المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني عشرعن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها - المرآة

[حمدان خوجة]

فهرس الكتاب

- ‌المرآة

- ‌تصدير

- ‌مقدمة

- ‌لمحة تاريخية وإحصائية حول إيالة الجزائر

- ‌الفصل الأولالبدو وأصلهم

- ‌الفصل الثانيطبائع البربر وعاداتهم

- ‌الفصل الثالثطبائع وعادات البربر (تابع)

- ‌الفصل الرابعسكان السهول: طبائعهم وعاداتهم

- ‌الفصل الخامسالمتيجة: طبائع سكانها وعاداتهم

- ‌الفصل السادسعن سكان الجهة الغربية

- ‌الفصل السابعالجزائر

- ‌الفصل الثامنحكومة الأتراك: تنظيمها وأصلها

- ‌الفصل العاشرحول الداي وحكومته ومختلف العادات

- ‌الفصل الحادي عشرتحديد رسوم الأرض وطريقة جمع الضرائب

- ‌الفصل الثاني عشرعن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها

- ‌الفصل الثالث عشرعن داخل الإيالة، وبعض الملاحظاتحول حسين باشا آخر دايات الجزائر

- ‌الكتاب الثاني

- ‌الفصل الأولالحرب وأسبابها

- ‌الفصل الثانيقصة وصول الجيش إلى سيدي فرج

- ‌اتفاقية بين قائد جنرالات الجيش الفرنسي وسمو داي الجزائر:

- ‌الفصل الثالثعن تفاصيل دخول المارشال بورمون إلى الجزائر

- ‌الفصل الرابععن الاحتلال العسكري

- ‌الفصل الخامسعن البيانات منذ أن وقع الغزو الفرنسي

- ‌الفصل السادسعن إدارة المارشال بورمون

- ‌الفصل السابععن أحداث الترسانة والاحتلال العسكري

- ‌الفصل الثامنعن الاحتلال العسكري وسلوك أهم ضباط الجيش الفرنسي

- ‌الفصل التاسععن مصطفى بومزراق، وباي التيطري

- ‌الفصل العاشرتابع لإدارة الجنرال كلوزيل، وحملاته ضذ المدية والبليدة نسخة المعاهدات

- ‌الفصل الحادي عشرعن الأوقاف، والتغييرات التي تعرضت لهاتلك المؤسسات والمحاكم التي تنظر في شؤونهاأثناء ولاية الجنرال كلوزيل

- ‌الفصل الثاني عشرتفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر

الفصل: ‌الفصل الثاني عشرعن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها

‌الفصل الثاني عشر

عن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها

بعد أن ثبتت حكومة الأتراك أقدامها في هذا البلد، ووسعت سلطانها المتمثل في الحصول على طاعة هذا الشعب، كان من أسباب انحطاطها إرسال مندوبين إلى أزمير يجمعون الأجناد. وبدلا من أن يتبع هؤلاء المندوبون الطريقة القديمة التي لم تكن تسمح بأن يجند في الميليشيا إلا الرجال النزهاء الذين لهم جاه ومكانة، فإنهم كانوا يفتحون أبواب الميليشيا لأي كان حتى لأناس كانوا قد أدبوا أو أدينوا. وكان يوجد من بين المجندين يهود ويونانيون ختنوا أنفسهم. وكما أن حبة فاسدة تكفي لإفساد كوم كامل من القمح، فإن رجلا فاسد الأخلاق يكفي لجلب الشر على جميع الذين يخالطهم ويحيطون به.

وهكذا، صارت تلك الميليشيا المسلحة التي لا مبدأ لها، صارت ترتكب المخالفات ضد البدر والقبائل. ثم قام هؤلاء البئساء بإشعال الثورات وقلب قادة الدولة بحسب هواهم.

