الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
عن تفاصيل دخول المارشال بورمون إلى الجزائر
لقد قام كثير من الضباط الفرنسيين بوصف الظروف التي غادر فيها الداي وحاشيته القصبة، وغذ أوردوا ذلك في مؤلفاتهم، فإنهم كفوني مشقة وصف تلك الاحتفالات، وسوف لن أهتم إلا بالخاصيات التي وقعت، والتي ألمت.
عندما غادر القصبة، لم يمس حسين باشا أي شيء مما هو تابع للخزينة العامة ولم يسمح لأحد بأن يفعل دلك. لقد كان يرى نفسه مسؤولا حسب شروط الاستسلام عن كل ما يمكن امتلاكه. وبذلك لم يؤخذ أي شيء من كنوز الجزائر، واستطاعت فرنسا أن نتسلمها كاملة.
كان يوجد من القصبة صندوق مستفل يشتمل على حوالي 20،000 فرنك أداء النفقات اليومية التافهة، وكان صاحب هذا الصندوق يقيم حسابا جاريا كما سنرى ذلك فيما بعد. أن هذا المبلغ قد ضاع، على حد ما يقال، ولا ندري من الذي أخذه. أما المحفوظات حيث كانت الدفاتر والسجلات مودعة فإنها ظلت محترمة. وكان هناك مكان توجد فيه ورقات طائرة عليها
معلومات معدة لتيجيل في الدفاتر اليومية وفي دفتر المقطاجي كما بينا ذلك أعلاه. ولقد أخذت هذه الأوراق وشتتت. ومن الممكن أن الفرنسيين الذين أخذوها كانوا يظنون بأنها تشتمل على معلومات ذات قيمة؛ بينما لم تكن لها، في الحقيقة أية أهمية. وهكذا، ضاعت الأوراق على الأرض، ولقد مشيت بنفسي على بعضها في حي القصبة. لقد كانت هناك، في ذلك الحين، فوضى وعدم نظام لا مثيل لهما.
كان قنصل السويد يملك ويسكن دارا للاستحمام. وكان ذلك المسكن محلى ومجهز بأفخر الأثاث وأواني الفضة وغيرها من الأشياء الثمينة. وعندما وصل الجنرال بورمون إلى أبي زريعة (1) طلب منه أن يخلي الدار ليفتح حيطانها على حد قوله، ويتمكن من مهاجمة حصن الأمبراطور. وبعد أن تشاور مع زملائه في هذا الشأن خضع القنصل لرغبة الجنرال، ولكنه حمله مسؤولية الخسائر التي قد تحدث من جراء هذا العمل العسكري. وقبل أن يخرج من داره؛ أخذ كل حذره، فجمع في بيت مستقل جميع الأشياء الثمينة ثم سد الأبواب. وعلى الرغم من هذه الاحتياطات، فقد أخذ كل شيء، وقطعت الأشجار، وقع تخريب لا مثيل له في جناحه. وظن القنصل المذكور أن من حقه أن يتقدم بطلب للمرشال بورمون قصد الحصول على قيمة الخسائر التي لحقت به ولما لم يتصل بأي جواب، اشتكى لحكومته التي أمرته بأن يتوجه إلى الحكومة الفرنسية، ولا أدري أين أصبحت القضية، وكل ما أستطيع قوله هو أن هذا القنصل كان رجلا فاضلا ونزيها، ويبدو أن ثروته كلها كانت مخزونة في جنان المسكن.
(1) هو الحي الذي ما زال يعرف بهذا الاسم، ويقع في غربي مدينة الجزائر.
إن الجنرال بورمون لم يجب لا دعوات الخواص ولا طلبات من كانت لهم ديون في ذمة الدولة. ومع ذلك فإن الحق العام المعمول به في جميع البلدان يحتم على كل حكومة أو من يخلفها أن تدفع ديونها كما أنه يسمح لها بمطالبة المدينين بما لها عليهم. إن حكومة العودة (2) قد دفعت ديون الإمبرطورية، كما أن الإمبراطورية وحكومة جوليت (3) قد دفعت كل منهما ديون الحكومات السابقة. إن الدولة هي الأمة، فهي لا تتغير لأنها راسخة في الأرض، ولذلك فإن ديونها مقدسة.
