الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
راجعت فهرس آثاري فما لمحت
…
بصيرتي فيه ما يزري بأعمالي
فكيف ينكر قومي فضل بادرتي
…
وقد سرت حكمي فيهم وأمثالي
أنا ابن قولي وحسبي في الفخار به
…
وإن غدوت كريم العم والخال
ولي من الشعر آيات مفصلة
…
تلوح في وجنة الأيام كالخال
ينسى لها الفاقد المحزون لوعته
…
ويهتدي بسناها كل قوال
فأنظر لقولي تجد نفسي مصورة
…
في صفحتيه فقولي خط تمثالي
ولا تغرنك في الدنيا مشاكلة
…
بين الأنام فليس النبع كالضال
إن ابن آدم لولا عقله شبح
…
مركب من عظام ذات أوصال
هذه الديباجة الصافية لا نظير لها في الشعر المعاصر. وقد كان البارودي بحقيقة ذلك عليمًا يدل عليه قوله:
ولا تغرنك في الدنيا مشاكلة
…
بين الأنام فليس النبع كالضال
من النبع والضال تصنع القوس ولكنهما لا سواء- إذ الضال ذو شوك وثمر والنبع كما قال البحتري:
وعيرتني خلال العام آونة
…
والنبع عريان ما في عوده ثمر
وقد اهتدى بسنا البارودي من بعده من القوالين جيل تبعته من بعد أجيال. غير أن نهج قصيدته الأصيل لم يسر حقًا عليه من كبار من حذوا على رونق ديباجته وقصروا عنها أحد. إنما سلكوا نهجًا دعاهم إليه التجديد- وهو نهج أسلوب المقالة، ثم تفرعت عنه فروع أصناف الشعر المعاصر وما إليه.
أسلوب المقالة: أوائله، ثانيًا
جاء في الكتاب النفيس أدب وتاريخ للدكتور محمد صبري السوربوني في ترجمته لإسماعيل صبري (ولد في 16/ 2/1854) وتوفي في 21/ 3/1923 رحمه الله (1) في
(1) نقلاً عن الكتاب المذكور ص 111 - الفصل الأول من الكتاب الثاني من نفس السفر وفصل الهامش عن حياة صبري، نذكر من ذلك أنه درس بمصر ثم أرسل من مصر إلى فرنسة فنال هناك شهادة البكالوريا ثم الليسانس في الحقوق أي القانون ثم عمل في النيابة العمومية بمصر وبلغ أماكن عالية من مراتب العمل في وظائف الدولة، عين محافظًا لثغر إسكندرية في فبراير 1896 - ووكيلاً لنظارة الحقائبة (أي وزارة العدل) من بعد وبلغ غاية ما يبلغه الموظف من مرتبات الدولة سنة 1907 فاستقال وأحسبه فرغ من حينئذ كل الفروغ للأدب والشعر.