ص: 111

وكان أول ضحاياهم الملكية هو الداي مصطفى باشا، والد سيدي إبراهيم الذي كان موجودا بباريس قبل مدة قصيرة. لقد جعل الثائرون على رأسهم المسمى أحمد خوجه الذي دبر المؤارة والذي كان دفتر دار معزولا. إنه هو الذي كان سببا في موت ذلك الداي عندما أمر بالهتاف في كل مكان لم نعد نبغي حكومة مصطفى باشا! واستجابة لتلك الهتافات تجمعت الميليشيا، فحطمت عظمة الداي مصطفى وقتلته دون أن يكون قد ارتكب أدنى خطأ (1).

أما السكان، فإنهم لا يشتغلون أبدا في مثل هذه القضايا، ويخضعون لمن يختاره الديوان ملكا عليهم.

إن الجريمة السياسية تؤدي دائما إلى جرائم أخرى تتبعها: لقد عامل هؤلاء المتهيجون بعنف ووحشية معظم أعضاء حاشية الداي وأهم أنصاره واستولى أحمد خوجه على الحكم (2).

لقد ارتكب هذا الرجل، أثناء ولايته، عددا من الجرائم. ولمكافأة الميليشيا رفع أجور أفرادها. ولكنه عزل وقتل البايات للاستيلاء على أملاكهم وثرواتهم. وكانت الشخصيات المحيطة به والمكونة لحكومته تنقصها المهارة ولا تملك الوسائل، إذ لم تكن تعرف حتى تقاليد العرب ولم تكن لها أية علاقة بمختلف الشيوخ. وفي تلك الفترة، لم يكن على الذي يريد أن يصبح بايا إلا

(1) لقد ارتكب مصطفى أخطاء كثيرة، أهمها والذي قتل من أجله هو إعطاءه لليهودي بو جناح سلطة مطلقة، يتصرف في الإيالة كيفما يشاء، حتى أن المؤرخين الغربيين كانوا يسمونه ملك الجزائر.

(2)

هو أحمد بن علي الذي جابه تمرد ابن الأحرش في بايلك الشرق، وأخمد تمردات أخرى في تلمسان وتامرت. وقد مات في إحدى المعارك سنة 1806 بعد أن حكم عاما واحدا.

ص: 112

أن يتجه لأقارب أحمد باشا ويمدهم بالأموال. لقد كانت تلك المناصب تباع وتشترى، وهو أمر كان يلائم رجال الحكم الذين كان ظلمهم يتجاوز القانون. ودام هذا الوضع إلى أن كانت الحادثة التي تعرضت لها مدينة قسنطينة التي كان باي تونس يريد استرجاعها. سأوري، فيما بعد وفي فصل آخر، تفاصيل تلك الأحداث وكذلك تفاصيل الحملة التي قام بها أحمد باشا ضد تونس.

وبعد ثلاث سنوات من الحكم تعرض أحمد باشا بدوره إلى مؤامرة تهدف إلى قلبه. وكان على رأس الميليشيا مجهول يدعى علي خوجه الذي استطاع أن يدفع الميليشيا لاستبدال أحمد بعد أن فضح التجاوزات التي قام بها وكذلك الأعمال الوحشية والإعدامات التي سلطها على معظم أعيان الأتراك. لقد قتل أحمد مصطفى باشا فكان له نفس المصير. وبعده تولى الحكم علي باشا، ولم يكن هذا الملك إلا آلة في خدمة الأتراك، يستعملونها لتنفيد مشاريعهم، لأنه كان عاجزا عن الحكم وعن فرض طاعته. وبعد ذلك بفترة وجيزة (3) قتل خنقا واستبدل بالحاج علي باشا (4). ولقد برهن هذا الأخير على نوع من الكفاءة ولكنه كان سفاحا، فقتل كثيرا من العرب وبعض أعيان البلاد دون أن يرتكبوا أية جريمة.

(3) لقد حكم الجزائر ثلاثة دايات في الفترة ما بين 1806 و1815. وكل واحد منهم كان يسمى عليا، ولذلك اختلط الأمر على حمدان. والصحيح أن قاتل أحمد باشا بقي في الحكم إلى غاية سنة 1808. وقد قتله علي خوجه غول والذي خلفه الذي ظل يحكم البلاد إلى أن قتل خنقا سنة 1809.

(4)

هو الذي خلف علي غول سنة 1809، وظل في الحكم إلى سنة 1815. وقد قتل في حرب وقعت ضد تونس.

ص: 113

وخلال ولايته، كاد الحظ ان يكون دائما إلى جانبه، ومع، ذلك لم يتمكن، بالرغم من مجهوداته، من غزو مملكة تونس التي كان يريد السيطرة عليها. سأتكلم عن هذه الحملة فيما بعد.

كان الحاج، بعد أن استولى عل زمام الحكم في الجزائر، يشعر بتفوق كبير في العلوم والمعرفة، ولذلك احتقر وزراءه وآراءهم، وعندما أهين هؤلاء الأخيرون وملأ الرعب قلوبهم وضعوا مشروعا يهدف إلى التخلص منه. وهكذا فلما ذهب يستحم، ذات مرة، قام الشخص المكلف بإعداد الحمام على الطريقة الشرقية - وكان من امتآمرين - يغلق الأبواب غلقا محكما ثم ضاعف النيران بكيفية عنيفة إلى أن اختنق الحاج باشا بالبخار بدون ضجيج ولا هرج، واستبدل بخزناجبه المسمى الحاج محمد باشا (5). ويعتبر هذا الأخير نموذجا حقيقيا للأتراك القدماء، إذ كان رجلا فاضلا، وكان من الممكن أن يحكم مدة أطول لو لم يتعرض لخيانة آغاه المسمى عمر (6).

وكغيره، ضحى عمر هذا بالحاج محمد باشا بعد ان تفاهم مع الميليشيا على ان تعطى له الولاية. وكان عمر، أيضا، سفاحا! وكانت الظروف تكاد تكون دائما غير مؤاتية له، وهذا الداي هو الذي أبرم مع اللورد آكسماوث، سنة 1816، معاهدة بعد ان قام بقنبلة المدينة. وقد ساهم هذا الحادث مساهمة كبرى في سقوط عمر.

(5) عين في مكان الحاج علي ولكنه قتل في نفس اليوم من طرف خليفته كما ذكر حمدان.

(6)

حكم من سنة 1815 إلى سنة 1817، وقد قتل خنقا. وفي عهده تعرضت الجزائر لحملة آكسماوث 1816، وإلى الطاعون الذي قضى على عدد كبير من سكان الإيالة.

ص: 114

وقام علي (7)، وهو رجل مجهول ومعتوه، فاغتنم هذه الفرصة وجمع الجيوش ثم استولى على مقاليد الحكم في الجزائر.

وعندما تولى الحكم، قام الداي علي هذا بثورة شاملة في نظم الإيالة القديمة. كما أنه ارتكب عددا من الجرائم ونفى كثيرا من الناس. وذات يوم، أمر سكان مدينة الجزائر ان يغلقوا أبوابهم في ساعة مبكرة، وأمر كذلك بغلق الثكنات، ثم جمع عددا كبيرا من البغال حمل عليها، ليلا، جميع كنوز الجزائر التي كانت في محلات الباشا القديم، ونقلها الى القصبة التي انتقل إليها مصحوبا بالجيش يحافظ على شخصه، وفي الصباح أعلن عن هذا التغيير بطلقات مدفعية.

وخلال مدة ولايته التي لم تدم سوى ستة أشهر، ساءت أحوال الدولة الى أقصى درجة. وأثناء نقل الثروات الى القصبة، وقع كثير من النهب قام به وزراؤه وأعضاء حاشيته. وقد مات علي بالطاعون في مقر إقامته الجديد، ولو انه عاش لتسبب في خراب الايالة ما في ذلك شك. وكان أعداؤه الذين كان يضطهدهم هم أنصار عمر باشا. ولم ينج من هؤلاء الأنصار سوى حسين خوجة الذي عينه خزناجيا، وفيما بعد رفعه الى مرتبة خوجة الخيل.

وقد دهش الجميع عندما رأوا ان حسين الذي كان من المقربين لعمر، يحظى بمثل تلك التقديرات من علي باشا. وحقيقة فإن حسين - من بين

(7) هو علي بورصالي، تولى الحكم سنة 1817، وعلى عكس ما يقول حمدان، فإن الرجل كان ثقيا ورعا: حارب العهر والفساد وأراد أن يعطي الدولة طابعا آخر، إذ تخلص من الميليشيا وراح يعمل على إشراك الأهالي في الحكم وانتقاله إلى القصبة دليل على ذلك.

ص: 115

الشخصيات التي كانت تحيط بذلك الداي - هو الوحيد الذي كان نزيها وذا أخلاق فاضلة، أما الآخرون، فإنهم لم يكونوا سوى مغامرين. وعندما توفي علي باشا هذا، اجتمع الديوان لاختيار الملك، فوقع اختياره على حسين الذي كان آخر باشوات الأتراك قبل الغزو الفرنسي.

ولقد ارتكب الأتراك خطأ فادحا عندما تركوا السلطة المطلقة بين أيدي الباشوات، لأن ذلك جرد الديوان من كل قوة وسلطان وجعله كلا شيء، في حين أنه أنشىء لمراقبه أعمال الباشوات ومساعدة الحكومة عن طريق تزويدها بالنصائح. ولم يعد يطلب من أعيان البلاد آراؤهم، كما ان أهم المناصب في الدولة والوزارات ووظيفة خوجة الخيل لم تعد تعطى إلا للأتراك لأن الكراغلة طردوا من الحكم على الرغم من أنهم كانوا فروعا لهؤلاء الأتراك أنفسهم.

وفيما يخص الكراغلة، سأروي حادثة تاريخية كانت هي السبب في إبعادهم: ففي حوالي سنة 1630، وللاستيلاء على الحكم، وضع أفراد تلك الطبقة مشروعا يهدف إلى طرد الأتراك (آبائهم وأجدادهم) الذين كانوا يحكمون البلاد. ولهذا الغرض اجتمعوا في حصن الامبراطور. وعندما علم الأتراك بهذه المناورة فكروا. لإحباط المشروع ; في ان يلبسوا عددا من العمال الذين يدعون بني ميزاب ملابس نسائية، ولما تدثر هؤلاء بالملاحف أخذوا أسلحتهم والذخيرة في شكل متاع مستورد، ثم تقدموا الى مدخل الحصن وكأنهم نساء هربن من جور الأتراك. وبمجرد ما دخل أولئك الرجال الحصن وهم تحت ذلك القناع، هاجموا المتمردين بمساعدة فوج كان يتبعهم عن كثب، فأخضعوهم وأحبطوا مشاريعهم. وعلى اثر هذا الحادث،

ص: 116

وبما ان الأتراك لم يكونوا قادرين على ان يطردوا ذريتهم من البلاد، فانهم قرروا فقط، عدم السماح للكراغلة بشغل المناصب السامية. وقد عزل كل من كان يشغل منهم وظيفة حساسة في ذلك الحين. وهكذا، اذن، فان كل كرغلي يصل الى المرتبة السابعة، كان يعزل، وبهذه الكيفية لم يكن لأي واحد منهم ان يشتغل في البلاط.

وان الترجمان الذي هو مترجم البلاط، أو أمين اللغات الأجنبية (وهي وظيفة هامة جدا) وكتاب الدولة، كلهم كانوا يختارون من بين العرب لا من الكراغلة كما ان مراقب المؤاسسات الخيرية التابعة لأملاك مكة والمدينة، كان يعين من بين العرب.

وقد استمر هذا الحقد من الأتراك على أفلاذ أكبادهم مدة قرنين تقريبا. وهؤلاء الكراغلة كثيرو العدد، وموزعون على كامل أنحاء الايالة، وخاصة في المكان المسمى وادي الزيتون الواقع في سفح جبل فليسه، ويعتقد أنه يوجد منهم في هذا المكان وحده ما بين 8 و 10 آلاف محارب. ومعظمهم كان يأخذ أجرا من الدولة، وعلى الرغم من إبعادهم، فانهم ظلوا يتقاضون رواتبهم خوفا من إثارة سخطهم.