لقد طلبت بنفسي من بورمون أن يسدد لي قيمة كمية من الورق كان الداي قد أخذها مني لصناعة الخرتوش عندعا كان الجيش الفرنسي في سطاولي. وتقدر هذه القيمة بحوالي عشرة آلاف فرنك. ولكن المارشال بورمون لم يتفضل حتى بإجابتي. وكررت هذا الطلب لدى السيد كلوزيل (4) فسلك مسلك
(2) تطلق العودة على الفترة التي تلي الامبراطورية الأولى، والمقصود بها هي عودة أسرة البورمون إلى الحكم. وهناك عودة أولى وعودة ثانية تفصل بينهما حوادث المائة يوم الشهيرة.
(3)
هي ثورة ثلاثين جوليت 1830 التي قامت بها جماعة المتحررين والتي قضت على أسرة البوربون وجاءت إلى الحكم بالدوق دورليان الذي سيصبح، بعد ذلك، لويس فيليب.
(4)
ولد كلوزيل سنة 1772، وتوفي بعد ذلك بسبعين سنة. ساهم في إعداد وإنجاح ثورة جوليت التي منحته قيادة الجيش الفرنسي في الجزائر ابتداء من شهر أوت 1830. ثم خشيه لويس فيليب فاستدعاه في شهر فيفري سنة 1831.وبعد اندلاع الثورة بعام واحد حصل على رتبة مارشال فرنسا. وعاد لقيادة الجيش في الجزائر يوم 8 جوليت 1835، فارتكب أبشع الجرائم. وعندما استبدل بدامرمان، يوم 12 فيفري 1837، التحق بمجلس النواب الفرنسي حيث أراد أن يبرر سلوكه، ويثبت نزاهته وعدم صحة الاتهامات الموجهة إليه.
سابقه وأخيرا دعمت طلبي بوصل من الترجمان، وشهادة جماعة أعضاء البلاط مثل وكيل الحرج والسائجي، ومع ذلك فإنني لم أحصل على المبلغ الذي يمثل قيمة تلك المادة. ولقد سمعت أن فوجرو، المالي المستبد، المتدكتر على حقوق الغير، قد أشار على الحاكم بأن لا يدفع أي دين من ديون الدولة لأنه لو فتح هذا الباب ستتكاثر الطلبات التي يجب إرضاؤها.
إن للسادة المسيرين مبادىء واسعة، وتتمطط إلى درجة أنهم يغيرونها كيفما شاؤوا. ولنرجع إلى أحداثنا دون مقارنة ولا تعليق لأن مؤلفنا سيطول لو فعلنا ذلك. إننا نقدمه محدودا في هذا الإطار، إلى عقول القراء وقوة تمييزهم دون أن ندخل، بأنفسنا، في تفاصيل الملاحظات التي يمكن القيام بها فيما يخص كثيرا من الموضوعات.
عندما وجد الجنرال بورمون نفسه في القصبة وسط كنوز هامة كما لا يخفى على أحد، فإن جماعة من الحاضرين قد تكون، على ما يقال، أوردت نوادر مختلفة تتعلق بتلك المناسبة، ومفادها أن رئيس الجيش هذا لم ينج من بعض الأطماع وكذلك كثير من ضباطه المقربين. غير أن هذه ليست إلا إشاعات يؤمن بها الجميع، ولكن لا يريد أحد أن يشهد بها.
لقد جرت العادة أن يعطي صائدو المرجان، سنويا، للدولة خمسة أرطال من النع الرفيع. وكان ذلك المرجان يجمع ثم يباع فيشكل جزءا من موارد الإيالة. وبعد دخول الفرنسيين جاءني أحد اليهود، وطلب مني أن أبعث، باسمي، إلى ليفورنة (5) عددا من صناديق المرجان. ولما كنت أجهل الطريقة
(5) ميناء تجاري هام في إيطاليا الجنوبية. كانت الجزائر تقيم معه علاقات متينة عن طريق محلات بكري وبوجناح خاصة.
