الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عشر
عن داخل الإيالة، وبعض الملاحظات
حول حسين باشا آخر دايات الجزائر
بعد أن قدمت ما أمكنني من تفاصيل حول تأسيس الحكومة التركية في الجزائر والقواعد التي تقوم عليها، وكذلك التجاوزات والأسباب التي أدت إلى انحطاطها، آخذ القلم، الآن، لأفسر عظمتها في داخل الإيالة.
كان أول ما يهتم به البايات، عندما ينصبون، هو العمل على تحقيق أمن الطرقات حتى يستطيع الضعيف أن يتنقل من مكان لآخر دون أن يحتاج لحماية القوات المسلحة. وكانت كل قبيلة مجبرة على مساندة ذلك الإجراء لكي يستتب الأمن بينها وبين جاراتها.
وإذا وقع قتل، فإن أعيان المنطقة التي وجدت فيها الجثة يصبحون مسؤولين عن القاتل، ويتحتم عليهم أن يبحثوا عنه، وإن لم يفعلوا يكونوا مجبرين على دفع ضريبة قدرها ألف سلطاني (10 آلاف فرنك) يوزع هذا
المبلغ على ورثة الشخص المقتول. وإذا لم يكن له ورثة نقل إلى صندوق بيت المال.
وبفضل استتباب الأمن هذا اكتسب البايات عظمة هائلة وغزوا تونس مرات عديدة، مع أن تونس أقدم من الجزائر ومن الصعب الاستيلاء عليها. وتونس لا يمكن أن تؤخذ إلا بالتفاهم مع قادتها أنفسهم، ويكون ذلك عندما يوعدون بتخلصهم من الظلم المسلط عليهم، وباستبدال ملكهم بملك آخر من اختيارهم. بهذه الطريقة، استنطاع الجزائريون أن يفتحوا تونس. وقد كانوا دائما يفون بما يقدمونه للتونسيين من وعود. ولقد قدم الفرنسيون أيضا وعودا عندما فتحوا الجزائر لكنهم لم يعملوا أبدا على إنجاز الالتزامات التي تعهدوا بها والتي كانت موضوع بياناتهم تلك البيانات التي وزعت في كامل أنحاء الإيالة ، ولقد رأيت عددا منها عند القبائل عندما قمت برحلتي إلى قسنطينة؛ ولقد شهدت بهذا الصدد، أكثر من مناقشة. إن هؤلاء السكان يقولون بأن الفرنسيين قد انتهكوا حقوق الشرف عندما أخلوا بالتزاماتهم، وان المسيحيين كلهم لا يختلفون عنهم، ولا يمكن الاعتماد على وعودهم.
وآخر غزوة شنها الجزائريون على تونس وقعت سنة 1754 (1). كانوا يريدون أن ينصبوا على رأس الايالة أحد أبناء أخوة بايها (2)، كان في مدينة الجزائر ويدعى علي باي. ولقد حوصرت مدينة تونس ثم وقع الهجوم عليها
(1) وقع ذلك عندما كان حسين كلباني بايا على قسنطينة. ويقول الحاج أحمد المبارك: (إن هذا الباي كان بطلا شجاعا. بنى الجامع الأعظم بسوق الغزل بحومة رؤوس الدوامس في قسنطينة).
(2)
باي تونس في ذلك الحين هو حسين بن علي عم علي باي.
وقد إرتكب - في تلك الأثناء - جرائم تشمئز منها الإنسانية وتدينها. وعندما وقع تقتيل قبيلة العوفية، فإن السيد الدوق دوروفيكو قد ارتكب جرائم مماثلة للتي ذكرناها: لقد ذبحت النساء والأطفال، وقطعت الآذان للاستيلاء على الأقراط المعلقة بها؛ ولم يكن الهدف من كل تلك الجرائم إلا الجشع والنهب. ومثل تلك الاعمال الوحشية تسيل دعوعا من الدم.
