الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعينية المسيب بن علس
أرحلت من سلمى بغير متاع
انتقال الشاعر فيها من النسيب وصفة الطريق كأنه اقتضاب وإنما هو وثبة درجتها متضمنة في صفة السير الذي بدأه من عند أول النسيب إذ زعم أن سلمى من قلبه بمكان وحباله لم تنقطع، فالرحيل إذن من أجل هذا المديح.
فلأهدين مع الرياح قصيدة
…
منى مغلغلة إلى القعقاع
جعلها مع الرياح لركوبه وتغنيه ووروده المياه بهذه المدحة العصماء
ترد المياه فلا تزال غريبة
…
في القوم بين تمثل وسماع
هذه مقدمة. ثم تدرج منها إلى المدح نفسه:
وإذا الملوك تدافعت أركانها
…
أفضلت فوق أكفهم بذراع
وإذا تهيج الريح من صرادها
…
ثلجا ينيخ النيب بالجعجاع
أحللت بيتك بالجميع وبعضهم
…
متفرق ليحل بالأوزاع
ولأنت أجواد من خليج مفعم
…
متراكم الآذي ذي دفاع
وكأن بلق الخيل في حافاته
…
يرمي بهن دوالي الزراع
هذا البيت مع طربه صورة مذهلة- ومع ذكره الخيل خطر له ذكر الحرب، وهذا من بابا تداعي المعاني
ولأنت أشجع في الأعادي كلها
…
من مخدر ليث معيد وقاع
ونصير بعد إلى ذكر تداعي المعاني:
ثالثا: تداعي المعاني
حق هذا كان أن نذكره قبل التسلسل وقبل التدرج إذ هو في مادة ربط أول القصيدة بما يليه إلى آخرها أصل أصيل. ويداخله الرمز والإيحاء والتدرج والتسلسل.
ولكنا أخرناه عنهما لأن أمرهما كأنه أبين من أمره. وإنما نصل إلى درك ما كان وراء قول الشاعر من تداعي المعاني بالحدس وبالتفكر وبالتخمين كثيرا.
وبعض التداعي عفوي الانسياب آخذ ما يسبق منه بما يلي، متجاوبة أطرافه متساوقة تساوقا واضحا جليا. على ذلك قصيد امريء القيس «قفا نبك من ذكرى
حبيب ومنزل» - ما من فصل منها إلا هو مفض إلى ما بعده، ودعاء المعنى أخاه له إصبع تشير، وقد مر تفصيلنا ذلك في هذا الجزء وفي الجزء الثالث في باب الجمال ومقاييسه، فإغنى ذلك عن أن نعيده هاهنا.
وفي تداعي المعاني عند طرفة قلق واندفاع دفعات دفعات. وحركة القلق تنتظم قصيدته من عند أولها إلى آخرها مع نوع من شدة وعنف:
يجور بها الملاح طورا ويهتدي
كما قسم الترب المفايل باليد
ينفض المرد
…
تناول أطراف البرير وترتدي
تخلل حر الرمل .....
لأمضى الهم .....
بعوجاء مر قال تروح وتغتدي
نصأتها
…
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت
…
وظيفا فوق مور معبد
جنوح دفاق ......
بعيدة وخد الرجل موارة اليد
واروع نباض ........
وجاشت إليه النفس ....
خب آل الأمعز .....
فذالت كما ذالت وليدة مجلس
…
ترى ربما أذيال سحل ممدد
وهلم جرا .... وقد قال يصف نفسه:
خشاش كرأس الحية المتوقد
فهذا في القلق شاهد.
وعكس ذلك حركة السأم والأناة التي تنتظم ميمية زهير من عند الظعائن إلى صحيحات المال الطالعات بمخرم ورحى الحرب الثقيلة الطحون والشيء بالشيء يذكر.
الوقفة عند الطلل أذكرت بحدوج المالكية. ودعا ذلك ذكر الحي والفتاة التي كما قال:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن
…
مظاهر سمطى لؤلؤ بزبرجد
فاللؤلؤ ثناياها والزبرجد لثاتها وشفتاها.
