الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
Wind (قصيدة للريح الغربية) و Ode to the Skylark (قصيدة للقبرة) ووردزورث شاعر الرومانسية الإنجليزية الكبير إلى رومنسيي الفرنسيين كلا مرتين ودي موسيه ودي فيني وفكتور هوجو، وقد ترجم إلى العربية من جميع هؤلاء، كما كان لكثير من أدباء مصر والسام والمغرب بهم معرفة وإلمام واسع- على أن شعراء الرومنسية الإنجليزية كانوا بسبقهم لهم أثر على الرومنسية الفرنسية كما قدمنا من قبل. قالت مدام دس ستايل في بعض تعميماتها:«الأمة الفرنسية التي هي أعظم الأمم اللاتينية حضارة وتثقيفًا تؤثر المذهب الكلاسيكي وتحاكي به اليونان والرومان. والأمة الإنجليزية وهي أبهى الأمم الجرمانية مكانًا، تقصد إلى الشعر الرومانتيكي وشعر الفروسية وتجد أعمالها الكبرى في هذا الباب» فهذا من معنى ما تقدم إن شاء الله تعالى.
الضرب الرابع وهو رومنسية الفقير المفقود
أو قل الفقيه المفقود أو ما أشبه، وهو الذي أقبل على الثقافة الدينية وأحسن بأن فوائد العصر من جاه وحضارة جديدة وما إلى هذا المعنى، كل ذلك فائته إن هو لم يرم (1) مكان الشيخ الفقيه العالم القديم. كان للتعليم الديني هو أصل التربية والتأديب في جميع بلاد المسلمين، يبتدأ بالقرآن ثم يصار منه إلى الفقه والنحو وسائر علوم اللسان والدين. وكان يقال لمعلمي القرآن عندنا الفقراء وربما قيل لهم «المهاجرون» من قوله تعالى «للفقراء المهاجرين
…
» وهم الصحابة المهاجرون الأولون العلماء. وهذه التسمية قديمة. وفي شرح الأعلم الشنتمري الملحق بهوامش طبعة بولاق للكتاب:
أتيت مهاجرين فعلموني
…
ثلاثة أحرف متشابهات.
وخطر لي أبا جاد وقالوا
…
وتعلم سعفصن وقريشيات
ويقال الفقيه ولها وجوه مختلفة في النطق العامي في شتى بلاد العرب: الفقي الفكي الفئي (2)
…
ثم جاء التعليم الحكومي أو شبع الحكومي العصري مع الاستعمار المباشر وغير المباشر، وكان سبيلاً إلى الوظائف ومراتب الدولة وفي ذلك من السلطة والجاه، وانحصر أمر الوظائف المتاحة «لفقراء» الدين إلى إقامة المساجد والقضاء الشرعي والوعظ. ولا ريب
(1) لم يرم بكسر الراء أي لم يغادر سرام يريم.
(2)
بتصيير القاف همزة.
أن هذا كان يصاحبه غير قليل من الشعر بالمظلمة والسخط. وفي بلادنا، أيام الحكم الثنائي، كان للقضاء الشرعي قسم خاص به في كلية غوردن (1) يكون للمتخرجين منه إلمام باللغة الإنجليزية مع ما تلقوه من علوم الشريعة على مذهب الإمام أبي حنيفة (2) رضي الله عنه، فكان هذا فيه تضييق من الفرص على خريجي التعليم الديني البحت غير المشوب بشوب من هذا النهج الجديد.
حرص كثير من الشبان المتخرجين من التعليم الديني على ألا يعدوا جانيا متخلفا عن مسايرة روح العصر، حرصوا على أن ينتموا إلى العصر، ويزيدوا على الانتماء بأن يكونوا فيه أولى صدر وقيادة، ومن هذا المبدأ نشأ بين أصحاب الملكة من بينهم اتجاه يجمع بين الثورة على المحافظة «التقليدية» يرون أنها هي معدن التأخر، وتطلع إلى الحرية- الحرية من قيود هذه المحافظة، والحرية التي ينشدها جميع الوطن العربي من الاستعمار، والحرية التي ينشدها الشباب في الجمال والهوى والطلاقة والصعود المجنح إلى الأحلام البعيدة، أحلام الجاه، أحلام العصر والانتماء المسحور.
أبو القاسم الشابي، الشاعر التونسي، ابن القاضي، أديب مسجد الزيتونة وخريجة ممن يعد رمزا لهذا النوع من الرومنسية، وقد تأثر بشعراء المهجر وأنفاسهم المعرية الإلحاد، يشهد لذلك وبه قوله:
نحن نمشي وحولنا هذا الأكـ
…
ـوان تمشي لكنه لأية غاية
نحن نشدو مع العصافير للشمـ
…
ـس وهذا الربيع ينفخ نايه
نحن نتلو رواية الكون للمو
…
ت ولكن ماذا ختام الرواية
هنا أدركه بعض الإعياء وإنما حام حول معنى أبي الطيب:
تمتع من سهاد أو رقاد
…
ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى
…
سوى معنى انتباهك والمنام
وقول «ختام الرواية» يبدر منه إلى الذهن أن ختام الرواية هو الموت، ولكن قوله إنه يتلوها للموت على أن الموت غاية بهيمنته وإشرافه، إذ لا يعقل أن يكون هذا الموت يتلو هو رواية الكون له شعرا مجرد سامع ومستمع كما نصنع نحن إذ نشهد
(1) أنشئ هذا القسم سنة 1912 م.
(2)
خلافًا لما عليه أهل بلدنا وذلك مذهب الإمام مالك رضي الله عنه.
تمثيلية من المسرحيات. إذن يعني ما ختام روايتنا كلها؟ وتكون في هذه الحالة مثل رواية هامليت التي هي داخل المسرحية الكبيرة
the play's the things
Wkerein I'll catch the conscience of the King
«المسرحية هي الشيء
الذي أمسك فيه ضمير الملك بيدي»
والبيت الذي يلي فيه ضعف، والحق أن قوة نفس الشاعر بلغت مداها عند قوله:
نحن نتلو رواية الكون للموت ثم أدركه بعد ذلك إعياء
هكذا قلت للرياح فقالت
…
سل ضمير الوجود كيف البداية
والكلمة فيها بعد مع الشك المعري الرومنسي «الجبراني» المنحى نظر إلى بحر المعري ورويه في الكلمة التي رثى بها أبا القاسم المغربي الوزير (ت 418 هـ): -
يا أبا القاسم الوزير تغيبـ
…
ـت وخلفتني ثقال رحايه
يشير إلى قول زهير «فتعرككم عرك الرحى بأثقالها» أي معها ثفالها
إن نحتك المنون قبلي فإني
…
منتحاها وإنها منتحايه
ولكن في نظم أبي القاسم الشابي من جودة الصياغة ما لا نجد نظيره عند ناجي وعند علي محمود طه، ذلك بأن أساسه في العربية جيد، ولو أخلص له كل الإخلاص، ولم تفتنه أضواء مدنية العصر الحديث فخف لكي يتأعصر لكان أسلوبه في النظم أمتن وأبعد مما نجده يعروه حينا بعد حين من الوهن نحو قوله: ولكن ماذا ختام الرواية؟ ونحو قوله: هكذا قلت للرياح فإنه ليس لها كبير معنى ههنا.
قولنا «يتأعصر» أي يكون من هذا العصر، من قولك أعصر تقيسه على أنجد أي صار في مجد وأتهم أي صار في تهامة وأصبح أي صار في الصبح وأضحى أي صار في الضحى وأعصر أي صار في العصر. وربما قيل الآن تعصرن وتعقلن ولا يعجبني ذلك وله وجخ بعيد وهو قولك ضيف وضيفن أي ضيف الضيف بزيادة نون عليه. وأشهر شعر الشابي أبوليته، أي قصيدته التي ذاعت من طريق مجله أبولو.
عذبة أنت كالطفولة كالأحـ
…
ـلام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمـ
…
ـراء كالورد كابتسام الوليد
يا لها من وداعة وجمال
…
وشباب منهم أملود
هذا البيت ضعيف بالنسبة إلى تتابع الشبهات من قبل المشعر بقوة الانفعال. وأتبع الشاعر «يا لها» هذه الأولى باثنتين بعدها:
يا لها من طهارة تبعث التقـ
…
ـديس في مهجة الشقي العنيد
هل الشقي العنيد هو الشاعر نفسه؟ ثم ما هذه «التقديس» الكلمة المسيحية الظلال؟ وهل الشقي أيضًا كلمة مسيحية الظلال بمعنة صاحب الخطيئة المذنب؟ أو هي قرآنية الأصل «فمنهم شقي وسعيد» تأعصرت بإشراب من ظلال مسيحية؟
يا لها رقة يكاد يرق الـ
…
ـورد منها في الصخرة الجلمود
وهل الصخرة قلبه؟ واليالهاءات الثلاث لم يزدن شيئًا على قوة البيتين الأولين، وكأن الشاعر أحس هذا فعدل عنه إلى وجه آخر:
أي شيء تراك هل أنت فينيـ
…
ـس تهادت بين الورى من جديد
وفينيس هنا يتأعصر بها الزيتوني، ولا بأس عليه من ذلك، فهي كهذا الزي الإفرنجي الذي جعل الناس يلبسونه.
لتعيد الشباب والفرح المعـ
…
ـسول للعالم التعيس العميد
أم ملاك الفردوس جاء إلى الأر
…
ض ليحيى روح السلاك العهيد
ملاك «مسيحية» يتوهم العصري فيها الرقة لأن «الملك» قد يتبادر منها معنى «ملك الموت» ومعنى يوم القيامة «وجاء ربك والملك صفا صفا» والعهيد تبرز منها عمامة الفقير الفقيد، إذ هي فعيل بمعنى مفعول؛ هذا أمر لا يقدم عليه إقدامًا أمثال أبي شادي أو ناجي أو المهندس أو جبران.
ثم هذه الخطابة الرومنسية بالفحاصة والبيان القرآني: {القارعة ما القارعة} {الحاقة ما الحاقة} {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق}
أنت ما أنت ..
ثم يجئ العصر الحديث والانتماء إليه:
أنت رسم جميل
…
عبقري من فن هذا الوجود
أي من جمال فنون الطبيعة. شيء من فلسفة وحدة الوجود. حتى هذه المعاني العميقة
عندنا يا معشر العصريين. كأن هنا نوعًا من الملاقاة بين هذا الضرب الرابع المتأعصر والأول المدافع المتحدي:
فيك ما فيه من غموض وعمق
…
وجمال مقدس معبود
أنت ما أنت أنت فجر من السحـ
…
ـر تجلى لقلبي المعمود
وفجر هنا ترف عليها طيوف من الصلاة وصوت المؤذن «الصلاة خير من النوم» . والفجر أول بدء الإسفار حق جميل. وأكثر ما يذكر الفرنجة «Dawn» يعنون به ضوء الصباح، وكذلك Aube الفرنسية، والصلاة عند ذلك ليست بأداء ولكن قضاء- أعني صلاة الغداة المفروضة.
ثم تجئ أنواع من التكرار. وقد أدار الشابي معاني قصيدته كلها على خطابة لفظية تعطوا بيد ولا تستطيع التناول حقا من ثمرات ما يخيل إليه أنه هو التفطير المتحضر الفني العصري. الغناء بالطبيعة المشبهة بها هذه الحسناء ينقصه التأمل. ليس فيه حديث المعرفة بالطبيعة التي ينبعث منها الإيحاء بالحب لها، والاتحاد القبلي مع جمالها. هذا واضح عند «كيتس» وواضح أيضا في ريح «شيلي» الغربية إذ هو لا يكتفي بالخطابة اللفظية ولكنه يتأمل الطبيعة نغسها ويضع أنامل تأمله على تفاصيلها- الأوراق الميتة المتطايرة صفرا وسودا وشواحب وقانيات، والحبوب المجنحة التي تستطردها الريح في مركباتها إلى مراقدها الشتوية المظلمة .......
Loosc clouds likc carth's dccaying lcaves arc shcd،
…
Shook from the langlcd boughs of Heaven and Occan،
(1)
Angels of rain and lightning
واضح في شعر «وردزورث» عن ضروب الأزهار وضروب مناظر الريف- الفتاة الجبلية مثلا، لا بل واضح في شعر إيليا أبي ماضي على شح ما فيه بالنسبة إلى هؤلاء- ذكر التراب والجدول والقطرة والآزر والزنبق والسوس وحقل القمح والشمس والبدر والنجوم والجبال والعشب والندى والجنى والشجر والربيع والوحل والشتاء. ولا يزعمن واعم أن لبنان بحسنها هي التي أوحت جميع هذا إلى شاعرها المشتاق الآئب، نعم حسنها لا ريب فيه. ولكن تونس الخضراء هي أيضا جميلة وفيها ضروب من
(1) أنت يا من في مجراها وسط جرف هيجان الجو السحيق- ترى هلهلة أهداف السحاب كما يساقط الورق على الأرض الذابل- نهز ملائكة الحياة والبروق هزًا من أغصان السماء والبحر المتشابكة. «من الريح الغربية للشاعر شيلي» .
الشجر والثمر والزهر. ولكن شاعرها الرومنسي برومنسية ابن المسجد المحني الضلوع على ألوان من الثورة على المسجد، هو أيضا ابن مدينة قليل التعلق بتفاصيل جمال الريف. الطبيعة التي يعشقها هي طبيعة هذا التصوف الحضاري الجديد المنبعث من العرب ولا ليلات نشيد الأذكار الصوفية والمدائح النبوية، ولكن من توهم ترانيم كنيسة في القلب. من العجب أن إيليا أبي ماضي ليس في نونيته من الكنيسات كما في دالية الشابي هذه.
على أن للشابي مقدرة الخطابة المسجدية ذات المترادفات والمتزاوجات الكثيرة. ثروة من التدفق اللفظي. أما المعاني- بل تأمل هذه الأبيات: -
فأواه الحياة في مونق الحسـ
…
ـن وجلى له خفايا الخلود
أنت روح الربيع تختال في الدنيـ
…
ـيا فتهتز رائعات الورود
وتهب الحياة سكرى من العطـ
…
ـر ويدوي الوجود بالتغريد
كلما أبصرتك عيناي تمشيـ
…
ـن بخطو موقع كالنشيد
في ذا البيت محاولة تعبير انفعال صحيح عبر عنه الشاعر بأمر لعله كان يراه ويعرفه وهو هذا الحقل المجرود- هذا البيت من التفاصيل النادرة في القصيدة ولكن له أصلاً من مادته القرآنية كما لا يخفي وأحسب أن هذا هو أصل التعبير لا تجربة المشاهدة والله تعالى أعلم.
وانتشت روحي الكئيبة بالحـ
…
ـب وغنت كالبلبل الغريد
أنت تحيين في فؤادي ما قد
…
مات من أمسى السعيد الفقيد
وتشيدين في خرائب روحي
…
ما تلاشى من عهدي المجدود
هذا البيت تكرار للذي قبله.