وهكذا، إذن، ثم تنصيب علي باي كبباشا لتونس، وأبرمت معه معاهدة مخزية له، من جملة شروطها ألا يسلح حصن الكاف الذي هـ عبارة عن ممر ضيق منيع يقع في الحدود الفاصلة بين المملكتين. ومن الشروط، أيضا أن العلم الوطني عندما يرفع، لا ينبغي أن يكون إلا في وسط الصاري. وعندما يصل أحد مراكب الدولة الجزائرية إلى ميناء تونس، فإن قائد ذلك المركب هو الذي يتولى قيادة الميناء طوال المدة التي يقيمها فيه، أما وكيل الجزائر أو المكلف بشؤونها ووكيل باي قسنطينة فإنهما يحترمان كما يحترم سفراء البلاطات الأوروبية.
وزيادة على ذلك، فقد تعهدت إيالة تونس بأن ترسل كضريبة سنوية حمولة سفينة من الزيت وعددا كبيرا آخر من الهدايا التي تصنعها أو تستوردها (3).
وعاد ذلك الجيش المنتصر إلى الجزائر محملا بكنوز ثمينة. ومنذ ذلك الحين، صارت تونس تعتبر تابعة للجزائر، وقد احترق التونسيون
(3) يقول الحاج أحمد المبارك في (تاريخ حاضرة قسنطينة)، ص 20 (ودخل علي باشا إلى تونس، ونزلت محلة الجزائر وحسين كلياني بالجزائرية وهو موضع قرب تونس حتى استراحوا وأخذوا من علي باشا ما شرطوه عليه ورجعوا إلى بلدهم).
غيظا من سلوك الجيوش الجزائرية تماما كما يفعل الجزائريون اليوم من سلوك الجيوش الفرنسية.
لم يكن باي تونس إلا شبه ملك؛ وكان باشا الجزائر هو الذي يحكم البلاد والشعب حسب رغبته وكما يحلو له. ولذلك فإن وكيل الجزائر أو القائم بأعمالها، ووكيل قسنطينة التي هي أقرب محطة لإيالة تونس (وقايدان) القراصنة، كانوا يقومون بتجاوزات دون أن يعاقبوا عليها أبدا. وإن كل إنسان يريد التخلي عن سمعته ليجمع المال ويلعب الأدوار، ما علبه إلا أن يقدم الهدايا لأهم الشخصيات في بلاط الجزائر ليعين وكيلا في تونس وبأبسط الأسباب، كان (قايدان) القراصنة يدخل إلى الميناء ويعيث فيه فسادا ولشدة ما كانت تتكرر هذه الإهانات المتعدةة، اغتاظ التونسيون، واشتعلت نيران الفتنة بين الشعبين وعلى الرغم من أن الأشراف الذين يشكلون الأغلبية في الجزائر كانوا دائما يستنكرون مثل ذلك السلوك، فإنهم لم يستطيعوا إصلاح ما وقع من ضرر.
أعتقد أن الأمر سيكون كذلك بالنسبة لجميع الفرنسيين الحقيقيين عندما يطلعون على السلوك الاستبدادي المتبع في الجزائر إزاء جميع سكانها. إنهم سياسيون لتعاستنا، ولقد رأيت منهم من كانوا يبكون عندما يحاطون علما بما نقاسيه من آلام ويحتجون أمام الملأ ضد تلك الأعمال التي لم يكن في استطاعتهم أن يمنعوها.
ولقد استمر هذا الوضع مدة طويلة في تونس، لأن مبدأ هذه التجاوزات يرجع إلى سنة 1791 وهي الفترة التي كان منصب الباي فيها لا يعطى إلا بالمحسوبية كما سبق أن ذكرنا. وبما أن هؤلاء البايات كانوا يعلمون أن حكمهم
لا يطول، فإنهم كانوا يهتمون فقط بمضاعفة ثروتهم في أقرب وقت ممكن، وذلك على حساب الشعب، وهو أسلوب جائر يؤدي إلى إنزال الشعب إلى آخر دركة من دركات البؤس، أو إلى حمله على إشعال الثورات. عندما توفي علي، باي تونس الذي نصبه الجزائريون سنة 1754، خلفه ابنه حمودة، وعلى الرغم من أن هذا الباي الجديد كان شابا، فقد برهن على أنه يحسن التدبير عندما اتبع بالتدقيق سياسة والده. ولقد إزدهرت تونس في عهده.
