الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
المتيجة: طبائع سكانها وعاداتهم
إن المتيجة التي دوخت بعض الشيء ذلك الكاتب المشهور (1) وجعلته يحلم بأنها الأرض الموعودة، التي أراد الجنرال أن يحولها إلى جزيرة في وسط هذه القارة الواسعة بعد أن أوحت له بعدد آخر من المشاريع الوهمية، رقعة منقعية وغير صحيحة. أنها سهل لا تساوي تربته تربة غيره من سهول الإيالة، بالإضافة إلى كونه موطنا لحمى تظهر في أوقات متقطعة، فتصيب السكان وتلازم حتى المتأقلمين.
وعليه، فإن الجنرال الشهير وأنصاره مخطئون كل الخطأ وأرى من واجبي أن أتصدى لوسائلهم التي تبدو لي غير صالحة. يعتقدون أن باستطاعتهم استصلاح هذا السهل، ويتوهمون أنهم اكتشفوا قنوات كتلك التي تعود الرومان أن يستعملوها وظنوا أنها كافية لتجفيف التربة.
(1) المقصود هنا هو السيد كلوزيل الذي سنتكلم عنه فيما بعد.
ومن واجبي، كمالك - من أب لابن - لجزء كبير من هذا السهل مثل أسر أبي قندورن، وأبي هراوه، وناصف خوجة، - من واجبي أن أقول بأنني أجهل تماما وجود قنوات تشبه قنوات الرومان. وشخصيا، فإنني أملك عددا من هذه القنوات على مقربة من مزارعي ومن الأليق أن نسميها ميازيب لأنها معدة فقط لإبعاد المياه العفنة والمضرة ولجعل الضواحي قابلة للإسكان.
وكلما حاول بعض الكتاب أن يقارنوا رقعة منقعية كمنطقة المتيجة بأراضي أمريكا، فإنهم يكونون عرضة للانتقاد. ومن الأفضل لهم التفكير في مقاطعات لومبالديا (2) أو في ضواحي روما اللاصحية لتكون المقارنة عادلة ومنطقية.
وعليه، فإن من واجبي أن أقوم، عن وعي، بتكذيب كل ما قيل عن هذه المنطقة حتى ولو كان في ذلك خيبة أمل بعض الأشخاص الذين ينتظرون منافع كبيرة من الاستعمار.
ان سكان الإيالة، أو الأهالي كما يسمون، يعرفون بلادعم أحسن من الأجانب الذين زاروها مرة أو مرتين والذين يمكن التشكيك في إدعاءاتهم الإحصائية والطبوغرافية. هناك أشخاص يزعمون أنهم يعرفون مقاطعة أو مملكة، جبلا جبلا وحجرا حجرا، وهم في الواقع لم يشهدوا تلك الأماكن إلا عرضا ومن بعيد. تماما كما لو قلت إنني أعرف فرنسا حق المعرفة لأنني قطعت المسافة ما بين مرسيليا وليون وبارس وكالي، ذهابا وإيابا فوق العربة. فبكل نزاعة لا أستطيع أن أكتب مقالة وصفية إعتمادا على
(2) منطقة في شمال إيطاليا تقع بين جبال الألب ونهر البو. مناخها صعب جدا، بارد في الشتاء وحار في الصيف. اشتهر سكانها بزراعة الكروم والأرز، والقنب وبتربية دودة القز. وهي الآن منطقة فلاحية وصناعية في نفس الوقت.
مثل هذه المعطيات، وأترك للقارىء حرية الحكم على الملاحظات التي قد تتعارض مع الإستلاحة.
ان الطبيعة لم تحب سكان المتيجة. انهم مجبلون على الكسل والنذالة والخيانة والحقد والدسيسة. وليس لهم مورد غير التسبيقات التي يقدمها لهم الجزائريون (سكان العاصمة) مقابل الإعتناء بمزارعهم وقطعانهم، وما يدره عليهم الحليب الذي يبيعونه في مدينة الجزائر. وعندما يراد وصف شخص بأنه كسول ومسكين يقال عادة أنه من متيجة.
ان قمح هذه المنطقة أقل جودة من غيره، ولونه يميل إلى الواد وكمية النشاء فيه أقل من تلك التي تحتوي عليها القموح الأخرى. ولا يمكن خزنه أكثر من سنة لأنه يتعرض للفساد حتى ولو كان البذر من مكان آخر.