التي كسبه بها، اشترطت عليه - قبل أن ألبي رغبته - بيانا يثبت بأن المرجان الموسوق ملك له حتى أكون في مأمن مما قد يقع. ولقد أجدت فعلا إذ اتخذت هذه الاحتياطات لأن السيد فوجرو، عندما اكتشف إرسال هذا المرجان، طلب مني بعض التوضيحات، فقدت له بيان اليهودي، وبعد ذلك لم أسمع شيئا عن هذه القضية، اللهم إلا أن الظواهر تدل على أنها سويت بالتراضي بين اليهودي والمالي الفرنسي.
لقد تعود خالي، أمين الشركة، على غرار سابقيه أن يأخذ من الخزينة كميات موزونة من الفضة لتصنع منها النقود، وكانت تلك الفضة في صندوق بدار العملة تحت تصرف يهودي كان هو أمين صندوقه، يقدم له حسابات كل ما يدخل وما يخرج من هذه المادة. وكان ذلك الأمين مكلفا، أيضا، بصندوق آخر فيه مادة الذهب المعدة لصنع النقود. ومفتاح هذا الصندوق الأخير يوجد عند نفس الأمين الذي كان يدفع إلى الخزينة قطع النقود مقابل بعض المواد الأخرى وهكذا دواليك. ولقد كانت حسابات أمين السكة جاهزة على الدوام.
وكان باستطاعة أمين السكة، كذلك أن يشتري الأشياء الذهبية القديمة من مختلف الأشخاص والهيئات فيودعها في الخزينة التي تأخذ القيمة بعين الاعتبار (6).
وفي العهد الأخير لحكومة الأتراك، كان لهذا الأمين في صندوقه حوالي
(6) تقابل هذه الوظيفة في وقتنا الحاضر وظيفة مدير البنك المركزي.
ستين رطلا من الذهب اشتراها بنفسه ليودعها في الخزينة ويأخذ مقابلها مالا وكان في الصندوق، أيضا، عشرة أرطال من ذهب الخزينة.
وأثناء قنبلة المدينة، وبما أنه كان من الممكن أن تهدم القنابل دار العملة، فإنه نقل ذلك الصندوق إلى مكان أمين ووضعه تحت سلم متين في نفس المحل.
وفي صندوق الفضة، كان هناك حوالي عشرة قناطير من تلك المادة تم صنعها وأصبحت جاهزة لتسك نقودا. وكان مفتاح الصندوق عند أمينها كما سبق أن أشرنا إلى ذلك أعلاه، ولكن عندما غادر الداي القصبة، تخلى أمين السكة، كذلك، عن منصبه.
وعندما دخل الجنرال بورمون، استدعى خالي بواسطة السيد بكري الذي كان إذاك بمثابة خادم لذلك القائد. وبعد ذلك بثلاثة أو أربعة أيام دعانا السيد دوبرمون - خالي وأنا - للمثول بين يديه فتوجهنا إلى القصبة، ولكن بدلا من أن يستقبلنا الجنرال، أحالنا على السيد دوني بكيفية غير لائقة. لقد علمت فيما بعد أننا إنما استدعينا بنصيحة من بعضى المناورين الذين كانوا يحيطون بالجنرال. ولما طلب السيد دوني من خالي أن يخبره بما بقي عنده من أموال الخزينة، أجابه قائلا:(عندي عشرة أرطال من الذهب وحوالي خمسة قناطير من الفضة). من الممكن أن السيد دوني قد وجد ذلك مطابقا لكتابات الدفاتر. (أما عن الستين رطلا من الذهب التي اشتريتها. فإنها لي، لأنني لم أحصل على مقابلها، وهي موجودة في دار العملة، الخ
…
) وتوقف الحديث عندما حضر السيد دوفال والسيد دوبينيوز (7) الذي كان معه على ما أعتقد.