من طموح إلى الجمال إلى الفـ
…
ـن إلى ذلك الفضاء البعيد
وتبثين رقة الشوق والأحـ
…
ـلام والشدو والهوى في نشيدي
بعدما عانقت كآبة أيا
…
مي فؤادي وألجمت تغريدي
معانقة الكآبة للفؤاد وإلجامها للتغريد فصاحة مسجدية الأصول (من أبي تمام مثلا) عصرية الفروع. ثم تجئ التأعصرات بالمعاني المسيحية والأساطير الرومية:
أنت أنشودة الأناشيد غنا
…
ك إله الغناء رب القصيد
فيك شب الشباب وشحه السحر
…
ـر وشدو الهوى وعطر الورود
وتراءى الجمال يرقص رقصًا
…
قدسيًا على أغاني الوجود
وتهادت في أوق روحك أوزا
…
ن الأغاني ورقة التغريد
فتمايلن في الوجود كلحن
…
عبقري الخيال حلو النشيد
خطوات أسكرنه بالأناشيـ
…
ـد وصوت كرجع ماي بعيد
هذا من مفضلية الحارثي: «نشيد الرعاءالمعزبين المتاليا» فهذا رجع ناي بعيد كما ترى.
وقوام يكاد ينطق بالألـ
…
ـحان في كل وقفة وقعود
كل شيء موقع فيك حتى
…
لفتة الجيد واهتزاز النهود
تفاصيل المنظر الجنسي المتمثل في مشية هذه الفتاة الأفرنجية، الرومية، قولا واحدًا، وهي كما هي جنس هي أيضًا كسر أو رمز لكسر القيود المسجد وحجاب البنات وقساوة قلوب غيرة المحافظة العربية المسلمة المتمسكة خلافًا لإسلامها ببعض روح الوأد الجاهلي المسئول عنه يوم القيامة- هذه التفاصيل هي التي تملي على الشابي الدفعة بعد الدفعة من التعبير القوي ثم يترنم بعد بالنشيد واللحن والتحبب إلى ألفاظ الأساليب العصرية بملكة مستفادة من خطابه أئمة الدين وبلغاء «الفقراء» ومحفوظ قديمًا الأساليب ذوات البيان. «وشحه السحر» مع وشاح ثريا امرئ القيس وغيره من الشعراء الأوائل. «سكري من العطر»
…
عطر الندى والعود وبخور حلقات الصوفية مع فواح عطر فرنسية المنبعث من «البرومناد» وهو عطر الورود لأن الورود ههنا هي الفتيات بلا ريب. ثم السكر بالخطوات نظر عرام. والأناشيد أناشيد الكنيسة التي توهمها الشاعر. ثم جاءه تداعي المعاني بقول عبد يغوث الحارثي:
ولا شك كان رحمه الله يحفظه. «المعزبين المتاليا» أي الذاهبين بها بعيدًا في المرعى فالناي البعيد، كما تقدمت الإشارة منا إلى ذلك من ههنا. ثم تعود ألحان الكنيسة المتوهمة وموسيقا أوروبا في نظرة عارمة مرة أخرى إلى القوام والجنس- القعود كناية عن ثقل العجيزة واختلاج الوركين بالثياب. ثم أتم الصورة لفتة الجيد واهتزاز النهود، واحتفظ بتوقيع سحر الموسيقا: ناي عبد يغوث الذي في قلبه؛ ترانيم ثالوت
فالإله العظيم لا يرجم العبـ
…
ـد إذا كان في جلال السجود
هذا المعنى قرآني الأصل: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال] هذه الأبيات من «عذبة أنت» إلى «السجود» هي مختار القصيدة وسائرها بعد إطناب وإسهاب، بعضه أفضى إليه اندفاع الشيبة وبعضه إرث الفقير المسجدي من المباهاة بطول النفس، وأكثره فرط إلحاح على قرع باب الانتماء إلى دنيا التجديد وعالم رومنسيتها المسحور: الطبيعة، الربيع، اللحون، الأحلام، تحطيم القيود، النور، تبديد الظلام، هذا الحشو الهوائي كأنه ضرورة للتعبير عن الضيعة التائهة والازدواجية المركبة، والجند الغريب الذي تغلغل في صميم دولة غرف الإسلام والعرب، والشابي به صيحة حيرة وطموح وإخفاق.
التجاني يوسف بشير رحمه الله [1912 - 1936 م] مما يقرن اسمه باسم الشابي ويقال إنهما شاعران متشابهان (1) - بينهما تشابه من حيث إنهما كليهما لم يتلقيا تعليمهما في مدارس العصر الأفرنجية الرومية النظام، ولكن في «الخلوة» [أي كتاب القرآن] والجامع وعاصرًا زمان دعوة التجديد ومجلة أبولو في مصر وحركة شعراء المهجر، وتثقفًا بأدب النهضة، وشهدا أوائل دعوة القومية والتحرر من ربقة الاستعمار، وشاركا في ذلك بجهد ما استطاعا من انفعال القلب وبيان القلم.
صم بينهما مع هذا التشابه اختلاف كبير. السودان بالنسبة إلى مصر وتونس والشام بادية وصحراء. «والبقعة (2) التي كانت أكبر مدن السودان على زمان التجاني، ولا تزال، ما كانت حينئذ إلا أحوية وجدرا من طين، لولا بقايا أنقاض من سور الخليفة
(1) للأستاذ أبي القاسم محمد بدري كتاب عنهما بعنوان «الشاعران المتشابهان» طبعة دار المعارف وللدكتور عبد المجيد عابدين تأليف قريب من هذا المعنى.
(2)
«البقعة المباركة» هو الاسم الذي سمى به المهدي المكان الذي اختاره عاصمة للبلاد في سنة 1885 م. ثم لما غزا اللورد كتشز الدولة المهدية باسم الخديوي فيما زعم وضرب الاستعمار بجران، غلب اسم أم درمان على اسم البقعة فصار لا يعرف لها اسم إلا أم درمان وكان اسم البقعة أشهر بين عامة الناس إلى ثلاثة سنوات الثلاثين، وكانوا أكثرهم أدنى إلى البداوة.
عبد الله وجانب من قبة المهدي المهدومة وبعض مباني الحكومة الرسمية من الآجر وطابق أرضي واحد. وشارع مرصوف واحد وسطها يسير عليه الترام وما بنيت قنطرة النيل الأبيض إلا وهو ابن خمس عشرة أو ست عشرة سنة.
وفي شعر التجاني رحمه الله تليين في حضارة ولكن أسر البداوة عليه أغلب. ثم حظه من التفصيل في الوصف والدقة في المعاني أوفر، مثلا وصفه الساقية وقواديسها [أي جرارها عندنا]:(1)
وهب صوت النواعيـ
…
ـر وهو في الشجو مر
إن الجرار وقد ضا
…
ق بالقليب الممر
تكسرت وهي تهوى
…
فما تلاءم كسر
فتلك معصوبة الرأ
…
س كم تني وتخر
وتلك مرضى وهاتيـ
…
ـك للخواطر قبر
ليت شعري هل كان يمكنه تجنب «النواعير» وهي كلمة مع وضوح دلالتها غير مستعملة في بلده وقد تعرف في بلاد أخرى؟ ألو تمسك بالسواقي وهو اسمها المعروف في بلده أما كان ذلك أقوى لأمره وإن اضطره إلى تشديد الياء مشعرًا لها صنفا في نسبة. وكذلك الجرار فالجر- بفتح الجيم- في عامية قومه هو حب الماء الكبير [الزير] وجرة الساقية الصغيرة التي إنما هي دلو اسمها عندنا القادوس وقواديس الساقية الصغيرة التي إنما هي دلو اسمها عندنا القادوس وقواديس الساقية جرارها كما مر بيان ذلك منذ حين قريب على استعمال الجرار هنا يشفع أنها أوضح لقراء العربية. ثم قد آخى بين قاف «القليب» وقاف «ضاق» فاحتاجت راء «الممر» إلى ما يؤاخيها ولعل هذا ما جعله «النواعير» على «السواقي» . وقد يرى القارئ بعد دقة الوصف وقوة ملكة اللغة- يعجبني قوله «فتلك معصوبة الرأس» وقوله «تني وتخر» إذ هكذا ترى كثيرًا من قواديس الفخار والساقية بها تدور ولعل ما يخاص منها من مائها متشلشلاً سربًا إلى قليبها بمقدار ما ينساب في الجدول أو أكثر وقوله «وتلك مرضى» أراد به عدة قواديس إذ «مرضى» جمع. ويجوز في قوله «فتلك
(1) سبقت الإشارة إلى مطلع هذه القصيدة:
يا درة حفها النيل واحتواها البر
بمعرض الحديث عن بحر المجتث في الجزء الأول من المرشد وكانت للمؤلف كلمة عنها في مؤتمر المجمع بالقاهرة سنة 1984 م.
معصوبة الرأس «وقوله: «وهاتيك إلخ» أن يكون أراد به الجمع أو المفرد وإرادة المفرد في المعصوبة أحب إلى وأقوى في التصوير.
ومن علامات الرومنسية والتأعصر قوله، والأبيات من هذه القصيدة نفسها إذ يقول:
كم ذا تمازج فن
…
على يديك وسحر
يخزر ثور وتثغو
…
شاة وتنهق حمر
والبهم تمرح والزر
…
ع مونق مخضر
تجاوب الطحن واللحـ
…
ـن والثغاء المسر
وموضع الرومنسية مدح البداوة والتعلق بالطبيعة ها هنا. وجزيرة «توتي» الموصوفة في هه القصيدة في وسط بحر النيل بين الخرطوم وأم درمان [البقعة] وكانت بادية محضة البداوة إلى زمان قريب. وقوله رحمه الله «تجاوب الطحن واللحن» أمر ينبغي أن يشرح وليس مشروحا في الديوان إذ كان- أيام طبعه- هذا المعنى معروفا، وذلك أن النساء كن يطحن الذرة على المراحيك، وطحن المرحاكة هو الموصوف في قول الحماسي:
تقول وصكت نحرها بيمينها
…
أبعلي هذا بالرحى المقاعس
إذ الرحى التي تدور لا تقاعس معها ولكن الذي يبرك ليطحن بالمرحاكة يبرز صدره ويتقاعس.
وكانت البنات حين يطحن بالمراحيك (1) يتغنين بأراجيز لهن وربما شكون فيهن الأسى والعناء.
ومن مواضع الرومنسية قوله الذي مر في جرار الساقية:
وتلك مرضى وهاتيـ
…
ـك للخواطر قبر
(1) الذي في القاموس رهك بالهاء (باب منع) - ولكن الهاء مما تصير حاء كما تصير الحاء هاء، من ذلك قولنا وحط بالحاء لإزاء السيور الذي تلبه البنت الصغيرة وفي المعجم بالهاء وفي العامية نقول رهك وهي ترهك للدلالة على كثرة الطحن وفي عاميتنا كثيرًا ما تصير الهمزة عينًا كسعل في سأل وجعر في جأر.
فقد جسدها كما ترى، ولا يخلو مراده من غموض. أي تلك الجرار متداعية منهارة وهاتيك لا أمل فيها وفي صناعة البيت تعب. هذا، ولعل قوله «للخواطر قبر» له ارتباط معنوي بذكرة الفلاحين من بعد، أي حال هذه الجرار قبر لخواطرهم لقلة المال الذي يجعلون به جرة أخرى في مكانها.
ومن تفصيله مما سبق الاستشهاد به الحديث عن بحر المجتث في الجزء الأول من هذا المرشد، بذكرة شجرة مطلة على الشاطئ:
ورب قنواء للعصـ
…
ـم والأنوق مقر
وقد سبق مأخذنا ما أخذنا على هذا البيت
أوفى على النيل فرع
…
منها وأشرف جذر
هذه صورة غاية في الدقة، ثم زاد في تفصيلها حيث قال:
يقلها الدهر عرقا
…
ن مستطيل وشبر
يكاد يلفظها الشط
…
وهي شمطاء بكر
وبعد وصفة الطحن واللحن والحرار التي حالها للخواطر فبر، صور الزراع، وقلما تستعمل كلمة «الفلاحة» والفلاح عندنا، وإذا قيل في الدراجة «فلاحة» بفتح الفاء فهو الفلاح وصاحب «الفلاحة» التي من هذا النوع «فالح ناجح» .
كم في المزارع قوم
…
شم العرانين صعر
كل منهم سيد نفسه
هبوا سراعا إليها
…
وليس منها مفر
لفرط الشقاوة في السقي والحرث، والأرض صلبة وحر النهار ساعر، ولكن لا بد مما ليس منه بد
ذياك يعزق في العشـ
…
ـب جاهدا ما يقر
وذاك يعنيه حرث
…
وذات يعنيه بذر
وماج في الغيط نشء
…
ملء النواظر خرز
الغيط كلمة مصرية لا تقال عندنا فأحسبه اضطر ليقيم بها الوزن وهي بعد عربية. وأما «خرز» فقد جلبتها القافية، ولها بعد معنى صحيح في هذا الموضع لأنهم يعملون مع آبائهم وينظرون من جانب وبتضييق للعين من الغبار، وأراد أنهم حزاوة لهم نشاط، فهم ملء النواظر وهي بشيطنتهم خرز العيون.
هناك فول وهذا
…
ك في السنابل بر
وله في صفة الغلام إلى «الخلوة» [كتاب القرآن] كارهًا:
هب من نومه يدغدغ عينيـ
…
ـه مشيحًا بوجهه في الصباح
هنا مضغ للكلمات فيه حسن الترنم، ولكن فيه لينا، ذلك بأن قوله «هب من نومه» كلام تام، «يدغدغ عينيه» بعده نوع من استدراك ومضغ على ما فيه من زيادة الوصف، وكذلك قوله من بعده «مشيحًا بوجهه» إذ من يدغدغ عينيه يشيح ضربة لازم
ساخطًا يلعن السماء وما في الـ
…
أرض من عالم ومن أشباح
هنا مبالغة آشبه بعقول سخط الكبار منها بعقول سخط الصغار. والأشباح ليلية لا نهارية- وغير خاف أن الغلام هنا هو الشاعر، يفكر آنا بالذكرى وآنا بالحال والحاضر فيلعن السماء والأرض على لسان هذا الصغير الذي يتذكره. ولعنة السماء من لسان ابن الجامع- أو قلمه- آبدة، رومنسية ثالثة!
حنقت نفسه وضاقت به الحيـ
…
ـلة فاهتاجه بغيض الرواح
الرواح في اللغة الفصيحة يكون مساء وفي الدارجة مما يقع على الغدو والرواح جميعًا. ولكن في البيت طولا فيه تلمظ للكلمات، هذا من التليين. وهذا البيت والذي قبله لو جاء بهما أوجز لكان ذلك أفصح، ولكن الإطناب أدخل في معنى التأمل الرومنسي. والأبيات التالية فيهن وصف متقن صادر من خيال خصب.
وأهابت به الظلال وقد نشـ
…
رن في جلوة القرى والبطاح
كأن في كلمة «البطاح» قلقًا إذ البطاح لا تقابل القرى، إذ القرية قد تكون بالأبطح وغيره. وهل عنى بالقرى ما كان «بأم درمان» من حلل كالمتفرقات، بينهن ضروب رواب وحفر وبطاح؟ أم ليست شعري هل رأي، هل اتفق له أن رأى ديار أصول أهله وعبر النيل من ناحية المحمية حيث المطمر والجبل والمباني على التل والظلال قد تنتشر من ثم إلى الأبطح فعلقت هذه الصورة بذهنه؟ ويظهر من حديثنا مع من لقينا من أهله أنه لم يرم أم درمان.