صفحة 150 - إلى ص 154: «كان الأستاذ خليل مطران بعث بقصيدة دالية إلى محمد بك مسعود بالمؤيد من سقارة على أثر زيارته لأهرامها، جاء في هذه القصيدة عن فرعون:
شاد فأعلى وبنى فوطدا
…
لا لعللي ولا له بل للعدا
مستعبدًا أمته في يومه
…
مستعبدًا بنيه للعادي غدًا
وجاء فيها عن العمال المصريين الذين بنوا الأهرام:
إني أرى عدا الرمال ههنا
…
خلائقًا تكثر أن تعددا
مجتمعين أبحرا منفرعـ
…
ـين أنهرًا منحدرين صعدًا
صفر الوجوه ناديًا جباهم
…
كالكلأ اليابس يعلوه الندى
أكل هذي الأنفس الهلكي غدًا
…
تبني لفان جدثا مخلدًا
اطلع صبري على هذه القصيدة التي تؤيد نظرية تخالف نظريته فنظم نونيته قائلاً إن البنايات لم تتم إلا على يد عمال كانوا يطلبون الإتقان الفني إكرامًا للفن لا خوفًا ولا طمعًا. والحقيقة أن صبري راعى في نظريته ما يسمونه بالوجهة التاريخية الوطنية. أما مطران فقد نظر إلى الوجهة العلمية التي يؤيدها التاريخ فإن بناء الأهرام ما كان إلا سخرة أرهقت الملايين من المصريين وأثارت السخط في البلاد مدة قرنين، ونظر أيضًا إلى الوجهة الاجتماعية القديمة، فإن الظلم من شأنه إفساد الأخلاق التي لا تحيا الأمم بدونها. على أن شوقي وفق بين النظريتين بطريقة شعرية فلسفية في قوله:
ولمن هياكل قد علا الباني بها
…
بين الثريا والثرى تتنسق
هي من بناء الظلم إلا أنه
…
يبيض وجه الظلم منه ويشرق
لم يرهق الأمم الملوك بمثلها
…
فخرًا لهم يبقى وذكرًا يعبق
وقد نظم خليل مطران ردًا على قصيدة صبري نونية أخرى لم يسبق نشرها، وكان ذلك أثر مشاهدته بعض الآثار ورؤية تمثال محفوظ لرمسيس الثاني في الأقصر. وفي هذه القصيدة عاد مطران إلى نظريته الأولى لأنه يرى أن المجد لا يمس وأن عظمة مصر باقية سواء أكان أصل البنيان الظلم أم غيره، وأن الفراعنة نهضوا بمصر وإن كان اعتقاد
الشاعر أن ضررهم كان أكبر من نفعهم في جانب شخصية الأمة وتكوينها الحر، قال مطران:
أكبر برمسيس ميتًا لا يلم به
…
موت وأكبر به حيًا إلى الآن
لولا تماثيله الأخرى محطمة
…
ما جال في ظن فان أنه فان
في مصر عز فراعين فما بلغوا
…
بها مبالغة في رفعة الشأن
ولم يتم لها في غير مدته
…
ما تم من فضل إثراء وعمران
تخير الخطة المثلى له ولها
…
يعلو فتعلو به والخفض للشاني
ما زال بالقوم حتى صار بينهم
…
إله جند تحابيه وكهان
ورب سائمة بلهاء هائمة
…
تشقى وتهواه في سر وإعلان
يسومها كل خسف وهي صابرة
…
لا صبر عقل ولكن صبر إيمان
إن بات في حجب باءت إلى نصب
…
يلوح منه لها معبودها الحاني
فبجلت تحت تاج الملك مدميها
…
وقبلت دمها في المرمر القاني
وجاء السوربوني بالمنظومة المطرانية كاملة، وهي خالية كما ترى من رنة إيقاع جزالة القصيد- وأمثال:
ورب سائمة بلهاء هائمة
…
تشقى وتهواه في سر وإعلان
صناعة تقسيم كأنما فطن الناظم بها إلى مغسولية ما نظمه وفقدانه كل طعم فألقى بهذا عليه ضربًا من ملح وأبزار- وفي سر وإعلان إنما هي تتمة مضناة.
