الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الثاني
مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
قال تعالى جل من قائل في كتابه المحكم العزيز: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} .
ومما حفظ به كتاب الله عرفان العربية وتذوق جزالة أساليبها، وكان من كبار علماء اللغة والنحو والأدب حفظة لكتاب الله أخذت عنهم القراءة والرواية والتفسير كأبي عمرو بن العلاء والكسائي وقالون فقد ذكروا أنه كان نحوي المدينة على زمانه وهو تلميذ نافع والأصمعي، وكان من رواة قراءة نافع، والفراء وأبي عبيدة ومكانهما في معاني القرآن ومجازه وتفسيره غير خاف. وكان الطبري محمد بن جرير مقدمًا في النحو والعربية وهو من حفظة الكتاب العزاز قراءة وتفسيرًا. وكان ابن جني صاحب الخصائص وراوية أبي الطيب هو أيضًا صاحب المحتسب الذي إنما هو حاشية وشرح موجز جيد وتعليق على كتاب السبعة لابن مجاهد. والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تحصر وتحصى.
ولأمر ما كثر استشهاد أهل التفسير بالشعر الصحيح من لدن ابن عباس رضي الله عنهما إلى زمان أبي عبيدة والفراء ومن بعدهما. من ذلك أن الشعر الصحيح الجزل فيه روح البيان العربي. وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين. وقال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون} [يوسف] وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون} [الزخرف] وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء].
وبعض أهل السفسطة ربما زعم أن من ألفاظ القرآن ما ليس بعربي وهذا هو الضلال المبين. ولو سلمنا جدلًا أن أمثال استبرق من ألفاظ القرآن لسن عربيات، فماذا عسى أن يستنتج من ذلك مستنتج أوردو كلمة الون في شعر الأعشى يجعله فارسيًا، وذلك حيث قال:
بالون يضرب لي يهز الإصبعا
أو مجيء كلمة الكرد في قول الفرزدق
وكنا إذا الجبار صعر خده
…
ضربناه فوق الأنثيين على الكرد
أي العنق يجعل شعر الفرزدق غير عربي؟
أم لا يزيد أحيانًا في بلاغة الكلم البليغ أن يجاء فيه بكلمة ذات دلالة واضحة في لغة أخرى لكي تنتقل بعض ألوان تلك الدلالة إلى السياق الذي هي فيه؟
ذلك واضح سائغ في كل اللغات إلى الآن.
على أنه ينبغي أن نذكر أن مكة كانت ملتقى تجارة العالم كله آنئد فكم من كلمة صهرتها ألسن العرب فيها فصارت عربية -هذا على تقدير التسليم أن العرب استعارت أمثال قنطار ودينار لتدير به تجارتها، وقوله تعالى:{والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} يدل على اطمئنان الكلمة في بحبوحة العربية.
على أن العربية لغة قديمة الأصول والروم والفرس واليونان كل أولئك أحدث عهدًا في الوجود الحضاري من العرب -عادهم وثمودهم وجرهمهم وقطوراهم وأميمهم وطسمهم وجديسهم وعماليقهم بله حمير وسبأ واليمن الأقدمين.
قال أبو عبيدة (وقد ذكروا أنه كان شعوبيًا واتهموه بمذهب الخوارج وهلم جرا)(1) قال في أوائل كتابه بعد البسملة: قالوا إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وتصداق ذلك في آية من القرآن وفي آية أخرى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسن فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص. وفي القرآن مثل ما في الكلام العربي من وجوه الأعراب ومن الغريب والمعاني. وقال رحمه الله في فصل تال:«نزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن «طه» بالنبطية فقد أكبر، وإن لم يعلم ما هو، فهو افتتاح كلام وهو اسم للسورة وشعار لها، وقد يوافق اللفظ ويقاربه ومعناهما واحد وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها. فمن ذلك الاستبرق بالعربية وهو الغليظ من الديباج والفرند وهو بالفارسية استبره وكوز وهو بالعربية جوز وأشباه هذا كثير. ومن زعم أن «حجارة من سجيل» بالفارسية فقد أعظم، ومن قال إنه سنك وكل، إنما السجيلة الشديد.»
(1) راجع مقدمة محقق مجاز القرآن الأستاذ محمد فؤاد سزكين -قال تحت عنوان مذهبه في مقدمته ص 10/ 1 (الطبعة الثالثة سنة 1401 هـ = 1981 م بيروت) تكاد تتفق كلمتهم على أن أبا عبيدة كان من الخوارج وأنه كان يكتم ذلك ولا يعلنه إلخ -قلت فقد قالوا فيه بالظن. ثم يقول الأستاذ سيزكين (ص 11) ونسبة أبي عبيدة إلى مذهب الخوارج تارة وإلى القول بالقدر تارة أخرى تكشف عن صلته بمعاصريه وتدل على أنه لم يكن محبوبًا بينهم إلخ -نقول كان من علماء العربية واعتمد على ما قاله جماعة من كبار علماء أهل السنة كمحمد بن جرير ومحمد بن إسماعيل رحمهم الله أجمعين.
وقد اهتم جار الله محمود بن عمر الزمخشري بأمر البلاغة العربية عامة، وبلاغة القرآن خاصة، ومهد لتفسيره الجليل بعمل معجمه البلاغي النادر المثال «الأساس -أساس البلاغة».؟ مما يدلك على أنه مهد به تفسيره لقوله تعالى:{إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} فقد قال إن المرأة لا يقال لها مفندة لأنها لم يكن لها عقل وهي شابة وهذا الوجه بعينه جاء في عبارة «الأساس» ولعل «الفائق» مما مهد به أيضًا. وقد ألف تفسيره وهو مجاور بمكة. وقد اعتمد على ابن جرير. إلا أن مذهبه في بيان البلاغة القرآنية كأن قد انفرد به. واستشهاده بالشعر غزير. وكان مما ذهب إليه الاستشهاد بشعر حبيب وأبي الطيب، يجعل ما يقولانه بمنزلة ما يرويانه. وما سوغ له ذلك إلا ما أحسه بجودة ذوقه من تمكنهما من جزالة القول. وما كل علامة راوية بمستطيع جزل الكلام إن رام قوله. ماعدا الزمخشري أن استأنس بما أورد من شعر فحول المحدثين إذ لم يكن خافيًا عليه أنه لا يصح الاستشهاد بكلامهم على شيء من نحو أو صرف أو لغة. وقد سلك مسلك الزمخشري رحمه الله جماعة منهم مثلًا صاحب «مغني اللبيب» ومن الأوائل من تشدد أحيانًا فكره الاستشهاد بمن لا شك في فصاحته كالذي ذكره أبو الفرج من طعن يونس في ابن قيس الرقيات مثلًا.