وبعد سنوات من توليه الحكم، وعندما لاحظ الفوضى المستولية على حكومة الجزائر والفساد المنتشر في بلاطها؛ رأى حمودة من واجبه أن يتحلل من المعاهدات المخزية التي ظلت تثقل كاهل بلاده منذ سنوات عديدة، وذلك للتلخص من سيطرة الجزائريين.
وفي سنة 1801 كنت عائدا من القسطنطينية صحبة خالي؛ فأرسينا بتونس وأقمنا فيها أسبوعا. وقد قام باي تونس المسمى يوسف خوجة وهو رجل فاضل بدعوتنا إلى بيته. وأثناء الحديث اشتكى بشدة من التجاوزات التي يقوم بها في تونس وكيل الجزائر ووكيل قسنطينة والرجال المحيطون بهما (4) ولاحظ لنا بأنه يخشى أن تؤدي تلك التجاوزات وتهاون حكومة الجزائر وقلة مراعاتها لتونس إلى ثورة تشتعل حتما بسبب الخلاف الذي كان قائما بين الحكومتين.
وعلى الرغم من أن خالي كان في خدمة الدولة، فإنه وجد ملاحظاته عادلة
(4) يقول الحاج مبارك في هذا الصدد: (فكانوا (الجزائريون) يغلظون على رعية تونس ويظلمونهم في طريقهم
…
وكان أهل مخزن قسنطينة أهل غلظة وفظاظة لكون غالبهم من أهل البادية فلا يراعون حق السلطنة بل تحملهم غلظتهم على العنف ومجاوزة الحد).
وأكد له بأن تلك التصرفات تتنافى مع شعور الجزائريين الذين يحبون الأمن والعدالة. وبعد ذلك قدمنا إلى حمودة باشا باي تونس الذي استقبلنا بكل رعاية وحفاوة.
وبما أن العادة الجارية في الشرق تقضي بأن الأجنبي الذي يأتي إلى البلاط يقدم كدكيل على الاحترام، بعض الهدايا، وبعض الأشياء من بلاده مقابل هدية يقدمها له. وتكون دائما أثمن بكثير مما جاء به، فإن حمودة باشا كان يعتقد أننا سنقوم نحوه بتلك اللياقة، ولذلك أعد لنا هدايا نفيسة كان المقصود منها؛ أيضا، أنها ستجعلنا ندافع، بطريقة غير مباشرة، عن شكاياته لدى حكومة الجزائر. ولكننا لم نقدم له شيئا لأنه لم يكن من اللائق بنا أن نقبل مثل تلك الهدايا، واصلتنا بقنا إلى الجزائر. وبعد ذلك بمدة قصيرة أحجم باي تونس عن إرسال شحنة الزيت التي تعود بعثها إلى الجزائر. وقد فعل دلك ليعلن عن بداية اللامبالاة، والإرادة السيئة.
وبمجرد ما ورد النبأ إلى الجزائر اغتاظ الداي أحمد باشا غيظا شديدا لذلك السلوك الذي كان نوعا من القطيعة وخروجا عن الطاعة.
والجدير بالذكر أن باي قسنطينة (5) في تلك الفترة كان شابا بدون تجربة وأن الأتراك لم يكونوا متفقين أتم الاتفاق فيما بينهم.
(5) هو حسين بن صالح باي المشهور، ويقول الحاج أحمد المبارك إنه (كان ولدا صغير السن، حضريا لا يقدر على الركوب والغزو، ولا له معرفة بالحروب وسياسة الملك). (نفس المصدر، ص 15).