وجاء في مختاراته من صبري باشا بالنونية التي هذه المطرانية رد عليها (1):
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني
…
إذا ونى يوم تحصيل العلا وإني
ولست إن لم تؤيدني فراعنة
…
منكم بفرعون عالي العرش والشأن
لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملاً
…
فماؤه العذب لم يخلق لكسلان
ردوا المجرة كدا دون مورده
…
أو فاطلبوا غيره ريا لظمآن
وابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو
…
لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان
أمرتكم فأطيعوا أمر ربكمو
…
لا يثن مستمعًا عن طاعة ثاني
(1)()
فالملك أمر وطاعات تسابقه
…
جنبًا لجنب إلى غايات إحسان
لا تتركوا مستحيلاً في استحالته
…
حتى يميط لكم عن وجه إمكان
مقالة قد هوت من عرش قائلها
…
على مناكب أبطال وشجعان
مادت لها الأرض من ذعر ودان لها
…
ما في المقطم من صخر وصوان
لو غير فرعون ألقاها على ملأ
…
في غير مصر لعدت حلم يقظان
لكن فرعون إن نادى بها جبلاً
…
لبت حجارته في قبضة الباني
وآزرته جماهير تسيل بها
…
بطاح واد بماضي القوم ملآن
يبنون ما تقف الأجيال حائرة
…
أمامه بين إعجاب وإذعان
من كل ما لم يلد فكر ولا فتحت
…
على نظائره في الكون عينان
ويشبهون إذا طاروا إلى عمل
…
جنا تطير بأمر من سليمان
برا بذي الأمر لا خوفًا ولا طمع
…
لكنهم خلقوا طلاب إتقان
أهرامهم تلك حي الفن متخذًا
…
من الصخور بروجًا فوق كيوان (1)
قد مر دهر عليها وهي ساخرة
…
بما يضعضع من صرح وإيوان
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى
…
ما يأخذ النمل من أركان ثهلان
هذا أراد به المبالغة وهو فيه ضعف، ولعله لو قال كمثل أخذهما من ركن، كان من جهة المعنى أحسن، واللفظ متهافت على كل حال.
كأنها والعوادي في جوانبها
…
صرعى بناء شياطين لشيطان
جاءت إليها وفود الأرض قاطبة
…
تسعى اشتياقًا إلى ما خلد الفاني
وصغرت كل موجود ضخامتها
…
وغض بنيانها من كل بنيان
وعاد منكر فضل القوم معترفًا
…
يثني على القوم في سر وإعلان
تلك الهياكل في الأمصار شاهدة
…
بأنهم أهل سبق أهل إمعان
وفي القافية ضنى- يعني أهل إمعان في السبق والتجويد، وإمعان وحدها لا تفيد هذا المعنى.
وإن فرعون في حول ومقدرة
…
وقوم فرعون في الإقدام كفوان
إذا أقام عليهم شاهدًا حجر
…
في هيكل قامت الأخرى ببرهان
كأنما هي والأقوام خاشعة
…
أمامها صحف في عالم ثان
تستقبل العين في أثنائها صور
…
فصيحة الرمز دارت حول جدران
(1) كيوان هو زحل.
لو أنها أعطيت صوتًا لكان له
…
صدى يروع صم الإنس والجان
قوله «صم الإنس والجان» متكلف، إذ المعنى «صوتًا يسمع الصم فيرتاعون له» فاحتال على القافية بما ترى، وقد جعل الجن لهم صم زما للإنس صم وأمرهم مختلف عن الإنس. وكمان شوقي أحذق حيث قال على لسان الجن:
نقول حين نصطدم
…
بسادة أو بخدم
صمم صمم صمم صمم
…
عمى عمى عمى عمى
على أن قوله صم الإنس والجان- تكلف محتمل شيئًا
أين الألي سجلوا في الصخر سيرتهم
…
وصغروا كل ذي ملك وسلطان
بادوا وبادت على آثارهم دول
…
وأدرجوا طي أخبار وأكفان
وخلفوا بعدهم حربًا مخلدة
…
في الكون ما بين أحجار وأزمان
وزحزحوا من بقايا مجدهم وسطًا
…
عليهم العلم ذاك الجاهل إذ العلم
قوله في العلم: «ذاك الجاهل الجاني» إغراب. وإنما عنى البحث باسم العلم إذ العلم لا يجني- قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} - والعلم المراد هنا هو ما يسمى Science، وهذا نظر وبحث واجتهاد فكر وما ينال من طريقه ليس بالعلم حقًا، ولكنه مما يكون بعضه وسيلة وطريقًا إلى العلم. والله أعلم.