ومشى بارما يدفع رجليـ
…
ـه ويبكي بقلبه الملتاح
صورة الرجلين وقد يركل حجرًا هنا وحجرًا ثم، جيدة بالغة.
ضمحت ثوبه الدواة وروت
…
رأسه من عبيرها الفياح
كأنه كان يحمل الدواة على رأسه أو يمسح رأسه بالقلم. ومداد الدواة من السكن [بالتحريك] وهو في عاميتنا السواد الذي تتركه النار على الآنية مع الصمغ ولذلك فيح من تخمير الصمغ. ولعل الغلام كان يلبس خرقة واحدة فوق السراويل، وكانت تلك عادة قومنا حتى جاء تغيير هذا الزمان. رووا عن الشيخ ود الشيخ الطاهر المجذوب رحمه الله أنه قدم «البقعة أي أم درمان» أول أيام الاستعمار بالقوب مخالفا بين طرفيه، كما جاء في السنة وكذلك كان لباس الناس عندنا عامة والفقراء» [أعني العلماء] خاصة. وإنما استقدم الشيخ رحمه الله تحت المراقبة لسابقة قتاله الكفرة مع عثمان دقنة رحمهما الله تعالى. وكان الشيخ البدوي، رحمه الله، شيخ الجامع وكبير العلماء آنئذ قد شفع فيه فلم يعدم، وأشار عليه بأن يتخذ زي العلماء وهو الجبة والقفطان والعمة ذات الطربوش الأحمر المغربي فأبى واحتج فيما ذكروا بأن الثوب الذي يلقى به ربه في الصلاة ليس أحد من البشر، حكام أو سواهم، بأكبر من أن يلقاه فيه، رحمهم الله جميعًا:
ورمى نظرة إلى شيخه الجبـ
…
ـار مستبطنا خفى المناحي
نظرة فسرت منازع عينيـ
…
ـه ونمت عما به من جراح
الذي رمى نظرة غلام شيطان ناشئ وهذا الذي به جراح هو التجاني الشاب الذي يريد حطم القيد وقد ثقلت عليه قيود الحياة ويحس في أغوار صدره وجع المرض ثم
انظر أيها القارئ الكريم إلى هذه الصورة من قراءة «حيران الخلوة» أي غلمانها المفرد حوار بتشديد الواو وتخفيفها وضم الحاء المهملة
ونفوس سجا الكرى في حواشيـ
…
ـها ودب الفتور في الأرواح
هذه قد تكون نفوس ركب مسافرين. وهذا من التجاني فيه جمع بين إطناب بالكلمات كأنما هي المرادة لجرسها دون ما تدل عليه من صور، وبين محاولة التصوير في نفس الوقت. هذا التلذذ والتصنيع هو من باب ما قدمناه أولاً من تليين في صياغته هو بى ريب جزء من نعومة «الرومنسية» الانتماء إلى رونق حضارة العصر وأناقتها بتخير اللفظ الفصيح الحلو المتحضر ذي الظلال
فارجحنت مهومات وما تبـ
…
ـرح مركوزة على الألواح
» ما تبرح إلخ» عربي فصيح. «فارجحنت مهومات» ألفاظ متخيرات لهن ظلال. ولو قد أراد التجاني أو سمحت نفسه لشدة الأسر لكان يؤثر الخلوص إلى إنجاز الصورة واضحة على البدء بتزيينها قبل تمام الإنجاز، تأمل قوله:
كلما لفها النعاس وأضفى
…
فوقها عالما ندى الجناح
قصف الرعد في المكان ودوى
…
مرزما صاخبا قوي الصياح
فهذا ما ترى من الاستعارة المرشحة [لفها- أضفى] والتشبيه المشتمل على إشارة قرآنية (أضفى فوقها عالمًا ندى الجناح) من قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} وفيه نظر إلى قول ذي الرمة:
طراق الخرافي واقع فوق ريعة
…
ندى ليلة في ريشه يترقرق
وبعد قوله: «قصف الرعد» إطناب ضخك في قوله: دوى، مرزمًا، صاخبًا قوي الصياح. ثم يقول من بعد:
فاستفاقت وهيمنت بعض أشياء
…
وهذا نعت صلت مباشر وصورة حال الصغار إذ ينام منهم من ينام إعياء ويتناوم من يتناوم عفرته، ثم يزجر الشيخ الجبار- كالحجاج بن يوسف- زجرته فيصحو النائم والمتناوم ويهينم الحوار إذ يكون قد نسى موضع ما يبدأ به. قوله:«هيمنت» على حسن
جرسه وجودة تصيد اختياره، هو اللفظ الدقيق المعبر حقًا في هذا الموضع ولكن تمام البيت «
…
وعادت وعاد قصف الرياح» جار على ما سبقه من أسلوب الاستعارة والروح الرومنسي التلمس للتعبير والتصوير، إذ ليس ههنا قصف ولا رياح، ولكن هذا تمثيل مثله الشاعر لزجر الشيخ وهوله واستعان عليه بطبيعيات الرومنسيين وزينه بما له من عناية ومعرفة بالألفاظ والتلذذ بنقائها وحلاوتها.
هذه الزينة التي مردها إلى إيثار الاستعارة والتشبيه والجرس اللذيذ هي عطاء «ومساهمة» متعمدة يجود بها التجاني من ثروته اللغوية البيانية ليزيد بها إنتاج التجديد العربي وفي طي ذلك تنبيه إلى مكان نفسه ومكان الجامع من هذا العطاء وهذه المساهمة تأمل قوله «دوى» بالتضعيف، قل من الرومنسيين من يجئ بهذا الفعل مضعفًا وإنما يقال دوى (باب ضرب) بالتخفيف ولعل القياس يجيزه ولكنه أي هذا الثلاثي المخفف ليس هو الفصيح الجيد على الأرجح إذ لم يرد في القاموس. وتأمل قوله:«هينمت بعض أشياء» إيجازه وفصاحته. وتأمل جودة الاستعارة في «لفها النعاس» ومن شعر التجاني المشهور قوله في النيل:
أنت يا نسب يا سليل الفراديـ
…
ـس نبيل موفق في مسابك
كم نبيل بمجد ماضيك مفتو
…
ن وكم ساجد على أعتابك
وكأن القلوب مما استمدت
…
منك سكرى مسحورة من شرابك
قوله «كم نبيل» هب عنى به «شوقي» وهل يعرض بأنه لم ير من جمال النيل إلا مجد الفراعنة؟ ويكون هو الرومنسي الساجد على الأعتاب، وقد صار النيل معبدًا ذا أعتاب؟ قوله يا سليل الفراديس تعبير عصري رقيق، أصله ديني إذ هو من حديث المعراج- أصله من الجامع وقد جعله التجاني بروح عصريته كأن ليس أصله من الجامع. ومن الجامع، مع اعتداد بذلك خفي، أصله. هذا أمر آخر به التجاني مختلف عن الشابي: اعتزازه بالتحصيل الذي ناله من علوم العربية والدين. كأن التجاني بهذا الاعتزاز فيه أنفاس من الضرب الذي ذكرناه أولاً من الرومنسية، ضرب الرافعي الذي أدخلناه في الرومنسية لنخرجه منها، غير أن التجاني بما خالط نفسه من ثورة على المحافظة ورغبة شديدة في التجديد وإيمان بضرورته مع الإحساس القوي بروح الحركة الوطنية ومناهضته الاستعمار، ثم يخالط ذلك كله نوع من فتنة بنعيم النصارى الذي تمثله الخرطوم وبيوت الحكام البريطانيين ذات البساتين، وصنوف الأجانب من تجار وحاشية أخلاط بينما «البقعة المباركة» - أي أم درمان، يسير السائر في نصف
نهارها الأحمر الأغبر «وقد خبء آل الأمعز المتوقد» كما قال طرفة بن العبد في المعلقة.
قال التجاني رحمه الله: يضطر «بروميناد» الخرطوم من ضروب نصاراها وأجانبها ونابتة مظاهر نعمائها وشرائها [وقد مرت هذه الأبيات في معرض الحديث عن بحر المجتث في الجزء الأول من المرشد، وكان زميلنا الأستاذ حسن الطاهر زروق رحمه الله وجعل الجنة مثواه يحسن الترنم بها صوت عذب الشجي عميق]: -
أمنت بالحسن بردا
…
وبالصبابة نارا
وبالكنيسة عقدا
…
منضدًا من عذارى
وبالمسيح ومن طا
…
ف حوله واستجارا
إيمان من يعبد الحسـ
…
ـن في عيون النصارى
وأبت هذه الأبيات إلا أن تعلن إسلامًا- البرد والنار من سورة الأنبياء «قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم» ، والطواف بالبيت الحرام والجوار بالحرمين، وركز الجامع رايته وثبت ثباتًا بالرغم من إيمان ابنه بعبادة الحسن في عيون بنات نصارى الخرطوم. وللتجاني رحمه الله شعر ذكر فيه وحدة الوجود بشيء بين التأمل والتصوف:
الوجود الحق ما أو
…
سع في النفس مداه
والسكون المخض ما أو
…
ثق بالروح عراه
كل ما في الكون يمشي
…
في حناياه الإله
هذه النملة في رقـ
…
ـتها رجع صداه
هو يحيا في حواشيـ
…
ـها وتحيا في ثراه
وهي إن أسلمت الرو
…
ح تلقتها يداه
فهذه أفكار وحدة الوجود التي سهكتها كثرة الاستعمال. وللتجاني كما قدمنا حذق وشغف باختيار اللفظ ورنين النغم، فهذا مما تأعصر به ومما يباعده من نوع رومنسية الدفاع عن القديم عن أخذه منها بنصيب. وطبع التجاني جيد. لعله لوكان مد له في الأجل، «لكل أجل كتاب» ، لكان أسمح به إسماحًا.
أحسب أن مكان التجاني رحمه الله في مقدمة الإجادة الرومنسية، غير أنه أجحف به كونه من أم درمان، بقعة المهدي المباركة، القصية جدا عن مراكز التقدم والحضارة العصرية العربية. صدق صاحب معجم البلدان يا قوت حيث زعم في حديثه عن تلك أنها أشبه بلاد الله باليمن وأن في عيش أهلها شدة، لعله منها، أنه قلما يفطن إلى مكان المحسنين من أهلها مؤرخو الأدب وأصحاب التراجم. ولليمن، وهي أصل العرب، وهي الغنية بذخائر الكتب وفطاحل العلماء وفحول الشعراء من الإهمال
قسط وافر. ولعل ذلك كله خير فليس كل الشهرة بسعادة.
هذا، ومن شعراء الرومنسية الذين ينبغي أن ننبه على مكانهم محمود حسن إسماعيل رحمه الله، لا من أجل مجرد أنه من أسماء الرومنسية من هذا الضرب الرابع على الأرجح ونماذجها، ولكن لأنه كأنما هو نموذج لضرب لو كان أصلا قائما بنفسه لجعلناه ضربا خامسا. ذلك بأنه شاعر أخاذي تلفيقي.
أصل التلفيق في الفلسفة ألا يلزم الفيلسوف مذهبا بعينه، ولكنه يؤلف لنفسه مذهبا من مذاهب متعددة، ليس واحد منها له. يقال لذلك باللغة الإنجليزية Eclcctic [إكلكتك] واشتقاقها من اليونانية التي من فلاسفتها أخذ المعنى. ثم قيس على ذلك كل ما يذهب إليه من تلفيق المذاهب مفكر أو فنان على وجه الاستحسان فيجعله منهجًا أو كالمنهج لنفسه. انتماء محمود حسن إسماعيل رحمه الله إلى صناعة من الشعر تجنح إلى الضرب الرابع. وتستعين ما للرافعي رحمه من إغراب، وقد مرت منه أمثلة. وتأمل قوله: في «أوراق الورد» [ص 44]«فالعاشق الرقيق على فرط رقته هو لفرط رقته وحش في عالم الحب، ما منه فكر لو فتش إلا فتش عن معني يفترس، إذ يشعر بالحياة في نفسه لا غذاء لها إلا بمعاني حبيبته، فيأكلها حتى بالنظر، «ويفترسها حتى بالخاطر» .
ههنا عنصر ما يسميه «ماريو براز» ظلال «المركيز دي صار» ، أي «السادية» التي تلتذ بنوع من افتراس المحبوب وإيجاعه. احترس الرافعي رحمه الله فجعل افتراسه بالنظر. وهو للمتأمل افتراس كما تفترس الضياغم. ومكان الإغراب اللغوي لا يخفي وهو المقصود الذي تعمد الرافعي، نضر الله ثراه، القصد إليه- «يأكل حتى بالنظر ويفترس حتى بالخاطر». وتأمل قوله: أيضا في «أوراق الورد» يخاطب القمر [ص 17]«من شبهك بوجهها أزهر الضوء فيك ما يزهر اللحم والدم فيها، فتكاد أشعتك تقطف منها القبلة، ويكاد جوك يساقط من نواحيه تنهدات خافتة، وتكاد تكون مثلها يا قمر، مخلوقًا من الزهر والندى وأنفاس الفجر» - ههنا إغراب ناعم كقول الرومنسيين الإنجليز في لغتهم honey- dew أي «ندى العسل» .
كمثل عناء الرافعي، رحمه الله، وتصيده للمعاني وإغرابه تجده عند محمود حسن إسماعيل- مثلا:
عابد النور جاء للنور يشكو
…
ظمأ في الحشا لسحر ضيائه
وعلى الجفن ضجة مات فيها
…
ألق النور والتماع سنائه
وخبت بهجة الحياة وأضفى
…
بؤسها لوعة على لألائه
حنت الأعين الظماء إلى الحسـ
…
ـن وحنت دموعها لبهائه
وتمشي الهوى بأهدابها السو
…
د فكادت تضئ من كهربائه
«كادت تضئ من كهربائه» كأنما جيء بها اختلاسًا من الرافعي- مصطفى صادق الرافعي رحمه الله من طريقة نثره التي قدمنا. ومن معادنها ضجة الجفن وموت ألق النور فيه وإضفاء اللوعة على اللألاء.
على أن الرافعي عناؤه الأكبر وتصيده للمعاني والصور في النثر، وطبعه أسمح بالشعر، وكأن الإغراب في نثره حين يرومه شعرًا يفلت من بين يديه ويرجع به إلى مذاهب العذريين أو أصحاب البديع أو ما هو من مألوف طرائق النظم:
يا أفق هل خفت من شرارة
…
تحت الضلوع اسمها الفؤاد
هذا لو وقع في نثر فيه صناعة المزاوجة وتقعيدها لكان إغرابًا. ومما جاء في الكلمة التي منها هذا البيت والضمير في قال يعود على الأفق:
فقال وجه نرى خياله
…
في قلبك الحامل الضرر
ارجع فلو أن ذي الغزالة
…
تغازل النجم لا نفجر
ومن معاني الغزالة الشمس أيضًا. وقوله «لا نفجر» ذو روح عصري علمي أو علماني ولو كان قال «لا نكدر» لكان ذلك قرآنيًا أشبه به، وأحسبه لم يرد إلا المعنى العصري والله تعالى أعلم. قال البهاء زهير (ت 656 هـ):
فضح الغزالة والغزال فتلك في
…
وسط السماء وذاك في وسط الفلا
عجبًا لقلب ما خلا من لوعة
…
أبدًا يحن إلى زمان قد خلا
ورسوم جسم كاد يحرقه الجوى
…
لو لم تداركه الدموع لأشعلا
أحسب أنه لو عاش البهاء زهير في بعض هذا العصر لعد من الرومنسيين بنحو قوله:
لي إلف أي إلف
…
هو روحي هو حتفي
غاب عن طرفي وقد كنـ
…
ـت أراه مثل طرفي
قبلي يا ريح عني
…
راحتيه ألف ألف
ومما ألح محمود حسن إسماعيل على الاستعانة به شعر أبي تمام. وأمثلة أخذه منه كثيرة. ليس ههنا موضع إكثار منها ونكتفي أن نشير مثلا إلى قوله: -
وتمشي الهوى بأهدابها السو
…
د فكادت تضيء من كهربائه
هجرت كوخي وهوى سحره
…
وعشبه الزاهي ونواره
وجئت للقصر أنادي به
…
معبودة غابت بأستاره
فأطرق القصر كجفن حزين
…
وماتت الأصداء في وحشته
وضحت العذراء في ضمنه
…
ضجتها الكبرى على غفلته
قوله: «فأطرق القصر» من قول حبيب:
لقد أطرق الربع المحيل لفقدهم
…
وبينهم إطراق ثكلان فاقد
وأبقوا لضيف الحزن مني بعدهم
…
قرى من جوى سار وطيف مباعد
سقته ذعافا عادة الدهر فيهم
…
وسم الليالي فوق سم الأساود
موضع الشاهد إطراق الربع الذي تحول إطراق قصر ماتت فيه الأصداء، وهذا متفرع من «سقته ذعافًا عادة الدهر» . وعذراء محمود حسن إسماعيل ذات الضجة من بكر أبي تمام التي ما «افترعتها كف حادثة» ، بدليل قوله «الضجة الكبرى» مكان «الراحة الكبرى» في بيت حبيب:
بصرت بالراحة الكبرة فلم ترها
…
تنال إلا على جسر من التعب
ثم مع هذا إشارات إلى أخبار قديمة. «وجئت للقصر» فيه ذرء من خبر المرقش وفاطمة بنت المنذر وابنة عجلان. ولا ريب قرأ محمود حسن إسماعيل فضليات شاكر وعبد السلام هارون. وغفلة القصر أو الولي إن شئت وضجة العذراء، في ذلك معنى من خبر همام بن مرة وبناته اللاتي احتججن على غفلته عن حاجة من يكن مثلهن إلى الزواج:«أهمام بن مرة إن همي» ، الأبيات وانظر القاموس مادة (قناف كغراب وكتاب).
وقال في أول كلمة عنوانها «وقفة حيال القصر» في ديوانه أغاني الكوخ:
يا صرخة الأعصاب لا تهدئي
…
في مهجة المحروم عند مورده
فالنار ما زالت على مضجعي
…
تذكى بخور القلب في معبده
ثم قال من بعد:
ظمآن يا بؤسي ويا شقوتي
…
والمنبع الصافي لثغري قريب
تروح روحي حول سلساله
…
فيختفي عنها كأني غريب
فههنا إلحاح أخذ من أبي تمام. الشاعر الرومنسي واقف عند القصر نحوًا من وقفة أبي تمام في «أطرق الربع إلخ» وجزع كجزع أبي تمام حيث قال:
ها إن هذا موقف الجازع
…
أقوى وسؤر الزمن الفاجع
وبخور القلب من قبيلة استعارات أبي تمام، أي القلب الذي صار بخورًا في
المعبد الذي هو الحبيب أو ما يمت إليه بسبب، والثغر والسلسال من:
عداك حر الثغور المستضامة عن
…
برد الثغور وعن سلسالها الحصب
وقوله «تروح روحي إلخ» و «تذكي بخور القلب» كلتا هاتين العبارتين ملفقة من قول حبيب: -
أنبطت من قلبي لوأيك مشرعًا
…
ظلت تحوم عليه طير رجائي
القلب هنا مشرع، مورد، ماء، وعند محمود حسن إسماعيل بخور، وعند الرافعي شرارة، وتحوم وتروح وتذكى بمعناه المقلوب، كل ذلك قريب من قريب.
وهذا والحسناء بلا رحمة وفارسها الكئيب
يأيها الفارس في الدرع ما
…
تألم فذا في شحوب تسير
من بعد ما جف نبات الغدير
وازن بين هذا من معنى أبيات «الحسناء بلا رحمة لكيتس» وبين قوله محمود حسن إسماعيل:
هجرت كوخي وهوى سحره
…
وعشبه الزاهي ونواره
وجئت للقصر أنادي به
…
معبودة غابت بأستاره
يا قصر قد طال وقوفي ألا
…
يشرق منك الحسن للهاتف
أجب تكلم إن سخر الهوى
…
طار برشد المدنف الواقف
هنا اتحاد بين فارس كيتس الكئيب ووقفة جازع أبي تمام عند الربع الذي هو «سؤر الزمن الفاجع»
ولمحمود حسن إسماعيل كلمة عنوانها «أحزان الغروب» هل هذه ترجمة من شعر بودلير المنثور Lecer، puscule du soir «شفق الغروب» أو من أزهار الشر Les Fleurs du Mal- انسجام موسيقى الغروب Harmonie de Soir Le ciel triste et beau comme un grand resposir
السماء حزينة وجميلة مثل صلوات موكب كنسي كبير وأول كلمة محمود حسن إسماعيل:
مات النهار وهذي الشمس جازعة
…
عليه تخطر في دامي الجلابيب
كأنها نعش خوفو مال متكئًا
…
على سرير بذوب النور مخضوب
صار الموكب الكنسي فرعونيًا كما ترى، والنظر إلى شوقي لا يخفى. ولا تستبعدن الأخذ من بودلير Baudelaire ورجال رومنسية فرنسة فكل ذلك قد ترجم منه كثير
والعارفون به المتحدثون عنه في مجالسهم كثيرون. ومما فيه ظلال فارس حسناء كيتس التي بلا رحمة «La Belle Dame Sans Merci» : -
وأي ما أي وما أمرها
…
والقصر في إغفاءة الذاهل
والهاتف المحروم لما يزل
…
يشكو الهوى في ذلة السائل
وسؤال «أي» صدى من دروس النحو:
أي كما وأعربت ما لم تضف
…
وصدر وصلها ضمير انحذف
وعارض في موصليتها أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب فيما نقلوا.
وفي «كنز الذهب الأبيض، زهرة القطن» (ص 22 من أغاني الكوخ الطبعة الثانية 1967):
وبدت صفراء تحكى غادة
…
ذبلت نضرتها يوم الوداع
هذا التشبيه غير جيد لأن نوارة القطم «فاقع» لونها تسر الناظرين» وقد رجع هو نفسه من بعد إلى هذا المعنى:
تخفق النسمة في أهدابها
…
خفقة العاشق في ليل الزماع
فسره بالسفر، أحسبه ينظر إلى كلمة ابن زريق «إذا الزماع أراه في الرحيل غني» والزماع بفتح الزاي وكسرها هو العزم فظن أنه السفر وما ظنه يحتمل أي العزم على السفر:
فتراها في الربى راقصة
…
زانها الضوء بزهو والتماع
فهذا رجوعه «فاقع لونها» لا ذابلة نضرتها. ونريد أن نشير بعد إلى خفقة النسمة، فهل أخذها من إبراهيم ناجي «خفقة المصباح» إذ ينضب زيته» وهي مما عسى أن يحسب من حسان كلماته ومرت في باب الرمل في جزئنا الأول.
ولمحمود حسن إسماعيل مثل التجاني يوسف بشير ولع بصفة الريف والجرار والسواقي. وعندي أنه، حاكى التجاني، إذ التجاني نشر عددًا من قصائده في مجلة الفجر وكانت غير مجهولة المكان بمصر. وقد دار نقاش لم يخل من حدة بين رئيس تحرير الفجر عرفات محمد عبد الله والأمير عمر طوسون رحمهما الله، كان من أسبابه أن الأمير لم يرض بعض ما جاء في الفجر من الحديث عن تقرير المصير وما يشعر بروح الانفصال عن مصر وإنما نشر ديوان محمود حسن إسماعيل عام 1935 قريبًا من زمان انتهاء الفجر وموت عرفات محمد عبد الله وفجره التي ماتت بعيد موته.
وبلغني ولا أشك في صحته لتواتره أن التجاني رحمه الله كان قد بعث بنسخة من ديوانه خطية إلى أحد الأدباء الشعراء بمصر ليتولى نشره والإشراف على ذلك من أمره، فيذكر أن الديوان كان يقرأ ولا يجد سبيلا إلى نشره حتى استردت نسخته بعد عناء
طويل. ورب شيء كهذا، كما يقول سيبويه. وذكروا أن أبا عمر الجرمي لما خشي هو وآخرون معه أن يدعى سعيد بن مسعدة كتاب سيبويه حملوه حملا على إظهاره للناس. ولعل هذا الخبر باطل لما نص عليه ابن جنى في الخصائص أن صدق أبي الحسن يكاد يعلم بالضرورة.
وكاد هنا تنفى «بالضرورة» لا الصدق نفسه وأبو الحسن هو سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط. وسقنا هذا الخبر لمناسبته ما قبله. وقيل إن الأديب الشاعر الذي بعث إليه التجاني ديوانه هو الدكتور إبراهيم ناجي، رحمهما الله.
هذا، وقوة الشبه في موضوعات الأوصاف بين التجاني ومحمود حسن إسماعيل أحسبه من تلفيقية محمود حسن إسماعيل، أعني مذهبه الأخاذي المتنقلي بين المذاهب التلفيقي من أصنافه (electic أي الأكلكتكي). يأخذ ويفتن بزيادة صنعة فيما يأخذه. وهذا كأنه أدنى إلى السرق منه إلى التوليد الذي مدحه البرقوقي رحمه الله في صناعة أبي الطيب. وكان محمود حسن إسماعيل نحلة تمتص كل زهرة ثم تعمل لتزيد على ما أخذته وهو ماء نوار ورحيق ضروب أزهار تصييره بعملها عسلاً كثيفًا وشمعًا. غير أنه رحمه الله يشارك النحلة في العمل وجده وكده والمرام الذي يرومه به، ولا يشاركها فيما نصيبه من الزيادة على ما أخذته إلا جهد العمل المفرط نفسه، وذلك لعمري هو العناء (1). وكأنه من ذكره النحلة مرارًا في شعره صريحًا كما في قوله:
ويخلو مع النحل في ربوة
…
منغمة الصوت من غير عود
وقوله:
ينهل الفلاح من كوثره
…
ريقة النحل وسلسال الدماع
خفف ميم الدماع والوجه تشديدها بوزن الرمان أي ما يسيل من العنب
وقوله: بين ترتيل السواقي
…
وزفيف النحلات
وقوله: لها طنين النحل في قفرة
…
يهماء لم تبق على شهده
أو مضمنًا في استعارة ومعنى تشبيهي كقوله:
أو مصت الأنواء
…
من زهره الأفواف
(1) وجدت بعد الفراغ من كتابي كلمة د. أنس داود يذهب إلى وجه مقارب ما ذهبت إليه في كتابه «شعر محمود حسن إسماعيل» مصر 19866 ص 49 - إذ ينفي عنه الإيحاء فتأمل.
الأنواء هنا كنحلة تمص من زهر أفواف، وكقوله:
أو تكن وردًا فيا لهـ
…
ـفة نفسي لعبيرك
جعل نفسه كنحلة وفي البيت قبله كفراشة وهو قوله:
إن تكن نارًا فما أشـ
…
ـهى خلودي في سعيرك
وقوله:
طوافة بالزهر تنشق عطره
…
وتحيله في الطرس همس ذباب
لا يعني به ذباب البيوت ولكن ذباب عنترة المترنم، والطواف بالزهر عمل النحلة
…
كأنه يرمز بالنحل لنفسه، وهذا البيت الذي مر «طوافة بالزهر إلخ» مما يشهد بذلك. أما قولنا إنه لم يشارك هذا الزمر الذي رمز به لنفسه إلا في العناء، فذلك أنه قل شيء ذكره التجاني إلا أفعمه هو تفصيلاً. وقد أفرد قصائد لزهرة القطن، كنز الذهب الأبيض [ص 21 من أغاني الكوخ طبعه 1935].
حين ذاب الطل في كاساتها
…
لؤلؤًا يجري على كف الشعاع
لثمت خد الضحى وابتسمت
…
كابتسام الطفل في عهد الرضاع
وللساقية (ص 75) وسماها القيثارة الحزينة
ناحت فلا الزهر على عوده
…
ألقى عقود الظل في جيده
ومغنى الكير في وكره
…
رق لها وازور عن عوده
وللسنبلة (89 سنبلة تغني):
من له في الأرض ملك
…
مثل ملكي في الكثيب
موردي النيل وزادي
…
من ثرى النيل الخطيب
وهل عنى «بالكثيب» ساكنيه من الناس، إذ السنبل تصلحه الأرض الخصبة والكثيب رملي:
كلل الفجر جبيني
…
بالندى الغض الرطيب
والأصيل البر ألقى
…
تبره بين جيوبي
فسر البر بإلقاء التبر، وإلا كان وصف الأصيل بالبر شيئًا فيه غموض:
وشعاه الشمس حيًا
…
في شروق أو غروب
لو رأى الرهبان طهري
…
وصلاتي في المغيب
هجروا الدير وخروا
…
سجدًا فوق كثيبي
وإذن فالكثيب للسنبلة، فينبغي أن تكون سنبلة دخن لا قمح ولا ذرة. ولما خص الرهبان بالدير؟ أمن أجل تشبيه السنبلة بفتاة- كفتاة النابغة الواقف أصيلانا عند ربع مية والقائل:
ولو أنها عرضت لأشمط راهب
…
عبد الإله صرورة متعبد
فهذا داخل في الاكلكتية.؟ أتراه أوقعه في هذا الإقحام ذكر التجاني له مع الغيط والسنابل والفول والطحن في رائيته حيث قال:
وطاف حولك ركب
…
من الكراكي غر
وراح ينفض عينيه
…
من بنى الأيك حر
فماج بالأيك عش
…
وقام في العش دير
وإنما جاء التجاني بالدير لأنه ذكر النواعير. عدل إليها عن السواقي من أجل جرس الراء كما قدمنا، وأيضً لأن ابن المعتز جعل رهبان دير «المطيرة ذات الظل والشجر» «نعارين بالسحر» والسواقي نعارات بالسحر، ينهض إليها الزراع قبل آذان الفجر:
وللراعي (ص 140):
شجتني رنة العصفو
…
ر في فجر الربى الساجي
وهو ربي التجاني:
يا درة حفها النيـ
…
ـل واحتواها البر
صحا الدجى وتغشا
…
ك في الأسرة فجر
وصحا بين الربى الغـ
…
ـر عبقري أغر
ثم يقول محمود حسن إسماعيل:
وعذب اللحن من شاد
…
رخيم الصوت صداح
فرنمت مع المزما
…
ر أغنيات أفراحي
نشيد الحقل والشاة
…
ولحن الروح والراح
ولا أرى للراح حسن موضع هنا.
وللضفادع (ص 188):
هاجها في الليل صمت غمرت
…
كل نفس فيه آلام الشجون
وضفاف غارقات في الكرى
…
حالمات بأسي الريف الحزين
فغدت تصرخ في جوف الدجى
…
صرخات هتكت ستر السكون
الغدو لا يكون من الدجى، ولكنه أراد معنى الصيرورة
يا ابنة الطين لقد مل الدجى
…
لغطا من فيك مجهول الرنين
ابنة الطين مأخوذة من «ابنة النور» التي للشابي على الأرجح
ونقيقًا أزعجت ضوضاؤه
…
أذن الكون وسمع النائمين
جاوبته في الدجى صافرة
…
من بنات البوم صاحت في الوكون
وللبوم قصيدة [ص 184]:
وشيخة عابسة في الضحى
…
غبراء تحكي سحنة الملحد
النور ضحاك على وجهها
…
ضاف بوهد الأرض والأنجد
لكنها عمياء في حالك
…
من غيها ممتقع أربد
وللفراشة وسماها راهبة الضحى (ص 212)
وراهبة في الضحى أوقدت
…
من الزهر مجمرة ذاكية
إذا فاح منها العبير الندى
…
وطوف في الأيكة الضاحية
وقد ذكر في قصيدة الضفادع العشب والقثاء والبطيخ وعباد الشمس وذكر الناعورة وثورها وسوط سائقه في «فم الريح» :
وكم ناعورة ناحت
…
على مستعبد فيها
أسير السوط كم ضجت
…
له يومًا أغانيها
وثغاة الشاة تهليل وتسبيح (ص 143). وقد بعثر النور وذوبه مرارًا ولم ينس من النيل دومه وسدره وزوارقه ونخيله، ولم ينس من الرومنسية وملاحها- يقول في خصلة شعر حسناء (147/ 148): -
يا غديرًا ذهبيًا
…
رق عن نفخ الأصائل
صفرت سلساله للصـ
…
ـب غيداء الأنامل
قد تهادى فيك مني
…
زورق الروح الحزينة
وبكى الملاح شجرا
…
هل تسمعت أنينه
غنوتي الحيرى لكم طا
…
رت هيامًا فوق موجك
ضلت الخلد فجاءت
…
ترتجيه بين لجك
كلما يممت شطا
…
منك لماح السمات
غامت الأجواء في عيـ
…
ـني وضاعت أمنياتي
ولعله أن يقال إن تذويب النور وسكبه وهدهدته وذكر الطير والأماني والتغني بالطبيعة جملة وتفصيلاً كل ذلك مادة مشاعة للشعراء رومنسيين وغير رومنسيين، وليس بعض الرومنسيين، إن خصصنا الرومنسية بهذه الرومنسية العربية الجديدة الواسع، ويقطف إن يك كنحلة من زهرها الكثير اليانع، وما شابه فيه التجاني يوسف بشير- على تقدير سبق التجاني له كما يزعم من يزعم ذلك مثلما نزعمه- فهو من توارد الخواطر على المعاني المشتركة المشاعة.
ليس غريبًا أن يتفق لهذين الشاعر بن المتعاصرين توارد الخواطر في نظمهما على ذكر سنبل النيل وفوله وسدره وسواقيه. هذه حجة بينة قاطعة.
ولكن ما رأي القارئ الكريم أصلحنا الله جل جلاله وإياه في قوله محمود حسن إسماعيل في قصيدة القرية الهاجعة في ظل القمر (ص 60)
لفها الليل فاستراحت من الأيـ
…
ـن على حضنه الرقيق الهني
وسدتها الأضواء من لمحها الضا
…
في وساد الطبيعة العبقري
كان ينبغي هنا نصب العبقري لأنها نعت (وساد) وهذه منصوبة ولا تصلح نعتا للطبيعة لأنها مؤنثة- وهل نجعل هذا من باب الإتباع؟ اللحن عند أظهر
وحبتها المهاد موجة نور
…
أشرقت في ترابها القرمزي
لمعات من جنة القمر الزا
…
هي وفيض من ثغره العسجدي
غرقت في جلاله الروح سكري
…
كم طلا جامه الوضيء السني
تنهل الحلم من رؤى تتجلى
…
هامسات بكل معنى خفي
رائعات الأطياف لماحة الومـ
…
ـض تهادي على مهاد رضي
نسجته يد الشقاء من العـ
…
ـش فراشًا لمستضام شقي
بائس شفه القنوع فأغفى
…
في حمى كوخه القنوع الأبي
صف الحظ عن حظائره السو
…
د إلى ساحة الركاب الغني
حضنته على الضنى قرية نا
…
مت على شط جدول ريفي
لاح فيه نخيلها خافض الرأ
…
س كطيف في خاطر الصوفي
وصغى السدر للسكون كرهبا
…
ن أصاخوا في معبد قدسي (1).
لفعته الأنوار من بردها السا
…
مي بثوب من السنا موشى
ورنا الدوم للشعاع كملهو
…
ف صبا إلى نهره الفضي (2).
(1) صغا كسما وسعى صغوًا أي مال.
(2)
هكذا في الديوان ويستقيم الوزن إن قلت «صبا نحو نهره» ولعله كذلك في أصله والله أعلم.
فاستطالت سيقانه تطلب النجـ
…
ـوى وتهفو إلى الوميض القصي
كعذاري سبحن في لجة النو
…
ر هيامًا بفيضه اللجي
وحسبنا هذا القدر من القصيدة ولا يخفي أن هذا البيت من قول شوقي:
كعذراى أخفين في الماء بضا
…
سابحات به وأبدين بضا
ومحمود حسن إسماعيل كثير الأخذ من شوقي، وقد كان شوقي رحمه الله كثير الأخذ كثير التوليد، وكم غيره منه كثير الأخذ والسرق قليل التوليد.
ومما يستطرد إليه في هذا الباب أن له قصيدة اسمها «العذراء الشهيدة» [ص 180] في غريقة مغلولة الساعدين سابحة بفتنتها المقتولة على أكفان الموج صاغها على وزن «هلا هلا» [مجنون ليلى لأحمد شوقي الفصل الثاني، أنشودة الحادي]: -
كأنها موجة
…
في صمتها تخفق
…
لحنًا بلا ناي
أنشودة اللجة
…
تقول يا جاني
هزأت بالموت
…
وأنت لا تدري
…
فصغت ألحاني
[وهلم جرا]
وقد افتن في القوافي بأكثر مما افتن شوقي ولكنه لم يبلغ حلاوة نغم شوقي هذا وإليك هذا الكلمة من نفس البحر والروي من شعر التجاني:
أملأ الروح من سنا قدسي
…
مبهم كالرؤى وديع رضى
قمري كأنما سكب البد
…
ر عليه من فيضه القمري
واغمر القلب في مفاض من الفجـ
…
ـر وضيء جم الندى عبقري
يثب الحلم حول مشرعه السا
…
جي ويجري من الضحى في أتي
كم تطل الرؤى به شارعات
…
في ينابيع من جلال ندى
يتلففن في جوانح بيضا
…
ء ويسحبن من رداء وضي
ويحومن سوما باسمات
…
يتخفنن من هموم العشى
«هموم العشى» هنا ليست صدى من Le Crépuscule du Soir ولكن تشير إلى قول النابغة «وصدر أراح الليل عازب همه» الأبيات المشهورة وذكر الكنهور في البيت التالي وفيه مذهب من الإشارة يشهد لصحة ما نذهب إليه ههنا.
ساحبات على الكنهور أصبا
…
غًا رقاقًا من واضح وخفي
ناسجات شفائف الأفق الزا
…
هي برودًا على الصباح السني
ذاب في الأفق رافقا فوق هام الـ
…
ـبيد يهمي على ثرى بدوي
يغسل النوم من مضاجع رعيا
…
ن الصحاري ومضرب القروي
عجب للجلال والحسن ماجا
…
في إطارين فاتر وقوي
ينسجان الهوى من الفجر بردًا
…
علويًا لشاعر علوي
صاح من روحه وكبر في أعـ
…
ـماق دنياه صارخًا كالصبي
أفهذا الجمال يا رب هذا السـ
…
ـحر من أجل ذلك الآدمي
هنا ذروة من ذرا التأمل الفكري- لله در المعري إذ يقول
والذي حارت البرية فيه
…
حيوان مستحدث من جماد
قصيدة التجاني أصفى ديباجة من قصيدة حسن إسماعيل وأجود تشبيهًا واستعارة وأكثر معاني. والقصيدتان من نفس البحر والروى، قصيدة محمود إسماعيل في الليل المقمر على القرية وقصيدة التجاني يوسف بشير في قرية تستيقظ من قرى النيل الضاربة حولها الصحراء بجران- هل رأي جبيل أم وعلى وسقادي؟ - لا بل هذه البقعة المباركة نفسها- أم درمان، يدلك على ذلك قوله «رعيان الصحارى ومضرب القروي» وكذلك كانت أم درمان ولا يزال كذلك قدر منها كبير. وذكر المؤذن حيث جعل الحسن والجلال يتحدان في لحن شاعر علوي (أو علوي) هو المؤذن «صاح من روحه وكبر إلخ» ومن عجب أن لمحمود حسن إسماعيل قصيدة في أغاني الكوخ اسمها شاعر الفجر المؤذن وقدم لها بقوله (ص 166):«في ذلك الصوت العميق الذي يهتف في صمت السحر من القباب والمآذن تتدفق روحية الشرق، ويهتز الجو بأشباح وطيوف شعرية هفافة» - لا يعجبني قوله «روحية الشرق» في معراض الحديث عن الأذان، ولو قال «روحية الإسلام أو الدين الحنيف» لكان أجود وذكر الشرق كأنه ينظر إلى الأمر من عين صليبية مستشرقة تضع الإسلام والبوذية والهندكية معًا في رفرف اسمه الشرق وعند الإسلام أن هؤلاء مه أهل الصليبية كلهن شرك- ثم يقول محمود حسن إسماعيل:
وشاعر في الفجر يسبى النهى
…
بسورة جلت عن المأثم
خياله من سدرة المنتهى
…
ولحنه من وتر الأنجم
فهذا كأنه ترجمة وشرح لقول التجاني «علويًا لشاعر علوي» ومع هذا فالتجاني أتم استيعابًا لوصف الأذان: (ماجا في إطارين فاتر وقوي) - أي نحو صياح المؤذن حي
على الصلاة في المرة الأولى بنغم واحد وفي المرة الثانية بنغم مختلف بعضهم يطيله ويموجه وبعضهم يقصره ويبتره- حي على الصلاة
…
ة- كما يعلم القارئ أصلحه الله من أداء المؤذن على ترنيمتين أيما وجه من وجوه أداء الأذان اتخذ، أمبالغًا في تحكيك الترنم وترجيعه أن غير محكك في ذلك ولا مبالغ. قول. التجاني «ساحبات على الكهنود» أي على السحاب في الفق وهي رائيه أبي الطيب (باد هواك صبرت أم لم تصبرا) حيث قال:
الشمس تشرق والسخاب كنهورًا
وقد سبق منا التنبيه على جري التجاني في هذا على مذهب له في الإشارة، مع أن كلمة التجاني اليائية هذه في الفجر تراه قد استهلها بفيض ضوء القمر، وهذا المعنى واللفظ أيضًا كلاهما في قول محمود حسن إسماعيل:
لمعات من وجنة القمر الزا
…
هي ومن فيض ثغره العسجدي
وكلمة فيض ههنا نهامة. ومكان «واغمر القلب» عنده- أي محمود حسن إسماعيل «غرقت في جلاله الروح» . وكأن قول التجاني «جم الندى» نتجت منه «من طلا جامه» و «الوضيء السني» كأنهما ترجمة وتفسير ومحاكاة «لجم الندى عبقري» وقول التجاني «يثب الحلم» يقابله عند محمود حسن إسماعيل «تنهل الحلم إلخ» وجاءت كلمة «الرؤى» في هذا البيت وهي في بيت التجاني الذي يلي «كم تظل الرؤى به شارعات إلخ» «ولفها الليل» التي في أول كلام محمود حسن إسماعيل هي في قول التجاني «يتلففن في جوانح بيضاء» وللقارئ بعد هذا أن يتتبع الأبيات ويوازن بين ألفاظها ومعانيها فإنه واجد من شدة التشابه عجبًا. فلا بد من القول بأن أحد الشاعرين أغار على الآخر. ولقد مات التجاني وهو ابن خمس وعشرين وديوانه الذي خطه بيده يقرأ عند من أودع عنده في مدينة القاهرة وبعض شعر التجاني قد كان صدر في الفجر شيء منه قبل صدور الطبعة الأولى من أغاني الكوخ، فالأمر يحتاج إلى تدبر ونظر- والله تعالى أعلم. لا يخفى أن كلام التجاني أصيل من عند نفسه ليس بتلفيقي. ومع ما يظهر من زيادة محمود حسن إسماعيل على التجاني في التفاصيل نزعم أن المتأمل ربما وجد أن التجاني أكثر استيعابًا لمناظر القرية. الصبي- تلميذ الخلوة ودواته وأثوابه- غسل النوم ودغدغة العينين أول الاستيقاظ عند الصباح. ثم أخذ الصور البيانية من حياة القرية المسلمة- الدير مأخوذ من كلام ابن المعتز.
إنما وقفنا هذه الوقفة عندما ترى ترجيحه من تلفيقة محمود حسن إسماعيل وتعمده معاني التجاني وتفصيله لها لأن محمود حسن إسماعيل قد أوشك أن يكون مكانه في
الشعر المعاصر مغمورًا مجهولاً بين الكثرة الكاثرة من السماء هذا مع أنه رحمه الله من عصر غير بعيد من زمان أبولو، ومن أدباء مصر وشعرائها ومصر بلا ريب هي مركز العربية، علومها وآدابها من شعر ونثر. ولعل من أسباب هذا الذي ضرب على اسمه من الخمول أنع قد أغير على شعره إغارة أكبر وأشد مما أغاره هو- إن كان حقًا قد أغاره- على شعر التجاني. وإذن فعلى النقد أن يتتبع بالدرس معاني هذا الشاعر الكادح وألفاظه المثقلة بالاستعارات والأخيلة البعيدة المتصيد والتفاصيل الدقيقة في نعت الريف وغيره من أحوال الحياة في بيئته الحقيقية والمتوهمة وما أشك أنه رحمه الله لو كان أنصع ديباجة وأقل عناء عمل لكان يجد من الاهتمام به قريبًا مما وجد غيره كعلى محمود طه وأبي شادي مثلاً. أتى محمود حسن إسماعيل رحمه الله، فيما أحسب، من جهة شعوره بمكان «الفقير الضائع» الذي بين جنبي نفسه ذات الشعر والحظ من العربية، فضمن ذلك من ضروب التلفيق ما زاد فقيره الضائع ضيعة. وهذا بعد لا ينقص من أهميته في باب الدرس الذي نحن بصدده، وقد سبقت الإشارة إلى رأي الجاحظ أن السرقة للشعراء ديدن. وزعم الأصمعي أن تسعة أعشار الفرزدق سرقة، وقال المرزباني إن هذا تحامل منه شديد، فنعوذ بالله من خطل القول ومن فرط زلات القلم.
ومما يحسن التنبيه عليه في نطاق ما كنا فيه من الحديث عن التجاني أنه واضح صدق الانفعال وحرارة الوجدان إذا وصف الريف والقرية، فإذا أخذ في وصف الخرطوم نفسها على ما كان يفتنه من بهرج فيها خالط حرارته فتور، بالرغم من تخيره للفظ الحلو وتجويده للنغم:
مدينة كالزهرة المونقة
…
تنفح بالطيب على قطرها
ضفافها السحرية المورقة
…
يخفق قلب النيل في صدرها
تحسبها أغنية مطرقة
…
نغمها الحسن على نهرها
مبهمة الحانها مطلقة
…
رجعها الصيدح من طيرها
وشمسها الخمرية المشرقة
…
تفرغ كأس الضوء من بدرها
البيت الثاني وحده هو الذي فيه نبأة من روح، وذلك لأنه جرد النيل وضفتيه من المدينة الأجنبية التي دونهما. النيب وخضرته ذلك من صميم طبيعة الريف الذي نشأ فيه وملأ جمال فجرها قلبه
فهو دفق من عالم كله قلـ
…
ـب خفوق ولوعة خفاقة
ظل يهفو إلى السماء ويشكو
…
لوعة الروح ههنا واحتراقه
كلمة محمود حسن إسماعيل التي ذكرنا أن لها لونا بودليريا (نسبة إلى الشاعر الفرنسي الغامض بودلير 1821 - 1867 م Baudelaire) في عنوانها وهي أحزان الغروب (ص 152) ما كاد يترك فيها من الريف شيئًا، الثور والساقية والنيل
تحكي سفائنه في الليل سائرة
…
عرائس الحلم في مهد الرعابيب
القافية قلقة وأحسب أن بعض سبب ذلك كونها صفة لم تعتمد على موصوف قبلها. والشفق الباكي ودخان الكوخ وكدح الفلاح.
طعامه لقمة عفراء يابسة
…
والماء من أكدر في النز مربوب
ومهده لا تسل إن لفه وسن
…
عش الهوام ومهد للعناكيب
ثم ضجة الضفدع وإنشاد الرعاة والحداء، والبومة في وحشة الليل والجندب الذي يصر في النخاريب (أي شقوق البيوت كما فسرها ولذلك وجه وأصل النخاريب فتحات شمع الشهدة وفي القاموس النخروب بوزن فعلول بضم أوله الشق في الحجر فشبه الشاعر شقوق الجدار بذلك) -
ثم النوم ذو الأحلام- الصحو إلى الشقاء- صوت الساقية:
يا نغمة في المسا طارت مولهة
…
حيرى تدفق من نأى الدواليب
كأنها خفقة من قلب محتضر
…
يشدو بها العمر في لهف وتكريب
ماذا شجاك فرتلت الأسى نغمًا
…
ورحت نواحة بين المطاريب
النور حين ذوي في الحقل ناضره
…
ولملم الضوء في تلك المحاريب
ونام في حضن زنجي قد اتشحت
…
متونه بدجى كالهم غريب
محمود حسن إسماعيل مجتهد معتمل. ولكنه قلما يتنبه لملاءمة التشبيه حقا لموضوع الوصف أو المعنى الموصوف، كجعله صفرة نوار القطن ذبولاً، وكوصفه جنازة البنت الطافية بالفتنة وجنائز الغرق يضرب بها المثل في سماجة المنظر، وكتشبيه صوت الساقية بغرغرة المحتضر وسياقه ولو قد لزم التشبيه بالناي لكان ذلك أصوب وأدق من القيثارة، وتهدد صوت الساقية وتهزمه أشبه بالناي في الشجو وجمال الإيقاع منه بالسياق والغرغرة وما فيه من قوة الحيوية يصل إلى أعماق القلوب. وكجعله الليل- الذي هو في البديع زنجي أو زنجية- ضجيعًا للنور مثل زنجي الف ليلة وليلة الضخم المشافر ومعشوقته البيضاء التي خانت أميرها وحولت نصفه الأسفل حجرًا بسحرها- أم كل هذا نفس بودليري كتشبيه تساقط أوراق الخريف بإعداد ألواح صندوق جنازة
الإعدام؟ هذه الكلمة البائية المجارية في الوزن والقافية «من الجآذر في زي الأعاريب» على تعسف أسلوبها مادة لكثير مما نقرأ اليوم من إنتاج الشعراء- من أجل ذلك ما لزم التنبيه على مكان هذا الشاعر الرومنسي التلفيقي الكدود المفقود.
كثير من الشعراء الذين أخذوا من بعد هذه الأضرب التي ذكرناها بسبيل مزيد من التجديد إن هم في الحقيقة إلا فرع منها. مثلاً البياتي إن هو في كثير من أخيلة والبيان إلا امتداد للرومنسية الثالثة داخله من الرومنسية الثانية المسيحية مثلا:
الصحف الصفراء
توزع الألقاب
تلثم أيدي القاتلين
تمسح الأعتاب
تمنح أشباه الرجال العور والأذناب
صكوك غفران بلا حساب
…
إلخ
وما لنا نحن المسلمين ولصكوك غفران بلا حساب
ومثلا:
الشمس والفارس فوق المدخنة
ينازل اللصوص والمشوهين
بالحروف المزمنة
يذرع صيف الأزمنة
يثأر للحقيقة الممتهنة
يحمل في ضلوعه صليبه ووطنه.
وما صلة الحروف المؤمنة والوطن المسلم بحمل الصليب؟
وأي شيء تكون دلالة «يحمل صليبه» عند قارئ مسلم لم يتنصر فكره بعد؟
وهل وصف التعبير المجازي عند أهل ملته أن يحمل الصليب على الضلوع أو على الظهر والكتف؟
مثلا قصيدة انتظار من الأباريق المهشمة.
صلى لأجلي-
هذه عبارة مترجمة من Pray for me وهي إنجليزية والعربية تقول ادع لي وصل على، إلا أنك لوقلت «صل على» جعلت نفسك جنازة تنتظر التكبيرات الأربع، لعل هذا هو
الذي جعل الشاعر يفر إلى Pray for me
«صلي لأجلي
عبر أسوار
وطني الحزين الجائع العاري»
ولك أن تكتب هذا البيت كما ينبغي أن يكتب، هكذا:
صلى لأجلي عبر أسوار
…
وطني الحزين الجاري العاري
وعلى رصيف المرفأ انتظري
…
يا كوكبي وحديث سماري
قلبي مياه البحر تحمله
…
تفاحة حمرا كتذكار
وعبير آذار
…
ورفاق أسفار
يتلمسون طريق عودتهم
…
ورسائلي وأبي وأزهاري
وكلبنا الضاري
…
يعوي وعينا شيخ حارتنا
…
مصلوبتان على لظى النار
وشجيرة الليمون يسرقها
…
مهما تعالت صبية الجار
وكقبرات الصبح هائمة
…
والموت والثار
…
ستطل أفكاري
وتعلو عبر أسوار
وطني الحزين الجائع العاري
…
وأنا وأطماري
…
في غربة الدار
وحدي بلا حب وتذكار
وزن هذه الرائية من الكامل الأحذ المضمر وجزئ منه إنما جيء به بنوع من دعوى التنويع التجديدي. تلفيق كأنه ملائم لتلفيق ما بين النصرانية والأوربية والإسلام في «مصلوبتان على لظى النار» ومن قبل ما مرت بنا «صلى لأجلي» وقوله: «وصكوك غفران بلا حساب» - «بلا حساب» فيها نفس إسلامي.
ونهج هذه الرائية رومنسي محض ينظر إلى مذهب محمود حسن إسماعيل إن لا إليه مباشرة، نظرًا شديدًا.
يدر شاكر السياب رومنسي تشهد لرومنسيته أنشودة المطر:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأي عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجع المجذاف وهنا ساعة السحر
كأنما تنبض في غورهما النجوم
يوشك الشاعر أن يكون قد أخلى من عند قوله: «يرجه المجذاف» ، وفي الكلمة طول والأصل رومنسي والافتنان في الوزن فرع من التوشيحات التي دعت إليها أبولو.
ومحمد مفتاح الفيتوري شاعر رومنسي عربي، أقرب إلى الضرب الرابع وداخله ما داخل أصناف التجديد المعاصر من الروح المسيحي أحيانا. وقد أشرب شعره قضية اضطهاد الزنوج الذي في أمريكا وجنوب أفريقيا وغيرهما وهذا من صميم روح الرومنسية:
كإفريقيا في ظلام العصور
عجوز ملفعة بالبخور
وحفرة نار عظيمة
لعل الفيتوري أخذ هذا من صفة الدخان التي مر وصفها في شعر محمد المهدي مجذوب وجاء بعده بما يشعر بأن هذا ليس مراده- ولكن السحر:
ومنقار بومة
وقرن بهيمة
وتعويذة من صلاة قديمة
وليل كثير المرايا
ورقصة سود عرايا
يغنون في فرح أسود
وغيبوبة من خطايا
الفيتوري ممتلك لناصية النغم جيد عبارات البيان سليم متن اللغة، ولكن أكثر هذا من تجربة الأفلام
وسفن معبأة بالجواري
وبالمسك والعاج والزعفران
هدايا بلا مهرجان
المسك هنا مسك التمساح لا الذي هو «بعض دم الغزال» بدليل ذكر العاج، و «الزعفران» مع حسن انسيابها مع ما تقدم قافية جليبة لأن تجار الرقيق الذين كانوا بنيل القرن الماضي كانوا إنما يجلبون المسك والعاج وقرن الخرتيت مع الرقيق.
كبدر شاكر السياب والبياتي وآخرين ركب الفيتوري في مركبة تجديد التفعيلة وخلط
رومنسيته بألوان من أقوال الواقعية وغضب اليسار السياسي. وللفيتوري إيقاع مطبوع وحذق في تنويع التفعيلات ولكن عمود الوزن المعروف المألوف مركز له يفرع عنه ويدور حوله وربما لزمه وأظهر توزيعًا للبيت على أسطار على نحو نجد مثله عند البياتي وعند نزار قباني- مثلاً
كان ليل وكان صبح
وكانت قصة آدمية محتومة
قصة تعرفينها
…
فلقد مثلت أدوارها معي يا أثيمة
ومضينا أنا وأنت
فقد تمت فصول الرواية المرسومة إلخ
فهذا بحر الخفيف، وزع الشاعر بيته على مواقف اختارها جعل لكل موقف منها سطرًا، وينبغي أن يلتزم في كتابة الشعر ما يعين على بيان إيقاعه، على النحو المألوف:
كان ليل وكان صبح وكانت
…
قصة آدمية محتومة
قصة تعرفينها فلقد مثـ
…
ـلت أدوارها معي يا أثيمة
ومضينا أنا وأنت فقج تمـ
…
ـمت فصول الرواية المرسومة
ومضينا كل إلى حين يبني
…
من جديد أيامه المهدومة
وأقرأ الأفعى (ديوانه، المجلد الأول 95) فهي من بحر المجتث والشك (101) فهي من السريع ولقاء (98) فهي من المتقارب والضعف (127) من الرجز القصير وبعض هؤلاء وزعت أبياته على أصناف كل منهن في سطلا وما بذلك كبير بأس.
ورومنسية «نازك الملائكة» من ضرب الرومنسية الثالثة، وقد يذكر أنها سابقة إلى تحرير الوزن من قيود أعاريض الخليل وقوافيه، وأوائل هذا النوع من التجديد في عصرنا هذا يجب أن ترد إلى مسرحيات شوقي وقد مرت الإشارة إلى أصحاب الديوان وإلى محمد فريد أبي حديد رحمه الله وكانت لديباجته مسحة رونق وفي كتاب الباقلاني ما يدل على أن ترك القافية والافتنان في مخالفة مألوف الأوزان أمر قديم، وشيء من هذا المعني في «الصاهل والشاحج» للمعري وأعداد أوزان الموشحات تكاد تحصى.
وفي نفس شعر نازك الملائكة تلفيق من الأشياء المخيفة وأوصاف الطبيعة- شيء من «كولردج» وشيء من «وردزورث» وإضافات أخريات- من حسناء كيتس من إدعار ألان بو وهلم جرا:
«وعدوي المخيف
مقلتاه تمج الخريف
فوق روح تريد الربيع»
خريف العراق قد وصفع أبو عبادة حيث قال:
لاحت تباشير الخريف وأعرضت
…
قطع الغمام وشارفت أن تهطلا
فترو من شعبان إن وراءه
…
شهرا يمانعنا الرحيق السلسلا
خريف نازك أوربي لا صلة له بخريف العراق. خريف من قراءة الرومنسيين:
ذلك الأفعوان الفظيع
ذلك الغول أي انعتاق
من ظلل يديه على جبهتي الباردة
أين أنجو وأهدابه الحاقدة
في طريقي تصب غدًا ميتًا لا يطاق
أين أمشي .......... »
ومن قبل هذا: -
« ....... وعدوي الخفي العنيد
صامد كجبال الجليد
في الشمال البعيد
صامد كصمود النجوم»
ويجئ من بعد:
«أسمع الصوت
سيري فهذا طريق عميق
يتخطى حدود المكان
لن تعي فيه صوتًا لغمغمة الأفعوان
إنه لا برنث سحيق»
هذا من أساطير يونان من طريق الأدب الإنجليزي أو غيره ومن بعد: -
«إنه جاء .... يا لضياع رجاء المسير
في دجى اللابرنث الضرير
وأحس اليد الماردة
تضغط البرد والرعب فوق هدوئي الغرير
بأصابعها الجامدة
إنه جاء .... فيم المسير
سأودع حلمي القصير
وأعود بجتثته الباردة»
القطعة طويلة بعنوان «الأفعوان» وهو كالرمز (1):
«أين أمشي مللت الدروب
وسئمت المروج»
الدروب واقع والمروج خيال رومنسي وفي القطعة تلفيق للأخيلة والصور. وهذا البرد والضباب، كل ذلك أوربي السنخ. فيه بدليرية: اقرأ مثلا (2)
CHANT D'Automne
Bientot nous plongerons dans les froides tetebers،
Adieu، vive claret de nos etes drop courts!
J'entends deja tomber avec des chocs funebres
Le bois rentissant sur le pave des cours
Tout I'hiver va rentrer dans mon etre: colere،
Haine، frissons، horreur، labeur dur et force،
Et comme le soleil dans son enfer polaire،
Mon Coeur me sera plus qu'un bloc rouge at glace.
J'ecoute en fremissant chaque buaque buche qui tombw;
Le'echafaud quon batit na pas d'echo plus sourd.
Mon esprit est pareil a la tour qui succombe
Sous les coups du belier infatigable et loued.
Il me semble، berce par ce choc monotone،
Qu'on cloue en grande hate un cercueil quelque part.
Pour qui? - C'etait hier I'ete voice l'automne!
Ce bruit mysterieux sonne comme un depart.
