المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيقصة وصول الجيش إلى سيدي فرج - المرآة

[حمدان خوجة]

فهرس الكتاب

- ‌المرآة

- ‌تصدير

- ‌مقدمة

- ‌لمحة تاريخية وإحصائية حول إيالة الجزائر

- ‌الفصل الأولالبدو وأصلهم

- ‌الفصل الثانيطبائع البربر وعاداتهم

- ‌الفصل الثالثطبائع وعادات البربر (تابع)

- ‌الفصل الرابعسكان السهول: طبائعهم وعاداتهم

- ‌الفصل الخامسالمتيجة: طبائع سكانها وعاداتهم

- ‌الفصل السادسعن سكان الجهة الغربية

- ‌الفصل السابعالجزائر

- ‌الفصل الثامنحكومة الأتراك: تنظيمها وأصلها

- ‌الفصل العاشرحول الداي وحكومته ومختلف العادات

- ‌الفصل الحادي عشرتحديد رسوم الأرض وطريقة جمع الضرائب

- ‌الفصل الثاني عشرعن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها

- ‌الفصل الثالث عشرعن داخل الإيالة، وبعض الملاحظاتحول حسين باشا آخر دايات الجزائر

- ‌الكتاب الثاني

- ‌الفصل الأولالحرب وأسبابها

- ‌الفصل الثانيقصة وصول الجيش إلى سيدي فرج

- ‌اتفاقية بين قائد جنرالات الجيش الفرنسي وسمو داي الجزائر:

- ‌الفصل الثالثعن تفاصيل دخول المارشال بورمون إلى الجزائر

- ‌الفصل الرابععن الاحتلال العسكري

- ‌الفصل الخامسعن البيانات منذ أن وقع الغزو الفرنسي

- ‌الفصل السادسعن إدارة المارشال بورمون

- ‌الفصل السابععن أحداث الترسانة والاحتلال العسكري

- ‌الفصل الثامنعن الاحتلال العسكري وسلوك أهم ضباط الجيش الفرنسي

- ‌الفصل التاسععن مصطفى بومزراق، وباي التيطري

- ‌الفصل العاشرتابع لإدارة الجنرال كلوزيل، وحملاته ضذ المدية والبليدة نسخة المعاهدات

- ‌الفصل الحادي عشرعن الأوقاف، والتغييرات التي تعرضت لهاتلك المؤسسات والمحاكم التي تنظر في شؤونهاأثناء ولاية الجنرال كلوزيل

- ‌الفصل الثاني عشرتفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر

الفصل: ‌الفصل الثانيقصة وصول الجيش إلى سيدي فرج

‌الفصل الثاني

قصة وصول الجيش إلى سيدي فرج

لقد كتب حسين باشا إلى القبائل والعرب يخبرهم بالنوايا العدوانية التي يضمرها لهم الفرنسيون، ويأمرهم بأن يسعدوا ويكونوا رهن الإشارة.

فأجابوه بأنهم مستعدون وبأنهم لا ينتظرون سوى أوامر الباشا ليسارعوا إلى نصرته. كما أن حسين باشا كتب إلى باي وهران (1) وأوصاه بتحصين مدينته وباليقظة وأمر باي قسنطينة (2) بتحصين ميناء عنابة (3): وبما أن هذا الأخير لم يأت إلى الجزائر منذ ثلاث سنوات، فإنه أمره بالمجيء وفقا لما جرت عليه العادة، ودون أن يزعج القبائل.

(1) هو حسن باي الذي دفعته ثروته وشيخوخته إلى الاستسلام دون مقاومة. ولقد حكم مدة 7 أشهر باسم الفرنسيين وفي نهاية الأمر اضطهد، فاضطر إلى الفرار إلى الاسكندرية ومنها إلى مكة حيث قضى أيامه الباقية.

(2)

هو الحاج أحمد باي الذي تكلمنا عنه في الكتاب الأول.

(3)

كانت عنابة ميناء تجارية تحت تصرف الفرنسيين إلى أن وقع الحصار سنة 1827.

ص: 149

وأمر الباشا، كذلك بإحصاء العمال في مدينة الجزائر، وبأن يرسل إلى الحصون للمساهمة في مناورات المدفعية، جميع القادرين، وبأن يعين قائد على رأس كل فيلق.

لقد كان الآغا إبراهيم صهرا للباشا، لكنه لم يكن قائدا ممتازا في يوم من الأيام، ولم يكن يعرف الشيء الكثير من التكتيك العسكري ; وكان سابقه يحيى آغا (4) قد شغل هذا المنصب مدة اثنتي عشرة سنة في عهد حسين باشا ، فشاهد كثيرا من المعارك التي جرت بين العرب والقبائل ; وكان مدة ما بقيت، لا يعرف الركود على الإطلاق. لقد كان شديد الطموح، صائبا في منطقه ويعرف كيف يحبب نفسه خاصة إلى العرب والقبائل، ولو أنه ظل في هذا المنصب مدة أطول لاستفادت الجزائر منه أشياء كثيرة على ما أعتقد. ولكن الحسد والغيرة اللذين أثارهما في نفس الخزناجي، نتيجة مكانته عند الباشا وعمل هذا الأخير بنصائحه، قد جعلا الخزناجي يتآمر ضده. وقد تمت الدسيسة بواسطة تقارير كاذبة وشهود زور كان وعدهم بمناصب عندما تنجح الخطة. وبهذه الطريقة عزل يحيى آغا، ثم نفاه الباشا إلى البليدة واستبدله بصهره إبراهيم وهو رجل لا منطق له ولا كفاءة كما سبق أن ذكرنا. وخشي المتآمرون أن تنكشف أفعالهم، وأن يعود منافسهم إلى الحكم فحاكوا خيوطا جديدة واتهموه بأنه يتفاهم مع مختلف رؤساء العرب والقبائل،

(4) أشهر قائد عسكري عرفته الجزائر في عهد الآغوات والدايات. صاحب فضل كبير علي أحمد باي إذ هو الذي شفع فيه وساعده على تدعيم سلطته في شرق الإيالة. ويعتبر قتله أكبر خطأ ارتكبه حسين داي في حياته.

ص: 150

وأن هؤلاء الرؤساء كانوا يزورونه ليلا، وأنه كان يعقد الاجتماعات في بيته لمهاجمة الجزائر وللاستيلاء على الحكومة وتعيين نفسه على رأسها، وبالاعتماد على هذه المزاعم، قدمت وثائق مزيفة تشبه الحقيقة وتم إقناع الباشا بأن الآغا السابق يحيى خائن، فأمر بإعدامه.