ثم ذكره الشمس أشعره حرها: -
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
…
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
ونعلم أن المرقال دعا إليها ذكره الشمس لقوله من بعد:
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت
…
وقد خب آل الأمعز المتوقد
وإنما حب توقد من توهج الشمس عليه- هذه الشمس التي إياتها قد سقت تلك الثنايا اللامعات العذاب.
ثم إذ ذالت الناقة وشبهها بفتاة الشرب دعا ذلك ذكر فتوته هو:
ولست بحلال اللاع مخافة
…
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وأبيات القصيدة المشهورات الغر من وصف القينة إلى
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
إلى:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
…
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
…
وجدك لم أحفل متى قام عودي
الأبيات-
ثم بعد إذ أثبت على نفسه ما حقا يصح لمن يهمهم أمره أن يلومه عليه قال: «يلوم ولا أدري علام يلومني» ، فقص قصته مع قرط بن معبد ومع ابن عمه مالك
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
…
على المرء من وقع الحسام المهند
ثم دعت الشكوى غضبا:
أنا الرجل الضرب
وإذا بهذا الرجل الضرب يعقر عقلية مال شيخ الحي، أبيه أو عمه
فظل الإماء يمتللن حوارها
…
ويسعى علينا بالسديف المسرهد
فإن مت فانعيني بما أنا أهله
…
وشقى علي الجيب يابنة معبد
وكأنما أرته بصيرة فؤاده أن جرائر طيشه سترديه قتيلا
وختم القصيدة بشراسة المقاتل وسفاهة صاحب نار الميسر وإن كانت من مآثر الجاهلية وانتظار الموت ونعى نفسه إلى نفسه وإلى الحي من عدو وصديق:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
…
بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
ومن تداعي المعاني الذي تحتاج في تتبعه إلى إعمال الفكر ميمية علقمة
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
…
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
وكثير من الاستطراد والرجعة إلى ما تقدم من قول يدخل في باب تداعي المعاني، وفي ما فصلناه من تقدم الأمثلة ما يفي ويغني عن إعادته إن شاء الله تعالى
وقد تتداعي المعاني في حيز إطار عادة الشعراء من طلل ونسيب وما هو محور من ذلك أو مقاربه.
وقد يقدم الشاعر ويؤخر مفتنا في ذلك، فيغلب ما يمليه عليه تداعي المعاني على ما هو مألوف من ترتيب الرحلة بعد النسيب والأغراض بعد الرحلة.
من أمثلة ذلك كلمة المرار:
لا حبذا أنت يا صنعاء من بلد
…
ولا شعوب هوى منى ولا نقم
ولن أحب بلادا قد رأيت بها
…
عنسا ولا بلدا حلت به قدم
إذا سقى الله أرضا صوب غادية
…
فلا سقاهن إلا النار تضطرم
وانتقل من هذا على سبيل المقابلة وهي من عوامل الربط كما سيلي ذكره إن شاء الله إلى مدح وادي أشى بديار نجد والفتيان الذين به:
وحبذا حين تمسي الريح باردة
…
وادي أشي وفتيان به هضم
ثم مضى في مدح هؤلاء الفتيان الهضم أي كل منهم هضم للمال بكرمه وإن شئت فقل هضيم أي ضامر غير مترهل إذ فعل لكلتا الصيغتين جمع
الواسعون إذا ما جر غيرهم
…
على العشيرة والكافون ما جرموا
والمطعمون إذا هبت شآمية
…
وباكر الحي من صرادها صرم
أي من سحابها البارد قطع- ثم كرر هذا المعنى وقرره وأكده:
وشتوة فللوا أنياب لزبتها
…
عنهم إذا كلحت أنيابها الأزم
أي الأوازم أي العاضة
حتى انجلى حدها عنهم وجارهم
…
بنجوة من حذار الشر معتصم
هذا كرمهم ثم أخذ في ذكر نجدتهم وفروسيتهم
وهم إذا الخيل حالوا في كواثبها
…
فوارس الخيل لا ميل ولا قزم
وهذت كأنه أخذه من قول سلامة:
لا مقرفين ولا سود جعابيب
وقاسه عليه.
لم ألق بعدهم حيا فأخبرهم
…
إلا يزيدهم حبا إلى هم
وهذا البيت مما يستشهد به النحاة أراد يزيدونني. وعرض هاهنا بالعودة إلى ما كان فيه من ذم أهل صنعاء ولعمري ما أنصفهم وما أنصف صنعاء ومضى في مدح أقوامه:
كم فيهم من فتى حلو شمائله
…
جم الرماد إذا ما أخمد البرم
وعني بالبرم البخيل وأصله الذي لا يشهد الميسر وكانت نار الميسر مما توقد لمنفعة الضعاف
تحب زوجات أقوام حلائله
…
إذا الأنوف امترى مكنونها الشبم
إي إذا كان البرد وزكامه. ونظر في هذا المعنى إلى قول متمم:
ولا برما تهدي النساء لعرسه
…
إذا القشع من حس الشتاء تقعقعا
ثم مضى على هذا النهج
ترى الأرامل والهلاك تتبعه
…
يستن منه عليهم وابل رذم
ثم وصف جفان هذا الفتى الذي جعله صورة لفتيان وادي أشي الهضم
ترى الجفان من الشيزي مكللة
…
قدامه زانها التشريف والكرم
ينوبها الناس أفواجا إذا نهلوا
…
علوا كما عل بعد النهلة النعم
ثم قفز به تداعي المعاني من تذكر الفتيان وكرمهم إلى تذكر الفتيات وفتاة بعينها منهن زاره طيفها-
زيارة طيفها هي التي أثارت في نفسه بغض الاغتراب فذم صنعاء وما حولها وتمنى لو يعود- بدأ بذكر الفتيان للموازنة بينهم وبين ما كره من صنعاء، وكان أنسب أن يبدأ بذكر الرجال.
ثم كأن أمر الطعام والجفان صحبه تداعي المعاني الذي جر إلى ذكر النساء ثم إلى ذكر امرأة منهن بعينها. ثم إلى أن جاء بما شأنه أن يكون مقدمة نسيبية في موضع الرحلة، لأن الطيف يزور مع الرقاد، وهو قد نزل لتعريس الفجر هنا فطرقه الخيال-
زارت رويقة شعثا بعد ما هجعوا
…
لدى نواحل في أرساغها الخدم
النواحل هي الرواحل وقد كدها السير. والشعث عنى به أشعث واحدا هو نفسه، ولكنه جاء بالجمع ليناسب ما كان فيه من قصة فتيانه الكرام الذين بوادي أشي. فقد صاروا الآن معه في السفر. ولا يكون هذا الفتى الكريم ذو الجفان المكللة، الذي تحب زوجات أقوام حلائله إلا إياه هو
وقمت للزور مرتاعا فأرقني
…
فقلت أهي سرت أم عادني حلم
هذا يبين به قوة طروق الطيف وحيوية ما رأى من شخصه- ثم انتقل إلى تصوير من باب أوصاف الغزل، جعله في مقابلة ما كان من وصف الفتى الهمام الكريم:
وكان عهدي بها والمشي يبهظها
…
من القريب ومنها النوم والسأم
وبالتكاليف تأتي بيت جارتها
…
تمضي الهويني وما يبدو لها قدم
وهذا جمع به بين صفة صاحبة الأعشى، وصفة ما ينبغي أن تكون عليه المرأة المحتشمة، وهذا من جهة الوصف لخلقها وشيمتها فيه من الجمع بين المتباينين، المشي المتأنث حتى إنه ليبهظها والتحفظ الذي يسبغ الستر حتى على القدم، كما بين جمعه في الرائية:
عجب خولة إذ تنكرني
…
أم رأت خولة شيخا قد كبر
بين صفتي البادنة والهيفاء
ثم يقول، وكأنه جعله رمزا لنجد وللفتيان معا، واستمرارا في ذم صنعاء:
رويق إني وما حج الحجيج له
…
وما أهل بجنبي نخلة الحرم
لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم
…
عيش سلوت به عنكم ولا قدم