هذا الجزء الأول من «نشيد الخريف» ترجمته لو كان الشعر يترجم وإنما يقرب حين نرومه أن يعرب:
عما قليل سنلقي بأنفسنا في الظلمات الباردة
(1) انظر قصيدة Serpent Quit Danse في أزهار الشر فههنا عنها تلفيق.
(2)
أزهار الشر Les Fleurs Mal لبودلير طبعة 1972 س 193.
وداعًا أيها الإشراق الحي من صيفنا الشديد القصر
هأنذا أسمع السقوط ذات الصوت الجنائزي
من ألواح الخشب المرتجة على بلاط الحوش
الشتاء كل الشتاء سيدخل في كينونتي؛ المرارة
البغضاء، الرجفة، الرعب، المشقة والإكراه
ومثل الشمس في جحيمها القطبي
سيكون قلبي ما هو إلا كتلة حمراء من جليد
أسمع كل خشبة إ تسقط بارتعاد
الأعواد التي تنصب للإعدام ليس صداها بأصم من ذلك
روحي مثل صومعة تنهار
تحت دقات دكاكة ثقيلة دائبة بلا لغوب
كأنما أنا على مهد يهدهدني هذا الدور الرتيب
ومسمار يدق على عجل في صندوق جنازة بمكان ما
من أجل من؟ الصيف كان أمس- جاء الشتاء.
هذا الدور الغامض مؤذن بفراق.
هذا الجزء الأول من قصيدة غرامية الموضوع بدليرية السماحة- رحم الله أبا تمام حيث ثال:
سماجة غنيت منا العيون بها
…
عن كل حسن بدا أو منظر عجب
كأنما قد نظر بعين الكشف والغيب وضرب من أجزاء النبوة الحدسية إلى هذا الإغراب ثم يقول بودلير في الجزء الثاني من القصيدة
J'aime de vos longs yeux le lumiere verdatre
Douce beaute، mais tout aujourd hui m'est amer،
Etrien ni votre amour، ni le boudoir، ni l'atre،
Ne me vaut le soleil rayonnant sur la mer.
Et pourtant aimez،- moi، tender coeut! Soyez mere،
Meme pour un ingrate، meme pour un mechant;
Amante ou soeur، soyez la douceur ephemere
D'un glorieux automme ou d'un soleil couchant
Courte tache! La tombe attend; elle est avide!
Ah! Laissez-moi، mon front pose sur vos genoux،
Gouter، en regettant l'ete blanc et torride،
De l'arriere-saison le rayon jaune et doux!
أحب من عينيك الطويلتي الأهداف ضوءهما المخضر
أيها الجمال الحلو الذي صار اليوم قد أمر
لا حبك ولا الفراش ولا الصلاء، لا شيء من هؤلاء
على أية حال كوني بقلبك الرقيق كأم حنون
على هذا الولد العاق على هذا الخبيث الملعون
كوني لي خليلة أو أختا مثل بقية الحلاوة الزائلة عما قليل
من فصل الخريف الجيد أو شمس الأصيل
أيها المسعى القصير الأمد القبر وهو نهم ينتظرك منذ حين
أوه، دعيني على ركبتك هذا الجبين
ذوقي بعد الأسف على فوت الصيف ذي النصوع والحر
من الفصل الأخير شعاعه الحلو الأصفر
ما قدمه بودلير من معان قاتمة في الجزء الأول لم يعد فيها بساطة قول من شبه الفراق بالموت- قال أبو الطيب
بقائي شاء ليس هم ارتحالا
…
وحسن الصبر زموا لا الجمالا
وما أسرف فيه من ذكر صندوق الجنائز والمسامير وسقوط ألواح الخشب وأعواد منصة الإعدام كل ذلك ظلام مشئوم وكدح لاغب.
ويشفع له بعد هذا الجزء الثاني على بعد التصيد في طريقة الربط.
وأحسب أن نزار قباني في قوله:
لا تسأليني هل أحبهما
…
عيناك إني منهما لهما
وجميع أخباري مصورة
…
يومًا فيومًا في اخضرارهما
وستارتان إذا تحركتا
…
أبصرت وجه الله خلفهما
كوخان عند البحر هل سنة
…
إلا قضيت عندهما
الشمس منذ رحلت مطفأة
…
والأرض غير الأرض بعدهما
نظر نظرًا شديدًا بل أخذ وسرق من هذا الجزء الثاني من نشيد خريف بودلير
قلنا في أخريات الجزء الثالث من المرشد بمعرض الحديث عن هذه الأبيات إن فيها أصلاً جاهليًا يمكن رد بعضه إلى متجردة زياد- ثم أضفنا: [ص 1275 طبعة 1970 م]:
» ثم إن صورة العينين واضحة حية والإيحاء المنبعث منهما قوي- قوي في هذه الخضرة الشاملة ذات العمق التي كالبحر، وفي هذا الإشراق البهج الدافئ، كالمأوى عند البحر حين تهب الرياح، أو كالرمل عند البحر، أو كالبحر نفسه حين يفيض ضوء الشمس، وفي هذا السجو الأهداب، وأحسب أن هذا الوضوح مع ما حوله وما ينبعث منه من إيحاء، مزيج من الاشتهاء واللوعة، يغفر لهذه الأبيات بعض ركاكتها وأوزارها. وريب أن هذا الوضوح فيه رجعة إلى المذهب الجاهلي كما ترى.
وعسى هذا ونحوه من نزار وغيره من المعاصرين، أن يكون بادرة نهضة، كما كان العثور بالصبايا الثلاث والحذو عليهن بادرة النهضة في الفن الأوربي والله تعالى أعلم وبه التوفيق. ا. هـ.».
فيضاف إلى هذا أن معنى فتنة العينين وحرهما قديم، قال غيلان
وعينان قال الله كونا فكانتا
…
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
وتسمية العين عينا فيه معنى الماء والعمق. وقالوا في تفسير: «قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين» أن أحد الزنادقة قال تأتينا به المعاول والفئوس فأصلح لزندقته أعمى قد ذهب ماء عينيه.
مع هذا قلما نجد شعراء العرب القدماء يشبهون العين بالبحر أو يذكرون عمقًا في ذلك أو سباحة، كأن قد اكتفوا بأن ذلك مضمن في قولهم عين ومحاجر العين كما يقولون عين الماء وحجرة البحر فنزار قباني، في الرجعة الجاهلية التي رجع به إليها، إنما أصال ذلك من طريق محاكاته لبودلير. قوله:«عيناك إني منهما لهما» تعبير صحفي لا طائل وراءه وهو ما أشرنا إليه من قبل من معنى الركاكة. وقوله: «يومًا فيومًا في اخضرارهما» فهذا قول بودلير: «أحب من عينيك الطويلتين نورهما المخضر» عني بالطويلتين طول أهدابهما ولو قلنا من «عينيك السلهبتين» كان أجود في الترجمة ولكن
هذا غريب والترجمة نثر وابن الأثير أجاز الغريب في الشهر النثر. وقوله «وجميع أخباري مصورة» يؤكد ما زعمناه من صحيفة التعبير إذ الصحف صناعتها نقل الأخبار. وقوله: «وستارتان إذا تحركتا» مأخوذ من طول العينين أي طول أهدابهما الذي ذكره بودلير وإنما هي أمثال هذه العبارات التي تبين لنا الأخذ ومواضعه. و» تحركتا» ترشيح لقوله «وستارتان» ولكنه غير مناسب لصفة العينين والهدب المغدف- ذكرنا المغدف هما نشير به إلى قوة عنترة:
إن تغدفي دوني القناع فإنني
…
طب بأخذ الفارس المستلئم
وما ذكر عنترة إغداف القناع إلا وهو مشربه ظلالاً من إغداف العينين أهدابهما. وقال امرؤ القيس:
.. كمرآة الصناع تديرها
…
لمحجرها من النصيف المنقب
في قوله «تحركتا» ثقل وأنفاس صحفية. وقوله «أبصرت وجهه الله» فيه نظر- عبارة البخاري حين يرتاب، وقوله:«خلفهما» آبدة فإن وجه الله سبحانه وتعالى، على معنى سلفي أو أشعري أو صوفي أو حتى على مذهب من وحدة الوجود، أو على محض التوسع في التعبير والمجاز، لا يمكن أن يوصف «بخلف كذا أو كذا» وإن يكن ذلك عيني فينوس نفسها التي زعم لها كفارهم أنها ربة. لو قال فيهما لشعر على ما في ذلك من نظر، ولكن القافية لم توات. وقوله:
كوخان عند البحر هل سنة
…
إ قضيت الصيف عندهما
فهذا بودليري من بودلير مأخوذًا أخذًا، بحره وصيفه وقضاء الصيف عنده ألا يقول بودلير ما عسى معناه:«بعد الأسف على فوت الصيف ذي الجفء والنصوع؟ » وقوله: «كوخان» ليس بمليح. وهل ألمعت به «كورت تاش» «Courte tache» برنة نطثفها المقاربة لـ» كوخ» ثم معناها ليس عن معنى الكوخ ببعيد إذ الكوخ واجب قصير، كدح قصير، فسر المعجم «تاش» بأنها العمل المعين الذي يلزم أداؤه، وما أراد بودلير إلا أن هذه الحياة واجب قصير وفي هذا التعبير غرابة وبراعة إذ الواجب يراد قصره والحياة يراد طولها ولكن المعري يقول:
تعب هذه الحياة فما أعـ
…
ـجب إلا من راغب في ازدياد
ويقول أبو الطيب
وإذا الشيخ قال أف فما مل
…
حياة وإنما الضعف ملا
وقد أخذنا على الشاعر من قبل جعله العينين كوخين وأراد كما لا يخفى معنى الخصوصية ولكنها خصوصية من نوع سياحي قصير الأمد، عينا الجميلة ولو لمحة أبد طويل ولله در كيتس إذ يقول:
A thing of beauty is a joy for ever
» الشيء الجميل سرور خالد أبدًا» = هذا تقريب وتعريب لمعنى ما قاله:
ولكن شدة تقصي نزاع لاتباع معاني بودلير ألجأه إلى جعل عيني جميلته شيئًا صحفيًا خبريًا عابريًا يكون مع عطلة الصيف كبعض هذه الأكواخ التي تستأجر لتكون سترة رحلة متعة محدودة الأمد. وقوله: «الشمس منذ رحلت مطفأة» مأخوذ من موضعين من كلمة بودلير- من موضع ذكر الوداع في الجزء الأول في آخره ومن موضع ذكر الشمس افلة في الأربعة الثانية من الجزء الثاني في آخرها- «والأرض غير الأرض» من سورة إبراهيم، من آخرها.
أزال نزار العبوس اللاغب البودليري وبدله صحافة تتجمل بالمبالغة «إني منهما لهما» وروم الاقتباس «والأرض غير الأرض» - وانطفاء الشمس وتبديل الأورض غير الأرض، ذلك قيام الساعة والفزع الأكبر ولا يناسب موضوع الفراق أو الوداع الذي للغرام- فرط المبالغة في هذا الباب ليس بمليح، وإنما تكون معه الرقة هي المعنى المليح، قال البحتري رحمه الله:
دنت عند الوداع لوشك بين
…
دنو الشمس تجنح للأصيل
وصدت لا الوصال لها بقصد
…
ولا الإسعاف منها بالمخيل
وذكرنيك والذكرى عناء
…
مشابه فيك بينة الشكول
نسيم الروض في ريح شمال
…
وصوب المزن في راح شمول
أين هذا الضرب من الذكرى من ذلك الذي يقرن شاعرة تساقط أوراق خريفه بخشبات تتساقط ليسمرها نجار صناديق جنائز الإعدام
عذيري من عذول فيك يلحى
…
على ألا عذير من عذول
ثم ماذا؟ كما كان يقول الدكتور زكي مبارك رحمه الله الرحمة الواسعة.
ثم بعد هذا الجند الغريب اجتاحت القصيدة العربية غارة هولاكو وكما دخل التتار. ليس لنا ولا لغيرنا أن ينكر التجديد فإنه من سنن التطور والرغبة في التغيير من ظواهر الحياة وبواطنها ومكملاتها وشواهد كينونتها ووجودها. ومن التجديد صادف ومنه إفك وافتراء. والإفك والافتراء زبد يذهب جفاء. والصدق وكل ما هو صادق يبقى وينتفع به قال تعالى: {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [سورة الرعد].
ومما يختبر به الافتراء أن المجيء بأمثاله سهل، وما ليس بافتراء تعسر محاكاته بما يكون مثله.
ضروب التجديد التي نراها الآن أكثرها غثاء وزبد جفاء. مما يدل على أنها افتراء كثرة امتلاء الطروس والصحف السيارة بأمثالها، ثم خروجها كل الخروج عن عرف اللغة الفصيحة وهي لغة ميراث لا يجوز التلاعب به ولا التفريط فيه إذ ذلك يفسد الطريق إلى معرفة أسراره وفهمه- هي لغة القرآن، وعن عرف اللغة الدارجة، وهذا دليل فساد حجة من يدعي أن هذه الضروب التجديدية تطور وانعكاس لحال البيئة وبيان عنها. ذلك بأن طبقات الناس في المدن والبوادي في جميع أقطار العربية تتغنى في أعراسها وأفراحها ومناحاتها ومواكبها بين الفلاحين والجنود والعمال والطلبة، وفي احتفالات سمرها وابتهاجًا ذوات الصبغة الخاصة أو العامة، في جميع ذلك تتغنى بالكلام الموزون المقفى بحسب ما عليه طريقة الوزن والتقفية في الكلام الدارج، فلماذا إذن هذا التعدي على اللسان الفصيح؟ لم يكن حافظ وشوقي وجيلهما جيل تقليدين، كان جيل التقليديين جيل من نظموا في ضروب أصناف الشعر نظم علماء من غير انفعال ولا تجويد إيقاع. وكان بعض مرد ذلك إلى ضعف التحصيل وانشغال أكثر أهل العلم بمتون الفقه، حتى إن المعلقات السبع والعشر نفسها كانت تقرأ وتنسخ على أنها متون، لا على أنها من الشعر عيون.
وقد اقتدى عصر كامل بجيب شوقي وحافظ وكان كل أولئك أخل تجديد، إلا أنه كان يخالطه عنصر الإعذار والاعتذار إلى الغرب، المنبعثين عن إقرار بتفوق حضارته، فكان التجديد مع صدوره عن رغبة صادقة وعن حسن نية آخذًا بسبيل أدت آخر الأمر إلى تيهاء وخراب وضياع.
كانت حركة الديوان وأكثر الحركة الرومنطيكية أو الرومنسية محاولة زيادة في التجديد مشتملة على اتهام الجيل شوقي بالتقليد- ولم يكن الحسد الخفي لشوقي عن ذلك بالأمر البعيد- والله تعالى أعلم؛ .
تداخلت عناصر التجديد والثورة والصراع المذهبي «الأيديولوجي» ، بعد الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945 م) وبعد سنوات الخمسين من هذا القرن الميلادي العشرين.
ظل البارودي رحمه الله هو فارس القصيدة العربية الأصيلة حقًا، مشرفًا بأصالتها وجزالتها وقوة أسرها وصفاء ديباجتها على جميع ضروب التجديد وجنده الدخيل.
