الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صعب الكريهة لا يرام جنابه
…
ماضي العزيمة كالحسام المقصل
يحمي الصعاب إذا تكون كريهة
…
وإذا هم نزلوا فمأوى العيل
ود أبو كبير لو هكذا كان هو.
وفي الأبيات بعد دقائق من معرفة العرب بالتربية ورعاية الصغار في أطوار الطفولة الأولى كقوله ومبرا من كل غبر حيضة أي بقايا الحيضة. وداء مغيل أي إن أمه لم ترضعه غيلًا أي على حمل وذلك فيما زعموا يضعف الناشئ، وأن المرأة إذ غشيت في حال خوف أو غصبت، كان ذلك أنجب للنسل. قالوا وكان تأبط شرًا امرأ قصيرًا وذلك قول قيس بن العيزارة:
فأكرم ببز جر شعل على الحصى
…
ووقر بز ما هنالك ضائع
شعل هو تأبط شرًا. فإن صدق فهذه الصفة التي وصف بها أبو كبير تأبط شرًا- «وإذا رميت به الفجاج إلخ» تؤيد ما ذكره، وكأنه كرة تنزو إذ يهوي المخارم أو كما قال:
يهوى مخارمها هوى الأجدل
أي الصقر.
خامسًا: التخلص:
كل ما كنا فيه تخلص، غير أنا نخص في هذا الفصل تحت هذا العنوان مسائل منها الخروج وهو كثير. فقولهم «دع ذا» «وعد عن ذا» خروج. وقد بينا أن كثيرًا من «دع ذا» و «عد عن ذا» له صلة تسلسلية أو تدرجية أو قوة صلة ما بما تقدمه وما يجيء بعده من ذلك ما سبق به الاستشهاد من قول النابغة مثلًا:
فعد عما مضى إذ لا ارتجاع له
…
وانم القتود على عيرانة أجد
ونحو قول علقمه:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة
…
كهمك فيها بالرداف خبيب
ونحو
فلأهدين مع الرياح قصيدة
…
مني مغلغلة إلى القعقاع
قال ابن رشيق وقد ذكرنا بعض كلامه في أول الكتاب ومن المستحسن أن نورده كله هنا إذا اعتمدنا عليه في بعض ما نقول، وفصلنا من ذلك مواضع، فيما تقدم، وقد نلحق ببعضه شيئًا من التعليق من بعد إن شاء الله (1).
وأما الخروج فهو عندهم شبيه بالاستطراد وليس به، لأن الخروج إنما هو أن تخرج من
(1) العمدة تحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد رحمه الله ج 1 ص 234 - 238.
نسيب إلى مدح أو غيره بلطف تحيل، ثم تتمادى فيما خرجت إليه كقول حبيب في المدح
صب الفراق علينا، صب من كثب
…
عليه إسحاق يوم الروع منتقمًا
سيف الإمام الذي سمته هيبته
…
لما تخرم أهل الأرض مخترمًا
ثم تمادى في المدح إلى آخر القصيدة.
وكقول أبي عبادة البحتري:
سقيت رباك بكل نوء عاجل
…
من وبله حقًا لها معلومًا
ولو أنني أعطيت فيهن المني
…
لسقيتهن بكف إبراهيمًا
وأكثر الناس استعمالًا لهذا الفن أبو الطيب، فإنه ما يكاد يفلت له ولا يشذ عنه حتى ربما قبح سقوطه فيه نحو قوله:
ها فأنظري أو فظني بي ترى حرقًا
…
من لم يذق طرفًا منها فقد وألا
على الأمير يرى ذلي فيشفع لي
…
إلى التي تركتني في الهوى مثلًا
فقد تمنى أن يكون له الأمير قوادًا- وليس هذا من قول أبي نواس
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد
…
هوانًا لعل الفضل يجمع بيننا
في شيء، لأن أبا نواس قال «يجمع بيننا» ثم اتبع ذلك ذكر المال والسخاء به فقال:
أمير رأيت المال في نقماته
…
مهينًا ذليل النفس بالضيم موقنًا
(في الأصل في نعمائه وينكسر به البيت ولا يستقيم المعنى وهو خطأ إما من الطابع وإما من الناسخ).