ولذلك أراد حمودة باشا أن يغتنم تلك الفرصة، فأرسل جيشا هاما إلى قسنطينة حاصرها مدة سبعة عشر يوما. وهوجمت المدينة، بالمدفعية والقنابل، ولكن سكانها أبدوا مقاومة مستميتة إلى أن جاءتهم النجدة من مدينة الجزائر لأنهم كانوا يعرفون حق المعرفة كيف كان تصرفهم في السابق مع تونس ومتأكدين من أن هؤلاء الأخيرين لن يعاملوهم بالحسنى لو انتصروا عليهم.
وبالفعل لم يلبث الآغا أن اقترب على رأس أحد الجيوش وهزم الجيش التونسي، ثم رجع إلى الجزائر ومعه خمسمائة أسير من الونسيين. وكان أحمد باشا عبدا لهواه وقاسيا، فأمر بخنق ذلك الآغا الذي عاد منتصرا واستولى على ثرواته.
وعين بعدها ابن أخيه ليخلف من أقدم على التضحية به؛ ثم نظم جيشا آخر ضد تونس وأرسل مبلغا هاما من المال إلى قسنطينة لسد حاجيات الحرب. عند ذلك قام الأتراك المكونون لحامية قسنطينة بثورة، وقتلوا باي تلك المقاطعة وكذلك الآغا الجديد الذي هو ابن أخ الباشا. ولما رجعوا إلى الجزائر أشعلوا ثورة أخرى فقتل أحمد باشا وجيء بعلي باشا في مكانه (6).
ولم يلبث هذا الباشا الجديد أن سير جيوشا برية وبحرية ضد تونس، ولكنه كان دائما يفشل في خططه، وكانت محاولاته في ذلك الميدان بدون جدوى.
ولكي يكون المشروع صالحا وقابلا للتنفيذ يجب أن يسير كما ينبغي وأن يكون أساسه العدل والإنصاف.
ولقد كان الجزائريون، أثناء غزوتهم الأخيرة لتونس، قد ارتكبوا، كما ذكرنا، أعمالا تعسفية وإجرامية كثيرة بحيث أنها لم تنمح من
(6) انظر الفصل السابق.
أذهان التونسيين الذين - بدلا من أن يستسلموا - أعلنوا أنهم يفضلون الموت عن آخرهم.
ومؤخرا، لقد أصدر التونسيون نفس الجواب عندما أرادت سردينيا أن تغزو بلادهم. وأذكر في هذا الصدد رسالة كتبت في تونس ونشرت في جريدة (لاتريبين) يوم 21 ماي 1833 وكانت كالآتي:
(إن جميع الأفريقيين، الذين يسكنون نفس القارة، من بدو وقبائل قد شاهدوا ما جرى أخيرا، في الجزائر، ورأوا ما قام به الولاة الفرنسيون من تجاوزات، ولذلك؛ وبدلا من أن ينخدعوا بالكلام المعسول، فإنهم يفضلون الحرب إلى أن يموتوا عن آخرهم). وهكذا، أيضا، عقد التونسيون العزم على أن يدافعوا عن أنفسهم ضد الجزائريين.
ومن أكبر التجاوزات التي وقعت في عهد حكومة الأتراك بالجزائر هو إعطاء منصب الباي لأشخاص بلا مروءة ولا كفاءة.
وهكذا عين المسمى مصطفى بايا على وهران، وكان حظيا للخزناجي ومن صنائعه. وللحصول على ذلك المنصب كان قد وعد بتقديم مبالغ ضخمة من المال. ولم يكن لذلك الرجل أية علاقة بالمشائخ كما أنه لم يكن يعرف أنحاء تلك المقاطعة. وميزته الوحيدة تتمثل في نهب الشعب، وإرسال أسلابه لمجيره. وعلى أثر هذه الأوضاع السيئة غضب الشعب وثار، وكان على رأس الثورة المسمى، درغاوي، وقد استولى الثوار على معسكر بعد حصار قصير، ثم ساروا ضد وهران وحاصروها.