وهذا العيب ناتج عن جو المنطقة ومناخها، ويقول الفلاحون أن اللون القريب من السواد ناتج عن كثرة الندى الذي يتساقط على القمح قبل فترة النضج. وهذا أمر لا نجده في بافي أنحاء الإيالة. إنني أتكلم عن بصيرة لأنني كما ذكرت في السابق، أحد المالكين في المتيجة، وأزرع سنويا في هذا السهل، ولحسابي الخاص، حوالي مائة وستين حمولة جمل من القمح، وحولي مائة أو مائة وعشرين من الشعير.
إنني أزور هذا السهل مرة في ربيع كل سنة لأنني أخشى الحمى في الفصول الأخرى، وحتى في هذه الفترة آخذ معي ماء الكولونيا وغيره مما يقيني شر الهواء الفاسد، كما أتزود من ماء مدينة الجزائر أشرب منه. إن هذا السهل يشبه الغدير في الشتاء، وفي الصيف والخريف تستوطنه
الحمى باستمرار إلى درجة أنه من الصعب جدا إتقائها، وما تمسكي بهذا السهل إلا لأنه قريب من المدينة ولأن فيه مزارع ومواشي عير بعيدة عن ضواحي الجزائر التي أزرع فيها القطن وهي زراعة منتجة لا يعرفها العرب.
وعلى اثر الغزو الفرنسي ضيعت هذه الزراعة كما أرغمت على ترك منافع أخرى. ان هذا السهل يكاد يكون مملوكا من طرف سكان مدينة الجزائر وحدهم، أما معاش سكان المتيجة فمن وادي جر ومليانة، (3) وعندما لا تكون الغلل كافية يلجأون جميعا إلى المناطق الغربية. وبعد مجيء الفرنسيين ارتفعت الأسعار وقلت الموارد في هذه المنطقة بكيفية ملموسة. وأصحبت الطرقات غير آمنة مما جعل سكان الغرب لا يسلكونها كما كانوا يسلكونها في السابق. ان هذا الشر قد ظهر خاصة هذه السنة بعد اعتقال مرابط القليعة الذي هو أكثر المرابطين تأثيرا في هذه المنطقة، والذي كان يحمي المسافرين ويدفع السكان البعيدين إلى الإتيان ببضائعهم وذلك بأن يحفظهم من جميع أنواع الشتم. لقد أصبح اعتقال هذا المرابط مصيبة على المنطقة، لا سيما وأنه اعتقال غير شرعي وان براءة الشيخ لا يشك فيها أحد. ويبدو ان الإعتقال ما يزال مستمرا، وان غرامة مجحفة قدرها مليون قد فرضت عليه وأغاظ هذا التصرف الجائر جميع سكان الإيالة إلى درجة أنه لم يعد لديهم أي استعداد للإتحاد مع الفرنسيين الذين صاروا ينظرون إليهم كمغتصبين.
ولقد باع أهالي هذا المرابط كل ما يملكون من ماشية وخيل وأراضي وحبوب ولم يتمكنوا إلا من جمع عشرة آلاف فرنك. وعلى الرغم من دفع هذا المبلغ، واستحالة الحصول على أكثر من ذلك، فإن اعتقال قائدهم
(3) وادي جر سهل شاسع يبعد عن مليانة بحوالي عشرين كيلومترا.
ووالدهم ما يزال مستمرا. وهذا هـ السبب الذي دفعني إلى القول بأن سكان المتيجة تألموا كثيرا من هذا الوضع، وبأن فلاحتهم قد توتفت كما انقطعت وسائل عيشهم الأخرى لأن هذا القائد هو حامي الفلاحين في هذا السهل، وهو نفسه واحد منهم،. وعلى فرض هؤلاء السكان سيخلصون الى الفرنسيين، فان وسيلة عيشهم محصورة في بيع البقر والدواجن، فيا لهم من تعساء! لأن عرب الجبال يتحكمون في هذا السهل بحكم موقع المنطقة الطبوغرافي. والخيل غير موجودة بتاتا، وما هو في حوزة السكان منها يستعمل للركوب ولنقل السلع وحرث الأرض. وعندما يصل أهالي هذه الناحية إلى مدينة الجزائر يعرفون بكل سهولة نظرا لما هم عليه من جهد وتعب، وذلك لأنهم لا ينقصون تغدية فحسب، ولكن العذاء الذي يتناولونه لا ينفع كثيرا بل هو غذاء مضر ، ونظرا لكل هذه الإعتبارات يبدو لي من العجب أن يكون (الدوق دوروفيكو) أراد أن يفرض على هؤلاء المساكين ضرائب كتلك التي كانت تفرض عليهم في عهد حكومة الأتراك. وهم كذلك يقولون ((إننا كنا ندفع الضرائب للأتراك مقابل قيامهم بتهدئة البلاد وتأمين الطرق وحمايتنا الخ
…
فافعلوا مثلهم وسندفعها لكم!!!)).
ان دفع الضرائب في بلاد الإسلام واجب ديني لأن الأموال المتأتية منها تنفق في صالح المجتمع بصفة عامة، ومعنى ذلك ان رئيس الدولة ليس إلا أمين مال المجموعة. يجمع الضرائب لينفقها في سد حاجات البؤساء والأرامل والأيتام ورجال الدين وأبناء السبيل. وأخير، في العمل على صيانة النوع البشري وتحسين أوضاعه. ولكي تكون هذه الضريبة شرعية يجب ان يكون رئيس الدولة مسلما، لأنه إذا لم يكن كذلك، يتحتم على
السكان ان يقوموا، حسب ضمائرهم، بتوزيعها بأنفسهم. وإذا أرغموا على الدفع، فإنهم يعتبرون ذلك قرصنة أو سرقة، ولا يمكن ان تكون السرقة عملا شرعيا. ولا يمكن لجميع الأشخاص الذين يعرفون التشريع الإسلامي ان ينكروا هذه المبادىء. ومن خلال هذه التفاصيل يجب نفهم بأنهم اذا امتنعوا عن إبداء هذه الملاحظات للدوق دوروفيكو، فلأنهم كانوا يخشون ضغينته والتعرض لمصير قبيلة العوفية. ومن نتائج هذا التعسف ان جميع السكان هاجروا وفروا وأخذوا جميع ثرواتهم إلى الجبال المجاورة ليكونوا في مأمن من سائر أنواع العدوان. ولم يبق، اذن، سوى الضعفاء والبؤساء وهم لا يقدرون على حرث الأرض. وسيكون من الصعب إجبار هؤلاء السكان على دفع الضرائب خاصة بعد ان حرموا من الفلاحة التي هي من أهم وسائل عيشهم. وحتى إذا دفعوا الضرائب، فإنهم لن يحصلوا على أمن الطرق ولا على الحماية التي وعدوا بها، بل سيكونون كسكان البليدة الذين اضطهدوا وأجبروا على دفع ضرائبهم بعد ان خضعوا للفرنسيين، وتعرضوا بسبب ذلك إلى انتقام سكان الجبال المجاورة لهم والذين هم أقوى منهم، بدلا من أن يحصلوا على الحماية الفرنسية وعلى وسائل إقامة الحصون التي تقيهم وتدفع عنهم الشرور. ولأجل ذلك تركوا البلاد ووجدوا أنفسهم مجبرين على إقامة العلاقات مع سكان الجبال.
وفيما يخص طريقهم في الحياة وألبستهم، فإنهم يعيشون ويلبسون على وجه التقريب مثل السكان الذين تحدثنا عنهم سابقا، حسب ما توفره لهم وسائلهم المالية. ولن أخصص بابا لوصف طبائعهم وعاداتهم على الرغم من أن شخصا مدفوعا بمصالح شخصية، - ما في ذلك من شك - قد قام
بوصف هذه المنطقة وبوصف سكانها وصفا سطحيا لا أساس له من الصحة، وإنني أمتنع، في الوقت الحاضر، عن محاربة هذه الأغلاط التاريخية التي، بالرغم من أنها تخدع القارىء، أكسبت صاحبها مرتبة أعلى وهو يأمل أن يرى المخططات التي وضعها تتحقق. وإذا سمحت لي الظروف فيما بعد، فإنني سأعود الى الوراء وأعالج هذا الموضوع.
البليدة
سكان البليدة يشبهون بعض الشيء سكان المتيجة إلا أنهم أكثر منهم حضارة، أنهم يصنعون قماش المناديل التي تباع في مدينة الجزائر، وبرغم ذلك، فإنهم فقراء لا يعرفون تجارة ولا صناعة. مناخهم غير صحي.