فكأنه أشار إلى جمعه بينهما بالمال خاصة، يفضل عليه ويجزل عطيته فيتزوجها أو يتسرى بها، وأبو الطيب قال:«يشفع لي» والشفاعة رغبة وسؤال ثم أتبع بيته بما هو مقو لمعناه في القيادة فقال:
أيقنت أن سعيدًا طالب بدمي
…
لما بصرت به بالرمح معتقلًا
فدل على أنه يشفع فإن أجيب إلى مساعدة أبي الطيب فذاك، وإلا رجع إلى القهر والذي يشاكل قول أبي نواس قوله:
أحب التي في البدر منها مشابه
…
وأشكو إلى من لا يصاب له شكل
فلفظة الشكوى تحمل عنه كما حملت عن أبي نواس.
ومما سقط فيه- وإن كان مليح الظاهر- قوله يخاطب امرأة نسب بها:
لو أن فنا خسر صبحكم
…
وبرزت وحدك عاقه الغزل
وتفرقت عنه كتائبه
…
وإن الملاح خوادع قتل
ما كنت فاعلة وضيفكم
…
ملك الملوك وشأنك البخل
أتمنعين قرى فتفتضحي
…
أم تبذلين له الذي يسل
بل لا يحل بحيث حل به
…
بخل «ولا جور» ولا وجل
فحتم علي (فنا خسرو) بأن الغزل يعوقه، وأن كتائبه تتفرق عنه، وجعله يسأل هذه المرأة وتشكك هل تمنعه أم تبذل له، ثم أوجب أن البخل لا يحل بحيث حل، فأوقعه تحت الزنى أو قارب ذلك، ولعل هذا كان اقتراحًا من فنا خسرو، وإلا فما يجب أن يقابل من هو ملك الملوك بمثل هذا، وما أسرع ما انحط أبو الطيب، بينا هو يسأل الأمير أن يشفع إلى عشيقته صار يشفع للأمير عندهما».
قلت ما يخلو ابن رشيق في جميع هذا من خلط بين أدب البلاط، ما ينبغي أن يكون قلت ما يخلو ابن رشيق في جميع هذا من خلط بين أدب البلاط، ما ينبغي أن يكون عليه، وبين مذاهب الشعراء في الخيال والافتنان. وليس مذهب أبي الطيب في أبياته بجد مختلف عن مذهب أبي نواس، فمن أعان بالمال شفع. والطلب بدم المقتول أو من هو في حكم المقتول من ذلك غير بعيد. وحديثه عن فنا خسرو نهايته السؤال:
أتمنعين قرى فتفتضحي البيت
ثم قوله بل لا يحل إنما هو خروج وليس بقيادة كما زعم ابن رشيق ليرضي صاحبه أبا الحسن والله أعلم أي ذلك كان، ثم نرجع بالحديث إلى بقية كلام ابن رشيق:
«والاستطراد أن يبني الشاعر كلامًا كثيرًا على لفظة من غير ذلك النوع يقطع عليها الكلام وهي مراده دون جميع ما تقدم، ويعود إلى كلامه الأول وكأنما عثر بتلك اللفظة عن غير قصد ولا اعتقاد نية، وحل ما يأتي تشبيهًا وسيرد عليك في بابه مبينًا إن شاء الله تعالى. ومن الناس من يسمي الخروج تخلصًا وتوسلًا وينشدون أبياتًا منها:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه
…
فليس به ولو كان من جرم
ولو أن جرمًا أطعموا شحم جفرة
…
لباتوا بطانًا يضرطون من الشحم
وأولى الشعر بأن يسمى تخلصًا ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى ثم عاد إلى
الأول» إلى آخر ما قاله مما تقدم ذكره في أول هذا الجزء حيث استشهد بشيء من عينية النابغة. ثم قال: «ثم اطرد له ما شاء من تخلص إلى تخلص حتى انقضت القصيدة، وهو مع ما أشرت إليه غير خاف إن شاء الله تعالى.