وبعد ذلك فكر الكراغلة في استعطاف آبائهم ونيل رضاهم، ثم قاموا بإحضار جنود آخرين، على نفقتهم، وسجلوا أبناءهم كمتطوعين في الميليشيا.

والكراغلة الذين كانوا يتقاضون أجورا من الدولة، والذين كانوا موزعين على مختلف أنحاء الإيالة، لم يكونوا يستطيعون الحضور، شهريا، كما هي العدة، لتقاضي مرتباتهم، ولذلك كانت جماعة من اليهود تسبق لهم رواتبهم السنوية مقابل وكالة تسمح لهم بأن يقبضوا - باسمهم - ما لهم

ص: 117

في ذمة الدولة. وفي العادة، فان هذه التسبيقة لا تكون في شكل نفود، وإنما تدفع في شكل بضائع وبالفائدة. وقد كان هؤلاء الرجال دائما في وضعية تجبرهم على قبول التسبيقات مهماكانت الشروط. ولكن، لو ان واحدا منهم يموت قبل نهاية السنة، ولم يترك وراءه شيئا، فان اليهودي، يخسر المبالغ المسبقة. وكانت قوانين الإيالة تسمح بهذا النوع من المعاملات وعندما قام الفرنسيون بغزو الجزائر توقفت أجور هؤلاء الكراغلة، وضاع الضمان المثمثل في الحكومة التركية بالنسبة لكل من كان مقرضا لهؤلاء الرجال، ذلك ان الفرنسيين لم يكونوا يدفعون الاجور للكراغلة. وعندئذ اجتمع اليهود وأرسلوا اعتراضاتهم إلى السيد المارشال بورمون يطلبون منه أن يدفع ذلك الدين المترتب على الدولة. وقد رفض المارشال التسليم لادعاءاتهم. إنهم كانوا يريدون الحصول على ديونهم من موارد المؤسسات الخيرية المخصصة للاعتناء بالثكنات التي تقوم في هذا البلد مقام دار العجزة والمقعدين في فرنسا لانها لم تكن آهلة إلا بالجنود المقعدين وبأرامل الجنود وأيتامهم وهؤلاء المقعدون هم وحدهم الذين لهم الحق في المطالبة بالمعونة من تلك المؤسسات.

أما مطالب اليهود الناتجة عن ديون وقع التعاقد عليها مع جنود يعملون ويتمتعون بصحة جيدة، فإن وفاءها لو تم من صندوق تلك المؤسسات لشكل خرقا للترتيبات التي وضعها منشؤ تلك المؤسسات.

وعندما رأى اليهود أنهم لن يحصلوا في الجزائر على أي شيء يرضيهم من الولاة الفرنسيين وجهوا مطالبهم إلى باريس قصد الحصول على المبلغ الذي هم به دائنون وأنني أجهل ماذا كانت نتيجة مطلبهم.

ص: 118

ولقد جاءني عدد من هؤلاء اليهود يسألونني رأيي فيما يخص مطالبهم وليعرفوا ماذا أفكر في مثل تلك المطالبة.

وكانت إجابتي كالآتي يا أصدقائي ليس لكم أي حق في مطالبة الفرنسيين وليس في إمكانكم إلا أن تلتمسوا من تلك الحكومة لنمنحكم عطفها ومساعدتها، وأنني لا أشك في أنها ستستجيب لرغبتكم عندما تعرضون عليها أوضاعكم.

