الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر
عن الأوقاف، والتغييرات التي تعرضت لها
تلك المؤسسات والمحاكم التي تنظر في شؤونها
أثناء ولاية الجنرال كلوزيل
لقد أنشئت، حسب قوانيننا، مؤسسات خيرية وأوقاف تهدف كما ذكرنا إلى تحسين أوضاع الفقراء والتخفيف من مصائبهم. وهناك طرق متعددة للتصرف في هذه الأملاك. فوفقا لمبادىء القضاء المالكي، أن الذي يهب ملكا م يتعهد بأن يسمح للمؤسسات المهدى لها أن تشرع حينا بالتمتع بذلك الملك. وحسب مبادىء القضاء الحنفي، فإن إرادة الواهب تصبح بدورها قانونا. غير أن الذي يوقف أملاكه على فقراء من غير مديتته أو قريته، فإن إرادته لا تنفذ إلا بعد النظر فيما إذا لم يكن فقراء البلدة التي توجد فيها الأملاك أكثر احتياجا من غيرهم. في هاته الحالة يفضل الفقراء الأكثر احتياجا، وكذلك إذا كان الواهب يرغب في أن يعطي حق استثمار أملاكه للفقراء مدة عشر أو خمسة عشر عاما، وبعد انقضاء الفترة المحددة تعاد له أملاكه كاملة، فإن ذلك لن يكون شرعيا، ولا يستطيع الواهب أو ورثته أن يتصرفوا
فيه بعد تلك المدة، ويصبح حق الإنتفاع هبة أبدية. وبمقتضى هذه القوانين المختلفة، أجمع الفقها على أن يطبق المذهب الحنفي على كل الهبات المشروطة، وذلك لرفع الموارد الخاصة بالطبقة المعوزة. وعلى العكس، فلو نطبق مبادئ القضاء المالكي، فإن الأوقاف تقل بكثير عما هي عليه.
وإذا كنت قد دخلت في هذه التفاصيل الخاصة بالوقف، فلأنني متأكد من أن الأوروبيين سيقرأون هذه التفسيرات بكل اهتمام حتى يتحققوا من أن شريعتنا تعتمد أساسا على مبادئ حضارية وأخلاقية. وحسب هذه المبادئ نفسها، فإن جميع الممتلكات في الأرض لله، ولسنا في هذه الدنيا إلا عابري سبيل، وما تمتعنا فيها إلا وقتي. هكذا تأسست قوانيننا، وهكذا أصبحت تلك الأعمال مفيدة للسكان المعوزين، ووافق عليها أهل العصر.
إن كل من يهب ملكية ما إلى مؤسسة من هذا النوع، لا يستطيع، أن يرجع في هبته أو أن يتراجع في أعماله، ويعتبر عقد الهبة أحسن وثيقة، ولا يختلف عن أي نوع من أنواع عقود البيع بشرط أن تتم الهبة لصالح مؤسسة تتوافر فيها حميع الصفات المطلوبة لهذا الغرض. وهكذا، فإنه يحق لجميع الفقراء أن يطالبوا بالإجراءات التي تقع لصالحهم، أي الإعانات، ولكنه لا يسمح بأن يتصرفوا في ملكية معينة.
وحسب القضاء المالكي، فإن الهبة لا تقبل إلا إذا كانت في حينها وبدون أي تقييد. فالذي لا يريد أن يهب ملكه لمسجد ما أو لمؤسسة أخرى إلا بعد وفاته، فإن هبته لا تقبل إلا بالنسبة للقضاء الحنفي، ووفقا لقول نبينا: نوايا المرء الحسنة أبلغ من أفعاله - العوائد المتداولة تتحول إلى قانون - لا تحابوا واحد على الآخر، بل يجب أن تكون المنافع مشتركة - حاولوا أن
تقطعوا جذور الشر قبل البحث عن الخير.- (أو كما قال) مثلا: هناك رجل يملك دارا يسكنها ثم يريد أن يقوم بعمل خيري. حسب المذهب الحنفي فإنه يواصل التمتع بمسكنه طيلة حياته وبعد ذلك تنتقل الدار إلى إحدى المؤسسات الخيرية. وأما المذهب المالكي، فإنه يعتبر العمل باطلا.
وبالإضافة إلى ذلك، تقر قوانيننا شروطا وشكليات ضرورية. فالمدير أو الوكيل على المؤسسات الخيرية يجب أن يكون مسلما، يقوم بتعيينه الحاكم الذي هو أيضا من المسلمين. وتساعد هذا الوكيل جماعة من الجباة والموثقين لجمع حقوق الإنتفاع وتوزيعها وفقا للتراتيب القانونية. ويتقاضى هؤلاء العمال أجورا عن متاعبهم وأشغالهم. وعلى الرغم من أن القوانين لا تنص على هذه الخاصيات، فإن العمل قد جرى بها وفقا للمبادىء المشروحة أعلاه والقائلة: إن العوائد المتداولة تتحول إلى قانون. يجب أن تتوفر في وكيل أملاك مكة والمدينة نفس الخصال التي تشترط في من يوكل على أملاك المؤسسات الخيرية الأخرى، ويتحتم عليه أن يعمل حسب العرف والعادات الجاري بها العمل منذ تكوين تلك المؤسسات. مثلا، فإن مساكن هذه المؤسسات كانت تكترى بأجور معتدلة على شرط أن يقوم المستأجرون بالإصلاحات الضرورية، ولكن هذه التأجيرات لم يكن يسمح بها إلا لبعض الأشخاص الذين كانوا يحصلون على الإمتياز نتيجة أوضاعهم الإجتماعية، ويعتبرون تلك المساكن كأملاك لهم.
وحسب الإجراءات الجديدة التي سنتها السلطات الفرنسية، فإن الفقراء لا يحصلون إلا على جزء من موارد هذه المؤسسات، أما الباقي فيدفع إلى صندوق أملاك الدولة. وتلك لم تكن هي نية المؤسسين. وبمثل ذلك الإجراء
وقع تغيير وجهة تلك الأوقاف، وحصل انتهاك حقوق الإنسان. إن هذه الإجراءات لظالمة، ولا أخلاقية. إنها تدخل اليأس على سكان الإيالة، وتجعلهم يكرهون سائر الأوروبيين بوجه عام، ويعتبرون كل من يحمل قبعة مسيحيا. وبالتالي عدوا لشعوب أفريقيا.
