الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عظيم. ورحم الله الدكتور زكي مبارك وأسكنه فراديس الجنان، فقد نبه على مكان المديح النبوي بكتاب له فيه. ورحم الله شوقيا والبارودي وجيلهما رحمة الله عليهم ورضوانه فقد انتفعوا بالمديح النبوي ونفعوا به، على من قيل فيه أفضل الصلاة والتسليم.
أطوار المدحة النبوية وبعض أمرها:
-
أطوار المدحة النبوية على وجه التقريب لا الحصر أربعة، طور الدعوة، طور السياسة، طور التعبد الممهد، طور النضج الذي جعلها سيدة القصيد بعد أن ذهب بهاء قصيدة المدح وما يمت إليها.
أما طور الدعوة فقد كانت قصيدة المدح النبوي فيه جزءًا لا يتجزأ من الشعر العرب
ي آنئذ ومن أقدم ما وصلنا من قصيد الدعوة ما نسب إلى أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشهر ذلك جميعه القصيدة اللامية التي يقول فيها: -
كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا
…
ولما نطا عن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع دونه
…
ونذهل عن أبنائنا والحلائل (1)
ومنها وهو بيت مشهور:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
مقال ابن هشام إن أكثر أهل العلم ينكرونها له لا ينفيها به كلها ولكن أكثرها إذ هي ذات طول. ولا بد لذلك من أصل وقد رواها ابن اسحاق عن مصادر روايته وابن إسحاق وثقه الشيخان. والذين روى عنهم ابن إسحاق من جيل العرب الخلص ومن أخذوا عنه صحيحه ومنحوله يستدل به بلا ريب.
ومن شعراء العرب ممن لم يسلم ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعشى الكبير وكلمته مشهورة:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدًا
وأدخله بها أبو العلاء فردوس رسالة الغفران.
ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر والرجز جماعة. وممن كان مع المشركين يهجو المسلمين ثم أسلم وحسن إسلامه ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة كأبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن الزبعري وكعب بن زهير صاحب اللامية الغراء.
(1) أولها فيما ذكروا:
خليلي ما أذني لأول عاذل
…
بصغواء في حق ولا عتد باطل
وأوردها البغدادي مشروحة في الخزانة (طبعة بولاق) ج 1 - 252 واعتمد على شرح السهيلي في الروض الأنف.
أما الأنصار فمع ما قدمناه من أن شعرهم جزء لا يتجزأ من شعر العرب في أول الإسلام فإنه كان مختلفًا عن شعر الأيام والنقائض والمفاخرات بأنه كان ملتزمًا بالقرآن والدعوة -كقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
إني تفرست فيك الخير أعرفه
…
والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يحرم شفاعته
…
يوم الحساب فقد أزرى به القدر
فثبت الله ما أتاك من حسن
…
تثبت موس ونصرًا كالذي نصروا
ومما ينسب إلى حسان رضي الله عنه:
نبي أتانا بعد يأس وفترة
…
من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا
…
يلوح كما لاح الصقيل المهند
وأنذرنا نارًا وبشر جنة
…
وعلمنا الإسلام فالله نحمد
وأنت إله الخلق ربي وخالقي
…
بذلك ما عمرت في الناس أشهد
تعاليت رب الناس عن قول من دعا
…
سواك إلاهًا أنت أعلى وأمجد
وقد اضطر شعراء قريش والمشركين إلى مواجهة الدعوة بما ينقضونها به. وقد نهى الإسلام في أيام بدئه عن رواية أشعارهم، ثم لما ضرب الإسلام بجران تذوكر منها، من ذلك فإن مثلًا مما قيل في رثاء قتلى بدر (وقد مر الاستشهاد به أو ببعضه وهو من الرثاء المبدوء بنوع من النسيب):
ألمت بالتحية أم بكر
…
فحيوا أم بكر بالسلام
ألا يا أم بكر لا تكري
…
على الكأس بعد أخي هشام
وبعد أخي أبيه وكان قرمًا
…
من الأقوام شراب المدام
فجعل شرب المدامة فضيلة وكان الإسلام آنئد قد ذمها إلا أنها لم تحرم إذ قيل هذا الشعر وحمزة سيد الشهداء رضي الله عنه حي وببدر فعل بالقوم الأفاعيل.
ألا من مبلغ الرحمن عني
…
بأني تارك شهر الصيام
فإن صح هذا البيت له فقد جاء بالرحمن سخرية ومغايظة - قال تعالى: {هم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} - وكان رمضان قد فرض
إذا ما الرأس زايل منكبيه
…
فقد شبع الأنيس من الطعام
هذا على مذهبهم. قال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} .