ويل له هتك الأستار مقتحمًا
…
جلال أكرم آثار وأعيان
للجهل أرجح منه في جهالته
…
إذا هما وزنا يومًا بميزان
نظم صبري أدنى ألا يكون مغسولاً وأسلم من التكلف. خذ مثلاً قول مطران يذكر جبرية رمسيس:
مخلدًا دون من قاموا برفعته
…
من شوش حرب وصناع وأعوان
مخالسًا ذمة العلياء مضطجعًا
…
من مهد عصمتها في مضجع الزاني
البيت الأول واضح وفي سلامة معناه نظر. لأن شوش الحرب قد خلدت ذكراهم كما قد خلدت ذكراه. وليس له ولا لهم خلود سوى ذلك. والبيت الثاني قوله مخالسًا ذمة العلياء، غير واضح المعنى إلا على تصور أن العلياء هي «لوكريشا» التي خان مغتصبها ذمتها. فإن كان هذا مراده، أو شيء كهذا أراده، فما معنى مهد عصمتها، إذ المهد للطفل وما عنى هذا وما عنى في هذا الموضع إلا فراش عصمتها. واغتصاب
العلياء أمر مجازي لا يجعل صاحبه زانيًا ولو على سبيل المجاز. فتأمل. وإنما هي الفتنة بالتماس التجديد من طريق نقل الأخيلة الإفرنجية بلا تدبر.
مهما يكن من أمر فإني استوقف القارئ الكريم قليلاً عند قول السوربوني بعد عرضه كلمة مطران والإشارة إلى نونية إسماعيل صبري وقد أوردها كاملة كما تقدم: «كلا الشاعرين في قصيدته يستنبط عبر التاريخ وينظمها درسًا نافعة لأمته، كلاهما يجيب داعية الوطنية وينتصر للحق والعدل وإن اختلفت وجهتا نظرهما، وهما متفقان في جوهر الموضوع، في الإشادة بذكر عظمة مصر الغابرة، وعظمة الفراعنة وتنبيه الخلف إلى مجد السلف. «1» (ص 154).
ههنا كما ترى في قوله، موضوع اتفق الشاعران في جوهره ووجهتا نظر اختلفا فيهما. مطران يذكر جلال رمسيس، وأنه أجل فراعين مصر قدرًا، وأن تمثاله الخالد ما كان أحد ليخطر بباله أنه سيفني لولا وجود تماثيل أخر له محطمة. إنه اختار الخطة المثلى لتخليد نفسه وحمل شعبه عليها. وإنه كان للجند إلهًا يقدسونه وللكهان سيدًا رفيع الشأن يتملقونه، وهذه المرأة البلهاء التي جعلها مطران رمزًا لبؤس الشعب وطاعته، لم تزل ذات نصب كادحة من أجل رمسيس، يدفعها حبها الديني له وصبرها الصادر عن إيمانها بألوهيته، هي تدمي من الإرهاق الذي يكلفها إياه، وهي تبجله وتقبل الدم، الذي يسيل منها على مرمر الأبنية التي تبنيها له. (لم يذكر لنا مطران لماذا تقبل المرمر، إذ هي عبارة إفرنجية. خطابة الصيغة راقته، ولو تتبعناها بالتحليل لاضطرنا ذلك أن نقول بأنها بتقبيلها دم نفسها كأنما تعلن عن تعلق بنفسها يناقض معنى الحب والتضحية والتأليه الذي قد قال به. هذا ويختم مطران القسم الأول من كلامه بأن رمسيس عاد بالفخر كله وأنه هو المخلد دون جنوده وصناعه وأعوانه. وهذه سنة دنيا الطغيان، كم تهلك الجموع فداء لفرد.