ولم تشاركك عندي غانية
…
لا والذي أصبحت عندي له نعم
وهذه مناجاة رقيقة وشكوى من روح عفيف ذي صدق في المودة. ثم فيها من جهة الصنعة رد لعهده من صاحبته على مثل حال الوفاء التي ذكر في حديثه عن أصحابه الفتيان حيث قال: -
لم ألق بعدهم حيا فأخبرهم
…
إلا يزيدهم حبا إلى هم
وصدقه في صبابته وقسمه لرويقة أنه لم تشاركه في حبه لها غانية بعد إذ نأى، دعا إلى تمنى العودة- فبدأ بذكر الشقراء يجعلها في مقابلة صنعاء ثم عدد مواضع بعدها مما يحب:
يا ليت شعري عن جنبي مكشحة
…
وحيث تبنى من الحناءة الأطم
مكشحة موضع باليمامة والأطم الواحد والجمع الآطام وأطم وأحسبه هنا أراد الأطوم ثم أزال الإشباع وكانوا مما يفعلون ذلك، ويدلك على هذا تأنيثه الفعل:«وحيث تبنى» والأطم المفرد مذكر. وأراد التنبيه إلى آطام جنبي مكشحة من اللبن والرمل، ولكن أبنية صنعاء من الحجر. فهو يحن إلى حيث «تبنى الأطم» لا من الحجر، وتلك دياره
يا ليت شعري عن جنبي مكشحة
…
وحيث تبنى من الحناءة الأطم
عن الأشاءة هل حالت مخارمها
…
وهل تغير من آرامها إرم
وجنة ما يذم الدهر حاضرها
…
جبارها بالندى والحمل محتزم
الجبار طوال النخيل
فيها عقائل أمثال الدمى خرد
…
لم يغذهن شقا عيش ولا يتم
فجعل الأشاءة في مقابلة أشي وأنث وجعل جنتها فيها عقائل حسان كما في جنان الفردوس. وهؤلاء العقائل في مقابلة ما بدأ به من ذكر الفتيان. ثم انتقل إلى ذكر
أزواجهن. ثم إلى ذكر اليل والفتوة، وجعل نفسه قائد كبة الخيل. ولم يخل ههنا من نظر إلى إبل علقمة التي
يهدي بها أكلف الخدين مختبر
…
من الجمال كثير اللحم عيثوم
وذلك قوله بعد أن قال فيها عقائل، البيت المتقدم ذكره: -
ينتابهن كرام ما يذمهم
…
جار غريب ولا يؤذي لهم حشم
كما ذم هو صنعاء وشعوب ونقما
مخدمون ثقال في مجالسهم
…
وفي الرحال إذا صاحبتهم خدم
فدل على أنهم أو على أن منهم معه في الرحال- فدعاه ذلك إلى أن يتمنى مزيدا من الأوبة إلى دياره، وكما تمنى رويقة من قبل وبين لها بقاءه على العهد، حن هنا إلى صاحب له من فتيان دياره:
بل ليت شعري متى أغدو تعارضني
…
جرداء سابحة أو سابح قدم
نحو الأميلح أو سمنان مبتكرا
…
بفتية فيهم المرار والحكم
أما المرار فالشاعر والحكم هو هذا الصاحب الذي تمناه وجعله في الرجال مقابلا لرويقة في النساء، وقد أحسن اختيار الأسماء.
ليست عليهم إذا يغدون أردية
…
إلا جياد قسي النبع واللجم
وكأنه يعيب ما رأى من أردية في صنعاء
من غير عدم ولكن من تبذلهم
…
للصيد حين يصيح القانص اللحم
قوله «من غير عدم» احتراس كما ترى. وقد قال عبدة بن الطبيب وهو تميمي:
لما وردنا رفعنا ظل أردية
…
وفار باللحم للقوم المراجيل
وأخذ عبدة من قول امرئ القيس في البائية
فيفزعون إلى جرد مسومة
…
أفنى دوابرهن الركض والأكم
يرضخن صم الحصى في كل هاجرة
…
كما تطاير عن مرضاخه العجم
يغذو أماهم في كل مربأة
…
طلاع أنجدة في كشحه هضم