ولكي أعود إلى ذلك الشقاق الذي كان موجودا بين الأتراك والكراغلة أقول انه منذ أن وقع الحادث المفصل أعلاه تكون حاجز بين الطائفتين بحيث أن الأتراك أصبحوا لا يستفيدون من علوم أبنائهم ولا من نفوذ ما لهم من أقارب في البلاد وقد كان حذر الأتراك شديدا إلى درجة أنهم لو أسدى لهم الكراغلة النصائح ولو كانت مفيدة لهم لنظروا إليها كحبائل منصوبة لاقتناص حسن نيتهم وإذا ما علموا أن هناك اجتماعا يعقده الكراغلة في مكان ما فإنهم كانوا يرسلون إليهم جواسيسهم تنظر هل يشتغلون بالسياسة وينتقدون بعض أعمال الحكومة أو حتى الحياة الخاصة للأتراك، كما أن الكراغلة كانوا يراقبون خشية أن يحدث بينهم وبين بعض الأعيان في داخل البلاد نوع من التفاهم بقصد الاستيلاء على الحكم، وعندما يكتشف الأتراك أنهم يضمرون لهم نوايا سيئة، بل عندما يخامرهم أدنى شك في ذلك، فإنهم كانوا ينفون قادتم ويفرقون اجتماعهم. وأخيرا لقد بلغت الإهانات التي كانت تسلط عليهم إلى درجة أن سكان الجزائر من كراغلة وغيرهم لم يعودوا يهتمون بالسياسة لا في اجتماعامم، ولا امام الملأ، ولا في مجتمعاتهم الخاصة. ومما يحدث أحيانا أن بعض الأشرار كنوا إذا ما أرادوا الانتقام يتهمون الشخص الذين يبغون هلاكه

ص: 119

بأنه يشتغل بالسياسة ولقد قضى هذا النوع من المراقبة على بذور الكفاءة عند رجال هذا البلد وخلق في المجتمع حذرا عاما استمر حتى مجىء الفرنسيين، وهذا الانحلال هو الذي جعل السادة الولاة يستطيعون القيام بأعمال تعسفية أو يتفننون في تطبيق الأحكام الجائرة دون أن يجدوا أناسا لهم من الشجاعة ما يمكنهم من التشهير بسلوكهم أمام الجمهور ومن أعلام الحكومة الفرنسيين بما هم عليه.

ومن جهة أخرى فإن نصائح الغذر التي كان يسببها اليهود قد ساعدت على أن يتزايد الطغيان ويبلغ منتهاه، وعلى أن تنشأ فكرة مشوهة عن طبائع سكان الجزائر الذين يرزحون تحت نير الاستبداد.

وفيما يخصني ووفاء مني للحكومة الفرنسية ولصالح قضيتها، فإنني قد حاولت أن أعرف بطبائع تلك الأمة الحرة وكذلك بالشعور النبيل الذي تتحلى به حكومتها التي لن توافق أيضا على أساليب الجور اللاسياسية والمناهضة للقوانين وبناء على هذا الاحتراز من الكراغلة والذي تكلمنا عنه أعلاء وضع الأتراك ثقتهم في اليهود لأنهم لا يخشون منهم الاستيلام على الحكم. وأقام سكان الجزائر من جهتهم حاجزا بينهم وبين الأتراك وأبدوا تحفظا شديدا إزاءهم بحيث لو طلب الأتراك من الجزائريين إبداء آرائهم لما افصحوا لهم عما يدور في أنفسهم. هذه هي الأسباب التي قضت على الديوان وعلى الشورى في الأمور.

وهكذا، فإن اليهود قد ارتبطوا بالأتراك من أجل المصلحة وقد جمعوا في تلك الظروف أموالا طائلة. وسأذكر اليهودي بكري الذي كان أخوه ميخائيل يملك عندما قدم إلى الجزائر حانوت عطار صغيرة يبيع فيها الخردوات بالتفصيل. وكانت هذه الحانوت تقع في نواحي باب عزون. ومنذ تلك الفترة ارتبطت