أيوعدنا محمد أن سنحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام
هكذا رواية البخاري للبيت وكنت أحسب أن رواية البيت ما في رسالة الغفران «أيوعدنا ابن كبشة» وأن أصحاب الحديث حوروه تأدبًا، وبعد التأمل أرى أن رواية أصحاب الحديث هي الصحيحة، وكانوا أهل دقة، وقد رووا من كلام المشركين ألفاظًا. ولم يكن اسم الرجل الذي نبزوا بمشابهة أقواله نبينا عليه الصلاة والسلام كبشة ولكن أبو كبشة ولا يستقيم الوزن بابن أبي كبشة، فيكون الشاعر جاء به كما رواه البخاري وكما في السيرة. كان أبو كبشة فيما رووا يعبد الشعري. وفي كتاب الله:{وأنه هو رب الشعرى} - فشتان مقال النبي صلى الله عليه وسلم إذ دعا قومه ومقال أبي كبشة. وقيل أبو كبشة كنية السعدي زوج حليمة، ويجوز، وهذا ليس مما ينبز به أحد، وإيثار أبي العلاء هذه الرواية مما ينبس ببعض ما كان يخامره رحمه الله وعفا عنه، فقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالة الغفران على لسان جنيه حيث قال:
مكة أقوت من بني الدربيس
…
فما لجني بها من حسيس
وكسرت أصنامها عنوة
…
فكل جبت بنصل رديس (1)
وقام في الصفوة من هاشم
…
أزهر لا يغفل حق الجليس
يسمع ما أنزل من ربه الـ
…
ـقدوس وحيًا مثل قرع الطسيس (2)
يجلد في الخمر ويشتد في الـ
…
ـأمر ولا يطلق شرب الكسيس (3)
ويرجم الزاني ذا العرس لا
…
يقبل فيه سؤلة من رئيس
وقال حسان رضي الله عنه:
(1) كل جبت أي كل صنم مردوس أي بفأس.
(2)
أي مثل قرع النحاس.
(3)
الكسيس: النبيذ، كأن المعري ينكر بهذا على من أجاز شرب النبيذ.
عدمنا خيلنا إن لم تروها
…
تثير النقع موعدها كداء
ينازعن اللأعنة مصغيات
…
على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات
…
تلطمهن بالخمر النساء
قالوا لما دخلت خيل المسلمين مكة جعلت النساء تلطمهن بخمرهن (جمع خمار المفرد بكسر الخاء وفتح الميم بعدها ألف والجمع بضمهما) فكان هذا مما نظر فيه حسان بعين البصيرة والكشف والهمزية التي منها هذه الأبيات من جيد شعره ومشهوره -قال رضي الله عنه:
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
…
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
…
يعز الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا
…
وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدًا
…
يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدقوه
…
فقلتم لا نقوم ولا نشاء
وقال الله قد سيرت جندًا
…
هم الأنصار عرضتها اللقاء
ألا أبلغ أبا سفيان عني
…
فأنت مجوف نخب هواء
عنى أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهذا قبل إسلام أبي سفيان هذا
هجوت محمدًا فأجبت عنه
…
وعند الله في ذاك الجزاء
ويمكن أن يعتبر شعر الأنصار من حيث التزامه بدعوة الإسلام ودفاعه عنها مقدمة وتمهيدًا لما افتن فيه الشعراء من بعد من ضروب أساليب الشعر المدافع عن مذاهب الفرق والجماعة وهلم جرا.
ثم أمر آخر كان شعر الأنصار به مختلفًا عن أشعار الأيام والمفاخرات ولم تكن شعراء الكفرة قادرة على أن تجاريهم فيه، وإن جارتهم في الدفاع عن قضايا كفرها، وهو التعبد، وذلك لصدق إيران الأنصار، واعتقادهم بحق أن ما يقولونه ينصرون به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقربهم إلى الله، وهو عبادة.
شعر الجواري الذي استقبلن به الرسول صلى الله عليه وسلم يقلن: -
نحن جوار من بني الأنصار
…
يا حبذا محمد من جار
مراد به التعبد لا اللهو إذ لا يخفى أن استقباله صلى الله عليه وسلم والابتهاج به عبادة. وكذلك قول النساء والصبيان في استقباله بالنشيد:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
…
جئت بالأمر المطاع
وقد سبقت الإشارة إلى وضوح معاني التعبد في شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه نحو قوله:
الأهم أن الأجر أجر الآخرة
…
فارض عن الأنصار والمهاجرة
ونحو: لاهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحو: خلوا بني الكفار عن سبيله
…
خلوا فكل الخير في رسوله
وقد حفظ له رجز بمؤته وبيده الراية حتى استشهد:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
…
طائعة أو لتكرهنه
إن أجلب القوم وشدوا الرنة
…
مالي أراك تكرهين الجنة
وكما قدمنا لم يكن شعراء المشركين ليستطيعوا هذا المسلك، وإنما كانوا ينطقون بلسان الملأ من قريش، وهؤلاء كانوا أهل حمية لا دين. قال تعالى:{وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} [الأنفال].
إلا ما كان من أمر أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان امرأ منافقًا، كفر قلبه وآمن لسانه. وشعره الذي يتدين به، من أجل ذلك، خال من حرارة أنفاس الإيمان الصادر عن القلب. ولعل آخر كلمة له مما رووه من كلامه:
إن تغفر اللهم تغفر جما
…
وأي عبد لك لا ألما
وإنما قالها على حين لا تقبل توبة، على الأرجح.