وينتقل مطران في القسم الثاني إلى الشعب أنهم هم الذين يسروا لطغيان رمسيس السبيل بإذعانهم وأنهم بانصياعهم لأمره وصنعهم التماثيل له، مكنوا له كل التمكين. لماذا رضوا أن تنصب له لا لهم النصب، ويكتب اسمه هو لا اسماؤهم. ثم يزعم مطران أن الطغيان أحيانًا ربما كان منقذًا للأمم من الانهيار الأخلاقي. وقوله:
ليت البلاد التي أخلاقها رسبت
…
يعلو بأخلاقها تيار طغيان
نوع من التمني للمنقذ من حال الضعف والانهيار التي كانت عليها أمة مطران المعاصرة، أن يتاح لها رمسيس يغزو بها ويسومها جبروته ويصنع لها الفخر وتصنع له التماثيل
يهب فيهم كإعصار فينقلهم
…
من خفض عيش إلى هيجاء ميدان
بعض الطغاة إذا جلت إساءته
…
فقد يكون به نفع لأوطان
في كل مفخرة تسمو الشعوب بها
…
تفني جموع مفاداة لأحدان
وههنا روح استخفاف بالمفخرة، غريبة المعدن، مثلها كان يقوله أعداء نابليون عن مجده ثم جعل مطران خاتمة لكلامه تكبيرًا مرة أخرى لرمسيس وإشادة بعظمته والتمس لهذا من قوله وجهًا من الحكمة كونيًا يتخطى الأرض إلى الأفلاك.
كم في سني الكوكب الوهاج مهلكة
…
في كل لمح لأضواء وألوان
أي المجد كهذا الضياء الوهاج، إنما يتألق به أمثال رمسيس بهلاك آلاف يهلكون كما تهلك ذرات الأضواء لينبثق منها هذا التألق الباهر الذي نراه.
ويلاحظ أن مطران قد ناقض بآخر كلامه أوله، إذ زعم في أوله أن الخالد وحده هو رمسيس وأن الآخرين، هلكوا في سبيل ذلك وشقوا وكدحوا في سبيل ذلك، وفي آخره قد أثبت لهم صورًا ووجوهًا غرانًا. والحق أنه لا خلد رمسيس ولا خلدوا هم، وإنما خلدت الذكرى- وهي ذكراهم جميعًا ورمسيس قد سخر نفسه كما قد سخر شعبه من أجل هذه الذكرى، وهي المفخرة التي ذكرها مطران في أخريات كلامه وسخر منها بأسلوب نثري الذكاء.
ولله رد أبي الطيب إذ قال: -
أين الذي الهرمان من بنيانه
…
ما قومه وما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها
…
حينًا ويدركها الفناء فتتبع
لماذا يعد الهرمان أنهما رمزان للتسخير أكثر من كاتدرائيات شارتر وكولون وونشتسر؟ إن تك تلك قد أقامها صدق العقيدة، فكذلك أقام الأهرام صدق العقيدة، فهي آثار قوم كانوا أهل مجد بقيت بعدهم تشهد بمجدهم، ثم سيدركها الفناء، وقد كان كثير من مثقفي جيل مطران وصبري وأجيال بعدهما إلى زماننا هذا تمسك ببعض قضايا السياسة والاجتماع التي تصدرها أوربا عن واقعها، تمسكًا أعمى، كأنما تبغي أن تتقرب إلى
حضارة أوربا وتنسب أنفسها إليها، فتقبل على تجريح مجدها من ماض وذكراه، وحاضر وبقاياه، بأظفار من الدعوى والتقليد كالحات ذوات عبس. وإلى الله ترجع الأمور.
هذا. وقد افتتح صبري بنداء وحث على لسان فرعون، وكأنه داع من دعاة الوطنية الحديثة لأهل مصر، واستجابة من هؤلاء لا خوفًا ولا طمعًا ولكن حبًا للإتقان. ويبدو أن هذا المعنى كان دائرًا في أوساط المثقفين. ومن شواهد ذلك مثلاً قول شوقي.
إذا عمدوا لمأثرة أعدوا
…
لها الإتقان والخلق المتينا
وموضوع الخلق أيضًا، يبدو أنه كان مما يدور في أحاديث الجد والتأمل بين المفكرين. هو كثير عند شوقي. وقد رأيت منه في قول مطران.
