المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني عشرتفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر - المرآة

[حمدان خوجة]

فهرس الكتاب

- ‌المرآة

- ‌تصدير

- ‌مقدمة

- ‌لمحة تاريخية وإحصائية حول إيالة الجزائر

- ‌الفصل الأولالبدو وأصلهم

- ‌الفصل الثانيطبائع البربر وعاداتهم

- ‌الفصل الثالثطبائع وعادات البربر (تابع)

- ‌الفصل الرابعسكان السهول: طبائعهم وعاداتهم

- ‌الفصل الخامسالمتيجة: طبائع سكانها وعاداتهم

- ‌الفصل السادسعن سكان الجهة الغربية

- ‌الفصل السابعالجزائر

- ‌الفصل الثامنحكومة الأتراك: تنظيمها وأصلها

- ‌الفصل العاشرحول الداي وحكومته ومختلف العادات

- ‌الفصل الحادي عشرتحديد رسوم الأرض وطريقة جمع الضرائب

- ‌الفصل الثاني عشرعن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها

- ‌الفصل الثالث عشرعن داخل الإيالة، وبعض الملاحظاتحول حسين باشا آخر دايات الجزائر

- ‌الكتاب الثاني

- ‌الفصل الأولالحرب وأسبابها

- ‌الفصل الثانيقصة وصول الجيش إلى سيدي فرج

- ‌اتفاقية بين قائد جنرالات الجيش الفرنسي وسمو داي الجزائر:

- ‌الفصل الثالثعن تفاصيل دخول المارشال بورمون إلى الجزائر

- ‌الفصل الرابععن الاحتلال العسكري

- ‌الفصل الخامسعن البيانات منذ أن وقع الغزو الفرنسي

- ‌الفصل السادسعن إدارة المارشال بورمون

- ‌الفصل السابععن أحداث الترسانة والاحتلال العسكري

- ‌الفصل الثامنعن الاحتلال العسكري وسلوك أهم ضباط الجيش الفرنسي

- ‌الفصل التاسععن مصطفى بومزراق، وباي التيطري

- ‌الفصل العاشرتابع لإدارة الجنرال كلوزيل، وحملاته ضذ المدية والبليدة نسخة المعاهدات

- ‌الفصل الحادي عشرعن الأوقاف، والتغييرات التي تعرضت لهاتلك المؤسسات والمحاكم التي تنظر في شؤونهاأثناء ولاية الجنرال كلوزيل

- ‌الفصل الثاني عشرتفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر

الفصل: ‌الفصل الثاني عشرتفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر

‌الفصل الثاني عشر

تفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر

لقد حصل الأوروبيون، في الجزائر، على الملكيات بشروط كلها لصالحهم. إنهم كانوا يستطيعون الامتلاك بواسطة الريع الدائم أو بأثمان زهيدة جدا، وهذه الطريقة للحصول على الأملاك قد استوردت حديثا لبلادنا، ولا يسمح بها قانوننا الإسلامي. ولذلك كان الباعة والمالكون الجدد في خصومات مستمرة دائمة، خاصة إذا كان هناك سوء نية من أحد الجوانب، وجهل من الجانب الآخر. ومن ثمة، كان لا بد أن تكون هذه الطريقة في الاكتساب محل غموض ومحاكمة لا تنتهي. إن السكان الذين غادروا البلاد برضاهم قد وافقوا على هذا النوع من المعاملات ليتمكنوا من الاعتناء بمساكنهم ومن أن يستخرجوا منها بعض المنافع. ولكن هناك من المالكين الأوروبيين من استغل الثقة وأحدث كثيرا من الخسائر، فهدموا كل ما يمكن أن توجد فيه أشياء تباع للاستفادة منها، وضاعت حقوق المالكين القدماء في تلك

ص: 263

القضايا، لأن الهدم كان يقع في حين أنه لم تكن هناك إمكانية لاستبقاء حقوقهم، خاصة وأن معظم عقود البيع كانت تتم بواسطة تحايل السماسرة اليهود.

وفي الجزء الخاص بالتشريع الإسلامي، سأتكلم بإسهاب عن تلك التجاوزات والعقود التي كانت - وأكرر ذلك - تتنافى مع قوانيننا.

غير أنني سأذكر فيما يلي، بهذا الصدد، حادثة عرضية.

لقد كان أحد أقربائي يملك جنانا فيه دار للاستجمام أنيقة البناء. وكانت هذه الملكية من جملة الأملاك المحتلة عسكريا. ولما رأى بعضهم تلك الأبهة وتلك الزينة، ظنوا أن الدار تحتوي على كنز دفين (لأن معظم السادة الأوروبيين لا يحلمون إلا بالكنوز). وهكذا، سارعوا إلى الحفر وتفتيش الأرضيات وتهديم بعض الحيطان التي شك في أنها تخفي بعض الثروات. ولما لم يجدوا شيئا باعوا كل المواد التي كان لها ثمن لجمع كمية من المال.

وفضل وصي هؤلاء الأيتام الذين كانوا يملكون الجنان، فضل الكراء على أن يقوم بإصلاحات. وتقدم طبيب إنكليزي للشراء، وبما أن الوصي لا يستطيع القيام بغير الكراء، فإن المفاوضة وقعت فيما يخص حق الانتفاع، لا فيما يخص الملكية. وطلب مني أن أحرر البنود والشروط وفقا للقانون، وقد أوضحت بأن ذلك الملك كان مستأجرا فقط مقابل مبلغ سنوي قدره كذا، ولا تدوم الاتفاقية إلا ما دام المبلغ يدفع مضبوطا. وبعد إبرام العقد، تسلم الطبيب الملك وقام بجميع الإصلاحات الضرورية في ذلك المسكن. ولما علم القنصل الإنكليزي في الجزائر بإمكانية أجراء مثل هذه الصفقة، وبأن نفس الأيتام كان لهم جنان محتل عسكريا كذلك، اقترح على الوصي المذكور أن يسلمه له بشروط مشابهة للشروط التي وقعت مع الطبيب الإنكليزي،

ص: 264

لقد طلب الوصي 1800 فرنك عن الكراء السنوي، ولكن الجنرال كـ .... الذي سمع بهذا الاقتراح تدخل في المفارضات، وأبلغ الوصي بأنه سيهدم البنايات ويقتلع الأشجار لو وقع اكتراء الجنان للقنصل الإنكليزي ومن ثمة، فإن ذلك الوصي لم يتمكن من الاكتراء للقنصل الإنكليزي بسبب الضغط الذي وقع عليه. ويقال إن الجنان اكتري فيما بعد للجنرال كـ .... مقابل 1023 فرنك عن كل سنة فيما أعتقد. وبدلا من أن يقوم الجنرال المذكور بتصليحات وإعادة الجنان إلى وضعه الأول، فإنه قد أهمله وتركه يزداد تخريبا.

وبنفس الطريقة، استولى الجنرال كـ

على ضيعة جميلة كانت من أملاك علي باشا (1) وتشتمل عل بنايات ممتازة، فيها جميع المرافق التي يمكن تصويرها، ولكن الملاك يشتكون من أن السيد كـ .... لا يدفع حتى أجرة الكراء. وبالفعل، فإنه كان يعتبر كل هذه الأملاك من أملاكه الخاصة، ويقال أنه كان يحتفظ بالعقود ولا يريد تسليمها لأصحابها. واستولى نفس الجنرال على ضيعة أخرى تعرف باسم (والي دادي)(2) كانت تابعة للمؤسسات الخيرية، كما أنه استولى على ضيعة كبيرة كانت تعرف باسم (الآغا) وتدعى اليوم (الدار المربعة) ابتناها يحيى آغا)؛ وقد كلفته أكثر من مليون من الفرنكات.

ومقابل هذه الضيعة فإن الجنرال كـ

لم يعط لأيتام يحيى آغا سوى حانوت أخذه من أملاك الدولة لهذا الغرض. وإذا كان وصي هؤلاء الأيتام قد وافق

(1) هو علي بورصالي الذي عين دايا سنة 1817 فحاول أن يقوم إصلاح ديني، ولكن الطاعون الذي كان قد بدأ في تلك السنة قد أصابه فتوفي بعد عام واحد من الحكم وترك المنب لحسين داي سنة 1818.

(2)

نقول الأسطورة بأن والي داده هو الذي أثار العاصفة التي حطمت أسطول شارل الخامس سنة 1541.

ص: 265

على العملية فلأنه لم يكن قادرا على معارضة ذلك العمل التعسفي الذي ما كان ليقع في عهد الأتراك.، وهكذا، أخذ الوصي ما أعطي له في المقابل بدلا من أن يضيع كل شيء. بهذه الطريقة أصبحت للجنرال كـ .... أملاك في مدينة الجزائر! فهو لا يريد دفع الكراء ولا إعادة العقود لأصحابها. إن السيد كـ

يزعم بأنه تحرري، ويعارض حكومته لأنه لا يشغل منصبا. أن السيد كـ

العضو في مجلس النواب، مكلف ببحث المصلحة العامة في فرنسا. ولكن ما أعظم أخطاؤه في إفريقيا، وهو مع ذلك شخصية بارزة! وبمقتضى أية مبادىء أخلاقية يتصرف على ذلك النحو؟ إننا نرى بأن هذا المشروع يطبق، على الأقل نوعين من المبادىء يختلفان كل الاختلاف إذا قارنا تلك التي اتبعها في إفريقيا وتلك التي يدينها في فرنسا. ونراه كذلك بوجهين: فهو تحرري من جهة ورائد للحكم المطلق من جهة أخرى. وأخيرا نسأله هل هو يريد تسيير الجزائريين وحماية مصالحهم وفقا لقوانين نابليون أم لقوانين الإقطاعية القديمة.

يستخلص مما ذكر أعلاه، أن الجنرال كـ

قد اغتنى على حساب الجزائريين وشرف الأمة الفرنسية، إن هذا الجنرال يتلقى كراء مرتفعا من الحكومة الفرنسية عن جنان علي آغا. إنه يعرف كيف يأخذ مقابل أملاكه المزعومة، أما الجزائريون الذين أخرجوا بحد السلاح من مساكنهم فإنه لا يدفع لهم ثمن بيع ولا كراء. ولتتويج أعماله، فإن هذا الجنراد لم يخش أن اقترح إبادة الجزائريين بعد أن تفاهم وجردهم من جميع ممتلكاتهم. أرجو أن يثق قرائي بأنني لم أعزم على ذكر سيرة السيد الجنرال كـ

ص: 266

في هذا الكتاب إلا بعد أن رأيت أعماله وقرأت كتاباته. وشخصيا، فإنني لا أحقد على هذا الجنرال، وعليه، فإنني لن أعرض هنا إلا الأفعال التي شاهدتها بنفسي، وأستطيع القول بأنني أمر مر الكرام على بعض الأحداث التي لو ذكرتها لأبعدتني عن الإطار الذي حددته لنفسي، والتي كان يمكن أن تجلب انتباه محبي الإنسانية والعدالة.

إن كل إنسان عادل يرى بوضوح أن السيد كـ

قد نقض ما جاء في وثيقة الاستسلام، وأن هذا الخطأ الأول كاف للتدليل على سلوكه السيء إزاء الإفريقيين، وأن طريقته في الحكم كانت تتنافى مع مصالح الفرنسيين.