أعود إلى ملاحظاتي عن المؤسسات الخيرية فأقول: أن من كان يريد أن يهب شيئا بعد وفاته، يتوجه إلى ما يسمى بالمحكمة الحنفية، غير أن هذه المحكمة قد ألغيت من طرف الجنرال ملوزيل، والمالكيون أنفسهم، فإنهم كانوا يحيلون عقودهم على تلك المحكمة لتشجيع الواهبين ومساعدتهم، ولمضاعفة موارد الطبقة المعوزة. هذه هي الأسباب التي أدت إلى ضرورة إبقاء محكمتين وقاضيين، وكل محكمة لا تقرر إلا بعد أن يبحث الفقهاء شروط العقد. ويكون هؤلاء الفقهاء من المدرسة التي ينتمي إليها القاضي، وذلك لكي لا يقع غموض عند الناس.
غير أن هناك حالات يتحتم فيها على المحكمتين، المالكية والحنفية، أن تتفقا وتقررا في أتجاه المبدأ الأساسي.
وإذا كان رب أسرة قد قدم هبة، تنتقل، بعد وفاته، حسب المذهب الحنفي، إلى إحدى المؤسسات الخيرية، وكانت أسرته نفسها معوزة، فإن الهبة تلغى وينظر اليها بحسب المبادىء المشروحة أعلاه والتي تقول:(حاولوا أن تقطعوا جذور الشر قبل البحث عن الخير). وليس من العدل في شيء أن نساعد الأجانب على حساب أفراد الأسرة المحتاجة.
وإذا كان الواهب غنيا، ثم هلك ولم يترك وارثا، فإن تركته تعود
إلى بيت المال. وإذا كان قد أوصى بشيء لبعضهم، فإنهم ينظرون أولاء، إلى الوضع الذي يكون عليه صندوق بيت المال، وتلغى وصية الواهب إذا كان ذلك الصندوق فارغا.
وإذا أراد أحد المسيحيين أن يهب أملاكه لكنيسة أو لفقراء من المسيحيين؛ فإن القاضي يثبت العقد الذي يعتبر شرعيا، ويكون للهبة نفس مفعول هباتنا نحن. وعلى العكس، فإذا أوصى ذلك المسيحي بنفس الهبة لمساجدنا أو لفقراء من المسلمين، فإن القاضي لا يستطيع أن يثبت بنفسه ذلك العقد الذي يعتبر غير شرعي والذي لا يعترف القانون بصحته مهما كانت الصفة التي يقدم بها. ويظل المالك حائزا على أملاكه يتصرف فيها كيفما شاء. والسبب في ذلك هو أن ذلك المسيحي لم يقدم ذلك العمل الخيري إلا مجاملة أو بدوافع لها ارتباطات بالسياسة. وهكذا، إذن، فإن الهبة تكون صحيحة ما دامت نيته لم تتغير، وإذا أراد إلغاءها بسبب من الأسباب، فإنه يترك وشأنه دون تجديد العقد أو إعادة غيره.
تكون الهبة بتصريح أمام شهود أو بتخصيص الغاية للأشياء. مثلا:
يقيم رجل بناية لا يمكن بطبيعتها، أن تعود عليه بأية فائدة، كمسجد يشيده في أرضه ويسمح فيه للعموم بأن يجتمعوا لأداء الصلوات. فبدون أن يقال بأن تلك البناية مخصصة لكذا أو كذا، وبدون أن تفصل عن الملكية الأساسية، فإن المالك يكون قد قدم هبة صحيحة تتوفر فيها جميع الشروط حسب المبدأ القائل:(إن العمل صريح كالقول، والعرف هو أحسن القضاة) إن شكل هذه البناية نفسه يدل في العادة، على أنه لا يكترى. وإذا وقع، بدلا من ذلك، بناء قاعة كبيرة في دار المالك للإجتماع فيها وللقيام بالشعائر
الدينية، مرة أو عدة مرات، فإن المكان لن يصبح هبة: أولا إنه لن يعتبر كمسجد لأن شكله يختلف عن شكل المسجد، وثانيا لأنه لن يكون مفصولا من الملكية.
إن التفاصيل الخاصة بشكل وطريقة تسيير تلك المؤسسات الخيرية كثيرة جدا، تؤلف وحدها كتابا كاملا، ومن الصعب جدا أن نتمكن، في لمحة، من تحديدها كما ينبغي، وإشباع فضول قرائنا، ومع ذلك، فإنني سأذكر المبادىء الأولية في الجزء الخاص بالتشريع.
إن مثل هذه المؤسسات لا يمكن إلا أن تحظى بتأييد الرجال الطيبين والمشرعين في جميع البلدان وسائر الأزمان، لأن هدفها الإنساني لا يرمي إلا للتخفيف من آلام أمثالنا، وللمساهمة في إسعاد ذلك المجتمع الكبير الذي تربطنا به روابط لا تفصم.
وهناك سبب آخر سياسي وهو العمل على تخفيض أسباب الجنوح، لأن البؤس كثيرا ما يؤدي إلى القيام بأعمال شريرة ويدفع إليها ذلك الذي، لولا الضيق والحاجة، لما جنح وارتكب، جريمة يبدو أن وضع أسرته البائس قد جعلها شرعية في نظره. ومن ثمة فكيف أقدم الجنرال كلوزيل على تهديم قواعد تلك المؤسسات واستمع إلى نصائح السيدين فوجرو وفولان فاستولى، باسم الحكومة الفرنسية، على ذلك الصندوق المتواضع وصده عن الهدف الذي أنشىء من أجله، وهو هدف، يبدو لي، شريف وجدير بالمدح؟.
وعندما نقارن ثروة فرنسا بثروة هذا الجزء من إفريقيا، ومواردها المتعددة وتأثيرها وعظمتها بموارد وتأثير وعظمة إيالة الجزائر، فإن المقارنة
تحط من قيمة تلك الأمة في نظر الإفريقيين، وفي أذهان أصدقاء الإنسانية والحضارة الذين يعملون على التوفيق بين الشعوب وتوحيدها، وعلى تدعيم علاقاتها الإجتماعية والتجارية والسياسية.