«وقد يقع من هذا النوع شيء يعترض في وسط النسيب من مدح من يريد الشاعر مدحه بتلك القصيدة، ثم يعود بعد ذلك إلى ما كان فيه من النسيب، ثم يرجع إلى مدح كما فعل أبو تمام وإن أتى بمدحه الذي تمادى فيه منقطعًا، وذلك قوله في وسط النسيب من قصيدة له مشهورة:
ظلمتك ظالمة البريء ظلوم
…
والظلم من ذي قدرة مذموم
زعمت هواك عفا الغداة كما عفت
…
منها طلول باللوي ورسوم
لا والذي هو عالم أن النوى
…
أجل وأن أبا الحسين كريم
ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت
…
نفسي على إلف سواك تحرم
ثم قال بعد ذلك:
لمحمد بن الهيثم بن شبابه
…
مجد إلى جنب السماك مقيم
ويسمى هذا النوع الإلمام
وكانت العرب لا تذهب هذا المذهب في الخروج إلى المدح، بل يقولون عند فراغهم من نعت الإبل وذكر القفار وما هم بسبيله «دع ذا» و «عد عن ذا» ويأخذون فيما يريدون أو يأتون بإن المشددة ابتداء للكلام الذي يقصدونه. فإذا لم يكن خروج الشاعر إلى المدح متصلًا بما قبله ولا منفصلًا بقوله «دع ذا» و «عد عن ذا» ونحو ذلك سمى طفرًا وانقطاعًا وكان البحتري كثيرًا ما يأتي به، نحو قوله:
لولا الرجاء لمت من ألم الهوى
…
لكن قلبي بالرجاء موكل
إن الرعية لم تزل في سيرة
…
عمرية مذ ساسها المتوكل
ولربما قالوا بعد صفة الناقة والمفازة «إلى فلان قصدت» و «حتى نزلت بفناء فلان» وما شاكل ذلك» أ. هـ.
كما اهتم ابن قتيبة بقصيدة المدح كذلك اهتم ابن رشيق، وقد بسطنا القول في أهمية قصيدة المدح حتى كسدت سوقه وكان كسادها ببلاد المغرب والأندلس متأخرًا في الزمان عما أصابها بالمشرق.
وقد ترى أن ابن رشيق فطن إلى أنه قد يكون لعد عن ذا ودع ذا وما أشبه اتصال بما قبله، وما سماه التخلص هو نص في معنى اتحاد القصيدة وتشابك أجزائها كما تقدم ذكره أول شيء. وقوله وكانت العرب لا تذهب هذا المذهب، عنى به الإلمام والخروج والنفي ما أحسبه إلا قد أراد به التقليل إذ قد مر بنا قول حسان:
إن كنت اذبة الذي حدثتني
…
فنجوت منجي الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
…
ونجا برأس طمرة ولجام
وقد اتبع أبو الطيب طريقة حسان حذوك النعل بالنعل حيث قال:
ولو كنت في أسر غير الهوى
…
ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار
…
وأعطى صدور القنا الذابل
وصدق ابن رشيق إن أبا الطيب كان يكثر من هذا الضرب الذي صار يسمى حسن التخلص وأولى به اسم الخروج كقوله:
يودعننا والبين فينا كأنه
…
قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
قواضم واض نسج داود عندها
…
إذا دخلت فيه كنسج الخدرنق
أي العنكبوت.
وكصنيع أبي تمام في ظلمتك ظالمة البريء ظلوم صنع في:
أقبلتها غرر الجياد كأنها
…
أيدي بني عمران في جبهاتها
ثم قال:
سقيت منابتها التي سقت الورى
…
بندي أبي أيوب خير نباتها
ووقف أبو منصور الثعالبي عند هذه التائية وقفة طيبة، وكان بشعر أبي الطيب عارفًا وله محبًا وللشعر ذواقة وناقدًا وقد بينا ما نراه من تقديمه في باب النقد وإنكار من زعم أنه سطحي في كتابنا (مع أبي الطيب) وفي كتابنا (التماسه عزاء) وليس لعمري بسطحي من كتب الفصول التي كتب عن أبي الطيب والبديع والشريف الرضي وأبي فراس وأصحاب الصاحب، وهذا باب واسع ليس هنا مكانه.
ومن اساءات أبي الطيب في مسلكه سبيل حسن التخلص فصاربه إلى نوع من الإحالة: