الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
طبائع وعادات البربر (تابع)
تبنى المنازل في القرى الصغيرة أو في الأكفار بالأخشاب والقصب بربط بعضه في بعض ولكل منزل أربعة أوجه، وتفرش أرضه بنفس مادة البناء ثم يحصن الكل بخليط من الطين وخثي البقر لمنع المياه من التسرب وعلى السطح يزرع نوع من العشب يسمى الديس. ولا يزيد إرتفاع هذا البناء عن قامة رجل. ثم إن الأهالي يجمعون الحشائش وأوراق الأشجار فيدخرونها لتغذية الحيوانات عندما يسقط الثلح، وتأوي هذه المساكن في نفس الوقت النعجة، والمعزة، والبغل والدواجن، والكلاب والرجال والنساء والأطفال، كلهم يعيشون منكسين في مكان واحد. وعندما تشعل النار للتسخين، فإن الأوخام التي تنشرما هذه الكائنات بالإضافة إلى الدخان الذي لا مخرج له تشكل ضبابا كثيفا وغير صحي وبما أنني لم أتعود هذا النمط من الحياة فإنه كان من المستحيل علي أثناء رحلتي إلى قسنطينة أن أتحمل العيش داخل هذه المساكن التي كنت أفضل النوم في الهواء الطلق على المبيت وسط سفينة نوح هذه.
ولقد اضطر صاحب المسكن الذي نزلت عنده إلى الخروج معي يحميني ويحمي حيواناتي ضد غارات اللصوص واعتداء الحيوانات المتوحشة لأن الأسود
تأتي في بعض الأحيان تدور حول المساكن لاختطاف بعض المواشي بيد أن السكان يبعدون هذه الحيوانات الكاسرة بنفس البرودة التي نطرد بها الكلاب وذلك نظرا لتعودهم زيارة مثل هذه الحيوانات المهولة واذا استثنينا ما يمكن استعماله في الفلاحة وفي تربية الماشية فإن السكان لا يملكون أي نوع من أنواع الأثاث وانك لتجد عندهم مطحنة صغيرة لطحنن الحب وكذلك كمية من دقيق الشعير ومن الحبوب يحتفط بها لما يطرأ من الأحداث، وترى أيضا عندهم تينا مجففا في كيس، وبعض الأواني الخشبية وقربة فيها ماء الشراب معلقة على الدوام.
إن الحروب متعددة بينهم والمنتصر يحرق دار المهزوم غير أن تلك الدار يعاد بناؤها في أقرب ما يكون لوفرة الأخشاب التي تغطي هذه البلاد. وتصعد الخيل والبغال والحمير الأماكن الوعرة بكل سهولة ويستعمل السكان الأسلحة النارية في أغلب الأحيان ولذلك يولونها كل العناية، ويحفظونها في القماش وهذه الأسلحة هي التي يقصدها اللصوص ويفضلونها على أي شيء آخر يأخدونه من الأهالي الذين كثيرا ما يجردون على الرغم من حذرهم الشديد.
ومساجد هذه القرى مبنية على منوال المساكن بفارق واحد هو أنها تبيض بالجير والذين يحسنون الشعائر الدينية من بين الأهالي يعتبرون كما نعتبر العلماء في مدننا.
أما القرى الكبيرة، الواقعة في الجبال الوعرة، فإنها منيعة لا يصلها العدو إلا بشق النفس.
وتستخرج من هذه الجبال الحجارة الصالحة لبناء المساكن. ولقد زرت بنفسي جبال فليسه، وزواوه وبني عباس ووادي بجاية وبني جنات
حيث توجد قرى كبيرة تشبه المدن عندنا. وكل العمارات فيها مبنية بناء متينا بالحجارة وبالكلس، والسطوح مغطاة بالقرميد، وفي المساجد مآذن كمآذن مدينة الجزائر. وفي هذه القرى مصانع للأسلحة النارية تصنع فيها على نحو ما في الجزائر أساتين البنادق المرصعة بالفضة، كما يصنع فيها البلاتين.
ويعرف السكان طريقة استخراج خامات الحديد ومناجم الرصاص وملح البارود موجودة لديهم بكثرة فهم أناس كثيرو الأشغال بالصناعة. وتشمل صناعتهم على الخصوص صنع البرانس والأغطية التي يمكن استعمالها في المدن لأنها من الصوف الجيد ، ويوجد في هذه القرى كذلك مشاغل تصنع فيها النقود المزيفة. فالأهالي ذوو مهارة ومقدرة فائقة في نقش المعادن وتقليد جميع أنواع النقود مثل نقود الجزائر (1) وقروش اسبانيا (2) ولو انهم يتصلون بالجيش الفرنسي فإنهم لن يترددوا في تقليد النقود الفرنسية إلى درجة انه يصعب على الصراف التمييز بين النوعين. ففي هذه الجبال قدم لي المسفوف، وفيها مدينة تدعى القلعة (3) لا يتم الوصول إليها إلا بشق الأنفس وبما أنني لم أتمكن من الذهاب إليها راكبا فإنني قطعت الطريق راجلا لأراها وإنه لطريق وعر منحدر جدا إلى درجة أننا عندما يتسلقه ثلاثة أشخاص بالتتالي، نرى رأس الثالث عند قدمي الأول. وفي مثل هذه المدن التي حصنتها الطبيعة يودع سكان السهول لرواتهم وحبوبهم ولا يبقون لديهم الا ما كان ضروريا للحياة اليومية، ولقد أكدوا لي انهم يعرفون طريقة للاحتفاظ بالحبوب مدة تزيد عن العشرين سنة.
(1) من جملة نقود الجزائر في ذلك الحين: السلطاني، والريال بووجه والباناك شبك والريال مجبور، والموزونة والصائم، الخ
…
(2)
كان القرش الاسباني أو البياستر يساوي نصف سلطاني أو 5،5 من فرنكات فرنسا.
(3)
هي قلعة بني عباس الواقعة في سلسلة جبال البيبان على مقربة من مزيطة.
أما لغتهم وطبائعهم وطريقة معيشتهم فتكاد تشبه لغة وطبائع وطريقة معاش سكان الأكوار السابقة الذكر. ولو أنني لم أكن في مثل ما كنت فيه من الحيرة والعذاب من جراء ما آل اليه بلدي المسكين، ولو أنني لم أكن في مثل هذه السن المتقدمة، ولولا الاتعاب التي أصابتني لكان باستطاعتي أن أجمع وثائق غاية في العجب حول هذا الجزء من افريقيا، وثائق قد تساعد على كتابة تاريخ هذه المناطق. ومن بعيد كنت أشاهد مدنا تكاد تشبه ضواحي بجاية والمرابطين ابن عيسى وأكرومه.
انني لا أقدم هنا تاريخا مفصلا وانما عرضا ضروريا لتكوين فكرة عن هذه المناطق وعن سكانها، هؤلاء السكان الذين هم على العموم أناس رحل قريبون من التوحش، ولكننا نعتقد ان من الصعب على فرنسا أو على غيرها من الدول أن نخضعهم. وإلى جانب ذلك فإن هذا الاحتلال بالنسبة لفرنسا لن يكون في مستوى عظمتها. انها تملك ثروات متعددة من حيث الرجال والأموال فماذا ستستفيد من محاربة هؤلاء السكان وإنفاق كنوزها واراقة دماء جنودها وتعريضهم للموت الناتج عن المناخ؟ وما هو الهدف من قيامها بمثل هذه الحملة أيكون ذلك لمجرد الرغبة في إبادة الناس أم لأجل نيتها الحمقاء في اكتساب أراض لا تنبت شيئا.