من السهل أن ندرك، بعد هذه التفاصيل، بأنه لو كان يحيى، أثناء هذه الحرب الأخيرة، على رأس الجيوش الجزائرية لكان سير الأمور أحسن، لأن التجربة التي حصل عليها في البر والبحر وشجاعته في جميع الحالات، كلها كان يمكن أن تشكل ضمانا بالنسبة للجندي الذي يحارب تحت إمرته.

وبما أن إبراهيم قد عين آغا خلفا ليحيى، بعد حادثة (البروفانس) المشؤومة، فقد أرسل له مخطط الفرنسيين، وأخبر بالمكان الذي كانوا ينوون النزول فيه، كما أحيط علما بالعدد الصحيح فيما يخص مكونات الجيش من سفن وجنود (5): وعلى الرغم من هذه المعلومات المنجية، فإنه لم يعد أي شيء ولم يتخذ أي نوع من التدابير ولم يعط أي أمر، بل كان يزعم أنه عندما تطأ أقدام الفرنسيين الأرض، سيطوقهم بالقبائل الذين لم يكونوا تحت تصرفه، لأنه كان يجب أن يعطي الأوامر مسبقا، لكي يتسنى لهم أن ينتقلوا إلى الأماكن المعلومة بدون تعب ولكي يتمكنووا من صد الأعداء. وبالفعل، فإن قدوم البعض يتطلب أسبوعا بينما يقتضي مجيء غيرهم أكثر من ذلك. وإذا كانت

(5) يقول الباي أحمد في مذكراته: (عندما مثلت بين يدي حسين داي قال لي: (لم يعد لديكم سوى ما يكفي من الوقت للخروج للفرنسيين الذين سينزلون بسيدي فرج. إنني أعرف مكان النزول بواسطة الرسائل التي تصلني من بلادهم وعن طريق منشور طبع في فرنسا وأرسله لي جواسيسي من مالطة وجبل طارق (مذكرات أحمد باي الصفحة الأولى).

ص: 151

جماعة تستعمل الخيل، فإن هناك من يأتي راجلا. أما الخيالة العرب الذين يستحقون الشهرة التي حصلوا عليا، فإنهم يقيمون بعيدا، في أطراف الإيالة؛ كما أن هؤلاء الأبطال أيضا، لم يتصلوا بأي أمر. وعلى هذا الأساس فإن الجيش الذي كان يحيط بهذا الآغا لم يكن مكونا إلا من سكان متيجة الذين لا يعرفون سوى بيع الحليب. لقد سمعت من يقول لهذا الأبله أن له تحت تصرفه خمسة آلاف سارق سيعملون ليلا على مفاجأة الفرنسيين في جميع الأنحاء ويجعلونهم يتحاربون فيما بينهم. أما العدد الضئيل من القبائل الذين كانوا يأتونه، فإنهم لم يحصلوا، بالنسبة لهم ولخيلهم، لا على مؤن ولا على ذخيرة، وبما أنهم لم يكونوا يستطيعون حتى شراء ذلك على نفقتهم الخاصة فإنهم كانوا يعودون من حيث أتوا ويتركونه وحده.

وفي سيدي فرج لم تحضر المدفعية، ولم تحفر الخنادق ولم يكن هناك سوى اثني عشر مدفعا كان الآغا السابق قد نصبها في بداية إعلان الحرب.

وفي اليوم الذي نزل فيه المارشال دويرمون مع جيشه لم يكن تحت تصرف الآغا سوى 300 فارس؛ ولم يكن مع باي قسنطينة إلا عدد قليل جدا من الأجناد (6)،لأنه لم يكن مستعدا لخوض المعركة. وكان باي التيطري (7) في المدية

(6) يقول الباي أحمد: إنني جئت إلى العاصمة كالعادة أحمل الدنوش، ولذلك لم أصطحب معي سوى حوالي 400 فارس. ومن جملة القادة الذين كانوا مع: ولد مقران وابن الحملاوي آغا، وشيخ ريغا وقائد الزمالة والعربي قائد ابن عاشور وشيخ بو شنان.

(7)

يذكر الباي أحمد أن باي التيطري كان موجودا في الجزائر قبل النزول، وأنه حضر مجلس الحرب الذي ترأس الآغا إبراهيم، وشارك في جميع المعارك وخاصة معركتي سيدي فرج وسطاولي.

ص: 152

ولم يصل منها إلا بعد بضعة أيام ولقد سمعت أن نزول المارشال دوبرمون كان صدفة وأنه كان معرضا لأخطار جسام لأنه أنزل الرجال قبل المؤن والمدفعية. وظلت الأمور على هذه الحال ثلاث أيام بسبب الرياح المعاكسة التي كانت تبعد سفن النقل. وما من شك أن الجيش الفرنسي كان يمكن أن يهزم لو وقع نوع من التحضير لصد هذا النزول. هذا بالإضافة إلى أن جيش وهران كان غير بعيد عن سيدي فرج تحت قيادة خليفة باي تلك المقاطعة، كما أن باي التيطري كان قد أعلم الباشا بأنه يوجد تحت تصرفه 20 ألف فارس نصفهم من حملة الرماح (لأجل ذلك سمي هذا الباي: بو مزراق، والمزراق هو الرمح). وباي التيطري هذا رجل وقح وذو شجاعة يغبط عليها لكنه عاجز عن قيادة جيش. وعندما وصل لم يكن معه أكثر من ألف فارس بدلا من العشرين ألف التي كان قد أخبر عنها. كل هؤلاء الفرسان تمركزوا في سطاولي (8)، كما جاء إلى هذا المكان الآغا مع فرقته المشهورة المكونة من أهل متيجة والتي تكلمت عنها آنفا، وحضر، كذلك جنود من القبائل لكنهم سرعان ما انسحبوا إلى الدار البيضاء (9) لعدم توفر المؤن والذخائر الحربية

(8) سطاولي أو أوسه ولي (بالتركية) يقع على مسافة سير ساعة من سيدي فرج وقد وقعت فيه المعركة على مرحلتين، جاء في أحد المخطوطات: فلما كان ليوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة من السنة المذكورة الموافق 9 يولية قاموا (الجيوش الجزائرية) جميعا على الفرانسوية وهزموهم وبددوا شملهم وأخذوا رؤوس من قتلوه (كذا) منهم وبعثوا بها إلى مدينة الجزائر لتكون علامة دالة على النصر وإعلانا بالظفر

وبعد مدة يسيرة من الأيام انهزم المسلمون وصاروا يقاتلون وهم مدبرون (انظر أحمد الجزائري: كيف دخل الفرنسيون إلى الجزائر).

(9)

ضاحية من ضواحي مدينة الجزائر تقع في شرقيها على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من سيدي فرج.

ص: 153

وفي صباح كل يوم كان هؤلاء الأجناد يعودون إلى مراكزهم.

لقد لاحظ باي قسنطينة على الآغا بأن تنظيم الجيش هذا لا يسمح بأي أمل في النجاح. وفي حالة ما إذا سار الجيش الفرنسي نحو مدينة الجزائر، فإن انسحابنا سيكون دليلا لها. وحسب رأيه، فإننا لن نكون قادرين على صده ولا على مقاومته. كما أشار، كذلك، إلى أنه ليس من السياسة في شيء أن تجمع قواتنا في نقطة واحدة، وإن من الواجب توزيعها بحيث يحمل جزء منها إلى غربي سيدي فرج، ومعنى ذلك أن الفرنسيين إذا لاحقونا، فإنهم سيبتعدون عن هدفهم الذي هو مدينة الجزائر، وسيكون ذلك لصالحنا، إذ نستطيع أن نبدأهم بالهجوم. وإذا قصد الفرنسيون الجزائر دون أن يهاجموننا، فإننا عندما سنكون أقوى وأقدر على الدفاع عن أنفسنا والانتصار عليهم.

واقترح، أيضا، أن يتولى كل قائد الاعتناء بجزء من الجيش. وكان مقر القيادة الذي وقع عليه اختيارنا هو الدار البيضاء التي تفصلها عن سطاولي مسيرة أربع ساعات. وعن كل هذه الملاحظات كانت إجابة الآغا كالآتي:

(إنكم لا تعرفون التكتيك الأوروبي، إنه يتعارض كل المعارضة مع تكتيك العرب). ورأى باي قسنطينة في هذه الإجابة البليدة إهانة له، لذلك التزم الصمت ولمي يسمح لنفسه بإبداء أية ملاحظة أخرى (10).

كنت بنفسي عشية الاستيلاء على سطاولي، عند الآغا للتعرف على الأوضاع فتعشيت معه، ومع باي قسنطينة وباي التيطري، وخليفة باي

(10) حول هذه القضية أنظر مذكرات الباي أحمد، فإنها تشتمل على كثير من التفاصيل.

ص: 154

وهران، وخوجة الخيل: في تلك الليلة اقترب مني الآغا وأسر لي الخبر الهام الذي مفاده أن فلانا وفلانا (مع ذكر أسماء الأشخاص) قد ذهبوا إلى مركز الفرنسيين كأنصار لقضيتهم؛ يقدمون لهم تقارير كاذبة حول وضع البلاد ويطلبون منهم أن يرسلوا عن طريق البحر جزءا من جيوشهم إلى بعض الأماكن واعدين إياهم بأنخم سينضمون إليهم ويقودونهم إلى حصن الامبراطور لمخادعة الجزائريين. وأضاف الآغا قائلا: أعتقد بأن المخطط سينفذ غدا وعندما يجرون الجيش الفرنسي إلى طريق قاحل وصعب يقوم العرب بالهجوم من جهة، وأتولى الهجوم من الجهة الأخرى. وفي انتظار ذلك؛ وزعت على كل جندي عشرة خرتوشات.

لم أدر ماذا أقول عندما رأيت هذا الآغا يهذي بذه الكيفية. ومع ذلك سألته ماذا يصنع الأجناد عندما يطلقون الخرتوشات العشرة، فأجابني بأن تلك الكمية كافية لقتل نصف الجيش الفرنسي وبعد ذلك لن يكون في حاجة إلى توزيع البارود. وعندما لاحظت له بأنه كان يجب أن يحفر الخنادق لحماية الجيش والدفاع عنه أجاب بنفس الثقة: نحن نشكل الخنادق الحقيقة ومن المؤسف ألا نعرف كيف نحمي أنفسنا.

لكن، قلت له، لتكن هذه الخنادق على الأقل لتغطية المدفعية. إنها أمام مدفعية العدو ومن واجبكم حمايتها. على أثر هذه الملاحظة الأخيرة أعطى أمرا في الحين، بنشر إعلان في الجيش يطلب فيه من كل عربي غير مسلح أن يأتي للآغا قصد تزويده. ونتيجة لهذا الأمر، اجتمع عنده عدد كبير من الأجناد، وبدلا من الأسلحة أعطاهم الفؤوس لحفر الخنادق. وبالفعل لقد تم خلال تلك الليلة، حفر خندق لم يستعمل في الواقع لأي شيء.

ص: 155

لقد سلم حسين باشا لهذا الآغا مبالغ كبيرة من الدراهم لتوزع على المحاربين لكي يسرعوا في الأعمال وتشجيعا للجنود. غير أن هذا الآغا لم يعط شيئا لمن وجه الداي إليهم تلك المبالغ. ودائما لتشجيع المعركة وإثارة طمع القبائل، وعد حسين باشا بأنه يعطي مكافأة قدرها خمسمائة فرنك لكل من يحمل رأس أحد الأعداء. وكلف الآغا بحساب هذا المبلغ، وجميع الايصالات من أصحاببها بعد تقديم الأدلة المقنعة. وبدلا من أن ينفذ إرادة سيده ويدفع المكافأة الموعودة. فإنه كان يرد الجنود طالبا منهم أن يعودوا بعد المعركة لتقاضي ما لهم. ولا أدري ماذا كان مصير المبالغ الهائلة التي كانت في حوزة الآغا.

وفي صباح الغد توجه الآغا وحاشيته والمرافقون إلى المكان المسمى: سيدي فرج، وبقي المركز شاغرا، ليس فيه على أكثر تقدير، إلا حوالي أربعين شخصا لحماية الأمتعة وكانوا بدون أسلحة ولا يملكون أية وسيلة دفاعية.

عندئذ إقتنعت بنفسي أن قيادة الجيش أسندت لرجل لا يعرف الفن العسكري، واعتبرت الإيالة قد ضاعت ثم رجعت حزينا إلى الجزائر. فهل من التكتيك الدفاعي أن يترك معسكره خاليا؟ ألم يكن عليه أن يبقي فيه حوالي ثلث جيشه للاحتفاظ بجنود غير متعبين يستطيع أن يدعم بهم جيوشه المنتصرة أو يسهل بهم عملية الانسحاب؟ إن هذا التكتيك يخلق في الميدانين، المعنوي والمادي، نوعا من الثقة ويلهم الشجاعة، وإذا لم يكن كذلك وانسحب الجيش نحو خيمة فوجدما خاوية، فإنه لا يستطيع إلا أن يهرب وكله خيبة ويأس.

ولأعطي فكرة دقيقة عن قصر نظره وعجزه، أذكر حادثة وقعت لي خلال المدة التي قضيتها عنده.

ص: 156

لقد كنت، ذات ليلة، في وسط معسكره، واحتجت إلى بعض الأشياء وبدلا من إرسال أحد الخدم توجهت بنفسي إلى خيمة. فقطعت المعسكر ودخلت إليه ثم أخذت ما جئت من أجله دون أن يشعر بي أحد لأن الجيش كله كان في نوم عميق، ولم ألآقي في طريقي أي حارس يسهر على حماية المعسكر من هجوم الأعداء.

نرى من خلال كل ما تقدم فرقا كبيرا بينه وبين سابقه يحيى آغا من حيث الوسائل العسكرية والإدارية التي كانت لكل منهما.

لقد تعودت كلما رجع يحيى آغا من الحرب أن أذهب للقائه في متيجة حيث أقضي معه يوما كاملا. وأتذكر، آنذاك على الرغم من أن الوقت كان سلما، فإن جيشه كان أحسن تجهيزا وأكثر تنظيما، كما أنه كان أكثر عددا من الجيش الذي نظمه إبراهيم آغا لمحاربة الفرنسيين. لقد كان من العادة أن يدرب مدفعيته يوميا، وأن يستعد للدفاع كما لو كان العدو سيهاجمه.

لقد كانت مراكز معسكره في يقظة دائمة: فهناك مركز يكلف بحراسة المعسكر عامة وهناك آخر خاص بالسهر على دخول الخيل وخروجها، وأخيرا هناك ثالث يحيط بخيمته، ويتكون من ثمانية رجال في الخارج واثنين في الداخل وواحد عند الباب، وفي كل نصف ساعة كان حارس باب الخيمة يطلب من حارس الخارج أن يجيبه بالإشارة المتفق عليها، ثم يتوجه حارس الخارج بنفس الطريقة إلى حارس الخيل ثم إلى حارس المدفعية، فحارس المدفعية العام وهلم جرا، بحيث أن المعسكر كان محروسا كأحسن ما يكون.

وعندما فقدت الإيالة يحيى آغا تنبأ كل عاقل بانهيار الجزائر، ولم يوافق أحد على الحادث وحتى لو كان مذنبا؛ فإنه ما كان ينبغي أن يستبدل بإبراهيم

ص: 157

آغا. إنها غلطة فادحة لا تغتفر، قد تكون هي الوحيدة التي يمكن أن يلام عليها حسين باشا خلال السنوات الثلاث عشرة التي دامها عهده. ولقد كان لهذه الغلطة تأثيرها الكبير خاصة وأنها وقعت في الوقت الذي كنا فيه في حرب مع فرنسا. وإن الذي ارتكبها أمير برهن على كثير من الاعتدال والعدل بحيث أننا لم نكن ننتظر منه مثل هذا العمل. وهكذا، إذن، كان إبراهيم آغا يريد محاربة الفرنسيين بدون جيش منظم ولا دخيرة حربية ولا مؤن، ولا شعير للخيل وبدون أن تكون له المقدرة الضرورية للقيام بالحرب.

وعندما وقعت هزيمة سطاولي، غادر هذا الآغا المعسكر وكله يأس كما لو أنه فقد رأسه لقد ترك كل شيء: الخيم، فرق الموسيقى، الاعلام وجيشه بأكمله. ولو أن بورمون سير جيوشه في ذلك اليوم، إلى حصن الأمبراطور لما لاقى أية صعوبة.

وبعد ذلك بيومين دعاني حسين باشا لمعرفة حقيقة الأمور فأجبته قائلا:

إن الحرب حظ مخطر، ولا يحق للقائد أن ييأس، لأن يأسه يؤدي إلى الهزيمة النكراء ، والقضية الظالمة يمكن أن تصبح عادلة، إذا توفرت لها المقاومة والصمود.

عندئذ تكلمت له بكل صراحة عن سلوك صهره إبراهيم آغا المخزي، وهو ما لم يجرأ أحد على فعله قبلي، فكلفني بالذهاب إليه وتشجيعه. وإلزامه بجمع جيشه وبعدم التفكير في الماضي، وعندما وصلت إليه، لم أجد إلا بعض الجنود المشتتين هنا وهناك، وبعد بحث طويل تمكنت من العثور عليه في دار

ص: 158

ريفية كان يختفي فيها مع ثلاثة أو أربعة من خدمه. وبمجرد ما وجهت له الكلام علمت أنني لا أخاطب رجلا وإنما طفلا لما كان يبديه من ضعف وقنوط ويأس. ولذلك ضاعت كل محاولة مني لتحميسه ورأيتني مجبرا على الرجوع إلى الداي الذي قال لي عندما أعلمه بسيرة صهره وبالجهود التي بذلتها للعثور عليه: (إنكم ذهبتم يحدوكم الأمل، ورجعتم دون أن تنجح مساعيكم). عندئذ أجبته بأن الشعب ليس إلا قطيعا، ولا بد له من راع، وإن شعبكم بدون راع والعدو يتقدم.

كان الجيش بدون قائد، والقبائل يجهلون في أي مكان يختبىء. وعليه، لم يبق إلا تسليم المدينة للفرنسيين. لم يكن الباشا يعرف أن الآغا رعديد وكان يظن أن له مقدرة أكبر من التي أظهرها. ولذلك طلب مني أن أرجع إليه وأرغمه على العودة إلى معسكره. وفعلا تبعني رغم أنفه، وجمعنا ما أمكننا من الجنود الذين كانوا مجهزين ومستعدين، وعلى الرغم من أنني كنت على يقين - مسبقا - من أننا لن نتمكن من فك حصار المدينة والدفاع عنها، فإنني بذلت كل ما في وسعي لأداء هذه المهمة.

وعندما تحرك بورمون في سطاولي انهزم الآغا وجيشه لتوهما ولم يعرف أحد إلى أي مكان تم الانسحاب.

وفي هذه الحالة دعا الباشا المفتي (11)(شيخ الإسلام)، فسلمه سيفا وطلب

(11) في هذا الصدد يقول أحمد الجزائري: (وفي هذا الوقت (أي بعد هزيمة سطاولي) أمر حضرة الباشا بإحضاري لديه ليخبرني بما حصل لعساكر المسلمين من الهزيمة، فأخذت في تسلية خاطره

فنهض حتى قام أمام المهزومين وأخذ يحثهم على القتال، ويحذرهم

ص: 159

منه أن يجمع الشعب للدفاع عن البلاد. ولكن من سوء الحظ، كان الأوان قد فات، وعند الغروب كان الجيش الفرنسي قد اقترب من حصن الامبراطور.