وعلى هذا الأساس، فإن أنانية شخص واحد هي التي تسببت في العار والتوبيخ اللذين تعرضت لهما الحكومة الفرنسية في إفريقيا. وهذا صحيح بحيث أن القبائل صاروا يجيبون كل من يريد إقناعهم بإمكانية حدوث اتفاق سلمي، بقولهم:(لا ينبغي أن نصدق من لا يفون بوعودهم) - وبالفعل فما هي الثقة التي توضع في تاجر لا يلتزم بوعوده؟ ويوفي ما عليه من سندات بالكلام الطيب؟ إنه يكون مجبرا على أن يشتري كل شيء نقدا. إن الحكومة الفرنسية، بالنسبة للقبائل، توجد في نفس وضعية التاجر المذكور، وهؤلاء القبائل لم يعودوا يفرقون بين الأوروبيين، إنهم يعممون ويقولون: (إنهم مسيحيون ولا يمكن أن يصادقوهم ولا أن ينسوا حقدهم الديني، ذلك لأنهم لو أتيحت لهم الفرصة للاعتداء عليهم لفعلوا، ولأنهم لا يعتدون على الأحياء فقط إنما يسلطون حقدهم كذلك على الأموات بتهديم مدافنهم، الخ

الخ

).

وهكذا، فإن سلوك السيد كـ

وإدارته في الجزائر لم يؤديا إلا لتنفير قلوب الجزائريين والإفريقيين بصفة عامة - إنه جعلهم يحذرون من نوايا

ص: 267

فرنسا إزاءهم، وقدم لهم الدليل القاطع على أن الفرنسيين، بدلا من أن يأتوا لنشر مبادىء الحرية والحضارة، إنما جاؤوا معهم، على العكس من ذلك، بالتعسف والعبودية اللذين يجيدون تطبيقهما أحسن من الأتراك أنفسهم، لقد كان هؤلاء الأتراك على الأقل، يوحدون مصالحهم بمصالح الأهالي، ويحترمون ملكياتهم وعاداتهم وحتى تقاليدهم القديمة على الرغم من أنها مخالفة للصواب.

فبتلك السياسة، وباتباعهم تلك الطريقة، استطاعوا أن يحكموا هذا الشعب وأن يكتسبوا قلوب الإفريقيين الذين لم يستعملوا معهه، أبدا، لا القوة ولا العنف. إن الظلم لا يدوم، والعدالة خالدة، والحرية هي أساس النظام الاجتماعي.

لقد لوحظ أن هذا الجنرال كان يذرف الدموع وهو يغادر الجزائر .. يا له من ارتباط ويا له من عطف على هذا البلد!

إنه التعطش إلى الثروة، لا يمكن التخفيف من حدته، فكلما شربنا تقنا إلى الشرب، ولذلك نستطيع القول إن نشوة الجنرال كـ

ما تزال مستمرة. إنه يقارن الجزائر في مؤلفاته بالأرض الموعودة، وأخبث الأراضي في الجزائر هي بالنسبة إليه، أحسن من أراضي الهند والجزر. ولكن الأغرب في الأمر هو أنه يزعم أنه محبوب، وبأن جميع سكان مدينة الجزائر يرغبون أشد الرغبة في عودته. وفي مناسبات أخرى يتهم الجزائريين بأنهم منعوه من تحقيق مشاريعه ويسأل السيد دوفنتان إذا كانت هناك وسائل أخرى للتخلص منهم غير الإبادة.

إن الجنرال كـ .... في نظرنا، قد قدم مشاريع جنونية لا تطبق، إن نظريته تبدو لنا صعبة التطبيق لأنه يريد أن يجعل من متيجة مصدر ثروة لفرنسا

ص: 268

وسهلا صحيا، كما أنه يريد أن يلطف جوها وهواءها. ومن حقنا، قبل أن يشرع في هذا العمل، أن نشير عليه بالعمل على تخفيف حدة الطمع عند بعض الأشخاص والتخفيف من سخط سكان سهل متيجة عليه، وعلى اكتساب قلوب القبائل وجميع الجزائريين. بقي لي الآن، أن أبين لقرائي التناقضات المترتبة عن أقوال الجنرال كـ .... وسلوكه. إن هذا الجنرال لا يرى، لضمان أمن المعمرين، وسيلة أخرى غير بناء الحصون، ولا يعتمد في شيء على القانون والإدارة العادلة. إنه يبدو لي من المحزن بالنسبة للمعمرين والأهالي على حد سواء، أن يكونوا مضطرين على التحارب باستمرار، وأن يبقوا فيما بينهم أوضاعا عدوانية تقدم لأوروبا جمعاء نوع الحضارة التي يريد السيد كـ .... أن يفرضها على الإفريقيين.

إذا كان الجزائريون قد أسفوا على تغيب أو رحيل السيد كـ .... كما أراد هذا الجنرال أن يقنعنا بذلك في كتاباته وجرائده، وإذا كان محبوبا في هذا البلد، فلماذا إذن، يقدم تلك المشاريع الرامية لخلق العداوة؟ وإذا كان صديقا فلماذا يخشى أن يعامل معاملة الأعداء؟ لا، إنه غير محبوب عند الجزائريين، ولا يمكن أن يكون كذلك. إنه يريد أن تعينه الحكومة الفرنسية نائب ملك في إفريقيا ليتمكن من إتمام أعماله وتحقيق مشاريعه.

أعتقد أن الجنرال كـ

سيغضب علي عندما يقرأ كتابي الذي يفضح جزءا من سلوكه وتصرفه في الجزائر، وعليه، فإنني أقول مسبقا بأنني، للدفاع عن نفسي، سأكتفي بذكر الشهود من بين أصدقائه أنفسهم. ولكن لماذا سأكون في حاجة إلى الدفاع عن نفسي؟ إنني لا أذكر هنا إلا أفعالا لا يستطيع هو نفسه إنكارها، وأن يدي لا تخط إلا أحداثا ووقائع حقيقية.

ص: 269

ومن ثمة، فإذا كان السيد الجنرال كـ

يريد تقديم لوم فما عليه إلا أن يوجهه لأهوائه وضميره، لا لقلمي الذي لم يكتب إلا الحقائق. إن تفوقي الرئيسي في المعركة التي تلوح من بعيد، هو أن قرائي الذين ينتمون إلى أمة يضاهي عدلها عظمتها وكرمها، سيشيرون عليه بدلا من اتهامي، بالتزام الصمت لأن الإشهار سيزيد من اللوم الذي يستحقه.

يجب على السيد المارشال، في مصلحته الخاصة، أن يفكر ويراجع نفسه، وأن يحكم ضميره فيما قام به من أفعال، وإذا وجد أن هذه المرآة لا تعكس له صورة محمودة عن شخصه، فإنه مع ذلك، ينبغي له أن يشكرها لأنه يرى نفسه فيها على حقيقتها، ولأن تلك الصورة يمكن أن تساهم في أن تجعل منه ذلك الشخص الذي يجب أن يكونه.

لقد تكلمت (الفصل الأول من الكتاب الأول) عن سكان إيالة الجزائر، وقلت بأن عددها يبلغ عشرة ملايين نسمة، قد يعتقد بعض قرائي أنني أبالغ ولذلك أقول لهم بأن على المرء أن ينتقل في داخل الإيالة لمدة أسبوع على الأقل ليكون لنفسه فكرة تكاد تكون صحيحة عن عدد هؤلاء السكان واستعداداتهم، ولكي يصدق ما قدمته من أقوال.

إن خصوبة أرضها وصحبة جبالها وقناعة أهلها قد ساعدت كثيرا على مضاعفة الجنس البشري فيها.

وعند سكان الصحراء والقبائل، وهم كثيرون جدا، لا يصادف المقعدون إلا نادرا، ولا يعرف هؤلاء السكان أماضا مزمنة ولا كريهة. إن الرحلتين اللتين قمت بهما إلى قسنطينة، والأحاديث التي أجريتها

ص: 270

مع المرابطين وأصدقائي الذين كانوا يرافقونني، كلها قد ساعدتني على زيارة داخل الإيالة.

ولقد ركزت انتباهي كملاحظ بسيط، وتوجهت إلى الحياة في المدن والقرى والقبائل لأعرف عدد الأسر في كل مكان، ثم حصرت عدد كل أسرة في أب وأم وخادم. كما أنني سألت هؤلاء الجباة رأيهم في عدد سكان المدن أو القبائل المجاورة لأتجنب الأخطاءا والمبالغة وعندما كنت أصل تلك المدن والقرى، كنت ألجأ في حسابي إلى الحلول الوسطى، وهكذا استطعت أن أؤكد بأن عدد سكان الإيالة عشرة ملايين نسمة.

إن الكتاب الذين نشروا مؤلفات عن الجزائر، لم يقدموا إلا بعض المعلومات المشكوك في صحتها عن تلك القارة الفسيحة. وقبل الغزو، ان الأوروبيين لم يكونوا يعرفون حتى الجزء الساحلي من مملكة الجزائر الذي يقع بين وجدة في المغرب وغدامس في الجنوب الشرقي (مملكة طرابلس).

إن بعض الجنرالات المشهورين (3) لم يترددوا في اقتراح إبادة أمة بأكملها مركزين اقتراحهم على قلة عدد السكان. ولو افترضنا أن هذا العدد القليل لا يتجاوز المليونين كما ذكر ذلك بعض المتاب، ألا تكون إبادة مليونين من الناس جريمة في نظر الشعوب المتحضرة والإنسانية جمعاء.

إنني أرى أنه لا ينبغي أن يكون الاختلاف في الدين سببا في سلب الحقوق الاجتماعية.

(3) يقصد كلوزيل ودورو شمبو ودورو فيكو، الخ

ص: 271

إن خصوبة الأرض الجزائرية لا شك فيها، وقرب هذه القارة من فرنسا أمر بديهي، كما أن استسلام سكان مدينة الجزائر لا يخفى على أحد. ولكن الاستعدادات العنائية لباقي سكان الإيالة تجاه الفرنسيين قد احتدمت إما بسبب التعصب نظرا لانتهاك المساجد ومعابد المرابطين وحتى مدافن الأموات، وإما كذلك، بسبب الطرق السيئة التي يستغلها المتصرفون الفرنسيون في الجزائر.

إن الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تستفيد من منافع الإيالة دون أن تنفق كنوزها وتعرض شرفها بمحاربة هذا الشعب المعارض لنظرها. ذلك أن تلك الحكومة لن تستخرج منافع الإيالة مني ومن ألف رجل مسالم آخر يستسلمون للظروف. هذا أمر مفروغ منه، ولا أستطيع أن أخادع قرائي، ولا أن أداهن الأمة الفرنسية العظيمة وأقول لها بأنها تستطيع أن تحصل على المنافع المتوقعة في إيالة الجزائر. إن كل من يداهن الحكومة الفرنسية، ويزعم أنه يدلها على وسائل تذليل تلك المصاعب كلها، ليس إلا مناورا يريد أن يغتني على حساب الأهالي وعلى حساب فرنسا نفسها. ولكن، على العكس، فإن أي رجل عادل، والحكومة نفسها لا يستطيعان، حسب براهيني الرياضية المذكورة، أن ينكرا الحقيقة المتمثلة في أن الجزائر حمل ثقيل على فرنسا نظرا لكلفة الاحتلال الباهظة (4) ومن ثمة، فهي عملية تتناقض مع مبادىء الحكومة التي تدعو إلى التخفيف من مصائب الشعب وإلى تحرره. ومن جهة أخرى، فإن نفس تلك الحكومة مضطرة إلى أن تسند إلى عدد قليل من الناس

(4) تذكر المصادر أن سنوات الحصار وحدها قد كلفت فرنسا حوالي ثلاثين مليونا من الفرنكات.

ص: 272

تسيير شؤون الجزائر، وبذلك تعرض السكان للاستبداد، وهو مبدأ يتنافى كليا، مع مؤسساتها التحررية. إن تجربة ثلاث سنوات من الاحتلال قد بددت كل نواع من أنواع الشك في هذا الموضوع. إن فرنسا لن تنتفع من الجزائر ولن تدخل إليها الحضارة إلا إذا طبقت أحد المبدأين: الأول هو الإبادة، والثاني هو دعوة جميع سكان الإيالة بصراحة وبواسطة امبراطور المغرب وباي تونس وباشا طرابلس إلى بيع ممتلكاتهم والخروج من إيالة الجزائر، أو إلى إعطاء ضمانات لفرنسا على أن يبقوا خاضعين لها دون أن تكون مجبرة على إراقة دماء البشر. وبهذا الصدد، فإن جريدة (البريد الفرنسي) قد قالت في عددها الصادر بتاريخ 6 سبتمبر:(ولكن ماذا ستفعل حسب زعمها؟. (متكلمة عن الحكومة) أمستعمرة أم حقلا للإبادة؟

(متكلمة عن الجزائر) لأن طرق السادة ولاة الجزائر قد أدت إلى استفحال المرض وجعله غير قابل للشفاء .. غير أن المبدأين المذكورين يتناقضان كل التناقض مع المفهوم الدستوري.

أما أنا الذي أرى الأشياء على حقيقتها، فإنني أحجم عن أن أعطي رأيي بكل صراحة، ومن الممكن أن بعض الأشخاص سيجدون في ذلك إساءة لهم ويتهمونني بالبحث عن مصلحتي الخاصة أو بالعمل على إعاقة المؤسسات الأوروبية. إنني أتحدى أيا كان يزعم بأنه يستطيع معالجة الأوضاع في الجزئر دون استعمال إحدى الوسيلتين المشروحتين أعلاه، أو الخروج من البلاد والتخلي عن فكرة الاحتلال، وذلك بإقامة حكومة أهلية حرة مستقلة، كما وقع في مصر، تتدين بنفس الدين وتتبع نفس العادات، على أن تبرم معها معاهدات تكون في صالح الشعبين. عندئذ، فإن فرنسا ستجد مصلحتها بكل

ص: 273

تحقيق أحسن من أنه لو تبقى الجزائر مستعمرة لها، وأن العالم كله سيطرب لذلك العمل الكريم.

عندئذ، فإن روسيا من جهتها ستكون مضطرة إلى الاعتراف بالجنسية البولونية ولا تستطيع أن تلوم فرنسا على سلوكها في الجزائر.

إن هذا التحرر الليبرالي سيزيد من شهرة عصرنا، خاصة وأن الجزائريين لا يتدينون بنفس دين الأوروبيين.

هذا هو رأيي إذا كانت فرنسا، كما أعتقد، لا تريد إلا إدخال الحضارة إلى القطر الجزائري، والقضاء على الاستبداد وعلى روح الانتقام وكل أنواع الحقد.

وإن الحكومة الفرنسية تستطيع أن تتبع نفس الطريقة التي طبقت في مصر.

وإن تقدمها سيكون أمرا محققا ولا يمكن أن يشك في نجاحها. ذلك أن إصلاح مصر وتدعيم النفوذ الفرنسي فيها لم يتحققا بواسطة الإدارة الفرنسية والعنف، وإنما يعود الفضل لنائب الملك وللعمل باسمه في إدخال الحضارة والفنون، وفي مضاعفة موارد ذلك البلد التي كانت منعدمة أو مشلولة في عهد المماليك. كما أن الفضل، أيضا، يعود لوجود نائب الملك في إقامة ذلك الرباط المتين الذي يوجد الآن بين الفرنسيين والمصريين.

إن كل واحد من بين الكتاب العديدين الذين كتبوا عن إيالة الجزائر، قد عالج المسألة حسب مصالحه مقدما بذلك نظريته الخاصة، ولم يشر أي منهم إلى الطريقة ولم يهتم بإمكانية تطبيقها والفائدة العامة التي تنتج عنها، غير أنني أستثني السيد بيشون لأننا عندما نقرأ كتابه باهتمام نجد أن أفكاري عنده مرتبة

ص: 274

ومعلجة بكيفيات أخرى تدل بوضوح على الطريق السيىء الذي اتبعه السادة الولاة في الجزائر، وعلى وقوع بعض التجاوزات مثل الاستيلاء على أملاك الأتراك، والمؤسسات الخيرية، وتدنيس المساجد والمدافن والاحتلال العسكري الخ