علم الأوائل كله كان مداره على صحة الرواية عن مشافهة. وكان الحديث أدق العلوم رواية وأعوصها طريقًا فيها. وكان سيبويه شيخ النحاة رحمه الله قد طلب الحديث أول الأمر. ثم لما خطأه حماد بن سلمة في حديث «ليس أبا الدرداء» عدل إلى درس النحو. فلم يكن ليستشهد على مسائل النحو بما لم يكن على معرفة حقة بوجوه صحة روايته من علوم الحديث. وقد عدل عن متابعتها كما ترى. وقد كان قرأ القرآن على حفظته ورواته ويذكر أسماءهم في كتابه. وقد روى الأشعار وسمع مشافهة من العرب. فعول على هذا الذي كان يعلمه ويعلمه علماؤه. وقد كان عاصم بن أبي النجود، أحد شيوخ أبي عمرو [وهو شدخ سبويه] حجة في القرآن جلس يعلمه بالكوفة أربعين سنة بعد أبي عبد الرحمن السلمي وهذا جلس من قبل يعلمه أربعين سنة وعن الصحابة الأجلاء أخذ -وذكروا أن عاصمًا لما أدركته الوفاة كان يردد قوله تعالى {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} يحقق القاف تحقيقًا حتى قبض الله روحه. مع هذا لم يكن عاصم بحجة عند أهل الحديث مع إجماعهم على قرآنه وصلاحه وعلمه فتأمل.
ليس الأمر أن الحديث كان يروي بالمعنى فلذلك لم يستشهد به النحويون كلا. كان من رواة الحديث رجال هم من جيل من يستشهد بكلامه بلا ريب. كالشيوخ الذين عنهم أخذ الإمام مالك. وقد قيل ذلك في مالك نفسه وزعموا أن دجاجلة جمع
دجال لم يعرفه أهل اللغة إلا منه في خبر يذكرونه له فيما بينه وبين ابن إسحاق، وابن إسحاق ممن وثقه مسلم والبخاري. فلعل هذا الخبر ألا يصح والله تعالى أعلم. إنما ذكرناه استيفاء للحجة فيما ذكرناه من فصاحة أهل رواية الحديث الأولين الذين عنهم أخذ أمراء جرحه وتعديله ومعرفة صحيحه من ضعفه.
وما أرى إلا أن سيبويه رحمه الله كان يعلم أحاديث كثيرة. ولكن تحرج أن يستشهد بما لم يجز عليه مشافهة. وكان في القوم دقة في التحصيل، ومراقبة لله فيه، وحرص على تجويد ما يقبلون عليه من عمل.
واقتدى بسيبويه من أخذوا الكتاب عن سعيد بن مسعدة وكان صدوقًا.
هذا -قدمنا أن عرفان العربية وتذوق جزالة أساليبها مما حفظ الله به كتابه. وقد وعد ووعده الحق أنه حافظه. والقصيدة المحكمة هي المفتاح الأول لعرفان العربية وأهدى المسالك إلى تذوق جزالة أساليبها. من أجل هذا ما استأنس الزمخشري بشعر أبي تمام وأبي الطيب وهو في معرض الإرشاد إلى نكت بلاغة القرآن. وقد تعلم قوله أن المعري إنما برى لقول الله تعالى {إنها ترمي بشرر كالقصر} حيث قال هو:
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى
…
ترمي بكل شرارة كطراف
والمقامة على فضلها، بين يدي القصيدة جارية تخدمها.
وأبى الله، وهو أعلم بمراده ودقائق حكمته. أن تزول القصيدة المحكمة ومكانها فيما وعد به من حفظ كتابه مكانها، ولا سيما حين جعلت تحيط بدار الإسلام الغوائل، وأشرعت الصليبية إليها الأسنة من رومها وروسها وفرنجتها وصقالبها وبغارها وأصناف من عددهم أبو الطيب في شعره كقوله:
وكيف ترجى الروم والروس هدمها
…
وذا الطعن أساس لها ودعائم
وقوله: يجمع الروم والصقالب والبلـ
…
ـغار فيها وتجمع الآجالا
وتوافيهم بهم في القنا الصمـ
…
ـم كما وافت، العطاش الصلالا
وسددت التتار إليها سهامها، وخيف عليها كل الخوف من الاجتياح.
في معركة بغداد سنة 656 هـ وهي التي كانت القاضية على دولة بني العباس، سقط بقريته صرصر وهي من سواد بغداد شهيدًا مقبلًا غير مدبر على ما كان من ضرره
وما أعفاه الله به من مباشرة القتال، الإمام يحيى الصرصري (1)، رحمه الله، وجعل الجنة متقلبه ومثواه -وهو الذي يقول:
ركب الحجاز ومنك الخير مأمول
…
هل عندك اليوم للمشتاق تنويل
علل بما طاب للبطحاء من خبر
…
ذا الوجد إن كان يشفي الصب تعليل
هل ربة الستر بعد النأي دانية
…
أم حبلها بعد طول القطع موصول
أم هل تحل مطايانا بساحتها
…
وربعها الرحب بالأحباب مأهول
ونقتضي بالمصلى والصفا ومنى
…
دنيا تصرم حين وهو ممطول
وهل تجد بنعمان الأراك لنا
…
من المواهب أسمال رعابيل
وهل تنب بنا بين العقيق إلى
…
سلع رواحل تحدوها الأراجيل
مضبرات القرى كوم كرائم لا
…
يسأمن من دأب قود مراقيل
رعابيل أي مزق ينظر فيه إلى قول كعب:
تفرى اللبان بكفيها ومدرعها
…
مشقق عن تراقيها رعابيل
والأراجيل ينظر إلى قوله:
منه تظل سباع الجو ضامرة
…
ولا تمشي بواديه الأراجيل
وقوله مضبرات بالضاد المعجمة من التضبير وهو القوة والقرى الظهر وتأمل جودة رنين قوله «كرائم» مع سبق راء القرى من قبل ومجيء «مراقيل» من بعد وهي جمع مرقال والإرقال ضرب من العدو وبه سمى هاشم بن عتبة المرفال إذ كان يرقل بالراية في صفين وهو يرتجز
أعور يبغى أهله محلا
…
قد عالج الحياة حتى ملا
يتلهم بذي الكعوب تلا
…
لا بد أن يفل أو يفلا
وقال النابغة في البائية:
إذ استنزفوا عنهن في الحرب أرقلوا
…
إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
مراقيل أي مسرعات
بالنقى أعظمها والدر حالية
…
ومن كلال ومن هزل معاطيل
(1) أبو زرا يحيى بن يوسف الصرصري -ذكر صرصر ياقوت في البلدان أنها من سواد بغداد.
هكذا في طبعة المجموعة وأحسبه خطأ وقد فسره الشارح بأن النقي هو المخ والدر الحليب وأعظمها ضبطه ضبط اسم التفضيل بفتح الظاء بعد عين ساكنه وهذا كله لا يستقيم إذ لا معنى لأن تكون حالية بالحليب عظماها، ثم معاطيل لأنها جمع لا تصلح خبرًا لأعظمها إلا على أن نؤول أن «أعظمها» عدده أكثر من واحدة أو تقدمه مبتدأ الوجه عندي أن البيت صوابه هكذا إن شاء الله.
بالنقي أعظمها والدو حالية
…
ومن كلال ومن هزل معاطيل
فالهزل مقابل للنقي وهو المخ وكون أعظمها بضم الظاء أي عظامها فيها النقي دلالة على أنه لا هزل بها. والكلال مقابل الدو وهو القفر والصحراء وإذا كان الدو لها حليًا مع مخ عظامها دل ذلك على مواصلتها للسير وهي قادرة عليه غير ذات كلال -فهي عاطلة من الكلال ومن الهزل.
خوص لها أرب تحت الدجى وإذ اشـ
…
ـتد الهجير وضم القسور الغيل
القسور الأسد، وكانت في طريق الحج السباع والمخاوف، فانظر كيف كان حرص المسلمين على أداء شعائرهم فكيف أساء المعري حيث قال ما قال
تحكين نفث نعام راعهن ضحى
…
زعر ويثفرن والصوان مبتول
يلبزن صم الحصى لبزا ومدرجها
…
خط عليه فمنقوط ومشكول
كلا هذين البيتين فيهما تحريف من ناسخ -تحريف كثير ولعل الصواب هكذا إذ هو أشبه بالمعنى والرسم يحتمله كالذي مر من «الدو» لما بين الواو والراء من شبه:
يحكين نفر نعام راعهن ضحى
…
ذعر وينفذن والصوان مبتول
ينبذن صم الحصى نبذًا ومدرجها
…
خط عليه فمنفوط ومشكول
ذلك بأن النفاذ يماثله البتل أي القطع والنفر يشاكله الذعر ويناسبه واللبز باللام بعيدة لأن الحصى لا يلبز ولكن ينبذ أي يقذف ويرمى به.
إذا الحداة بسلع عرضوا فلها
…
على الوجى ودوام السير تبغيل
تحن شوقًا وأني لا تحن إلى
…
حمى الرسول النجيبات المراسيل
فهذه المقدمة التي مرت ليست من قرى صناعة المقامات والبديع وأوصاف الشموع وضروب العبث بالمحسنات واللعب اللفظي والمعنوي، ههنا أنفاس فحولة من الشعر شبيهة بأنفاس فحول صدر الإسلام والمحدثين المشهود لهم بالتقدم، وكالقدماء لا يجد الشاعر عسرًا في الاستهلال بالديار والنسيب، إذ الديار التي تيمت قلبه ذكراها هي الكعبة الشريفة والمشاعر والمعرف ومنى ورباع مكة المقدسات والقبر الزكي والروضة والمسجد والحرم وأحد والبقيع وقبا ومشاهد دار الهجرة العظام.
تأمل هذا التعبير النبيل الجزل:
هل ربة الستر بعد النأي دانية
…
أم حبلها بعد طول القطع موصول
وهل تجد بنعمان الأراك لنا
…
من المواهب أسمال رعابيل
والشاهد قوله «من المواهب أسمال رعابيل» -فالأسمال الرعابيل من صفة الثياب، والأسمال أيضًا بقايا الماء في الركايا، وكل هذه الظلال من المعاني مرادة ههنا
قال المعري:
جلبت من الشامين أطيب جرعة
…
وأنزرها والقوم بالقفر ضلال
يلوذ بأقطار الزجاجة بعدما
…
هريقت لما أهديت في الكثر أمثال
يصف قبلتها أنها أطيب جرعة على قلتها حتى إنها لا تزيد على ما تبقى في أقطار الزجاجة بعد أن يراق ما فيها
فإن زعموا أن الهجير استشفهم
…
إليها فمنها في المزايد أسمال
أي بقايا، وما أرى إلا أن الصرصري رحمه الله يشير إلى ما ذكره أبو العلاء ههنا من معنى المواهب، وكان الأولى الضرر خاصة بأبي العلاء فرط ولع وإن اختلفت مذاهبهم
لاتفاقهم في باب التعمق في اللغة وآدابها، فهذا الذي صنعه الصرصري من خفي التضمين وبارعه.
وجلي أن الصرصري رحمه الله يجاري «بانت سعاد» وتستنير بصيرته بضوء قوافيها ومعانيها، غير أن مجاراة الصرصري لـ «بانت سعاد» ههنا ومجاراة غيره من مداح الرسول صلى الله عليه وسلم لها، كالبوصيري في لاميته:
إلى متى أنت باللذات مشغول
…
وأنت عن كل ما قدمت مسئول
وابن جابر الأندلسي في لاميته:
بانت سعاد فعقد الصبر محلول
…
والدمع في صفحات الخد مبذول
وجماعة غيرهم أورد من نظمهم في مجاراتها صاحب المجموعة النبهانية رحمه الله -وفيهم الزمخشري صاحب الكشاف والفيروز أبادي صاحب القاموس- كل ذلك أريد به أول من كل شيء التبرك، وذلك أن كعب بن زهير رحمه الله نال بها عفوًا وجائزة وذكرًا حميدًا وقد ضاهى في الجودة مذهب أبيه مع ماله من حرارة أنفاس الشباب -على أن أباه كما يعلم القارئ الكريم أصلحه الله، شديد الأسر، قوي الروح، متين الأنفاس.
ولقد أحسن الإمام يحيى الصرصري إذ يقول في أخريات لاميته
يا سيد الناس في الدنيا وسيدهم
…
يوم القيامة منك الخير مأمول
حبرت فيك قصيدًا حسن مدحك في
…
رؤوس أبياتها الحسنى أكاليل
رؤوس الأبيات عنى بها الروى، كما يقال للفواصل رؤوس الآي، وجعل القوافي كالأكاليل لمقاطع الأبيات هنا، لمكان هذا القري في مدحة كعب، وقد فصل هذا المعنى ووضحه في ما بعد:
نظمتها وزن من قد قال مبتدئًا
…
تبركا بأتباعي ما نحاه ولم
…
أبغ المضاهاة أين الطول والطول
لقد علا كعب كعب كل ممتدح
…
فمن يفاضل يومًا فهو مفضول
لعلها «فمن يفاضله» ومن جازمة ويجوز ما ههنا على معنى والذي «يفاضل» فهو مفضول وما أشبه أن تكون هاء الضمير قد غفل عنها في الطبع والتصحيح أو أخطأها الناسخ وذلك أن الرنة بها أقوى وأشبه بنغم الصرصري الفحل:
لقد علا كعب كعب كل ممتدح
…
فمن يفاضله وما فهو مفضول
سبقًا وفضلًا وإنشادًا مشافهة
…
وبردة قصرت عنها السرابيل
لكنني إن يك التسويف قصر بي
…
وقيل إنك مبعوث ومسئول
يشير إلى قول كعب: «وقيل إنك منسوب ومسئول»
أقول للواعظ المهدي نصيحته
…
أقصر فلي شافع في الحشر مقبول
محمد خير مبعوث بمرحمة
…
وجاهه الغمر للراجين مبذول
صلى الله عليه وعلى آلة وصحبه وسلم تسليمًا
ونلفت القارئ الكريم إلى قوله: {سبقًا وفضلًا وإنشادًا مشافهة} ثم ذكر البردة فكل هذا شاهد كما ترى بمعنى التبرك.
وقد نهج البوصيري نهج الصرصري في الإقرار لكعب بن زهير بالسبق المطلق لأن كلامه عربي جزل أصيل - غير أنه أعطى نفسه فضيلة المشابهة له في أمرين، أولًا مدح الرسول صلى الله عليه وسلم خالصًا فيه وثانيًا رجاء العفو عند الله سبحانه وتعالى بجاهه عليه الصلاة والسلام، وذلك أن كعبًا قد استحق القتل قبل أن يتقدم بمدحته هذه فنال بها العفو والرضا والجائزة: قال:
ها حلة بخلال منك قد رقمت
…
ما في محاسنها للعيب تخليل
جاءت بحبي وتصدقي إليك فما
…
حبي مشوب ولا التصديق مدخول
أي كما حب كعب وتصديقه كانا غير مشوبين ولا مدخولين إذ وفد معتذرًا وفي الناس من يتهمه بذلك كما يدل عليه قوله:
أنبتت أن رسول الله أوعدني
…
والعفو عند رسول الله مأمول
فقد أتيت رسول الله معتذرًا
…
والعذر عند رسول الله مقبول
مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
…
قرءان فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
…
أذنب وقد كثرت في الأقاويل
كذلك أنا حبي غير مشوب وتصديقي غير مدخول وما سلكت مسلك كعب في الروي والبحر وأنا أبغي انتحال كلامه أتزين به. أو مباراته أباهي بذلك ولكني وجدتك
غفرت له وحقنت دمه ففاز بمكانة الصاحب فهو لي بذلك قدوة وحسبي شافعًا أني أرمي إلى غرض غرضه وهو صدق المدح فيك والتماس العفو من الله بجاهك:
ها حلة بخلال منك قد رقمت
…
ما في محاسنها للعيب تخليل
جاءت بحبي وتصديقي إليك وما
…
حبي مشوب ولا التصديق مدخول
ألبستها منك حسنا فازدهت شرفا
…
بها الخواطر منا والمناويل
فتح التاء من ألبستها أجود وأشبه بمعنى البيت إذ منه الخواطر والمناويل (جمع منوال) التي تم بها نسج القصيد وقد لبست حسنًا من مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فالنية هي التي أكسبت خواطره وملكته الشرف الذي ازدهاها فازدهت به - وهذا المعنى ينظر إلى قول الصرصري
حبرت فيك قصيدًا حسن مدحك في
…
رؤوس أبياتها الحسنى أكاليل
والتشابه في أن مدحه صلى الله عليه وسلم هو المستمد منه الحسن ثم يقول البوصيري، وهذا يقوي به معنى صدق حبه:
لم أنتحلها ولم أغصب معانيها
…
وغير مدحك مغصوب ومنحول
وما على قول كعب أن توازنه
…
فربما وازن الدر المثاقيل
أي المثقال وزن بعينه وليست موازنته لمقدار من الدر بجاعلته مماثلًا له في القيمة والحسن - وقد فسر مراده من بعد أن تقصيره عن كعب ليس في صدق المدح وجودته ولكن عند كعب من الجزالة والفصاحة والأصالة في ذلك ما ليس عنده:
وهل تعادله حسنًا ومنطقها
…
عن منطق العرب العرباء معدول
وليس المولد مهما يسم قدره في هذا المدى ببالغ مبلغ العربي.
وما غاب عن الإمام شرف الدين فضل كعب بالصحبة والمشافهة والإنشاد، فهذا على أنه ضمنه معن عروبته الأصيلة وأنه نال العفو بما قال من رسول الله صلى الله عليه وسلم عفوًا مباشرًا عن لقاء، قد ذكره صريحًا من بعد، ولم يفصل فيه تفصيل الصرصري لما أغنى به هذا بوضوحه فيه عن كل مزيد -رحمهما الله الرحمة الواسعة.
ثم يقول البوصيري:
وحيث كنا معًا نرمي إلى غرض
…
فحبذا ناضل منا ومنضول
الناضل كعب وهو المنضول كما تقدم من قوله:
إن أقف آثاره إني الغداة بها
…
على طريق نجاح منك مدلول
لما غفرت له ذنبًا وصنت دما
…
لولا ذمامك أضحى وهو مطلول
رجوت غفران ذنب موجب تلفي
…
له من النفس إملاء وتسويل
وليس غيرك لي مولى أؤمله .... بعد الإله وحسبي منك تأميل
ولي فؤاد محب ليس يقنعه
…
غير اللقاء ولا يشفيه تعلل
فهذا شاهد قولنا إنه ذكر فضل كعب باللقاء صريحًا
متى تجوب رسول الله نحوك بي
…
تلك الجبال نجيبات مراسيل
فأنثني ويدي بالفوز ظافرة
…
وثوب ذنبي من الآثام مغسول
أما قوله رحمه الله «لم أنتحلها» فقد نبه به على اختلاف الوجه الذي سلكه في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجه قصيدة كعب وإن تشابها في حسن الثناء عليه وطلب العفو من عنده صلى الله عليه وسلم. وقد جعل البوصيري مكان النسيب في أول قصيدته طلب سبيل التوبة والاعتراف بالندم على ما فرط فيه:
إلى متى أنت باللذات مشغول
…
وأنت عن كل ما قدمت مسئول
في كل يوم ترجي أن تتوب غدًا
…
وعقد عزمك بالتسويف محلول
ومما يعجب في مطلع هذه القصيدة قوله:
فجرد العزم إن الموت صارمه
…
مجرد بيد الآمال مسلول
واقطع حبال الأماني التي اتصلت
…
فإنها حبلها بالزور موصول
هذا كقول كعب «إن الأماني والأحلام تضليل»
أنفقت عمرك في مال تحصله
…
وما على غير إثم منك تحصيل
ورحت تعمر دارًا لإبقاء لها
…
وأنت عنها وإن عمرت منقول
جاء النذير فشمر للمسير بلا
…
مهل فليس مع الإنذار تمهيل
وصن مشيبك عن فعل تشان به
…
فكل ذي صبوة بالشيب معذول
لا تنكرنه ففي الفودين قد طلعت
…
منه الثريا وفوق الرأس إكليل
والثريا والإكليل كلاهما كما تعلم من نجوم السماء ثم أخذ البوصيري في طريق هو خريته ولنا إلى ذلك أوبة إن شاء الله تعالى.
وقال ابن جابر الأندلسي الضرير:
وقد أتيت بضعفي ما أتاك به
…
كعب على أن باعي ماله طول
هذا يقتدي فيه بيحيى الصرصري
فإن قبلت ونالتني مراحم قد
…
نالته لم يبق لي من بعدها سول
وإن كعبا علينا إذ غدا سببا
…
لكعب خير بيمن الله مشمول
ولبرهان الدين القيراطي رحمه الله (توفي سنة 781 هـ) لامية كعبية الروي نظمها نظم علماء الفقه سنة 764 هـ يقضي بها حق ما علمه الله بجهد منه يلتمس به الأجر ويكون فيه زكاة له، أولها:
جرح الجفون بقذف الدمع تعديل
…
والحب شاهده المجروح مقبول
تأمل الجرح والتعديل -هاتان عبارتان من اصطلاح أهل الحديث. ثم القذف والقاذف لا تقبل شهادته لكن الجفون إذا قذفت الدمع فجرحها قذفه حتى صارت تبكي دمًا فذلك لها تعدل - وآخر هذا الاجتهاد الفقيرين الوقيري بعد أبيات زدن على مائة ما يدل على أن الشيخ الصالح لم يكن الشعر له فنًا ولكنما اقتحم طريقه يرجو به لنفسه صلاحًا بمديح رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال:
يا سيد الرسل قد قدمت من كلمي
…
مدحا محياه من ذكراك مصقول
صيرت لفظي لألفاظ الورى ملكا
…
لتاجه بلآلي الزهر تكليل
لا يريد هنا افتخارًا على الشعراء بأن لفظه كالملك بين ألفاظهم فالشيخ رحمه الله أوقر نفسًا وأكرم تواضعًا من ذلك. يقول كلفت لفظي أن يصير ملكًا على هذه الألفاظ التي يستعملها الناس فينظمها فتكون له تاجًا من لآلئ النجوم الزهر - بضم الزاي وسكون الهاء- وأخذ المعنى من قول الآخر:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
…
عقود مدح فيها أرضى لكم كلمى
إن كان أخذه.
بكم هديت سبيلًا للمديح لكم
…
أمسي امرؤ القيس عنه وهو ضليل
أي ضل عنه امرؤ القيس بشعر قاله في الباطل وحمل به لواء الشعراء إلى النار - قالوا وكان يكثر من وأد البنات خوفًا من العار إذ كان محاربًا محاربًا فعل هذا هو سبب ترديه في النار والله أعلم وعل هذا من شنع صنيعه يصحح أن البيتين:
فقد اختلس الطعنة لا يدمي لها نصلي
كجيب الدفنس الورهاء ريعت وهي تستفلي
له لا لامرئ القيس الكندي الآخر - (ابن عابس) لما فيهما من الدلالة الخفية أن هذه الدفنس هي الموؤودة.
وقد قدمت بأبياتي عسى سبب
…
أنجو به محكم الإبرام مفتول
السبب الحبل والإحكام والإبرام من نعوت الحبال لا من قولهم محكمة النقض والإبرام فهذا من استعمالات عصرنا
لولاك يأيها البحر البسيط ندى
…
ما طاب لي في بحور الشعر تفعيل
وكأنه رحمه الله كان يترنم بكل بيت ويقطعه ويناظر ذلك بتفعيل
والقول ما قاله عب وإن حسنت
…
من المعارض في المدح الأقاويل
أي مدح رسول الله عليه الصلاة والسلام
لكعب القدم الأعلى ففاضلنا
…
في جنب مدحته الغراء مفضول
ولى وإن فاق حسن النسج منه على
…
أذيال بردته العلياء تذييل
رحمه الله وأثابه خيرًا
وقال شمس الدين النواجي من رجال المائة التاسعة (توفي 859 هـ) وشعره متوسط يذكر كعبا في أخريات كلامه:
قدمت بين يدي نجواي من كلمى
…
هدية فضلها لي منك مبذول
لامية راق معنى مدحها ولها
…
من بحر جودك يوم العرض تنويل
فبحرها وقوافيها إذا انتظمت
…
كأنه منهل بالراح معلول
في بعض أوصاف خير الخلق قد قصرت
…
باعي وإن كان نظمي فيه تطويل
هذا من اتباع للصرصري
ولم أعارض بقولي من تقدمني
…
منهم وإن عذبت مني الأقاويل
لا يعني أنها عذبت فيمدح بذلك نفسه، ولكن على معنى على تقدير التسليم بأنها عذبت منها الأقاويل
كعب له في مديح المصطف قدم
…
سباقة وبخير الخلق تفضيل
يعني بلقائه وإنشاده أمامه ومشافهته له صلى الله عليه وسلم.
وروضة ابن زهير طاب مغرسها
…
فزهرها بندى كفيه مطلول
وإن نسجت على منوال بردته
…
طراز مدح له بالدر تكليل
فإنه كان مفتاحًا الباب هدى
…
لنا به في ديار الخلد تأهيل
إن لم أفز بقبول في متابعتي
…
«بانت سعاد» «فقلبي اليوم متبول»
ولا نريد بعد أن نستقصي ذكر كعب في ما جوريت به لاميته المباركة. غير أنه عسى ألا نغفل في هذا الباب -باب مجاراة الفقهاء ومشايخ اللغة لكعب رضي الله عنه عن لاميات الزمخشري وأبي حيان الأندلسي وصاحب القاموس مجد الدين الفيروز أبادى. وثلاثتهم لم يشيروا إلى كعب اكتفاء بظهور ذلك من ركوبهم بحره ورويه أما الزمخشري فمطلع كلمته:
أضاء لي باللوى والقلب متبول
…
نجدي برق بنار الحب موصول
ولم يسلم في أولها رحمه الله من جهد عمل واستقام له الروي في آخرها، لإفصاحه عما تضمنه فؤاده من حماسة وغضب للحق -قال:
يا خاتم الرسل إن الطول منك على
…
راجي الشفاعة يوم الحشر مأمول
فهل يجيب فتى لا حبل ذمته
…
واه ولا عقده في الصدق محلول
ولا اشتكت دخلا منه مناصحة
…
ولا مناصح إلا وهو مدخول
فهذا تعريض بالخصوم كما ترى.
ثم مضى غاضبًا على سبيل التعريض وشكوى الخصوم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
ما مست الكأس يمناه ولا صدمت
…
فاه وكلهم بالراح معلول
والعرض ريط يمان في الصوان وإن
…
تملك يداه مصونًا فهو مبذول
قوله والعرض ريط يمان عبارة فصيحة ومعها صدق يصل إلى القلب يبئ به عن حال نفسه في العفاف.
ثم يقول:
وإن يل العمل المسخوط آونة
…
فبينما العمل المرضي معمول
وعجيب ممن يلتمس الشفاعة أن يعتذر بهذا الاعتذار الذي تخالطه أرواح اعتزاز عما بدر منه من الذنوب. ولا يخفى أنه يضمن قوله هذا نوعًا من الإشارة إلى قوله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} [التوبة] وقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود].
ومكان الاعتزاز أنه جعل ذلك له حقًا. وكان أشبه بما هو بسبيله من التعبد بالمديح النبوي أن لو غلب التواضع والتسليم لله، والتعويل كل التعويل على تأميل النجاة من طريق الشفاعة، لا من طريق أن ما عمله من مسخوط سيمحوه أن ذلك قد وقع منه «بينما العمل المرضي معمول» . وإنما يذهب العمل المرضي بالعمل المسخوط إن صحبة القبول من المولى تعالى وصحب هذا العفو. وعل قوله «المرضي» يحتمل شيئًا من الدلالة على القبول والله تعالى أعلم.
وطاء أعقاب قوم ما لهم عمل
…
في نصرة الدين والإسلام مجهول
لهم ضمائر للتفكير قارعة
…
وألسن كلها بالذكر مشغول
عنى بهؤلاء المعتزلة أنهم أهل فكر في خلق السماوات والأرض. وأنهم أهل ذكر بما أتقنوا من أبواب علوم الكلام. وأصل هذه المعاني من الجاحظ أن المعتزلة كانوا هم الحارسين للدين الذابين عنه بما انتضوا دونه من سيوف حجة الكلام.
موحدون إلاهًا أنت صفوته
…
مصدقوك فلا غالتهم غول
يشير إلى مقالة المعتزلة أنهم أهل العدل والتوحيد. وقوله «أنت صفوته» رجع فيه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخلو في هذه الالتفاتة من إدلالة بتوحيده مخالطها حب لنبيه صلى الله عليه وسلم. وله في ذلك صوت بالصدق الصارح جهير، جهارة جانب الخطابة والمقولة العقلية أقوى فيها من جانب الحرارة الشعرية. وقوله. «فلا غالتهم غول» من قول عبدة بن الطبيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة
…
بكوفة الجند غالت ودها غول
ولا يصلح «غالتهم غول» في الموضع الذي وضعها فيه الزمخشري كصلاح «غالت ودها غول» ههنا -على ما احتال به الزمخشري من مذهب الدعاء وما عناه من الإشارة والتضمين.
أم لا يخلو رحمه الله في مجيئه بقوله: «فلا غالتهم غول» -بما فيه من دعاء وإشارة وتضمين- ههنا من نوع اعتذار عن هذا الاعتزاز بالاعتزال والدفاع عن الفرقة القائلة به؟ وكأنه ههنا يلتفت من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والتقرب إليه، إلى هذا الاعتذار ذي الاعتزاز والافتخار معًا، ذي المظهر المتحدي بالاعتزال لسائر من حوله من أهل السنة، المتراجع، أو كالمتراجع عن التحدي بهذا الدعاء:
. فلا غالتهم غول
في نفس الوقت.
هل كان الزمخشري معتزلًا حقًا؟ أم هذا الاعتزال حلة جعلها مظهرًا لقوة شخصيته وحرية فكره واعتداده بخلافته سيبويه وجهابذة لغة العرب وفحول البيان المتقدمين؟
إن زال عن رمي أغراض الهدى فرق
…
تلهو مضللة قالت لهم زولوا
هل عنى أهل السنة؟ استبعد ذلك. وأشبه أن يكون عنى أعداءه الذين تسببوا في أخذه بسبيل الهجرة. وقد ضمن ههنا قافيته من قول كعب:
في فتية من قريش قال قائلهم
…
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
إلا أنه قد انحرف بالتضمين شيئًا عن وجهه، إذ قائلو القولة «زولوا» في بيته هم الفرقة المضللة وعند كعب هم أهل الهدى.
فقوس قومي بالتقوى موترة
…
وسهمهم باتباع الحق منصول
وفي هذين البيتين اللذين جعلهما خاتمة القصيدة، على جودة معناهما وملاءمته لأن يكون من باب حسن المقطع، تعب تكلف في الصياغة. يشهد بذلك أنه احتاج إلى وصف الفرق وهي في آخر صدر البيت:«إن زال عن رمي أغراض الهدى فرق» بجملتين أولاهما وصف ثالث هو الحال -مضللة- والجملة الثانية «قالت لهم زولوا» غير واضحة ملاءمة الصياغة لما قبلها. وكأن أصل المعنى: «إن زال عن رمي أغراض الهد فرق قالت لهم زولوا فإنهم لم يزولوا عن ذلك لأن أقواسهم موترة بالتقوى ولها نصول من اتباع الحق» ثم جاءت الجملة «تلهو مضللة» معترضة. وهو مذهب خطابي مستقيم في جدل الكلام، ولكنه ذو تعسف وتكلف في طريقة الشعر.
لا ريب أن الزمخشري بعيد كل البعد عن التقية. إلا أن يكون قد اتخذ من مظهر الاعتزال سترًا لبعض التشيع .. بعض يسير، ربما، -لا كما صنع ابن أبي الحديد من بعد إذ يزعم أنه من أهل العدل والتوحيد وهو محتب في بحبوحة من الرفض.
أبو العلاء ذو التقية والتهيب أشعر شاعرًا بمدى بعيد من الزمخشري، مع قوة الشبه بينهما في علم العربية واللغة وفهم أسرار البيان. وزمان ما بين الرجلين غير جد بعيد. ولعل القارئ الكريم ذاكر ههنا في هذا الموضع ما كنا قلناه من أن قضية الصدق في الشعر -أو قل الصدق الشعري- من أعسر القضيات وأعوصها لمن يروم لها شرحًا وتوضيحًا. لا يكفي في وصف الصدق الشعري أن يقال إنه حماسة وطرح تهيب وغرف من تجارب النفس.
لابد مع ذلك من طرب وترنيم إيقاع وذهول عن هذه النفس التي بها الصدق ولها طرح التهيب وعنها التعبير. من هذا كله عند المعري ذي التقية والدهاء والمراوغة قدر عظيم هو الذي به تفوقه شاعرًا ومزاحمته للفحول. وفي مثل قوله:
خليلي لا يخفى انحساري عن الصبا
…
فحلًا إساري قد أضر بي الربط
ولي حاجة عند العراق وأهله
…
فإن تقضياها فالجزاء هو الشرط
وفي مثل قوله:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
…
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق على شفا
…
رزي الأماني لا أنيس ولا مال
مقل من الأهلين يسر وأسرة
…
كفى حزنًا بين مشت وإقلال
من صدق الشاعرية (ترنمها وطرح تهيبها وغرفها من تجاربها وذهولها) ما ليس شيء مثل شيء منه عند الزمخشري رحمه الله. شعر الزمخشري رحمه الله شعر العلماء والمعري شاعر أولًا، على تبحره في العلم وبين العلماء.
هذا: وكان أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي نزيل مصر (توفي 684 هـ) ممن يرون كالزمخشري من قبل أنهم آلت إليهم خلافة سيبويه وعلم كتابه. وكان صاحب تفسير ذا بسط فيه وهو البحر المحيط. وفيه من النحو مسائل وأقاويل. ولكثير من معاصرينا به شغف ولأصحاب رسائل الجامعات الآن عليه أيما عكوف. وجامع البيان أملأ بغرائب مسائل النحو من البحر المحيط لما عند ابن جرير من قوة ميل إلى طريقة الكوفيين مع حذقه أقاويل نحاة البصرة، الخليل والأخفش وسيبويه وأصحابهم انظر مثلًا وقفته عند الآية:{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} آية الأنعام فإن له فيها تفصيلًا أكثر مما في معاني الفراء، جاء فيه بمقالات من سيبويه ومن أبي زيد الأنصاري وغيرهما. وما خلا أبو حيان رحمه الله من بعض غفلات سذاجة العلماء، كما في تفسيره قوله تعالى من سورة:«والضحى» : {ووجدك ضالًا فهدى} إذ زعم أن تفسير {وجدك ضالًا فهدى} قد أهمه ثم إنه غفا فرأى في المنام قائلًا يقول له إنها على تقدير حذف مضاف أي وجد رهطك ضالًا، فصحا فكتب ذلك على الفور أو كما قال، وله قصيدة طويلة يذكر فيها علمه بسيبويه ويعرض ببعض معاصريه من أهل مصر. وقد كان له بأندلسيته اعتزاز - وكانت الأندلس ثغر جهاد، فمن شرق منها يريد الحج كان بذلك جامعًا بين الغزو وأداء الفريضة فتانك فضيلتان يزيد بهما على أكثر
قصاد البيت من أهل المشرق. قال في اللامية التي جارى بها كعبا رضي الله عنه:
وإذ قضيت غزاة فأتنف عملًا
…
للحج فالحج للإسلام تكميل
واصل سراك بسير يا ابن أندلس
…
والطرف أدهم بالأشطان مغلول
يعني السفينة - ينظر بعض النظر إلى قول أبي الطيب يصف سفن سيف الدولة:
دهم فوارسها ركاب أبطنها
…
مكدودة وبقوم غيرها الألم
وأصل دهم أبي الطيب من دهماء علقمة التي حاركها بالقتب محزوم.
ثم يقول في نعت سفينته التي هي طرف أي حصان أدهم مغلول بالأشطان أي الحبال:
يلاطم الريح منه أبيض يقق
…
له من السحب المربد إكليل
يعلو خضارة منه شامخ جلل
…
سام طغى وهو بالنكباء محمول
أحسب أن الصواب «سام طفا» بالفاء أخت القاف لا الغين المعجمة أخت العين المهملة - حتى يقول من بعد:
ما زالت الموج تعليه وتخفضه
…
حتى بدا من منار الثغر قنديل
فكبر الناس إعظامًا لربهم
…
وكلهم طرفه بالسهد مكحول
وصافحوا البيد بعد اليم وابتدروا
…
سبلا بها لجناب الله توصيل
ثم يقول:
يسوقهم طرب نحو الحجاز فهم
…
ذوو ارتياح على أكوارها ميل
شعث رؤوسهم يبس شفاههم
…
خوص عيونهم غرش مهازيل
لأبي حيان كما للزمخشري شخصية قوية. غير أنه دون الزمخشري حدة ذكاء ووقدة حماسة صدق ألا أن عنده نشوة طرب وليست نشوة الطرب وحده ببالغة مبلغ إيحاء رنات حاق الشعر ههنا أيضًا أمر فيه استعصاء على الشرح والتوضيح كأمر الصدق الشعري.