ليت البلاد التي أخلاقها رسبت
…
يعلو بأخلاقها تيار طغيان
ثم يذكر إسماعيل صبري ما تشهد به الأهرام والهياكل التي أقامها قدماء الفراعنة وشعوبهم من هذا الإتقان وكيف أنهم سجلوا فيها أخبارهم وسيرهم. ثم جاء هذا العلم الحديث فاعتدى على حرمة أسرارهم بهتكها فالذي فعله جهل والجهل الذي هو عدم معرفة كان أرجح من هذا الذي يسمى نفسه علمًا ويعتدي باسم العلم، كان أرجح ميزانًا من حيث حقيقة الخير والإنسانية. وههنا احتجاجه بروح غضبة قومية على ظاهر تفوق أوربا المتمثل في هؤلاء الأثاريين الذين ينبشون قبور أجدادنا باسم البحث العلمي.
كلتاهما وجهة نظر كما قال السوربوني رحمه الله. غير أن إسماعيل صبري كأنه أصدق وإلى قلوبنا أقرب. ثم كلامه أصفى وأسلم.
وبعد فجلى أن الطريقة التي سلك مطران وسلكها صبري واحدة- ليست هي طريقة الوثب والاقتضاب الذي عند البحتري وقد زعم السوربوني أن إسماعيل صبري ينسج على منواله. أحسب الذي دعاه إلى هذا القول إنه يرى أن شعر صبري غنائي ولا سيما مقطوعاته- قال: «عند الإفرنج نوع من الشعر يدعى (Iyrique) نسبة إلى (Iyre) وهي القيثارة ولا أدري ماذا الذي يمنعنا من تسميته بالشعر الغنائي، فإن هذا الضرب من الشعر كان يغنى به في القرون الوسطى وهو شبيه بالأغاني في الشعر العربي. وقد تفنن صبري في هذا الشعر الوجداني ونظم فعلاً للغناء أدوارًا خاصة منها:(الفجر لاح قوموا يا تجار النوم) ومن أدواره المشهورة دور للغناء قديم على نغمات العود:
مذهب بياتي
قدك أمير الأغصان
…
من غير مكابر
وورد خدك سلطان
…
على الأزاهر
دا الحب كله أشجان
…
يا قلب حاذر
والصدويا الهجران
…
يا قلب حاذر
والصدويا الهجران
…
جزا المخاطر
دور
يا قلب دنت حبيت
…
ورجعت تندم
وصبحت تشكي ما رأيت
…
لك حد يرحم
صدقت قولي ورأيت
…
ذل المتيم
ياما نصحت ونهيت
…
لو كنت تفهم
دور
أعرض لحسنك أوراق
…
واكتب ودون
وأبات صريع الأشواق
…
وأحسب وأخمن
دا هجر وصبابه وفراق
…
يارب هون
وارحم قلوب العشاق
…
داشي يجنن
وشعره الغنائي أنواع، منها النوع المتقدم الذي جعل خصيصًا للغناء، ومنها ما تتخلله نزعة دينية. وقد نظم لامرتين (1) من هذا النوع ديوانيين. مثال ذلك قول شاعرنا:
[إلى الله]
يا رب أين ترى تقام جهنم
…
للظالمين غدا وللأشرار
لم يبق عفوك في السماوات العلى
…
والأرض شبرًا خاليًا للنار
يا رب أهلني لفضلك واكفني
…
شطط العقول وفتنة الأفكار
ومر الوجود يشف عنك لكي أرى
…
غضب اللطيف ورحمة الجبار
يا عالم الأسرار حسبي محنة
…
علمي بأنك عالم الأسرار
أخلق برحمتك التي تسع الورى
…
ألا تضيق بأعظم الأوزار
هذه الأبيات من خير ما قيل في الاستعطاف والرجاء وهي من أرقى الشعر الغنائي الذي يعلو بالعاطفة الدينية الخالصة إلى السماء كما تعلو الصلوات لله، وما أكثر الشبه بين قولين:
(1) الفونس دي لامرتين ALPHONSE DE LAMARTINE ولد سنة 1790 م توفي 1889 م فقارب عمره مائة عام كما ترى وكاد ينتخب لجمهورية فرنسة. على أنه اشتهر بشعره الرومانسي والجانب الديني منه خاصة.