وغير ذلك مما اشتكينا منه. ما هي الفائدة التي جناها الفرنسيون من تلك الطرق؟ إنهم جعلوا الجزائر غير قابلة للإحتلال ونفروا قلوب سكان هذه القارة الشاسعة. هذا وإن السيد بيشون قد قدم ملاحظات منذ أكثر من سنة. فماذا نقول اليوم، وقد ازدادت التجاوزات وبلغ الشر أقصاه؟ إنني أستشهد، لتدعيم حججي بالجنرال بارتورين وغيره ممن لا يمكن للحكومة والأمة الفرنسيتين أن تنكرا عنهم وطنيتهم وغيرتهم.

سيرى قرائي، في المجلد الثاني، تلك الإدارة الحسنة التي قام بها هذان الحاكمان (بيشون وبارتوزين) وكذلك تلك الحسرة التي تركها في نفوس المواطنين عند ذهابهما.

ولئن لم أنشر المجلدين في نفس الوقت، فلأنني مكسور القلب من جراء الأخبار التي تصلني يوميا من الجزائر والتي تقول بأن الدماء تراق وديانا، وأن السخط عام، وأن بلدي يسير نحو الخراب وأترك لقرائي تقولون لي كيف تكون أفكار رجل حساس عندما يرى أن تلك الأعمال تتم باسم نفس فرنسا التي تدافع عن مصالح الشعوب وتحارب الحكم المطلق والتي يوجد من أبنائها أكبر الأساتذة في الأخلاق وفي حقوق الإنسان، وعندما يرى أن بلده، فقط، هو الذي يحرم من منافع تلك المبادىء الخيرية.

لقد طلب مني أحد أصدقائي أن أنشر موجزا لكي أجعل الفرنسيين الحقيقيين يأسون لحالنا، ومن الممكن أن هذه اللمحة التي كتبت على عجل

ص: 275

ستزعج قرائي بتكرار الأحداث وكثرة الحشو، ويظنون بأن هذا الأسلوب متأثر بالأدب الشرقي. غير أنهم يجب أن يلاحظوا بأن أي رجل يحب بلاده حبا صادقا لا يستطيع أن يكتب بأعصاب هادئة دون أن يتوقف عند كل حادث يمثل له إبادة مواطنيه أو تقتيلهم أو تدنيس مدافن أجداده.

ليس هذا الكتاب إلا مجرد تقرير، وأود من كل قلبي أن تسهر الحكومة الفرنسية على قضية إيالة الجزائر، وأن تأمر على الأقل، بأن تقوم اللجنة (5) التي أرسلت إلى تلك البلاد بالاستماع إلى شكاوى وتبليغات سكانها لكي يظهر الحق ويزهق الباطل. هذا وما أنا إلا صدى للأحداث ولسان لأبناء وطني.

(5) هي اللجنة الإفريقية التي أنشئت يوم 7/ 7 / 1833 للتحقيق في الوضع الذي آل إليه الجزائريون ولإعطاء رأيها حول الاحتلال.

ص: 276

طبع بالمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية

وحدة الرغاية الجزائر

2006

Achevé d'imprimer sur les Presses

ENAG Réghaia

-Algérie-

ص: 277

المرآة

لقد تعين مرور 130 سنة من الإبادة ومن إعادة تشكيل عموم مجتمعنا على وقع توالي ضربات النظام الاستدماري كي تبثق أفكار حمدان خوجة النيرة أخيرا وتخرج من حجب ظلام (الليل الاستدماري). فقبلت الدولة الفرنسية، في مارس 1962، على أسس أخرى وبعد معاناة طويلة. قبلت على مضض الاعتراف بسيادة الدولة الوطنية الجزائرية واستقلالها. منصفة حمدان خوجة ضد الجنرال كلوزيل وصوت التحديث السلمي والإرادي ضد التحديث الحربي والإبادي.

رجاؤنا هو أن يملأ، في 2005. صوت حمدان خوجة الأسماع في ضفتي البحر الأبيض المتوسط.

مقتطف من التصدير

ص: 278