هذا وأول قصيدة أبي حيان فيه نظر إلى أول كلمة ابن زريق:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
…
قد قلت حقًا ولكن ليس يسمعه
وهو قوله:
لا تعذلاه فما ذو الحب معذول
…
العقل مختبل والقلب متبول
وكانت عينية ابن زريق كأنما نظمت بالأندلس (1) وقول أبي حيان: «فما ذو الحب معذول» ضعيف جدًا. إذ أكثر ما يعذل أهل الحب -ولله در البوصيري إذ يقول:
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
…
مني إليك ولو أنصفت لم تلم
وقول ابن زريق «فإن العذل يولعه» تتمة حسنة لما بدأ به. ومما يعجب من عينيته، وكلها معجب، مقالته هذه الحزينة جدًا في أولها:
جاوزت في نصحه حدًا أضر به
…
من حيث قدرت أن العذل ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا
…
من عنفه فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعًا بالخطب يحمله
…
فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التفنيد أن له
…
من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه
…
عزم إلى سفر بالرغم يزمعه
تأبى المطالب إلا أن تكلفه
…
للرزق سعيا ولكن ليس يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
…
موكل بفضاء الله يذرعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة
…
رزقًا ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله بين الناس رزقهم
…
لم يخلق الله مخلوقًا يضيعه
لكنهم كلفوا حرصًا فلست ترى
…
مسترزقًا ومدى الغايات يقنعه
والحرص في الرزق -والأرزاق قد قسمت
…
ــ بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه
…
عفوًا ويمنعه من حيث يطعمه
أستودع الله في بغداد لي قمرًا بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
وكان موضع ذكر هذه الأبيات في مكان مما تقدم أو مكان أنسب مما يلي وعسى أن يكون موقعها ههنا بين أشعار هؤلاء العلماء، قبل أن نصير إلى حاق شعر المديح النبوي عند مجيديه، مما يستراح إليه، عملًا بمذهب أمير الأدباء وشيخ أهل التأليف أبي عثمان رحمه الله.
(1) وإنما نظمت ببغداد وألحقت بها أسطورة أندلسية وأحسبها في طبقات السبكى بسند قوي.
هذا وعلى ما كان بين الزمخشري وأبي حيان من شبه، كان بينهما نوع من تنافر، كأن أبا حيان، وزمانه متأخر عن زمان الزمخشري بنيف ومائة سنة، كان يغار من سمعة هذا وما أحرز من منزلة في مراتب أهل اللغة والتفسير والنحو. وقد تتبعه في مواضع مما جسر به كتلحينه قراء أبي عمرو بإدغام الراء في اللام، وتخطئته أبا شعيب السوسي في مفصله حيث أدغم الضاد في الشين في آية النور. وما عدا الزمخشري في الذي صنع مذاهب القدماء. ونقد القراءات عند ابن جرير كثير لا يرى بأسًا في أن يصرح باستحسان ما يستحسن منها وكراهية ما لا يستحسن. وغلب على المتأخرين اتباع سبعة ابن مجاهد والثلاثة المكملين العشرة. ولأبي حيان تسليم ورع في هذا الباب. وعنده رحمه الله من بركة أهل السنة وانكساره تواضعهم. اختلاط ذلك بما لعلماء اللغة والنحو من شراسة تباه أحيانًا كثيرة من العجب. ثم كانت لأبي حيان جمحات شاعر ربما خرجت به من طريق التعبد بالمدح النبوي إلى المألوف من أساليب الشعراء في الوصف والنسيب - قال مثلًا في أوائل القصيدة:
لا تعذلاه فما ذو الحب معذول
…
العقل مختبل والقلب متبول
هزت له أسمرًا من خوط قامتها
…
فما انثنى الصب إلا وهو مقتول
جميلة فصل الحسن البديع لها
…
فكم لها جمل منه وتفصيل
فالنحر مرمرة والنشر عنبرة
…
والثغر جوهرة والريق معسول
والطرف ذو غنج والعرف ذو أرج
…
والخصر مختطف والمتن مجدول
هيفاء ينبس في الخصر الوشاح لها
…
درماء تخرس في الساق الخلاخيل
من اللواتي غداهن النعيم فلا
…
يشقين آباؤها الصيد البهاليل
ثم يقول بعد أن استمر به الغزل شوطًا رحمه الله:
فعد عن ذكر لبنى إن ذكركها
…
على الثنائي لتعذيب وتعليل
ولعل الغزل الذي مر مناسب لما صار إليه بعد من ذكر الجهاد -ثم هو مناسب لما كان عليه آخر الأندلس من قتال الكفرة المستمر:
فشق حيزوم هذا الليل ممتطيًا
…
أخا حزام به قد يبلغ السول
أقب أقود يعزي للوجيه له
…
وجه أغر وفي الرجلين تحجيل
حفر حوافره معر قوائمه
…
ضمر أياطله والذيل عثكول
أما صاحب القاموس مجد الدين الفيروز آبادي (1) فقد كان من معرفة غريب اللغة لدى ذروة شاهقة إلا أنه كان عظيم الثقة بما يقول كثير التعقب للجوهري وقد لهج بنقد صاحب الصحاح لهجًا، والعلماء مجمعون على تقديم الصحاح على سائر ما صنف بعده من المعاجم، والقاموس من أنفس المراجع وأخصرها وأوضحها وأكثرها فوائد وغناء.
من شواهد عظم ثقة الفيروز أبادي بما يقول مقدمته التي يقول في تحميدها «الحمد الله منطق البلغاء باللغي في البوادي ومودع اللسان ألسن اللسن الهوادي ومخصص عروق القيصوم وغضى القصيم بما لم ينله العبهر والجادي» ، ثم بعد سجعات إنما هن كقواف لالتزامه رويًا واحدًا قال في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم:«باعث النبي الهادي، مفحمًا باللسان الضادي كل مضادي (2) مخفمًا لا تشينه الهجنة واللكنة والضوادي، محمد خير من حضر النوادي وأفصح من ركب الخوادي (3) وأبلغ من حلب العوادين (4)، بسقت دوحة رسالته فظهرت على شوك الكوادي (5) واستأسدت راض نبوته فعيت في المآسد الليوث العوادين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدآدي إلخ»
فمما قاله في نسيب القصيدة وأولها:
هل حبل عزة بعد البين موصول
…
أو بارق الوصل بين البين مأمول
وهذا كمطلع كلمة عبدة بن الطبيب
هل حبل خولة بعد الهجر موصول
…
أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
وكأنه يوهم بمجاراتها دون لامية كعب وجاء منها بقوله:
والمرء ساع لأمر ليس يدركه
…
والعيش شح وإشفاق وتأميل
ولكنه اقتدى بكعب بلا ريب -إذ جاء له:
إن الصبابة بعد الشيب تضليل
(1) ولد بفارس سنة 729 هـ في ربيع الثاني وتوفي باليمن بزبيد في 20 من شوال سنة 817 أو 816 هـ.
(2)
مضادي، مخالف
(3)
الخوادي: الإبل من خدى البعير يخدي.
(4)
العوادي: الإبل
(5)
الكوادي هي الكدي أي الأراضي الصلبة. عيت: أعجزت وأعيت. الدآدي الليالي المظلمة وهي ليالي آخر الشهر وهكذا فسرها صاحب القاموس في باب الهمزة مفردها دأدا ودئداء ودؤدؤ بتثليث الدال الأولى وفتح الثانية أو ضمها.
فهذا من كلام كعب، وله:
والأمر من ربه لا شك مفعول
وهذا من كلام كعب -وقال:
وقال حيهلا قد رام جابركم
…
سؤرا فسيروا إليه عياهيل
وهذا من قول كعب: «قال قائلهم ببطن مكة» ، والحديث هنا في كلام مجد الدين رحمه الله عن شاة جابر رضي الله عنه.
وقوله: «إلا وفيها حصاة منه زهلول» من قول كعب: «أقراب ذهاليل» وهذا باب يطول فمما قاله في نسيب القصيدة وأغرب:
وليلة بت ذا حزن وذا قلق
…
والدم والدمع مطلول ومهطول
وخامر النفس من ترداد زفرتها
…
هول وخبل وعلول وعقبول
أما وعيني في الهجران تسلفها
…
بالدمع دجلة والسيحون والنيل
قد حفلتها حفولًا طفلة كملت
…
في الحسن قد صانها لطف وتحفيل (1)
رقراقة بضة حوراء هيكلة
…
دعجاء بلجاء زانتها الأكاليل
رعبوبة رئدة لفاء هيضلة
…
شنباء لمياء مثواها البراغي (2)
نجلاء برجاء هيفاء مخصرة
…
شماء قنواء بين الغيد عطبول
خود مهفهفة عطا هبنكة
…
هركولة وثناياها معاسيل (3)
والخلق ذو بهج والخلق ذو غنج
…
والطرف ذو دعج والثغر معسول
(1) حفلتها ملأتها بالدمع.
(2)
الهيضلة النصف كما في القاموس وينبغي أن يكون عنى بها أنها جسيمة كأنها نصف والبراغيل قرى الريف واحدها برغيل بكسر الباء.
(3)
عطا أي عطاء بتشديد الطاء المهملة أي طويلة. هبنكة بتشديد النون أي ذات كسل.
والوجه ذو بلج والثغر ذو فلج
…
والردف ذو رجج والطرف مكحول
والخصر في زعج والقلب في دمج
…
والعين في خمج والشعر مرطول (1)
مياسة لو تمشت عرقلى نزلت
…
عرقال قلبي فتضنيه العراقيل (2)
إن الحماطيط من صدغيك قد لسعت
…
حماطتي فأحاطت بي الزعابيل (3)
لبانة منك يا لمياء لو قضيت
…
لبان للبين إبدال وتحويل
فتأمل أصلحك الله.
ولصاحب القاموس ولع بذكر ما له معان من الإحماض - ذلك جلي في القاموس قلت كلمة تخلو مما يمت إليه كل الخلو
وقال في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبلج الوجه هلقام له شمم
…
وأدعج العين مزدان بها الميل
الميل المرود. الهلام الأسد. والإغراب في الهلقام كما ترى. أبيات المدح على الجملة أقل إغرابًا مما قبلها ونظم فيها من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم عددًا. وأسلوب القصيدة شعر علماء. وسط. فرحمه الله وأثابه.
هذا- واعلم أيها القارئ الكريم أصلحك الله أن نقادنا أهملوا باب المديح النبوي وقسمتهم الأطوار الشعر العربي بعد زمان صدر الإسلام هكذا:
(1)
العصر العباسي الأول
(? ) العصر العباسي الثاني
(3)
العصر العباسي الثالث
(4)
عصر الانحطاط
(5)
النهضة
(6)
العصر الحديث
(1) قوله في دمج أراه تحريفًا صوابه رهج والخمج هنا مقارب لمعنى الغنج. مرطول مدهون.
(2)
العرقلي كالخيزلي. العرقال في القاموس من لا يستقيم على رشده ويمكن حمل المعني هنا عليه وهو بعيد وأراه محرفًا من عرقاة أي أصل عروق القلب: «عرقاة قلبي» .
(3)
الحماطيط جمع حمطيط بفتح الحاء أي الحية وأراد عقارب الصدغ إذ الحية تلدغ والعقرب تلسع ومثل هذا جائز فقد سموا القدم حافرًا في ضرورة الشعر والحماطة سواد القلب، ذكرها المعري في أول رسالة الغفران.
ولا يخفى أن هذه القسمة تتضمن عنصرًا من الرغبة المريضة أن ينتسب الناس إلى أوروبا وحضارتها وأن يكونوا امتدادًا منها وجزءًا لا يتجزأ. الأوربيون يؤرخون عصورهم هكذا:
(1)
العصر الكلاسيكي وينتهي بسقوط رومة سنة 476 م.
(? ) العصر المظلم من 476 م إلى القرن التاسع الميلادي.
(? ) العصر الأوسط من القرن التاسع الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
(4)
النهضة القرن الخامس عشر إلى القرن السادس عشر الميلادي.
(5)
العصر الحديث، القرن السادس عشر الميلادي.
فالحافظون بيت الشاعر وهو السهروردي:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
…
إن التشبه بالكرام فلاح
أو معناه، شبهوا سقوط بغداد سنة 656 هـ (1258 م) بسقوط رومة. ثم ران الظلام. ثم جاءت النهضة. ثم ها نحن أولاء في العصر الحديث.
والتأريخ الإسلامي والعربي معًا يكذبان هذه التصنيف الخاطئة لعصورنا.
لقد كان أخذ التتار بغداد وإخراجهم لها كارثة.
ولكنه قد قامت بعد بغداد دول إسلامية قويات. وامتدت رقعة الإسلام. ونبغ فيها العلماء والأدباء. ما بني التاج محل ولا مراصد سمرقند إلا بعد سقوط بغداد. وازدهر الإسلام. بتمبكتو في القرن التاسع والعاشر الهجري. وازدهرت بلاد المغرب بالمعارف والعلوم وضروب ما ينسب إلى الحضارة وتنسب الحضارة إليه من القرن الخامس إلى أن تغلبت أوربة بدفعة الاستعمار في القرن الماضي الميلادي. وانتشر الإسلام في بلاد جاوة والماصين وقرع العثمانيون أبواب فينا بصلاصل الحديد.
وفي هذا العصر الذي يقال له عصر الانحطاط برز السيوطي وابن حجر وابن تيمية وابن القيم وابن الخطيب وابن خلدون وهذا بعد باب واسع.
وفي الشعر كان في هذه الفترة شعراء المديح النبوي المفلقون. وهؤلاء أهملهم المستشرقون عمدًا وهم في ذلك معذورون. من يلوم مستشرقًا على ألا يؤرخ لمن يقول:
جاء المسيح من الإله رسولًا
…
فأبي أقل العالمين عقولًا
قوم رأوا بشرًا كريمًا فادعوا
…
من جهلهم لله فيه حلولًا
ولكن المسلمين غير معذورين إذ أهملوا درس هذا الشعر. ونحن ها هنا إنما نريد أن ننبه على مكانه. ثم هو جزء جوهري من تأريخ الشعر العربي، إهماله خطأ في باب الدرس