إن شيخ الإسلام رجل عادل، فاضل ولكنه بعيد عن أن يكون محاربا، وفي مثل هذه اللحظة الحرجة لم يكن من الممكن أن يقود جيشا ويصد عدوا.

إن أعضاء الدواوين والفقهاء لا يهتمون إلا بالعلوم والقوانين، وهم أحسن لإعطاء النصائح من أن يقوموا بالأعمال، وبما أنني كنت على اتصال بهذه الشخصية فإنه دعاني، كتابة للتوجه إليه، وكان جوابي: أنه لم يبق أي أمل بالنسبة لهذه القضية. إن هلاكنا محقق ولا أريد أن أشهد مثل هذه الكارثة المفجعة.

لم يكن المشاة منظمين، فما بالك بالمدفعية، ولا ندري كيف يمكن أن تأمل في تحقيق النجاح؟ ولقد كان ذلك ممكنا لو ثم تعيين رجل مجرب لقيادة الجيش ووضعت تحت تصرفه عشرة آلاف من القبائل مع الأمر بإعطاء كل واحد 10 بوجوات (18 فرنكا)، يوميا لتشجيعهم. عندئذ يوجه هؤلاء القبائل إلى مختلف النقاط لسد الطرق الرابطة بين سطاولي ومقر قيادة بورمون. وكان من الواجب أيضا أن يوضع تحت تصرفهم كل أنواع الذخائر التي يمكن أن يحتاجوا إليها. لقدكان النصر مرهونا فقط، بمثل هذه التدابير. ولكن الأميين الذين كانوا يحيطون بالمفتي لاحظوا بأن حمدان عميل للفرنسيين: سافر إلى بلدهم وأعجب بعاداتهم، وعليه يجب الاحتراس منه. وأخيرا قيل بأنه لو

من عاقبة القرار حتى ردهم إلى الحرب، فساروا إلى أن وصلوا إلى الموضع المسمى العين الزرقاء، وكانت الفرنسيس هناك، فوقعت العين على العين والتحم القتال بين الفريقين، فلم تمض لحظات من الزمن حتى انهزمت الفرانسوية وولوا مدبرين، وتمادوا على هزيمتهم حتى وصلوا إلى الموضع المسمى سيدي فرج وأقاموا به (انظر نفس المصدر).

ص: 160

تعيين، بينما نحن نكون أشد قوة ونشاطا لحماية أنفسنا وهزمهم وتضليلهم.

ثم اقترح أحمد باي - أيضا - أن يأخذ كل قائد حصة كتيبته من الميرة ويلتزم بتموينها. وخاطب الآغا بقوله: إن مكان اجتماع القواد الذي اخترناه أن يكون بالحراش لبعيد عن مخيمنا ياسطوالي، وأن المسافة بين المكانين تستغرق أربع ساعات مشيا.

وبعد كل هذه الملاحظات كان جواب الآغا ما يلي: (إنك لا تعرف الحيل الحربية للأوروبيين، فهي مخالفة - تماما - لحيل العرب). فتأثر الباي بهذا الجواب الغبي، وقرر أن لا يبدي أية ملاحظة أخرى في المستقبل، وفي الليلة التي استولى الفرنسيون على اسطوالي، كنت موجودا لدى الآغا؛ بقصد الاطلاع على أوضاع الأمور. وقد تعشينا جميعا مع باي قسنطينة وباي تيطري وملازم باي وهران وخوجة الخيل. وفي نفس هذه الليلة اقترب مني الآغا وسارني بخبر هام جديد. وهو أن فلانا وفلانا (وقد سمى لي هذين الشخصين) قد تقدما إلى معسكر الفرنسيين، متظاهرين بالانضمام إلى صفوفهم والعمل بجانبهم، وأنهما أتيا ليقدما إليهم تقاريرا عن حالة البلاد. ثم يحثانهم على إرسال قسم من جنودهم - عن طريق البحر - إلى المكان الفلاني الـ

والمكان الفلاني

وسيجدونهما في انتظارهم - عند نزولهم من المراكب - بالأماكن المحددة، ليسيرا بهم إلى (برج مولاي حسن)، ويوهمانهم بأن هذه الخطة سيخدعون بها يقظة الجزائريين. ثم تابع الآغا مساوئه بقوله: أعتقد أن هذه الخطة ستنفذ غدا، وعندما يميل الجيش الفرنسي بسيره إلى طريق وعر صعب، ينقض عليه العرب من ناحية وأنا (بجيشي) من ناحية أخرى. ومن أجل ذلك فإني قد زودت كل جندي من الجيش بعشر فشكات. وعندما رأيت هذا الآغا يهذي بهذا الشكل لم أجد ما أقول له؛ بيد أنني سألته: ماذا يصنع هؤلاء الجنود بعدما يستنفد كل منهم تلك الفشكات العشر؟! فأجابني: إن هذه الكمية لكافية لقتل نصف الجيش الفرنسي، ولست بحاجة إلى توزيع البارود على الجنود. ثم نبهته أنه كان من الواجب

ص: 161

عليه أن يأمر بحفر خنادق لحماية جيشه. فأجابني - بنفس الجرأة -: إننا -نحن - الخنادق الحقيقيون، وسنكون تعساء إذا عجزنا عن حماية جيشنا. فقلت له: ولكن هذه الخنادق ستحمي على الأقل عمل المدافع المواجهة لمدافع العدو. وبناء على هذه الملاحظة الأخيرة أمر - حالا - أن يذاع في صفوف الجيش أن الآغا يدعو جميع العرب الذين ليس لديهم سلاح أن يحضروا عنده، ليوزع عليهم السلاح. وبعد هذا الإعلان اجتمع لديه عدد كبير من الجنود، وبدل أن يوزع عليهم السلاح، أعطى كل واحد فأسا، وأمره أن يشرع في حفر الخندق. وقد أتموا حفر هذا الخندق في تلك الليلة، ولكنه قد فات أوانه، وأصبح عديم الجدوى. وكان حسين باشا قد وضع في يد هذا الآغا مبلغا ضخما من المال، ليوزعه على المحاربين بقصد الحث على القتال، وتشجيع الجنود، بيد أن هذا الآغا لم يدفع شيئا غلى هؤلاء الذين قد خصهم الداي بهذا المبلغ. ودائما من أجل الحث على القتال وتهييج الجشاعة في نفوس القبائل، قد وعد حسين باشا أيا من يأتي منهم برأس أحد الأعداء، سيكافئه بمبلغ قدره خمسمائة فرنك. وقد كلف الآغا بأن يقوم بإحصاء المبالغ التي يدفعها إلى المنتصرين بعدما يتسلم منهم أوصالا من لدى الداي، غير أن الآغا لم يطبق إرادة رئيسه، ولم يدفع حالا هذه المكافأة الموعود بها لمستحقيها، بل أخذ يسوف الجنود بقوله لهم: ستقدمون بعد انتهاء المعركة لأخذ نصيبكم. وأجهل تماما مصير كمية الأموال الضخمة التي كانت موجودة بيد الآغا.

وفي صبيحة اليوم التالي (من استيلاء الفرنسيين على اسطوالي) توجه الآغا بأتباعه وأشياعه إلى مكان (سيدي فرج)، وتركوا المعسكر شاغرا، ما عدا أربعين شخصا - على الأكثر -، بقوا هناك يحرسون الأمتعة بدون سلاح وبدون أية وسيلة تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم. ومن ذلك الحين اقتنعت وتأكدت بأن تسيير الجيش قد أسند إلى رجل ليس له أية معرفة بالنظام العسكري، فعندئذ عدت إلى مدينة الجزائر حزينا، متيقنا بأن الإيالة قد ضاعت (من أيدي أهلها).

ص: 162

وهل من الحيل الحربية أن يهمل (هذا الآغا) معسكره؟ أليس من واجبه أن يترك هناك زهاء الثلث من جيشه، ويبقي فصائل مرتاحين ليتمكن بهم من تعزيز جيشه المنتصر، أو على الأقل يدعم بهم جيشه عند تقهقره؟! وأقولها - بالقلب والقالب -: إن هذه الحيلة الحربية لتمنح الثقة وتوحي بالشجاعة. وفي حالة انعكاس القضية، أي: إذا تقهقر الجيش عائدا إلى معسكره ووجد هناك جميع الخيام فارغة، فلم تبق له أية وسيلة، سوى الفرار واليأس، ومن أجل إعطاء فكرة مضبوطة عن غفلة هذا الآغا وعدم كفاءته، فإني سأقص حادثا وقع لي في غضون الأيام التي قضيتها بجانبه: ففي إحدى الليالي قد وجدتني في سرة معسكره. فاحتجت إلى شيء في خيمته، وبدل أن أرسل الخادم في طلب ذلك الشيء ذهبت أنا بنفسي، فاخترقت المعسكر ثم دخلت الخيمة وأخذت الشيء الذي أتيت من أجله، دون أن ينتبه إلي أي شخص، وكان الجيش كله في سبات عميق، ولم أصادف في طريقي حارسا واحدا يراقب هجوم العدو.

وبناء على ما تقدم نلاحظ أن بين هذا الآغا وبين سابقه: يحيى بونا شاسعا، من حيث كفاءة كل منهما؛ سواء في الميدان العسكري أو التنظيم الإداري.

وكان من عادتي أن أذهب إلى لقاء يحيى آغا بمتيجة، عند عودته من الحرب، وهناك أقضي معه يوما. وإني أتذكر حينذاك - رغم وقت السلم - أن جيشه قد كان مجهزا أفضل تجهيز، ومنظما تنظيما أحسن من جيش إبراهيم آغا المهيء لقتال الفرنسيين. وكان من عادات يحيى آغا أن يقوم كل يوم في جيشه بغارات وهمية، وتحركات تدريبية لجنوده، فيضعهم في حالة الدفاع، ويجعلهم يفترضون أن العدو يوشك أن يباغتهم بالهجوم. وكانت مراكز الحراسة لمعسكره دائما يقظة حذرة. فأحد هذه المراكز مكلف بحراسة المعسكر كله، وآخر خاص بحراصة الخيل، من حيث دخولها وخروجها، وآخر

(1) أمير: هو حسين داي.

ص: 163

[صفحة مكررة]

ص: 164

فيما مضى. فذهبت إليه، فلم أجده. بل وجدت جنوده مشتتين يمينا وشمالا، ولكن - بعد الطويل - استطعت أن أعثر عليه في أحد منازل الريف، مختفيا مع أربعة أو خمسة أفراد من خدامه، وعندما كلمته تبين لي أنني لم أكلم رجلا، وإنما أكلم صبيا. كثيرا ما أظهر الفشل والقنوط. فمن العبث - إذن -أن أبذل ما في وسعي من أجل إلهامه إلى الشهامة، وحثه على العزم، ورأيت من الأفضل أن أعود أدراجي إلى الداي. وبعدما اطلع هذا الأخير على سلوك صهره وتصرفه قال لي:(لقد ذهبت منتعشا بالأمل، وعدت دون أن تحقق أقل نجاح لمساعيك). فعندئذ أجبته:

(إن الرعية بمثابة القطيع، والقطيع لا بد له من راع وها هي رعيتك بدون راع. وها هو العدو يتقدم). فقد أصبح الجيش بدون قائد، وأمسى القبائل يجهلون المكان الذي يختفي فيه هذا القائد. فلم يبق - إذن - سوى تسليم المدينة إلى الفرنسيين. والباشا لم يكن يعرف أن الجبن من شيم هذا الآغا، بل كان يعتقد فيه أكثر مما يستحقه، ولهذا أمرني أن أعود إليه - مرة ثانية - وأبذل وسعي حتى يعود إلى معسكره. فعدت إلى الآغا الذي امتثل أمري على مضض، وجمعنا ما ستطعنا جمعه من الجنود القليلين الذين كانوا حاضرين مجهزين. ورغم أني كنت متأكدا - مسبقا - بأننا لا نستطيع فك الحصار ولا حماية المدينة، ومع ذلك فإني بذلت جميع في ما وسعي من أجل أداء هذه المهمة. وبعد تحرك جيش (بورمون) باسطوالي أصبح الآغا وجنوده تقريبا مشتتين، ولم يعلم أي شخص أين انسحبوا، وفي هذا الوقت دعا الباشا المفتي: شيخ الإسلام، وأعطاه سيفا وأمره أن يجمع الرعية من أجل الدفاع عن حوزة الوطن، ولكن فيا للأسف! فقد فات الأوان. وأصبح الجيش الفرنسي على مقربة من (برج مولاي حسن) وقت الغروب من هذا اليوم.

إن شيخ الاسلام رجل عادل وذو جدارة واستحقاق. ولكنه بعيد عن أن يكون رجل حرب. فيصعب عليه أن يقود جيش في وقت حرج. كما لا يستطيع أن يرد العدو.

ص: 165

إن رجال العلم وأعضاء القضاء لا يهتمون سوى بالعلوم والقوانين، فهم في ميدان الاستشارة والنصائح أفضل منهم في ميدان العمل الحربي. وبما أنني كنت مرتبطا بهذه الشخصية (شيخ الاسلام) استدعاني بواسطة بطاقة كي أحضر لديه. فكان جوابي له:(لم يبق أمل في هذه القضية. فخسارتنا لا مفر منها، وأنا لا أريد أن أكون شاهد عيان لكارثة مفزعة). فالعساكر المشاء لم يكونوا منظمين. والمدفعيون أقل منهم تنظيما - إذن فكيف يؤمل في بعض النجاح؟ بل بالعكس.

فكان من الواجب أن يعين لقيادة الجيش رجل ذو خبرة وحنكة. وتوضع تحت تصرفه عشرة آلاف من رجال القبائل، فيدفع لكل جندي منهم عشرة (بودجوات)(ثمانية عشر فرنكا) في اليوم، بقصد تشجيعهم وحثهم على القتال.

ثم تتوجه تلك القبائل إلى مختلف الأماكن (الاستراتيجية) ليقطعوا الطريق الرابطة بين اسطوالي وبين معسكر القائد (بورمون). وكان من الواجب - أيضا - أن يوضع تحت تصرف الجيش الجزائري جميع أنواع الأسلحة الممكن احتياجهم إليها. فبغير أمثال هذه الخطة لا يمكن أن يتحقق النجاح. وكان الأشخاص الجهلاء الموجودون في حوزة هذا المفتي، قد لاحظوا:(أن حمدان أصبح رجل الفرنسيين، لأنه سافر إلى بلادهم وأعجب بنظامهم، وعلى هذا الأساس يجب الاحتراس منه). ثم ختموا كلامهم بقولهم: (إذا قطعت الطرق على الفرنسيين المغتاضين، فإنهم سيعملون على إرهاقنا ويحملون علينا حملة رجل واحد ; انتقاما لأنفسهم من أجل العراقيل التي وضعناها في سبيلهم). وفي الغد أدرك الباشا أن تخميني في إبراهيم آغا قد تحقق، وتبين له أن هذا الآغا لم يكن سوى رجل ساقط لا قيمة له. ثم عزل إبراهيم آغا وسمى باي تيطري آغا في منصبه. ولكن لا فائدة في استبدال هذا بذاك، فلو أن يحيي آغا نفسه الذي ذكرته أعلاه قد عاد في هذه الظروف وأسند إليه أمر الجيش، ما اتسطاع أن يغير شيئا في الأوضاع، لأن الحالة قد تأزمت والأفكار أصبحت مضطربة، فلم يبق اتساع في الوقت لإيجاد الوسائل التي يمكن بها

ص: 166

الدفاع عن الجزائر. ثم ان الآغا الجديد قد دخل منزله بهدوء واطمئنان ليجمع غنائمه. وقد بلغني أن نبوغ هذا المحارب (الآغا الجديد) كان محصورا في اختياره للبنادق الطويلة. ليستعملها - هو نفسه - في إطلاق الرصاص على الفرنسيين!! وفي هذه الحالة ظن حسين باشا أن من الواجب إرسال الخزناجي إلى (برج مولاي حسن)، وكمل ما كان يطمح إليه هذا الرجل هو أن يستطيع نسج دسيسة تمكنه من كسب جميع الإنكشارية وجعلهم تحت أمره، ثم الإطاحة بحسين باشا ليستولي على الحكم. وعلى هذا الأساس قد وضح مشروعا يهدف إلى إبرام صلح مع الفرنسيين بالشروط التي يريدون اشتراطها، كما أنه سيقف نشيطا بجانبهم، عندعا يتحرك جيشهم صوب (برج مولاي حسن). وحينما رأى (الخزناجي) هجوم الفرنسيين عليه، أضاع شجاعته، واستولى عليه الرعب إلى غاية أنه ذعر ونسي أن يغلق أبواب البرج. أما أتباعه فقد أصبحوا أكثر منه ذعرا، فراحوا يفتشون عن جميع الوسائل التي تمكنهم من الفرار بأنفسهم. ثم لما رأى الخزناجي أنه بقي - تقريبا - وحيدا في وسط هذا الخطر المهدد، هرع في الحين إلى ذر مادة البارود في خط يربط مكان وجوده بمستودع البارود، ثم أضرم النار في المادة فتسربت إلى المستودع، فانفجر ونسف البرج. وكان من حسن الحظ أن ينفجر المستودع الصغير، دون الكبير الموجود أسفله، إذ لو انفجر هذا المستودع لكانت المدينة تقاسي أكثر مما قاسته، بسبب احتوائه على أكبر كمية من البارود، وقبل هذه الحادثة كانت لحسين باشا فكرة سامية في هذا الخزناجي، إذ كان كثيرا ما يستشيره ويأخذ برأيه.

وعندما دخل (بورمون) برج مولاي حسن) جمع حسين باشا جميع أمناء البلاد ووجهائها، ورجال التشريع الخ

وشرح لهم الحالة الخطيرة التي توجد فيها مدينة الجزائر، ثم طلب منهم أن يبدوا نصائحهم، من أجل إيجاد وسيلة مفيدة لمعالجة الضرر. فقال لهم: (أصدقائي! لا جناح عليكم أن تعبروا - بصراحة - عن آرائكم: ففي مثل هذه الظروف قد

ص: 167

قد أصبح التشاور وتداول الآراء شيئا واجبا، بالنسبة إلى النظر في الوسائل الأكثر تأثيرا ونجوعا. ولست سوى واحد منكم، فماذا ترون؟ فهل يمكن لنا أن نقاوم الفرنسيين مدة طويلة، أو نسلم إليهم المدينة بعد إبرام معهم معهدة تعرف بـ (معاهدة التسليم)؟ فهذه الأسئلة قد أقعت أعيان المجلس في حيرة، لأنهم يجهلون ما يكنه هذا الباشا، أهو صريح معهم فيما فاه به؟

أم تكلم بذلك من أجل سبر أغوار آرائهم؟ وكذلك كانوا يخشون أن الباشا لا يريد بهذه الأسئلة سوى معرفة مدى تأثير النشرات التي أطلقها (بورمون) في صفوف الرعية بالجزائر (وسأتحدث - فيما بعد - عن جميع هذه النشرات) وكانوا يعتقدون أن من الواجب إخفاء آرائهم في مثل هذه الظروف. وأنهم يخشون بعض تأثيرات الداي وإغاظته؛ إذا هم أبدوا رغبتهم في السلم. ولذلك كان الجواب العام كما يلي: (إننا نقاتل حتى آخر شخص منا، بيد أنه إذا كان سموكم يفضل وسيلة أخرى، فلكم الكلمة العليا والأمر المطاع فيما ترونه ملائما، ونحن تحت أمركم وعند إرادتكم).

ثم افترق المجلس بنية متابعة القتال. ومع ذلك، فيجب الاعتراف بأن انتشار النشرات باسم الدولة الفرنسية. التي عرفت بالشهامة والعدالة، قد ساهم كثيرا في استمالة الرعية، وجعل الأشخاص البصراء المعتدلين يفكرون في تفصيل الوسائل السلمية. وبعدما أمعنوا في التفكير قالوا فيما بينهم:(إننا دون أن نعرض حاكم البلاد للخطر، يجب علينا - في نفس الوقت - أن لا نجنح إلى أقصى التشديد المؤدي بالمدينة وسكانها إلى الخطر الكبير).

وبعد هذأ التعقل يسهل علينا أن ندرك أن أعيان البلاد لم يكونوا يخشون أنهم سيصبحون رهن الظلم والسلب والتقتيل. ولو حشوا ذلك لقاتلوا الفرنسيين بكل ما يملكون من قوة وبسالة، بل لو كانوا يفكرون أنهم سيرون الفرنسيين يعاملوننا مثل معاملتهم إيانا الآن لضحوا بالكل في سبيل الكل، لأن منافع الحرب - كما أنبأنا المؤرخون - رهينة الاستبسال ووضع حياة النفوس في أكف الأخطار. فالحياة السعيدة - على هذه البسيطة - محفوفة بالمصائب

ص: 168

العظيمة؛ ومن أراد شراءها فعليه أن يدفع ثمنها من دمه الخاص. ولذلك يقول القدامى: (من لا يغامر لا ينال شيئا). وهكذا - إذن - أصبحت جميع قوانا - التي كان في إمكاننا أن نبليها - مشلولة، بسبب موجة هذه النشرات الكاذبة، التي لا دخل لها في الحيل الحربية، إذا كان المقصود منها إعطاء كلمة الشرف والتعبير عن النية الحسنة. وكانت هذه النشرات تضم مواعد حقيقية قطعية: نستطيع أن نجهر بأن الفرنسيين لم يوفوا بها. وذلك يعتبر ارتكابا لخطيئة سياسية.

وفي نفس الليلة اجتمع عدد من أعيان الجزائر بـ (برج باب البحرية). وكان هؤلاء الأعيان يتألفون من تجار وأصحاب رؤوس أموال. فاتضح لهم أن خسران مدينة الجزائر شيء محتم لا مفر منه، وأن الفرنسيين متى دخلوا بالقوة واستولوا على المدينة عنوة، فإنهم لا يكفون عن السلب والنهب، وقتل جميع السكان، بما فيهم النساء والصبيان، دون مقاومة. فمن الأحسن أن نأخذ باقتراحات الداي السلمية التي ترمي إلى إبرام معاهدة تسليم البلاد بشروط نعقدها مع قائد الجيش الفرنسي. وفي اعتقادنا أن دولة (مثل فرنسا) ذات سيادة واحترام، لا تسمح لها مكانتها بمخالفة هذه الشروط أو خرق تلك المعامدة ; بل سوف نصبح تحت جناحها نتمتع بالحرية وننعم بالعدالة والإنصاف.

ليحكمنا زيد أو عمر! أي منهما على السواء. فالمهم أن تكون شؤوننا مدبرة على أحسن ما يرام، وحسبما تقتضيه أسس الحكومة الفرنسية، ولكن هل يبقى ديننا محترما؟ إن الدين أمر معنوي يتعلق بالعقل والقلب، فلا يتجادل فيه. ثم إن الفرنسيين بشر مثلنا، والأخوة البشرية قد جمعتنا معهم.

وإذا كانت المدنية قد أسست على حقوق الإنسان، إذن فلا شيء يخيفنا من حكومة متمدنة.

وهكذا كانت انعكاسات أفكار هذا المجلس. التي انتهت بقرار يقضي بعدم مقاومتهم للجيش الفرنسي.

ص: 169

نعم. كان من واجبنا أن نفضل حكومة الأتراك؛ لأننا قد جمعنا وإياهم دين واحد؛ ولكن الظروف قد أجبرتنا أن نستبدل بها الحكومة الفرنسية، التي وعدتنا باحترام ديننا وعوائدنا وأرزاقنا. وإذا لم نفعل ذلك أصبحت حياتنا في خطر، ودماؤنا وديارنا وأرزاقنا مسلوبة، ونساؤنا وأطفالنا مقتولين. وكثرة هذه الاعتبارات قد جعلتنا نفضل إبرام معاهدة السلم، وقد تم ذلك بالفعل. ثم أرسل هذا المجلس - في الحين - وفدا إلى القصبة لإطلاع الداي على هذا المشروع، فكان جوابه لهم: أنه سينظر في القضية، وغدا سيجيبهم عن رغباتهم التي تقدموا بها إليه.

وفي الغد أرسل - بالفعل - (المكتابجي) مرفوقا بالقنصل الانجليزي، كرسول صلح وسيدي (أحمد) أبي ضربة وولدي الحاج حسن. وهذان الأخيران أرسلهما كمترجمين، لأنهما يحسنان اللغة الفرنسية. (وكان إرسال هؤلاء الأشخاص الثلاث) من أجل أن يتقدموا إلى القائد العام ليدخل في المفاوضات مع الداي. وكان هذا المكتابجي شريكا مع الخزناجي في الدسيسة التي تحدثنا عنها أعلاه. ولذلك أراد أن يخدع الداي، ويستبد هو بالمفاوضة مع القائد العام، بنية رفع الخزناجي إلى منصب الداي، وبهذه المناسبة تجاسر على هذا القائد وعرض عليه أن يأتيه برأس حسين داي، ثم يوقع - هو - مع فرنسا معاهدة، حسبما تقتضيه رغباتها. فأجابه القائد (بورمون) بقوله:(ما أتيت من أجل تشجيع الاغتيالات، وإنما أتيت من أجل خوض الحرب نعم سأوافق على اقتراح حسين باشا الذي طلب إبرام معاهدة السلم وسأرحب بمشاعره الإنسانية، التي دفعت به أن يستعمل هذه الوسيلة، لكي يحقن كثيرا من الدماء).

وهكذا تمت محادثة المعاهدة بنجاح؛ واتفق الطرفان على تحريرها بالنمط التالي:

أولا: إن جميع حصون مدينة الجزائر بما فيها حصن القصبة، وكذلك ميناء هذه المدينة ستسلم إلى الجيش (الفرنسي) صباح هذا اليوم في الساعة العاشرة (بتوقيت فرنسا).

ص: 170