قالوا كانت أمة متدينة فأخذته بتربية دينية خرج عنها إلى نوع من الإلحاد في أول مراهقة شبابه ثم عاد إلى التدين من أجل سلام الروح والحقيقة التي في الأعماق ويعتبر شاعر المسيحية عند الفرنسيين.
ومر الوجود يشف عنك لكي أرى
…
غضب اللطيف ورحمة الجبار
وقول لامرتين
Et j'ai monte devant sa face
(1)
et la nature ma dit passe
Ton sort est sublime. Il t'a vu.
«صعدت أمام وجهك الكريم فقالت لي الطبيعة سر في طريقك ما أعظم شأنك. إنه رآك» فأنت ترى كيف التقى الشاعران في سمو الخيال وصفائه. على أننا إذا قلنا إن شعر صبري الغنائي كان شبيهًا بالصلاة التي تذهب صعدًا نحو السماء فقد كانت الطبيعة له معبدًا، وكانت المرأة في هذا المعبد تمثال جمال» انتهى نقلنا من كلام السوربوني رحمه الله في هذا الموضع من ص 135 - 138».
وإنما وقفنا عند هذا النص من كلام السوربوني لأنه تنبه فيه إلى ما يسمونه Lyrique الغنائي اصطلاحًا ليس هو مذهب قصيدة شعراء العرب. ولكنه منهج أوربي. ثم كأن السوربوني كره أن ينسبه كل النسبة إلى أوربا. فزعم له أصلاً بحتريًا لقول ابن الأثير في البحتري «أجاد سبك اللفظ على المعنى وأراد أن يشعر فغنى» وكأنه بذكره أن أصل Lyrique وهي القيثارة يوحي بنوع من الحجة والبرهان على هذا الوجه الذي ذهب إليه وغير خاف عنه، لا ريب، أن قولهم Lyrique قد صار اصطلاحًا فارق أصله الأول، وأن الغناء فيه مراد به مذهب من مذاهب البيان يكون صاحبه فيه له طريقة من محاكاة للطبيعة في موضوعه مع تقمصه له تقمصًا ذاتيًا مباينًا لما في مذهبي المسرحية والملحمة من المحاكاة محاكاة صاحب الليريك أشبه بمحاكاة الرسام لما يرسمه من منظر مع تسجيل انطباعه في نفسه ينقل بذلك مع شكل المنظر نوعًا من تأثيره الذي أثره على نفسه.
قول ابن الأثير «فغنى» أراد به أن البحتري لم يكتف بإيقاع الشعر ولكن جاوزه إلى إيقاع الغناء- فقوله وصف لرنة الديباجة لا لنفس مذهب البيان. هذا أيضًا لا نحسبه كان مما خفي على السوربوني. بل ينبغي أن ننبه ها هنا أنه في هذا الفصل الذي انتسخناه من كتابه أدب وتاريخ- لعله أن يكون من أوائل من تنبهوا إلى أن مذهب
(1) هكذا في نص «أدب وتاريخ» بالحرف الصغير والصواب E t بالحرف الكبير وهذه الأسطر هي من 97 - إلى 100 منظومة لامرتين التي عنواتها لا نهائية الطبيعية وقصر عمر الإنسان
Etemite de la nature،
brievete de l'homme.
الغناء الأوروبي في الشعر Lyrique (كما اصطلحوا له) شيء جاء به شعراء النهضة، وليس من معدن مذاهب العربية- ونأمل أن نلم بهذا المعنى من بعد إن شاء الله تعالى ونعود إلى ما قلناه من قبل إن كلتا هاتين القصيدتين ذواتا جوهر متقارب في الموضوع ووجهتي نظر مختلفين في المعالجة وبعض الآراء- ثم فيهما ما رأينا من طريقة ترتيب للكلام ليست من سنخ:
ميلوا على الدار من ليلى نحييها
…
نعم ونسألها عن بعض أهليها
ثم من بعد:
قد أطرق الغادة البيضاء مقتدرًا
…
على الشباب فتصبيني وأصبيها
عاطيتها غضة الأطراف مرهفة
…
شربت من يدها خمرًا ومن فيها
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها
…
والآنسات إذا لاحت مغانيها
أو من سنخ
لو كان يعتب هاجر في واصل
…
أو يستفاد لمغرم من ذاهل
ثم من بعد:
ليدم لنا المعتز إن بملكه
…
عز الهدى وخبا ضياء الباطل
لما كملت روية وعزيمة
…
أعملت رأيك في ابتناء الكامل
ولكنها في سنخ آخر.