في عهد ولاية السيد بورمون، كان السيد دوبينيوز هو الرئيس المكلف بقسم الشرطة وكان يدرك مصالح البلاد إدراكا تاما، يضاهي إدراكه لمصالح فرنسا. وأثناء إقامته القصيرة في مدينة الجزائر، جاءني ذات ليلة يريد الإجتماع بي لنبحث عما يمكن استعماله من وسائل للإعانة الطبقة المحتاجة. كان أثرياء المدينة يهاجرون منها، وكانت الصناعة قد أصبحت أثرا بعد عين، وكان البؤس قد انتشر، وأذكر أنني أثناء حديثنا حول هذا الموضوع ; قد قلت له: بما أن المؤسسات الخيرية، المخصصة أساسا لمساعدة هذه الطبقة توجد تحت تصرف السلطة الفرسية، فإنه يجب أن يكون كل حق الانتفاع، الناتج عن تلك المؤسسات، لفائدة أولئك المحرومين. عندما طلب مني السيد دوبينيوز أن أقدم له قائمة بأسماء أهم الأعيان لتكوين لجنة تشرف على الأوقاف. فقدمت له القائمة، ولكن الأمر بقي عند ذلك الحد، إذ لم يعمل بالآراء التي أبديتها، واحتفظت السلطة بتلك المؤسسات الخيرية. ومن سوء حظ سكان مدينة الجزائر أن السيد دوبينيوز استبدل في مهامه، لأن ذلك الرجل الموقر كان يفهم الأوضاع ويعمل، بقدر الإمكان، على إصلاح مفاسدها.
أعتقد أنني عثرت على السبب الذي جعل الموظفين الفرنسيين يشيرون على الحكومة الفرنسية بالاستيلاء على تلك المؤسسات: إنهم فعلوا ذلك، أولا للحصول على وسيلة يكسبون بها ثروة طائلة، في أسرع وقت ممكن، ولو على حساب
الإنسانية وشرف الأمة. وثانيا، لافتتان الأنفس، وترغيب فرنسا في الاحتفاظ بالايالة لنفسها عندما يظهرون لها أن المدخول معتب، غير مبالين بشرعية أو عدم شرعية تلك الحقوق.
إنكم تعطون الملايين لليونانيين وللبولونيين:!! .. وتنجدون تلك الشعوب بأموال الجزائريين!! إنكم تستغلون هذا البلد المسكين، ومع ذلك، فإن الجزائريين، أيضا، أناس!!
…
ما هي الذنوب التي اقترفوها لتسلط عليهم مثل هذه العقوبات؟؟ .. وبالتالي، ماهو في هذه الظروف، موقف الحكومة الفرنسية؟. لقد كان من الأفضل أن تحجم الحكومة عن تقديم تلك المساعدات ما دامت تتسبب في شقاء مواطنيها. وكيف يمكن أن نفترض بأنه لم يتفطن أحد لهذه الوقائع؟ لا بكل تأكيد، وأن التاريخ سيسجل كل هذه الأعمال الشريرة!! أيحق أن نعتقد بأن الناس لا يصلحون؟، إن أخطاء القرن السادس عشر، وزلات المستبدين تتكرر في أيامنا هذ، لماذا؟. لأن الناس احتفظوا بأهوائهم الذميمة التي ورثوها عن آبائهم، وعلى الرغم من أن الإمبراطوريات أصبحت تحكم بكيفيات مختلفة، فان النتائج ما تزال واحدة .. فالجريمة المسموح بها تبقى جريمة، وعند الملوك حل الضعف محل الطغيان.
وهكذا، إذن، إذا كان وكيل الأمة يقوم بأعمال تثير الظنون، وإذا كان سلوكه مشبوه ومطبوع بضعف مخز، فما هي الطريقة التي تقدمه بها ليتمكن المعاصرون من تقييمه؟.
إن المجتمع، في بداية الأمر، قد سن القوانين لتيسيره. ثم تزايدت الحاجات على التوالي، فنشأت تللك الأوضاع والمهن الختلفة، وبدت
ضرورة تكوين حكومة وتعين رئيس يقودها، من هنا يبدأ كل شيء. وسواء أكان الرئيس سلطانا، ملكا أو واليا، أو غير ذلك، فإنه يقود ويعطي المثال. وأن أعماله الجائرة توهن عزيمة شعب بأكمله. لقد أمر السيد الجنرال كلوزيل بتهديم محلات تدعى القيصرية كانت تبيع الكتب التي هي أدوات الحضارة، والتي تنير طريق الإنسان المثقف.
وفيها كان يوجد الناسخون، لأن المطابع معدومة في أفريقيا. وبما أن الفرنسيين كانوا ينوون إدخال الحضارة إلى إفريقيا، فلماذا وقع تهديم هذا المصدر الذي كان يعطي العلم والمعرفة في جميع الميادين؟، إن هذا السلوك يدل على أن هذا الجنرال، بدلا من أن يعمل على تزويدنا بنور العلم والحضارة، كان ينوي إغراقنا في الظلمات والجهل.
وهدم الجنرال كلوزيل، كذلك، محلات كانت تدعى سوق المقايس، تصنع فيها الأساور من قرون الجواميس وهي أساور جرت العادة أن تزين بها نساء العرب والقبائل أذرعتهن. وكانت تشكل فرعا رئيسيا من فروع الصناعة في مدينة الجزائر، وتصدر إلى تونس وطرابلس وحتى إلى مصر. وكانت المادة الأولية، التي هي قرون الجواميس تشترى حمولات بأكملها وكان لأصحاب المصانع مندوبون مكلفون بشراء تلك المادة الأولية وتوزيعها على كل مصنعي حسب أهمية المؤسسة وبرؤوس أموال قليلة، كانوا يقومون بتجارة واسعة، وكان هذا الفرع من الصناعة يشغل عددا كبيرا من السواعد.
وبعد تهديم هذه المحلات أصبح كل هؤلاء العمال بدون مورد واضطروا إلى التسول.
وهدم نفس الجنرال محلات ثالثة تدعى سوق الصباغين، كان العرب والبدو يتعمدون المجىء إلى مدينة الجزائر ليصبغوا فيها كل ما لديهم من
قماش. وكانت هذه الصناعة هامة؛ تستهلك كمية كبيرة من القرمز والنيلة والقوة وغيرها من التوابل الصالحة للتلوين.
عندما تهدمت هذه المحلات الثلاث، قضي على جزء كبير من الصناعة.
ووقع تهديم محلات أخرى تسمى القرارية، وهي خاصة بجميع أنواع الأدوات الحديدية المصقولة مثل الأقفال وصفائحها وأنابيب البنادق الخ
…
الخ
…
ولم يترك إلا حوالي ثمانية حوانيت معزولة.