(7) كان في السابق رئيس شرطة نابليون، وقد عاد إلى نشاطه بعد ثورة جوليت 1830.
سلم السيد دوني إلى خالي مفتاح دار العملة وأذن له أن يذهب إليها صحبة أحد الضباط ليأخد ماله ويترك ما هو للخزينة. وعندما وصلنا إلى الدار وجدنا الأبواب مكسرة وصندوق الفضة محطما بينما لم نجد شيئا تحت السلم؛ ومعنى ذلك أن صندوق الذهب قد ضاع. عندئذ رجعنا إلى السيد دوني وأعلمناه بما جرى فأجاب: (إذن ذلك من عمل الجنود؛ ولكنني الآن، مشغول جدا، تشدني أمور جسيمة، وسأتولى التحقيق في ذلك فيما بعد، فاذهبا).
في نهاية هذا المجلد سأتكلم عن كل ما له علاقة بخالي وعن طلبه الخاص بذهبه الذي يقدر بستين رطلا، والذي نهبه الأجناد. وحتى الآن، فإنه لم يحصل على أي شيء بهذا الصدد. أما عن الفضة المصنوعة والجاهزة لأن تسك، فإنها كانت بين أيدي الجنود، وقد اشتراها الصرافون بأسعار بخسة.
وعندما غادر الداي القصبة ليكن داره الخاصة؛ وقعت أعمال نهب متنوعة لن أتكلم إلا بما سمعته عنها، لأنني لم أشاهد أي عمل منها.
لقد كان المارشال بورمون يقول للسكان ويوهمهم بأن الجيش الفرنسي لن يبقى في الجزائر أكثر من ستة أشهر، وكان يقول أن تلك هي نية الحكومة، وعندما يشرع في الجلاء؛ فإنني أترك البلاد بين أيدي أعيانها وتحت تصرفهم، وكان يقول كذلك أن الجزائر كانت من ممتلكات الباب العالي.
وبعد هذا البيان الذي كان يبدو إيجابيا، فإن كثيرا من السكان الذين كانوا يطمحون في الوصول إلى الحكم وفي أن يكونوا من جملة أولئك الذين سيسيرون الحكومة الجزائرية عحا قريب، قد أحاطوا بالمارشال وكونوا حاشية ملازمة له، وناوروا ليبعدوا عن ذلك القائد كل من كانت له كفاءة ومقدرة،
وكل من كان يمكن أن تكون نصائحه مفيدة لصالح سكان المدينة والإيالة.
إن الهدف من هذه النشرة هو الكشف عن التجاوزات التي وقعت في الجزائر، والأخبار بأن انقسام سكان هذه المدينة، قد أضر كثيرا بمصالح الجميع، وأن جميع الأهواء المؤدية إلى التفكك، مثل الغيرة والطمع والحقد قد انتشرت، وكانت سببا في نفي بعض الأعيان وإخلاء المدينة، إن الشر هو المسيطر، والويل للمغلوبين ولقد كان الخلاف سائدا بين السكان وكل الأشخاص الذين استهوتهم تلك الغاية قد تقربوا من المارشال بورمون وأظهروا له إخلاصا لا حدود له لمواصلة مشاريعهم الجنونية آملين أنهم سيخلفون الفرنسيين فيما بعد.
ولكن، لقد مضت أكثر من ثلاث سنوات وهؤلاء ما يزالون يحكمون، وما نشاهده من سيرة هؤلاء السادة يجسم تماما تلك المساوىء المشتركة عند الناس أي حب الذات والأنانية، والضعف والعمى والكبرياء ليس هذا هو الوقت الذي تثار فيه الأحقاد بمثل هذه الدنايا والتفاصيل الشخصية، ولذلك، فإنني أفضل تعميم الأحداث لأقترب، بذلك، أكثر فأكثر من أسلوب المؤرخ الحقيقي، لعل الأجيال المقبلة تستفيد من بعض ما أرويه هنا.