في شعر ابن الرومي وأصحاب الوصف وكثير من القدماء أمثلة من وحدة الموضوع وترتيبه. وقد نصح ابن طبا طبا شعراءه برصف الكلام والتفكير فيه منثورًا ثم نظمه من بعد ثم ضم أطرافه بملء الفجوات بينها. ولكن جميع هذا ليس بنهج كنهج المقالة الصحفية العصرية الصادرة عن وحدة فكرة وموضوع وتجويد تبويب وترتيب وربط. قد فطن طه حسين، سقى غيث الرحمة ثرى قبره، إلى أن ابن الرومي تأثر بأساليب الكتاب- هذا في كتابه من حديث الشعر والنثر. ولكنه قد قيد هذا من قبل بأن الكتاب أنفسهم -الجاحظ ورصفاء وسابقيه الذين مهدوا له من قبل- كل أولئك جميعًا قد تأثروا بمنهج الشعراء وطرائق بيانهم. رسائلهم كانت ألوانًا من شعر كتابي كما قصائد ابن الرومي ألوان من كتابة بالشعر. ولا غرو فقد كان كثير من كتاب ذلك الزمان أيضًا شعراء. حتى ابن المقفع قد كان شاعرًا. والجاحظ أيضًا. وقد كان ابن
الزيات والصولي مشتهرين بالشعر. وكان ابن الرومي كاتبًا كما كان شاعرًا.
مذهب هاتين القصيدتين ليس من مذهب شعراء العصر العباسي والمولدين من بعد، السالك طريقة الكتاب. لأن مذهب هؤلاء سنخه سنخ القصيدة. حتى ما جيء به تعليميًا فلسفيًا نحو.
هبطت إليك من المحل الأرفع
…
ورقاء ذات تعزز وتمنع
وزينبية صالح بن عبد القدوس ولزوميات المعري- كل ذلك قصيدي السنخ القصيدة أساسه ومنبته الذي فيه واشجة جذوره. أما هاتان القصيدتان فسنخهما شيء مختلف سنخهما كالمقالة الصحفية العصرية التي كانت الأقلام قد استطرفتها وأخذت بها أيام النهضة وجعلتها من عدة النضال والإقبال على تناول حضارة العصر المتمثلة في تفوق أوروبا تفوقًا بالنسبة إليه حال جميع العرب وبلاد الإسلام حال رجعية وتخلف.
لم يكن إسماعيل صبري ومطران إلا من الطبقة الثانية من شعراء النهضة- أسلوب المقالة الصحفية العصرية الذي في هاتين القصيدتين من نظمهما هو المهيمن على شوقي وحافظ وتفرعت منه شتى فروع النظم الحديث من بعد.
للبارودي كلمة نظمها في هرمي الجيزة هي التي مطلعها
سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر
…
لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
فيها وحدة الموضوع، وجودة الترتيب، وكأنه بها كالسابق إلى هذا الأسلوب المقالي، ولكن تغلغل روح القصيدة في ملكة بيان البارودي وشاعريته أبت عليه إلا أن يكون هو المهيمن على جملة معدن الأسلوب وسنخه- تأمل قوله:
مصانع فيها للعلوم غوامض
…
تدل على أن ابن آدم ذو قدر
رسا أصلها وامتد في الجو فرعها
…
فأصبح وكرًا للسماكين والنسر
فقم نغترف خمر النهي من دنانها
…
ونجن بأيد الجد ريحانة العمر
ألا تحس هنا رنة من قول المعري
رآها سليل الطين والشيب شامل
…
لها بالثريا والسماكين والوزن