ووقع كذلك تهديم ثلاثة مساجد كانت خاصة بسكان تلك المحلات الثلاث. وهدمت أيضا، مصانع الحرير. وكانت صناعة الحرير من أهم الصناعات في مدينة الجزائر. لقد كانت حمولات المراكب من الحرير تأتي من بيروت أو إزمير فتصنع منها الأقمشة وغيرها من الموارد الأخرى، ثم تصدر إلى مملكة المغرب وتونس وطرابلس وتركيا ومصر، وحتى إلى سوريا.
وهناك محلات أخرى تسمى السوق الكبير كان يباع فيها الكتان، والملابس المنسوجة وتصنع فيها الحبالة الحريرية والفتائل والأزرار. لقد قام الجنرال كلوزيل بتهديم جزء من هذه المحلات، وما تبقى أكمله الدوق دوروفيكو.
ولم تنج المراحيض الضرورية لسلامة المدينة وراحة السكان، ووقع تهديم المحلات المخصصة لصائدي الأسماك.
إن الأماكن التي خصصت لبناء ساحة الجزائر، لا تتناسب مع مساحة
المدينة ولا تتلائم مع هندستها المعمارية، وذلك أن ساحة الجزائر لا تقل سعة عن ساحة الفاندوم في باريس ودائرة المدينة لا تزيد عن دائرة حديقة التويلري؛ وعليه فإن هذه المساحة بالنسبة للمدينة كقلنسوة الجندي بالنسبة لرأس طفل يتراوح عمره ما بين 5 و6 سنوات.
كان يحيط بالجنرال كلوزيل عدد كاف من اليهود الذين كانوا يوحون إليه بأخلاقهم الخاصة، تلك الأخلاق التي وصفها كما ينبغي فاتل وكروتيوس. ويقول تاسيت في حديثه عنهم: إن اليهود، بسبب تعصبهم، يحملون حقدا شديدا للأمم الأخرى. وكان المرؤوسون، كذلك محاطون بأناس من نفس الجنس يسيرونهم حسب أهوائهم.
وعندما أطلع هؤلاء اليهود على نقطة الضعف عند الجنرال، أي على طمعه في الثروة، جعلوه يلعب أكبر دور مثير للسخرية، فأوهموه بأن المسجد المسمى: جامع السيدة، يحتوي على كنوز الداي. ولذلك صار هذا الجنرال يزور في خشوع، ذلك المكان التعبدي ويقصده مرارا، (للصلاة فيه وللدعاء)، ثم قرر (بكل عفة) أنه يستولي عليه وعلى الزرابي والثريات والمشاعل وعلى منبر رخامي كان هناك.
وهكذا أمر الجنرال كلوزيل بغلق أبواب المسجد، وأدخل إليه، ليلا جماعة من العمال للبحث عن الكنز المزعوم. وظل الأمر كذلك إلى أن استنفذت جميع وسائل البحث وضاع كل أمل. ولتغطية هذه الفضيحة شرع حينا في تهديم ذلك المسجد الذي كان يشمل على أعمدة من الرخام النادر وعلى أبواب ضخمة قيل إنها بيعت فكيف يمكن بيع أشياء هي من ملك المسلمين وحدهم؟
ومن هم الذين اشتروا؟ يقال إن تلك الأشياء نقلت إلى تولوز (1) وقد كانت حيطان ذلك المسجد مغطاة بمربعات الخزف الصيني التي استوردت من اسبانيا. وكانت في المسجد أيضا عارضات كبرى من خشب الكرسنة النادر الذي يستورد من فاس بإذن، لأن امبراطور المغرب لا يوافق على تصديرها إلا بصعوبة، وقبل الإنتهاء من تهديم هذا المسجد الذي لم يحصل إلا للبحث عن الكنز الموهوم وقع الإستيلاء على جميع الأشياء المذكورة أعلاه، وأهملت عملية مواصلة الهدم، واعتقد أن مصاريف ذلك الهدم لا تتجاوز مبلغ 10،000 فرنك.
إن نفس الجنرال كلوزيل الذي يزعم أن الأفريقيين يرغبون بشدة في عودته؛ قد أوجب على المفتي أن يسلمه المساجد الواقعة أمام الأبواب التي يدخل منها البدو المتزمتون الذين يمولون مدينة الجزائر. لقد طلب هذه المساجد ليجعل منها مستشفيات لجيوشه، وتعهد للمفتي أنه لن يستعملها أكثر من شهرين واضطر المفتي إلى تنفيذ ذلك الأمر السامي.
وهناك أفعال أخرى كثيرة أستطيع أن أقول بأنها منافية لتقاليدنا، وهي التي تنفر السكان من السلطة. هذه هي الأسباب التي جعلت الجزائر غير قابلة للاستعمار، ، وبإمكاننا القول بأن السيد كلوزيل هو الذي كان أصلا في وجودها.
وعندما كنت عضوا في مجلس البلدية، في عهد بورمون، طلب منا شيخ البلدية أن نسمح له بتحويل عدد من المساجد إلى مستشفيات للجيش، ذلك الذي قال عنه بأنه لا يملك مسكنا يأوي إليه في الشتاء، فأجبناه بأن تلك الأماكن
(1) مدينة كبيرة في الجنوب الغربي من فرنسا.
معدة لأمور لا نستطيع تغييرها وعليه لن نوافق لمحض إرادتنا، ولكنه إذا أراد استعمال القوة للاستيلاء عليها فإننا نكون عاجزين عن منعه. وبعد قليل من المحادثات، رفضت ملاحظاتنا ووقع الاستيلاء،، ظلما على المساجد.
إن الحكومة الفرنسية باستعمالها العنف، تنفر السكان وتثيرهم ضدها كما أنها تتصرف ضد المعاهدات والالتزامات التي كانت قد وقعت عليها. وحسب شريعتنا، فإن المساجد ملك للجميع وهي مخصصة، فقط لعبادات المسلمين. والقاضي نفسه لا يستطيع تغيير هذه الوجهة، والمسجد مكان مقدس لا يحق انتهاكه بالنسبة لجميع المسلمين، سواء منهم سكان فارس والمغرب أو الصين. وبما أن وثيقة الإستسلام تعترف باحترام المساجد وتتعهد بضمان ذلك (2)، فإن سكان مدينة الجزائر لن يتوقفوا عن الإحتجاج ضد هذه الانتهاكات.
وبقطع النظر عن هذه الملاحات، فإن السيد جانتي دوبيسي قد صرح أمام الملأ بأن كل المساجد والمؤسسات الخيرية تابعة لأملاك الدولة، والإدارة العامة هي التي تتصرف فيها وتستغلها كيفما شاءت تكتريها كمحلات أو تستعملها لأشياء أخرى.
والذي يدهشنا في هذا الموضوع هو إذن رئيس الوزراء لأننا نفهم من
(2) جاء في المادة الخامسة من وثيقة الاستسلام: أن الدين المحمدي سيبقى معمولا به كما كان سابقا. إنه سيبقى على ما هو عليه. إن حرية أهل البلاد، مهما كانت طبقتهم ستبقى محترمة، وأن دين هذا الشعب وممتلكاته وتجارته وصناعته بالإضافة إلى نسائه ستبقى محترمة.
خلال ملاحظات السيد بيشون، بهذا الصدد، في تاريح 11 ماي 1832، أنه أعطى أوامر فيما يخص ذلك. وفيما يلي فقرة السيد بيشون:
(لقد درست قضية المحلات التابعة للدين الإسلامي، وإنني، منذ أن وصلت وأحطت علما بوجود لجنة تدعى (لجنة المحلات العسكرية) لم أسمع إلا صيحات متوالية فيما يخص المساجد وضرورة استزادة خمسة أو ستة منها بالإضافة إلى الستة أو السبعة التي توجد في حوزتنا. إن بعض الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم كمبيدين للديانة الإسلامية وللسكان الذين يتدينون بها، لا يهمهم أن يعرفوا إذا كان ذلك يتفق مع وجهة نظر الحكومة ونواياها أم لا. إن هؤلاء الأشخاص كانوا يتقدمون إلي بنوع من الابتهاج والسخرية ليشكروني على عدم تمكني من إنقاذهم.
كل هذه الوقاحات لم تؤثر في. ومن حسن الحظ أن هناك من يقدر أعمالي غير هؤلاء الجهلة المجانين. ومن ثمة، فإنني انتظرت إلى أن جاءتني أشغال اللجنة.
إنكم تدركون جيدا. سيدي الرئيس بأنه لا يمكن أن أتردد لحظة واحدة للمساهة في أخذ جميع المساجد لو كنا في حاجة إليها، ذلك لأن سلامة الجيش هي الهدف الأسمى بالنسبة لي. ولكن القضية قضية ذوق وهوى بالنسبة للأشخاص الذين ذكرتهم. فالمسألة إذن ليست مسألة حاجة وضرورة الخ
…
عندما نرى مثل هذه الأعمال، يمكن لنا أن نتوقع الكثير من نوعها. وهكذا فمن الممكن أن يكون مشروع تمسيح الجزائر قد وجد في أذهان ولاتنا كما أشار إلى ذلك (البريد الفرنسي الصادر بتاريخ 20 جوان سنة 1833، مستعملا العبارات التالية: إن الذي لن يفاجأ به الجمهور هو أن رئيس مجلس الوزراء الحقيقي منذ ثورة جوليت وإلى عهد قريب جدا كان قد كتب إلى المقصتد
المدني في الجزائر يوصيه بتمسيح الإيالة. وسكوت الجرائد الوزارية عن هذا الموضوع لا يدل أبدا على أن في الأمر خيرا.
وعلى الرغم من أنني لا أعتقد أن من الضروري تمسيح افريقيا لإدخال الحضارة والحرية إليها، وبما أننا لا نعرف نية السادة الوزراء الرسمية فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن هذا المشروع يبدو لنا صعب التنفيذ.
وأكرر أن العدد الكبير من البناءات التي هدمت في مدينة الجزائر يستوجب مبالغ هامة للتعويض إذا لم تكن الوعود؛ في هذه المرة أيضا، حبرا على ورق. ومع ذلك فإننا علمنا أن عددا كبيرا من تلك التهديمات لم يقيد. ولكي يكون هناك تعويض من الضروري أن يقع قبل الهدم، تقييد كل ما يمكن أن يكون محل مطالبة.
إن كل ما يمكن تصوره من الشرور ممكن في عهد الظلم والطغيان. وبمجرد الاتفاق على مبدأ التعويض أنشئت لجنة مكونة من موثقين عموميين لدى المحكمة، ومن سيدي محمد بن إبراهيم ريس، وسيدي الحاج العربي ابن الرايس وكلاهما من أعضاء المجلس البلدي، ومني أنا حمدان.
ووقع الاتفاق على أن تقيم الأملاك حسب أجور الكراء أي 5 % بالنسبة للمساكن و2،5 % بالنسبة للمحلات والحوانيت. وهكذا فإن الدار التي تكترى بألف فرنك تقدر قيمتها بعشرين ألف. والمحل التجاري الذي يكترى بمائة فرنك تقدر قيمته بأربعة آلاف. تلك هي على الأقل الطريقة التي اتبعها لتحديد قيم المباني المهدمة. وقد حددت الأجور حسب ما كانت عليه في العهد التركي، لا وقفا لما أصبحت عليه منذ احتلال الجيش الفرنسي. وفي هذا الصدد نشر الجنرال كلوزيل قرارا، أنقل، بكل أمانة، نصه فيما يلي:
(إن الجنرال، القائد الأعلى، بعد الإطلاع على تقرير مقتصد مملكة الجزائر، والاستماع إلى اللجنة المكلفة بمصلحة الطرقات، يقرر ما يلي:
المادة الأولى: إن سكان مدينة الجزائر الذين شملت مساكنهم وحوانيتهم ومحلاتهم التجارية، أو ستشملها، في المستقبل، تلك التهديمات التي أمر بها لفائدة المصلحة العامة، وتوسيع الطرقات وتجميل المدينة وصيانتها، إن هؤلاء السكان سيعوضون على أساس أجور الديار والحوانيت والمحلات التجارية التي تهدم أو التي تصبح غير قابلة للاستعمال.
المادة الثانية: إن العمارات التي دخلت في أملاك الدولة هي التي ستخصص لتلك التعويضات وذلك بمجرد أن يبين الإحصاء الجاري ما هي البنايات التي يمكن للحكومة الفرنسية أن تتصرف فيها.
المادة الثالثة: إن اللجنة التي سبق أن أنشئت، ستواصل تسجيل الاعتراضات لينظر فيها عندما يحين الأوان.
المادة الرابعة: إن مقتصد مملكة الجزائر، مكلف بتنفيذ هذا القرار.
في مقر القيادة بالجزائر، يوم 29 أكتوبر 1830.
إمضاء: كومت كلوزيل
عن نسخة ثانية من الأصل، أمين عام الحكومة.
إمضاء: ف. دوكاز.
غير أن هناك فارقا بسيطا بين النص الفرنسي والنص العربي (لأن هذا البيان نشر باللغتين).ولا نستطيع أن نفسر كيف وقع ذلك: أبحيلة من المترجم أم عن عجز. مثلا، ففي النص العربي، المادة الأولى، بدلا من أن يقال:
سيعوضون على أساس أجور الديار الخ
…
جاء ما يلي: سيتقاضى المالكون حوالي قيمة كراء الديار أو غيرها، ويعطى لمن حرموا من التمتع بأملاكهم الخ
…
وعلى الرغم من أننا استطعنا أن نقرأ ونفهم بأن التعويض سيكون كراء دائما -حسب الوثيقة العربية، وإن كان المعتبر كنص شرعي هو ذلك الذي كتب بالفرنسية وأمضاه الجنرال باسم الحكومة الفرنسية- فإن الحكومة الفرنسية أصبحت، بمقتضى هذا القرار مسؤولة أمام الجزائريين عن قيمة أجور ممتلكاتهم المهدمة لا تنفعها في ذلك حجة. وإذا أرادت أن تتهرب من تلك المسؤولية فإنها ستتهم، عن جدارة؛ بسوء النية.
وبمقتضى هذا البيان، حضر جميع المالكين الذين كانوا موجودين في مدينة الجزائر وجاؤوا معهم بالعقود.
وقدمت قائمة القيم المثبتة إلى القاضي باللغة العربية، وقدمت نسخة عنها بالفرنسية إلى شيخ البلدية.
وعندما تقدم بعض السكان إلى مدير أملاك الدولة للمطالبة بالأجور حسب ما فهم من النص العربي، أمرهم بأن يذهبوا إلى القاضي المالكي لكي يثبت صحة تلك العقود. وللقيام بذلك، أخذ القاضي المذكور خمسة فرنكات عن كل شهادة، وبعد ذلك فإن بعض الأشخاص فقط قد حصلوا، ولكن بشق الأنفس على قيمة ستة أشهر من الكراء من صندوق أملاك الدولة وأجل الآخرون
إلى وقت لاحق، غير أنهم اليوم قد يئسوا بعد مطالبات كثيرة قدموها بدون جدوى.
لقد دامت عملية التهديم طوال المدة التي تولى فيها الجنرال كلوزيل على الجزائر ويقال، بهذه المناسبة، إن أعوان الوالي قد ارتكبوا مخالفات كثيرة، لأنهم كانوا يبقون على كثير من الديار مقابل تعويض، حتى ولو كان الأمر قد صدر بتهديمها. وهناك أشخاص آخرون من المشتغلين في الهندسة العسكرية، قد دفعتهم خيانتهم إلى أن يكتروا لحسابهم بأثمان بخسة وان تشتروا مقابل ريع دائم. ومن ثمة، فإن عمليات التهديم كانت هامة، ولكن المسؤولين في ذلك الحين كانوا على الأقل يسجلون عدد البنايات التي تهدم. أما بعد تعيين السيد جانتي دوبيسي، فإن المسؤولين لم يعودوا يتبعون أنفسهم بالتسجيل، لأنهم كانوا يعتقدون بأن تصرفاتهم شرعية!! ولقد صرح السيد جانتي دوبيسي لأحد أعضاء البلدية بقوله: إننا أخدنا الجزائر، فنحن أصحابها بلا منازع، وسنعمل فيها كل ما يحلو لنا سواء من ناحية الهدم أو غيره.
عندما وصلت إلى باريس عرضت على معالي وزير الحرب عددا كبيرا من الاعتراضات من جملتها هذا العمل التعسفي (1)؛ ولما لم أتلق من هذا الوزير إلا جوابا لم أكن أنتظره في الواقع رأيت من واجبي أن أتوجه للملك نفسه بشكوى متواضعة يوجد مضمونها في آخر هذا المجلد. لم أحصل على أية نتيجة من تلك المساعي الجديدة ومع ذلك، فإن وثيقة
(1) انظر الوثيقة رقم واحد.
الاستسلام تضمن ملكياتنا، وإن البيانات التي نشرها كل من المارشال بورمون والجنرال كلوزيل لتؤكد ذلك. هل ينبغي أن نؤمن بأن مزايا المعاهدات، لا تنالها إلا الشعوب القوية على حساب الشعوب الضعيفة؟ وعندها ماذا يكون مصير المبادىء الأخلاقية التي نرتكز عليها؟ لماذا يدرس علم القانون العام في أوروبا وفي فرنسا؟ لماذا وجدت مدارس الحضارة والحرية؟ هناك تعارض مع مبادىء المسيحية التي يؤمن بها الأوربيون. ومن ثمة فماذا يكون مصير أخلاق المسيح أو أخلاق نبينا؟ قال محمد:(إن شريعة خلفائي وأخلاقهم هي تعاليمي).
ولأعود إلى حججي، فلو كان بإمكاني أن أعرض للجميع ما أستطيع ذكره دون أن أضطهد لقدمت أشياء كثيرة! ولكنني في عالم مجهول ولا أدري أين توجد المصائب. إنني أخشى أن أنال مصير عدد من مواطني: أن أسجن ما بقي لي من أيام أو أن أبعد عن أسرتي وبلادي. من يدري لعلي أتهم بالتآمر مع القبائل. وأنى لي أن أعرف التهمة لأدافع عن نفسي.
وعلى الرغم من أنني لا أتفاهم مع أبي ضربة، فإنني أنصفه عندما أقول بأن الاتهامات الموجهة له خاطئة. إنه لم يكن أبدا إلى جانب العرب والقبائل ضد الفرنسيين إنه لمن المدهش أن يصدق السادة الولاة الأكاذيب، وأكثر من ذلك دهشة أن يطالب أبو ضربة بالعدالة ولا يحصل عليها في بلد كفرنسا.
لقد تم الاستيلاء على المعابد وتحويلها إلى مساكن في زمن ولاية السيد كلوزيل على افريقيا. ولقد سبق أن شرحت كيف كان يتوجب احترام مثل هذه البنايات التي تجد سندا قويا في تقاليد وتعصب الطبقة الفقيرة. وفي عهد الأتراك، أدرك المسؤولون ضرورة مسايرة تلك الأوضاع لأسر القلوب
وإذن، فإن الحكومة الفرنسية قد استولت على تلك المعابد ووضعتها تحت تصرف إدارة أملاك الدولة، كما أنها اكترت بعضها لعدد من التجار فبمقتضى أي قانون تستولي تلك الادارة على تلك البنايات؟ ألتنفر قلوب الأفريقيين؟ أو لتجدد التعصب وتضاعف الإهانات، وتجعل البلاد غير قابلة للاستعمار؟ أم هل تستعمل هذه الوسائل لإثراء فرنسا ومضاعفة كنوزها؟
لا إن الهدف هو أن يجعل من الاسم الفرنسي أو الاسم الأوروبي اسما بغيضا في هذه القارة التي يميز فيها الإنسان بالقبعة والشاش.
إننا لا ندرك بحق، الأسباب التي جعلت حكومة متنورة تسمح لموظفيها أن يثروا أنفسهم بواسطة النهب والمخالفات وعلى حساب فرنسا وشرفها.
وكذلك فإن سيدي إبراهيم بن مصطفى باشا قد عرض على الحكومة الفرنسية جزءا من الأعمال الشائعة التي وقعت عنف ضد مواطنيها. وكانت إجابة الحكومة أنها ستكتب إلى الجزائر لتمنع مثل تلك الأعمال التعسفية. ولكن على الرغم من هذه التأكيدات، فإن جميع الأخبار التي تردنا من الجزائر تعلمنا بأن الاستبداد ما يزال مستمرا وأنه يتطور إذا صح استعمال هذه العبارة وإنه وقع الاستيلاء أيضا على معبد المرابط المسمى سيدي الجودي للاستفادة من أجره المتواضع الذي يقدر بمائة فرنك. هل صحيح أن الحكومة كتبت في هذا الموضوع؟ هل يمكن أن تعارض أوامرها؟ إنه للغز بالنسبة لي.
ودائما في زمن ولاية السيد كلوزيل، وقبل أن استقيل من عضوية المجلس البلدي، دخلت ذات يوم غلى بيت خالي الحاج محمد، ابن السكة، فوجدت عنده السادة: فوجرو المفتش العام للجالية وجيرودين مدير أملاك الدولة، ودوفال رئيس المحكمة. كان الأمر يتعلق بدين في ذمته زعموا أنهم عثروا عليه في سجلات الإيالة،
وكان الغرض من زيادة هؤلاء السادة هو أن يحملوه على التفاهم معهم؛ وعلى أن يدفع لهم مبلغا هاما من المال. ويستطيع قرائي أن يروا في نهاية الجزء، جميع التفاصيل حول هذه القضية التي كانت قد رفعت إلى مجلس الدولة.
وهناك مكيدة أخرى استهدفت باي وهران بعد الاستسلام مباشرة ودخول الفرنسيين إلى الجزائر؛ كان هذا الباي كما سبق أن ذكرنا، قد أعلن عن طاعته للقائد الأعلى مبديا له رغبته الشديدة بإخلاء المدينة لفائدة الجيش الفرنسي. وكان الجنرال عندئذ مشغولا بجمع كنوز الداي فاكتفى بأن طلب منه أن يحتفظ بوهران وينتظر أوامره ولكن بعد حوادث جوليت مرض الباي فتوجه إلى الجزائر صحبة أسرته وحاشيته. ولتفادي أطماع بعض الأشخاص أحضر معه عددا من الهدايا، ولم يقتصر على اليد كـ
…
وأسرته، وإنما قدم لكل من كان محيطا به كثيرا من الحلي والسيوف الذهبية وغيرها من أسلحة الزينة المحلاة بالحجارة الكريمة. أما الأموال، فإنه لم يعط منها إلا إلى السيد كـ
…
حدثني حسن، باي وهران، نفسه بأنه أرسل لذلك الجنرال، أولا 2000 رباعي من الذهب (170،000 ف). وعندما تجدد طلب هذا الأخير أرسل له مرة أخرى، 10،000 سلطاني ذهبي (90،000 ف).
بودنا لو نعرف إذا كان ذلك الجنرال يستلف بالقوة لحساب حكومته، أم هل كان يتوجه إلى باي وهران ليقرضه شخصيا فقط؟ وفي هذه الحالة الأخيرة، وبما أن الاستدانة كانت عن ثقة، وإن الكتابة عند الأشراف غير ضرورية لإثبات الدين، فإننا نعتقد بأن شخصية كبيرة مثل السيد الجنرال كـ
…
لا تنتظر إلا وقتا مناسبا لإرجاع الفرض هذا، أكرر مرة أخرى، إذا كانت الاستدانة لحسابه الخاص.
حسن باي هو أحد أصدقائي القدماء، أعرفه إنسانا، فاضلا ومن واجبي
أن أقر له بهذه الحقيقة أمام الملأ. وعندما جاء إلى مدينة الجزائر لم أر مانعا من أن أكون معه خاصة وأنه كان يعمل لصالح الفرنسيين. ونطرا إلى أنه حكم وهران سبعة أشهر لحساب الفرنسيين فإنه كان ينتظر نوعا من الاحترام والتقدير من السلطة وهو أهل لأن يحظى بالعناية. ولكنه في الواقع لم يحظ إلا ببعض الزيارات الهادفة. قال بنفسه وهو يتحسر على وضعه: إن السيدين ف
…
(2) وف
…
(3) وغيرهما من أعوان الجنرال، لم ينقطعوا عن زيارتي للحصول على مختلف المنافع.
إن المقربين إليهم من اليهود كانوا يقولون لهم بأن هذا الباي كان أغنى من حسين باشا، داي الجزائر، وإنه كان عندما يأتي إلى الجزائر قد تعود أن يقدم كثيرا من الهدايا لجميع أفراد حاشية الداي، وعليه فمن حقهم أن ينتظروا منه، أو أن يجبروه على تقديم نفس المزايا. عجيب أمر هؤلاء المستشارين وهل كان ينبغي اتباع نصائحهم؟ ففي تلك الأثناء أمر الجنرال ك بالعودة إلى فرنسا؛ وكان حسن باي يفكر في الابتعاد عن الجزائر بعد أن أعياه نهب أصدقائه الجدد، وصار يخشى العقاب إن هو رفض إطعام أناس لا يشبعون ولذلك اقترح عليه الجنرال ك أن يذهب معه إلى فرنسا على متن سفينة تابعة للدولة.
استشارني حسن باي في هذا الموضوع فأجبته صادقا بقولي: (تستطيعون البقاء هنا في أمان سيعاملكم الفرنسيون كما ينبغي لأنكم تستحقون ذلك منهم).
ولاحظت له كذلك بأن باي التيطري أجير الفرنسيين عندما حمل السلاح ضدهم على أن يتصرفوا معه بكل شدة، وأن زميله باي قسنطينة لم يعط أي اهتمام لهؤلاء الفرنسيين. وعليه فنظرا لموقفكم الودي، لا أعتقد أنكم ستمسون بسوء بل على العكس إنكم ستجازون، ومن الممكن أنهم سيسندون لكم قيادة العرب
(2) و (3) فوجرو وفاتوا اللذان سبق أن تكلم عنهما حمدان.
فتكونون جنرالا، وأضفت حسب رأيي بأن:(جميع العرب سيخضعون لكم بكل سهولة نظرا لثروتكم الشخصية الطائلة، لأنهم لن يخشوا منكم أن تفرضوا عليهم ضرائب مفرطة). إنني كنت أرغب في أن تبقى هذه الشخصية في الجزائر لتساهم في تخفيف آلام الطبقة المحتاجة، لأن كل الأثرياء والأغنياء قد غادروا البلاد. وكنا قد بدأنا نشعر بالبؤس الشديد. إنه لم يبق في المدية إلا الشيوخ الأتراك والمقعدون الذين كانوا في السابق، يتقاضون أجرا أو منحة من الدولة، وكذلك العمال في مختلف الميادين، وكل هؤلاء لم تكن لهم ثروة ويكادون يكونون معدمين. وأخيرا، استجاب ذلك الرجل الفاضل إلى رغبتي الملحة. ولقد كان الجنرال كـ ..... أكثر مني تبصرا، إذ من الممكن أنه كان يحس بأن بعض الأشخاص في الجزائر لم يكونوا ذوي نية حسنة وشريفة، إزاء حسن باي ولأجل ذلك كان قد اقترح عليه أن يأخذه معه إلى فرنسا!
وبعد رحيل الجنرال كـ .... بدأت الاضطهادات تسلط على حسن باشا: سأذكر كل هذه التفاصيل في الفصل الذي يتعلق بالجنرال بارتوزين وولايته على الجزائر. غير أنني أقول بأن تلك اضطهادات كانت قاسية إلى درجة أنها أجبرته على الهجرة إلى الاسكندرية، متهما إياي بأنني خدعته فيما يخص تقديري للفرنسيين. ومن الاسكندرية توجه إلى مكة حيث مات، وترك فيها كنوزه. ولو أنه عومل كما كان يستحق ذلك لبقيت ملايينه في الجزائر ولورثت منها الحكومة ما في ذلك شك، ولكن هناك كثيرا من الأشخاص لا يستشيرون إلا مصلحتهم الخاصة، ولإرضائها ينسون مصالح أمة بأكلمها.
أذكر أن السيد الجنرال كلوزيل دعاني مرة لأتناول طعام العشاء مع أعضاء البلدية، وفي ذلك اليوم نفسه أعلمنا بأننا عزلنا لأننا لم نكن متفقين فيما بيننا! وبعد ذلك دخل الترجمان زاكر وبدأ يسخر من اجتماعنا عند الجنرال، موجها كلامه المازح إلى هذا الأخير قائلا:(أتوسل إليكم، أيها الجنرال، فلا تقطعوا رؤوس هؤلاء الأفاضل، إنهم أرباب أسر). وإذا كنت فيما يخصني، لم أهتم بهذا المزاح فهناك، من بيننا، من استاء له. وبعد أن انتعشت المحادثة تكلما عن سيرة باي وهران. فلاحظ بعضهم بأن هذا الباي، لو كان عند حكومة غير الحكومة الفرنسية، لكان يخشى الكثير ولوقع قتله للاستيلاء على ثروته. وعليه، فإنه لا يليق به بلد أحسن مما تلائمه فرنسا، ومن ثمة يجب أن يبقى تحت سيطرة الفرنسيين. في تلك الظروف كنت أفكر مثلهم، فوافقتهم ولم أنتبه إلى أنهم كانوا يتكلمون كذلك عن خبث، لأنهم كانوا يعرفون أنني كنت صديقه، وإنني سأنصحه بالبقاء.
ولكي أذكر فضائل الجنرال كلوزيل، ما علي إل أن أعدد بعض الأعمال الخالدة التي وقعت أثناء ولايته لافريقيا. ففي عهده نهب الأموات في مدافنهم، وسمح بالاتجار بالعظام البشرية، وبيعت حجارة المقابر ثم نقلت إلى باب الوادي لتحول إلى مادة الجير ووقع الاستيلاء على آجر المقابر، الخ
…
وقد تزايدت هذه التجاوزات إلى درجة أن القاضي رأى من الواجب عليه أن يقدم للجنرال كلوزيل اعتراضات في هذا الموضرع، ولكن هذا الأخير لم يجبه إلا بكيفية غامضة، كما لو كان يريد التخلص منه، هناك من يرى أن الحكومة الفرنسية لم تسمح بانتهاك المقابر إلا لحقدها على ديننا. وفيما يخصنا، فإنه لا يوجد أي اعتبار يمكن أن يسمح بتجريد الأموات من لباسهم الأخير، وتشتيب عظامهم في التراب ..
وفي أثناء ولاية كلوزيل على الجزائر، لم يكن يستمع لأية شكوى، ولقد كان الفقهاء يريدون تقديم الاحتجاجات باسم أبناء وطنهم، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون ذلك، وكلما قدمنا اعتراضا أجبنا عليه بعمل أكثر ظلما وتعسفا. ومن ثمة وجب السكوت والصبر. وبهذه المناسبة، فإن هؤلاء المساكين، الذين يزعم الجنرال كلوزيل بأنهم كانوا تحت تأثير التعصب الشرقي قد قالوا مستسلمين:(أنها إرادة الله! ولا يمكن أن تعارض القدر).
وبالفعل هل كان في استطاعتهم أن يحتجوا ضد الجور؟ هل كانت لهم الوسائل والقدرة على دفعه؟ لقد كان على هذا الجنرال الذي ردد تلك العبارات بكيفية ساخرة، وهو لا يؤمن، بلا شك، بعظمة الإله الصمد، لأنه كان عليه أن يستعمل عبارات أكثر احتراما للخالق الذي أحسن إليه، لأنه لا يتكلم مع ملكه إلا باحترام، وأن ملكه نفسه ينسب كل أفعاله لإرادة الله العلي العظيم. إن الطغاة أنفسهم لا يبدأون خطاباتهم إلا باسمه تعالى. وعلى الرغم من أن الله رحيم وقوي في آن واحد، يبدو لي أنه كان على هذا الجنرال أن يستعمل لغة تكون أكثر لياقة.