ص: 120

محلات بكري هذه بمصالح حسن باشا ومصطفى باشا، واستطاعت أن تحصل على ثروة تقدر بالملايين وسأروي واقعة واحدة تستطيع أن تفسر الكيفية السريعة التي تمكن بها أولئك اليهود من جمع تلك الثروات: لقد قدم باي قسنطينة (8) كالعادة إلى مدينة الجزائر. ولما أراد أن يقدم هدية ثمينة إلى زوجة الداي توجه إلى يهودي يدعى نفتالي أبو جناح، شريك بكري، لشراء حلية نفيسة، فأحضر له سرماطا مرصعا بالماس تقدر قيمته بستين ألف بياستر (300،000 ف) فاشتراه وبما أنه لم يكن يملك المبلغ نقدا، فقد تعهد بأن يدفع بدلا من تلك القيمة كيلات من القمح يقدر ثمن الواحدة بأربعة فرنكات، وتزن أربعين كلغ. وبعد الحصاد، أرسل (البكريون) مراكب تشحن كمية من القمح قدرها خمسة وسبعون ألف كيلة نقلوها إلى فرنسا وكان ذلك أثناء الحصار الإنكليزي، فباعوها بخمسة فرنكا للكيلة الواحدة التي لم تكلفهم سوى أربعة فرنكات، وهكذا افادوا من تلك الشحنات ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمسين ألف فرنك ويقال إن الحلية صنعت في باريس ولا يبلغ سعرها إلا ثلاثين ألف فرنك وبما أن أحد شركائهم لم يستفد من هذه الصفقة في حين أنه هو الذي أرسل الحلية من باريس فإنه قدم إلى الجزائر يطالب بحصته ولكنه لم ينل شيئا. ولقد حصلت على هذه التفاصيل من ذلك الشريك نفسه. وهذه الأموال هي المصدر، وأحد الأسباب الرئيسية للحرب التعسة بين فرنسا والجزائر ولسقوط حكومة الأتراك في هذا الجزء من أفريقيا.

هذه هي، إذن، الكيفية التي جمع بها وبأمثالها أولئك اليهود ثروتهم على

(8) المقصود هنا هو الوزناجي الذي كان بايا على التيطري ثم عزل سنة 1792 بعد حكم دام عشرين سنة. وفي سنة 1794 تدخل بو جناح وبكري لدى الداي فعينه على رأس بايلك قسنطينة. والداي في ذلك الحين هو بابا حسن.

ص: 121

حساب جميع سكان الإيالة. وقد كانوا يحظون بجميع منافع ذلك الاحتكار، في حين أن تلك التجارة كانت تمنع علينا ولا نستطيع التمتع بما ينتج عنها من منفع ; لأننا لا نستطيع الشراء بنفس الأسعار التي يشترون بها هم.

وفي تلك الفترة سمعت أحد البولكباشيين يقول - وقد كان قائدا للحامية التركية في عنابة - إن كمية القمح التي صدرت إلى أوروبا في تلك السنة كانت تقدر بست وتسعين شحنة. وبما أنه كان يتقاضى رسما عن كل باخرة تحشن قمحا، فإن تصريحه جدير بالتصديق، ولا أشك في صحته. وقد كان ذلك الرسم يقدر بمربع ذهبي أو بثمانين فرنكا. وفي نفس تلك السنة وقع تصدير مائتين وأربعين ألف صاع قمحا من ميناء وهران، ولم تزد كلفة الصاع.

الواحد عن ست فرنكات بالنسبة لأولئك اليهود الذين كان البايات مجبرين على إرضائهم نظرا لأنهم كانوا يحظون برعاية الباشا. وعلى هذا الأساس، فإن عددا قليلا من السنوات كان كافيا للقضاء على جميع ثروات بلدنا الجليل.

وفي سنة 1800 أصيبت الجزائر بمجاعة كبرى، ووقعت الحاجة إلى الأقوات، فأمر الداي لتموين البلاد، بالذهاب إلى موانئ البحر الأسود لشراء القمح. وقد بيع ذلك القمح بثمانية وعشرين فرنكا للصاع الواحد وعلى الرغم من ذلك كان لا بد من تنصيب الجنود عند باب كل مخزن. ونستطيع، أيضا، أن نقول بأن اليهود، الآن، قد وجدوا نفس الحظوة لدى الفرنسيين. إنهم قد حصلوا على إمتيازات هذا النوع من الاحتكار ولكن الفوائد ستكون أقل بكثير، وذلك بسبب الوضع الذي توجد فيه الايالة.

ص: 122