وعندما رأى مصطفى باي استحالة صد ذلك الجمهور من الناس ومحاربته،
سدم أبواب المدينة وركز قواته وراء الحيطان، ثم أخبر الجزائر بالحادث عن طريق البحر. وضبطت الحكومة أمرها لاسترجاع السلطة وإقرارها، فأخمدت الثورة، لا بالقوة وإنما بالاعتدال. وعينت بايا آخر قوي النفوذ في أوساط الشعب وله علاقات ودية وروابط قرابة مع مختلف المشائخ. وبالإضافة إلى ذلك، كان ابنا لابن قاره محمد الذي انتزع وهران من الإسبانيين. ولكن الطرق بين الجزائر ووهران كانت مقطوعة، فاضطر الباي الجديد إلى المجيء لوهران عن طريق البحر. وبمجرد ما وصل فتح أبواب المدينة وخرج إلى الدرغاوي بنفسه على رأس الجيش؛ ولما انضم إليه أنصاره هزم المتمردون ووقع تشتيتهم.
كان هذا الباي الذي خلص وهران من المتمردين ذا كفاءة ومروءة.
وقد ساعد وجوده في تلك المقاطعة على تحقيق الأمن العمومي. وعلى الرغم من ذلك فإنه عزل بعد سنوات قليلة، وقتل ليخلفه نفس مصطفى الذي كان بايا قبله، والذي لم يكن له من فضل إلا رعاية الخزناجي له كما سبق أن ذكرنا. ذلك.
وبعد ذلك بمدة قصيرة عين مصطفى خزناجيا، وخلفه في تلك المقاطعة ديلي باي شقيق قاره محمد باي.
ونفس هذه الأعمال قد تعرض لها بايات قسنطينة. ومن جملة ما نتح عنها ظهور أحد المغامرين على رأس حزب من المتمردين، يسمى ذلك المغامر:
ابن الأحرش (7)، وقد أقام مقر قيادته في نواحي بجاية ليتمكن من التحصن في الجبال المجاورة لتلك المنطقة.
كان باي قسنطينة، في ذلك الحين، هو عثمان بن قاره محمد. ولما أراد هذا الباي أن يطبق أحد مبادىء السياسة القائل بأن الجسم لا ينتصر عليه إلا عضو من أعضائه أو جزء من أجزائه، فإنه عمل على الاتفاق مع قادة القبائل، فوعدهم بهبات كبيرة لو أنهم وافقوا على التخلي عن رئيس المشوشين وخانوا قضيته. ولكنه فشل في محاولاته وذهبت مجهوداته أدراج الرياح.
لم يكن عثمان باي من صنيعة الخزناجي، ولذلك وسوس هذا الأخير للداي بأن سبب الثورة هو ذلك الباي الذي لم يخمدها لأنه كان متفقا مع المتمردين. وقد نتج عن هذا التدخل أن أرسل الداي للباي برقيات شديدة اللهجة ووليدة الغضب، يسأله فيها أن يعترف بعجزه أو أن يبعث له برأس الفتنة.
ولم يكن باي قسنطينة قد تعود على سماع مثل هذه اللهجة، ولذلك فهم بأن روحا شريرة قد تدخلت في الموضوع، وأن تلك الروح هي خصمه الخزناجي. وعلى أثر ذلك الأمر الملح والمهدد، خرج الباي من قسنطينة كاليائس على رأس كل ما استطاع أن يجمعه من جيوش، وهاجم بعنف تلك
(7) هو الشريف بن الأحرش: رجل مغربي كان يزعم أنه من شرفاء ملوك فاس، دخل وسط القبائل ووعد الناس بأخذ قسنطينة. وسبب مجيئه إلى الجزائر أنه كان يقود ركب الحجيج عندما وقعت الحملة الفرنسية ضد مصر، فتوقف بالقرب من الاسكندرية وشارك في القتال ضد جيوش بونبرت. وقد اشتهر، في جميع المعارك التي خاضها، بالشجاعة والإقدام والمقدرة على تسيير المحاربين. وبعد النصر تحالف مع الانكليز فأعادوه ومن معه إلى مدينة عنابة، ثم ذهب إلى قسنطينة ومنها التحق بالجبال واستقر بمدينة جيجل حيث بدأ يجمع الأنصار.
