يخصص مسكن لكل عائلة، ويبقى الرجال في معزل عن النساء.
إن الهندسة المعمارية الشرقية وتقسيم المنازل المحيل يختلفان كل الاختلاف، عما تعود عليه أهل فرنسا - وعلى العموم، فإن الأمن يسود المدينة، وليس في استطاعة الرجال، حتى ولو كانوا أشرارا، أن ينالوا من التقاليد لأن ذلك يكون بهتانا وتدنيسا. وإذا كانت هذه هي الخاصية العامة، فإن هناك بعض الاستثناءات، وهناك، أيضا، أشخاص لهم نوع من الفلسفة يخيل إليهم أنها متصلة بالدين، ومفادها أنهم يبذرون أموالهم دون التفكير في المستقبل. غير أن الدين أو القانون لا يتدخلان في مثل هذه الأمور. وإنما يحث الدين على اكتساب المال الحلال وعلى عمل الخير بقدر المستطاع. وبما أن عمل الخير لا يتأتى إلا بالثروة ; فإنه يحث، بالتالي، على النشاط والحركة.
ويوجد لدى الجزائريين من المحاسن ما يجلب الانتباه، إنهم أوفياء لا يعرفون سرقة ولا خيانة ولا قتلا ولا أي نوع من أنواع الجريمة. وعلى العموم فهم رجال شرف لا يخلون بعهودهم أبدا. وعلى الرغم من أنهم بنو وطني،
(2) هو المارشال كلوزيل الذي سيجد القارىء، عنه كلاما وافيا في عدة فصول من الكتاب الثاني.
فإنني أعترف لهم بهذه الخلال الحميدة. وقد يتمكن الفرنسيون من مناقضتي، لكنه لن يكون في وسعهم إلا الثناء على الجزائريين، في حين أن الفرنسيين لم ينجزوا الجزء المئوي مما وعدوا به في بياناتهم ومعاهداتهم. إن معظم الفرنسيين لم يؤدوا حتى واجباتهم الاجتماعية - التي تسمى بالحقوق العمومية - إزاء أمثالهم من البشر وبصفتهم ينتمون إلى أمة متحضرة. وعندما وطأت أقدامهم أرض الجزائر، نسي الفرنسيون جميع قواعد الأدب والأمانة، بينما لم يطرأ أي تغيير على الجزائريين الذين استسلموا استسلاما كليا لمصيرهم البائس حتى أن السيد كلوزيل وصف هذا الاستسلام بالقدرية الشرقية.
إن الفرنسيين يتركون أبواب منازلهم مفتوحة طوال الليل ويجوبون الشوارع في الظلام وبدون سلاح، ومع ذلك لم نسمع أنهم تعرضوا لمكروه أو لشيء مما كان يقوم به ضدهم الإيطاليون والإسبانيون وغيرهم من سكان البلدان التي حملوا إليها الحرب. أما في الجزائر، وعلى الرغم من هذا الظلم، فإن الفرنسيين لا يشكون من السكان ظلما ناتجا عن التعصب أو الاختلاف في الدين، لأن قوام ديننا أخلاق فاضلة فقط، وأساس شريعتنا مبادىء حقوق الإنسان، والجزائريون يطبقون هذه المبادىء. أما من حيث الطاقات الفكرية، فإن خيال الجزائريين خصب، وأفكارهم منظمة. إنهم يدركون الأمور بكيفية عجيبة ولا يصعب عليهم أي عمل يدوي كان أم آلي، أوله علاقة بالعبقرية. إنهم يصنعون مختلف الأقمشة الحريرية والمحازم، يصدرونها إلى مملكة المغرب وتونس وطرابلس وكامل أنحاء آسيا. ولهم كذلك معامل تصنع الألبسة المطروزة بالحرير التي تنال إعجاب
الشرقيين وغيرهم من سكان الدول الأخرى. وبالنسبة لمعظم هذه الحرف، فإن مدية الجزائر هي التي تزود تونس وغيرها من المدن بالعمال.
إن الجزائريين يعتنون كذلك بالعلوم والآداب، ففيهم الشعراء والأدباء وأساتذة التاريخ والمشرعون.
ومن حيث التكوين الجسدي، فإن أجسام الجرائريين رشيقة، ذلك أن امتزاج العنصر الترر بالعنصر الأندلسي قد أنتج عنصرا مختلطا من النوع الرفيع. الأمر الذي جعلنا لا نجد في مدينة الجزائر رجالا من ذوي العاهات أو المصابين بالأراض المزمنة مثل النفرس وغيره، كما لا نجد فيها تلك الأمراض الكريهة أو أمراض الجلد، ومرض الزهري لم يعرف إلا حديثا ويسمى (باريس) ويعالج بحمية من أصعب ما يكون ولكن المريض يشفى شفاء كاملا في ظرف شهرين.