الجموع المكونة من القبائل. ولكنه عندما وصل إلى ممر جبلي ضيق جدا، تعرضت له القبائل وصدته بنجاح؛ وقد كانت الطلقة الأولى موجهة إليه فأصابته. ثم هزم جيشه هزيمة نكراء بعد أن لاذ بالفرار. وسقط المعسكر، فتقاسم المنتصرون ما كان فيه من غنائم. وقد أسر، في تلك الظروف، كثير من الأتراك، مضى زمن طويل قبل أن يتمكنوا من الفرار أو من أن يطلق سراحهم.
وعندما تولى الحكم الحاج علي باشا (8)، كانت مقاطعة قسنطينة في بؤس شديد، وكانت الزراعة تكاد تكون معدمة. وهذا الوضع هو عكس ما كان موجودا في غربي البلاد. ففي تلك الأثناء، أراد ذلك الباي أن بغزو تونس؛ وعين لرئاسة الجيش دالي، باي وهران، لا لأنه كان يعتمد على قوته، ولأن جيشه كان منظما كما ينبغي وعلى أحسن ما يرام فحسب، ولكن لأن ذلك الباي كان رجلا يعترف الجميع بكفاءته. ولكن، بما أن دالي باي كان يعرف جيدا مصدر الحقد الموجود بين الشعبين، وان التونسيين يفضلون الموت عن آخرهم بدلا من الاستسلام للجزائريين، وبما أنه كان يخشى، كذلك، أن تحدث الاضطرابات في مقاطعة وهران بعد أن يغادرها، فإنه رفض - لكل هذه الأسباب - قبول القيادة التي عرضت عليه.
ولم يكن الحاج علي باشا ليتفهم مثل هذه الأسباب، وعلى العكس، فقد ألح بشدة على أن يسير الباي ضد تونس واعدا إياه بأنه سيترك له كنوز تلك الإيالة، وبأنه سيحظى بشرف النصر. وليثير نعرته كتب إليه الداي قائلا:
(8) انظر الفصل السابق.
(إنك كرغلي، وباي تونس أيضا كرغلي؛ فأنت، إذن، لا تريد أن تلحق الضرر بأخيك. إنك تفضل عصياني على أن تحاربه).
ولما رأى ذلك الباي استحالة السير ضد تونس، وتأكد من أن الداي سيعاقب عصيانه، عقد العزم على إعلان الثورة؛ وليحصل على السلم شوش ومنع جميع الطرق التي تصله بالجزائر.
ولكي ينتقم، سير الحاج علي باشا جيشا، ضد وهران، تحت قيادة عمر آغا (9). وقد تحققت رغبة ذلك الطاغية بكل نجاح، واضطر الباي المسكين إلى الاستسلام للجيش فحكم عليه بالإعدام. كما أن زوجته وأطفاله قد تعرضوا لمعاملة سيئة، ثم حملت جميع ثرواته إلى الجزائر وعين باي آخر في مكانه.
لقد تكررت مثل تلك التعيينات إلى أن تولى حسن باي الذي سلم وهران للفرنسيين. وكان حسن باي هذا صهرا لباي وهران القديم: دالي باي.
وقد ساهمت هذه القرابة مساهمة كبيرة في ازدهار تلك المقاطعة. واستطاع حسن، على وجه الخصوص، أن يطبع إدارته بالاعتدال طوال الأربعة عشر عاما التي دامها حكمه.
كان ذلك الباي يحكم بعطف أبوي، فلا يفرض على الشعب إلا ضرائب قليلة ولا يستعمل العنف ضده أبدا. ولأجل ذلك ازدهرت المقاطعة إزدهارا كبيرا وكان السكان يعترفون له بالجميل.
(9) انظر الفصل السابق.
وعلى الرغم من أننا ذكرنا بأن الأتراك كانوا قد قرروا أل يرفعوا واحدا من الكراغلة إلى رتبة باي، فإن الضرورة، وحب الحرية والاعتدال الذي يميز حسين داي قد جعلاه يعين الحاج أحمد على قسنطينة، وهو ما يزال، إلى يومنا هذا يشغل ذلك المنصب.
وقبل أن يكون بايا; كانت مقاطعته فقيرة؛ والأراضي مهملة إلى درجة أن السكان لم يكونوا قادرين على تسديد الضرائب القليلة التي لا تدفع، مع ذلك، إلا كل ثلاث سنوات.
وإنني أذكر، عندما قدم باي قسنطينة بنفسه إلى الجزائر، أن الباشا كان - لكي يخفي فقر تلك المقاطعة - قد أرسل له سرا ومسبقا مبلغا من المال ليتمكن، عند وصوله، من أن يحضر كما جرت العادة وبكيفية مشرفة.
وهكذا، إذن، فإن الحاج أحمد باي قد عين في قسنطينة لأجل كفاءته واستحقاقه، والدليل على ذلك أنه عرف كيف يبقى حتى بعد سقوط الحكومة التركية، كما أنه عرف كيف يكون لنفسه ثروات طائلة بفضل ارتباطاته مع مختلف القبائل. وسأعطي، حول ذلك، تفاصيل أكثر دقة عندما أتكلم، فيما بعد، عن الرحلتين اللتين قمت بهما إلى قسنطينة.
لقد بدأت تجاوزات الأتراك والفوضى الناتجة عن عزل البايات سنة 1791، واستمرت إلى غاية 1818 وهي السنة التي وصل فيها حسين باشا إلى الحكم.
وحسن باشا هو آخر داي تركي في الجزائر. وينتمي هذا الرجل الفاضل إلى أسرة كريمة، كما يتمتع بثقافة واسعة. وقد خدم الإيالة أكثر من ثلاثين سنة.
وبما أنني أعرف طبعه؛ فإنني أستطيع القول بأنه من ذلك الأصل التركي العريق، أي أنه شريف النفس كريمها. ولا أعتقد أن هناك من يستطيع إتهامه بالطمع. فقد حرص دائما على عدم إراقة الدم البشري، ووفاؤه فيما يخص القيام بالالتزامات معروف في كامل أنحاء أوربا. ولما أنه لا يوجد بلاط واحد اشتكى من أن حسين باشا قد خرق المعاهدات التي أبرمها سواء مع القوي أو مع الضعيف، فإنني متيقن من أنه، بهذا الصدد، سينصف كما ينبغي.
أما عن تلك الحرب المشؤومة التي أجبرته على ترك الحكم، فإننا سنرى فيما بعد وبالتفصيل أن الحظ إنما خانه بسبب أخطاء وكلائه والميليشيا. كما أن حاشيته كانت تشتمل على كثير من الأشخاص ممن ليس لهم مبادىء ولا تجربة ولا شجاعة. ولقد كان، أثناء ولايته، ينوي أن يعيد الأمن والانضباط إلى نصابيهما، لأنه، عندما تولى، كان قد وجد الحكومة تتخبط في فوضى يصعب وصفها. وكانت هناك تجاوزات قديمة، وجدت منذ سنوات عديدة. وللتمكن من القضاء على الشر، ولتطهير حكومة الإيالة، كان لا بد أن يتدخل الحظ، وأن تدوم ولايته مدة أطول. وإذا كان هناك ما يلام عليه، فيما يخص حكومته، فهو أنه لم يسترجع الديوان القديم ليتمكن من المداولة حول أهم القضايا، والإفادة من النصائح التي يمكن أن تصدر عن تجربة القدماء ومعرفتهم لتكون نبراسا يهتدى به. ويجب، كذلك، ان يسند إليه خطأ كونه لم يستعمل جميع الوسائل الممكنة لمنع الحرب التي وقعت مع فرنسا.
ـ[انتهى الكتاب الأول]ـ