ولكن بلاد العربية لم تخل في الجزيرة العربية ولا في العراق ولا الشام ولا مصر ولا المغرب كله إ بلاد شنقيط ولا في بلاد سنار والسودان العربية كلا ولا في سائر بلاد الإسلام من أنفاس فحولة ومحافظة على الجزالة وإتقان. إليك مثلا شعر الشاعر النجدي محمد بن عثيمين رحمه الله (1270 - 1363 هـ) وفيه من الجزالة وجودة الديباجة ورنين القصيدة القديمة أنفاس جيدات. قال رحمه الله:
نعم هذه أطلال سلمي فسلم
…
وأرخ بها سيل الشئون وأسجم
أقول لصحبي والمراسيل ترتمي
…
بنا سهما ترمي الفيافي يسهم
كان هذا قبل السيارات والطائرات، على أن هذه ربما وجدت هي أيضًا سهمًا ترمي الفيافي بسهم- وطريقة تجنيسات أبي تمام كما ترى أيها القارئ الكريم:
ألا عوجة منكم على الربع ربما
…
شفيت الذي بي أو قضيت تلومي
فهذا نحو من قول غيلان: «خليلي عوجًا من صدور الرواحل»
فعاجوا فغطت ناظرة العين عبرة
…
فلم أتبين شاخصًا من مهدم
أجدكما أن لا أمر بمنزل
…
لمية إلا أمزج الدمع بالدم
ولا أستبين البرق يفرى وميضه
…
جلابيب مسدول من الجنح مظلم
و» جلابيب» هاهنا من قول حبيب:
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت
…
عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
وقوله: «إلا أمزج بالدمع» من مبالغات الشعر المعروفة المألوفة ولم يخل من أخذ الرنة واللفظ من البوصيري رحمه الله:
أمن تذكر جيران بذي سلم
…
مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
واسم مية فيه ظلال غيلان بلا ريب .. قوله: «فلم أتبين شاخصًا من مهدم»
حذاه على نهج أبي الطيب:
وأجياد غزلان كجيدك زرنني
…
فلم أتبين عاطلاً من مطوق
يجوز أن يكون أرد معنى العفة وغض الصر ويجوز أن يكون أراد أنه بهره الجمال حتى حار فلم يتبين عاطلاً من مطوق. وأحسب أن ابن عثيمين لو قال: «لم أتبين قائمًا من مهدم» كان أجود- «جدارًا يريد أن ينقض فأقامه الآية» - ولا بأس بما قال:
وكقوله رحمه الله في قصيدة قافية تفتري بحر غيلان ورويه في كلمته: «أدارًا بحزوى إلخ» : -
أرقت لبرق ناصب يتألق
…
إذا ماهفا ظليت بالدمع أشرق
ظليت أي ظللت وهي عربية فصيحة ويقال ظلت وظلت بكسر الظاء وبفتحها أيضًا وأحسب أن الشاعر فر إلى الياء ليتجنب زحاف القبض في ثاني أجزاء العجز ولو أقدم عليه ما ضره
إذا فاض لم آملك سوابق عبرة
…
تحم لها الأحشاء والقلب يخفق
أمد له طرفي ومن دون ومضه
…
خبوت وأحقاف وبيداء سملق
ومجهلة للجن في عرصاتها
…
عزيف يراع الذئب منه ويفرق
ها هنا روح من غيلان وهو القائل «للجن بالليل في حافاتها زجل البيت» ، وكقوله:
تسمع في تيهائه الأفلال
…
فنين من لهاله الأغوال
ولا عجب أن يتبع عثيمين رحمه الله نهج غيلان رحمه الله ففي ترجمته التي في صدر ديوانه أنه ولد بالخرج وفي الخرج قول غيلان يصف مية في بعض ما وصفها به في بعض تشبيهاته: -
مهطولة من خزامي الخرج هيجها
…
من صوب غادية لوثاء تهميم (1)
وقد مرت الأبيات. وقال ابن عثيمين رحمه الله من كلمة أخرى:
خليلي مرا بي على الدار واربعًا
…
لنشعب قلبًا بالفراق تصدعًا
وإن أنتما لم تسعداني على الأسى
…
فلا تعدماني وقفة وتوجعا
بمستوحش من شبه آرام عينه
…
تناوح فيه الهوج بدءًا ورجعًا
أي تتناوح فيه الرياح الهوج
(1) أو خرقاء ويقال إن خرقاء هي مية والله تعالى أعلم.
أما إنه لو يوم جرعاء مالك
…
غداة التقينا ظاعنًا ومشيعًا
تبينتما عينًا تجود بمائها
…
ومحجوبة تومي بطرف وإصبعا
أي تبينتما عينا ومحجوبة وإصبعا يشار به.
أكثر شعر ابن عثيمين في مدح رجال من رؤساء العرب على زمانه ورثائهم. فما سلك فيه من ذلك نمطًا حبيبيًا البائية التي في أول ديوانه:
العز والمجد في الهندية القضب
…
لا في الرسائل والتنميق والخطب
تقضي المواضي فيمضي حكمها أممًا
…
إن خالج الشك رأي الحاذق الأرب
وفيما بعد من روح النظر إلى أبي الطيب كقوله:
لكن شمس ملوك الأرض قاطبة
…
عبد العزيز بلا ميم ولا كذب
يعني الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مؤسس المملكة السعودية رحمه الله ولا تخفى الإشارة النابغية «بأنك شمس والملوك كواكب البيت» ، ثم يقول
قاد المقانب يكسو الجو عثيرها
…
سماء مرتكم في نفع مرتكب
حتى إذا وردت ماء الصراة وقد
…
صارت لواحق أقراب من السغب
أي حتى ضمرت فلحقت أقرابها «جمع قرب» أي جنوب خواصرها بظهورها
قال النزال لنا في الحرب شنشنة
…
نمشي إليها ولو جثيًا على الركب
فسار من نفسه في جحفل حرد
…
وسار من جيشه في عسكر لجب
فقوله «قاد المقانب» كقول أبي الطيب من حيث الحذو والإيقاع:
قاد المقانب أقصى شربها نهل
…
على الشكيم وأدنى سيرها سرع
هذا في الصدر وإيقاع عجز البيت من أبي تمام مثلاً قوله:
هيهات زعرعت الأرض الوقور به
…
من غزو محتسب لا غزو مكتسب
وصدر البيت التالي محذو علي أبي الطيب:
حتى وردن بسمنين بحيرتها
تنش بالماء في أشداقها اللجم
والعجز يذكر بغيلات وبقافية رؤبة:
لواحق الأقراب فيها كالمقق
أي كالطول. والبيت الثالث أوله من العشى وعجزه من أبي تمام والبيت الرابع محذو على قوله:
لو لم يقد جحفلاً يوم الوغى لغدا
…
من نفسه وحدها في جحفل لجب
نحو هذا الحذو لما فيه من قصد الإشارة إلى أقوال من سبقوه (تأمل قوله: «ولو جثيًا على الركب» ألا يذكر بقول حبيب: «تجثو الكماة به صغرًا على الركب»؟ ) نحو هذا الحذو منبئ بتلذذ الشاعر بجيد أقوال هؤلاء الفحول يومئ إليهم أو يشير، لا مجرد السرق.
وأثر قصيدة المدح النبوي جد جلي في صياغة ابن عثيمين رحمه الله وديباجته.
تأمل هذه الخاتمات، قوله:
وخذ شوارد أبيات مثقفة
…
كأنها درر فصلن بالذهب
زهت بمدحك حتى قال سامعها
…
يشير كما ذكر محقق ديوانه إلى قول ابن النبيه:
الله أكبر ليس الحسن في العرب
…
كم تحت لمة ذا التركي من عجب
إلى هنا نظر شوقي رحمه الله في قوله:
الله أكبر كم في الفتح من عجب
…
يا خالد الترك جدد خالد العرب
وكان شوقي رحمه الله كثير الأخذ والشعراء من أفعل شيء لذلك كما تقدم ذكره، وأحسب أن ابن عثيمين أخذ من شوقي في الحذو وطريقة الصياغة ولا ريب أنه تأثر بديوانه وقرأه وأثر شوقي على شعراء النصف الأول من هذا المائة الميلادية كبير. هذا ويقول ابن عثيمين بعده، وهذا بمعرض ما قدمناه من أثر القصيدة النبوية عليه:
ثم الصلاة وتسليم الإله على
…
من خصه الله بالأسنى من الكتب
المصطفى من أروم طاب عنصرها
…
محمد الطاهر ابن الطاهر النسب
والآل والصحب ما ناحت مطوقة
…
وما حدا الرعد بإلهامي من السحب
وقلت قصيدة يختتمها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وما يصحب من ذلك من مديح ينبئ عن التقوى وصدق روح العبادة والتقرب إلى المولى سبحانه وتعالى بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وقوله في آخر النونية التي مطلعها «عج بي على الربع حيث الرند وألبان إلخ» ومدح بها الملك عبد العزيز رحمه الله، قال:
ثم الصلاة على الهادي الذي خمدت
…
في يوم مولده للفرس نيران
والآل والصحب ما ناحت مطوقة
…
خطبًا تميد بها في الدوح أغصان
خطبًا أي خطباء بقصر المدود وهو جائز كثير والخطبة لون الورقاء أي الحماقة قال المعري:
ترى كل خطباء الجناح كأنها
…
خطيب تنمي في الغضيض من الينع
ومن هنا أخذ ابن عثيمين. وقال آخر الرائية التي أولها «تلألأت بك في الإسلام أنوار إلخ» :
ثم الصلاة على الهادي وشيعته
…
وصحبه ما شدا في الأيك أطيار
وفي أخرى
وصل إله العالمين على الذي
…
بأنواره الأكوان تزهو وتشرق
كذا الآل والأصحاب ما لاح بارق
…
وما ناح في الدوح الحمام المطوق
وفي أخرى
وصل إلهي كلما ناض بارق
…
وما طلعت شمس وما لاح مرزم
على سيد السادات نفس فداؤه
…
أصلي عليه مدتي وأسلم
كذا آله الغر الكرام وصحبه
…
هم صفوة الرحمن منا هم هم
وفي أخرى
وصل إلهي كلما حن راعد
…
وما ناض برق في خلال السحائب
على خير مبعوث إلى خير أمة
…
كذا آله الأطهار مع كل صاحب
والشواهد بعد كثيرة. ومن أعجب شعر ابن عثيمين إلى قوله في نسيب نونية مدح بها الملك عبد العزيز رحمهما الله تعالى:
ربع تأبد من شبه المها العين
…
وقفت دمعي على أطلاله الجون
إن الذين برغمي عنه قد رحلوا
…
حفظت عهدهم لكن أضاعوني
ناديتهم والنوى بي عنهم قذف
…
نداء ملتهب الأحشاء محزون
يا غائبين وفي قلبي تصورهم
…
ونازحين وذكراهم تناجيني
وهنا حذو على قول الشيخ عبد الرحيم رحمه الله:
يا راحلين بقلبي أينما رحلوا
…
ونازلين بقلبي حيثما نزلوا
ترفقوا بفؤادي في هوادجكم
…
راحت به يوم راحت بالهوى الإبل
ثم يقول:
مالي وللبرق يشجيني تألقه
…
وللصبا بشذاكم لا تداويني
وهذا فيه نفس من محمود غنيم في كلمته التي نشرت في عدد الهجرة من رسالة الزيات ومطلعها «ما لي وللنجم يرعاني وأرعاه إلخ»
ليت الرياح التي تجري مسخرة
…
تنبيكم ما ألاقيه وتنبيني
وجد مقيم وصبر ظاعن وهوى
…
مشتت وحبيب لا يواتيني
من لي بعهد وصال كنت أحسبه
…
لا ينقضي وشباب كان يصبيني
لم يبق من حسنه إلا تذكره
…
أو الأماني تدنيه وتقصيني
تلك الليالي التي أعددت من عمري
…
أيام روض الصبا غض الرياحين
أيام أسقى بكاسات السرور على
…
رغم الوشاة بحظ غير مغبون
فهذا سعر سلس وفيه روح رقيق من عاطفة وذكرى. بحر الأبيات ورويها على قرى: «يا من لقلب طويل البث محزون» وفيه من ألفاظها وضرب صياغتها كقوله: «وللصبا بشذاكم لا تداويني» فهذا فيه حذو من قول العدواني» ولا دماؤكم جمعًا ترويني» وكقوله: «مشتت وحبيب لا يواتيني» فهذا فيه من قول العدواني «وأصبح الوأي منها لا يواتيني» وفي القصيدة بعد من أنفاس ابن زيدون في النونية وبعض طريقة لفظها كهذه الأبيات الأخيرة من عند قولة: «من لي بعهد وصال إلخ» وكقوله من بعد:
بجنيك من خده وردًا بنسرين
وفي هذه القصيدة من المدح الجيد قوله:
إني أوتيت من العليا إلى حرم
…
قبل الإناخة بالبشرى يحييني
ينتابه الناس أفواجًا كأنهم
…
جاءوا لنسك على صهب العثانين
يعني الإبل
ترى الملوك قيامًا عند سدته
…
وتنظر ابن سبيل وابن مسكين
ذا يطلب العفو عن عقبي جريرته
…
وذا يؤمل فضلاً غير ممنون
نزلت منه إلى جم فواضله
…
عبد العزيز ثمال المستميحين
بكسر نون الجمع وهي لغة صحيحة وروى القافية يسيغها ها هنا كما قال ذو الإصبع:
إني أبي أبي ذو محافظة
…
وابن أبي أبي من أبيين
ثم يقول ابن عثيمين بعد أبيات:
فدم سليما قرير العين مبتهجًا
…
بالآل والحال في عز وتمكين
واشدد عرى الدين والدنيا بمنتجب
…
من عنصر السادة الغر الميامين
يعني ابنه الملك سعود وكان آنئذ ولي عهده، رحمهم الله جميعًا:
فرع الأئمة والأذواء من يمن
…
أهل القباب المطاعيم المطاعين
غمر الندى نجلك الميمون طائره
…
سعود أهل التقى نحس المناوين
بتنوين دال سعود ونقل حركة الهمزة ولك منع سعود من الصرف وقطع الهمزة والأول أحب إلى وكسر النون الجمع كما ترى
تلتك في خلقك السامي خلائقه
…
تلو المصلي المجلي في الميادين
هكذا وأحسبه «يتلو المصلي المجلي» والمعنى المستقيم بهذا ومصدر تلا، تلو بضم التاء، واللام لا بفتح وسكون إلا لمن زعم العموم قياسًا للثلاثي المتعدي كقول ابن مالك
فعل قياس مصدر المعدي
…
من ذي ثلاثة كرد ردًا
وفي الذي قدمناه مندوحة عن الضرورة ومخالفة المنقول، هذا ثم ختم بقوله:
ثم الصلاة وتسليم الإله على
…
من خص بالخلق المحمود في نون
وآله الغر والأصحاب كلهم
…
ما ناح ورق بملتف البساتين
وتأمل بعد هذه الأبيات العينية من حيث رصانة سبكها وزنة حرف الروى والخروج بعده وفحولة النفس:
أهاج له ذكر الحمى ومرابعه
…
لجاجة شوق ساعدتها مدامعه
فبات بليل الجيب مضطرم الحشى
…
كأن بسفا البهمى فرشن مضاجعه
يمد إلى البرق اليماني طرفه
…
لعل الحمى والخبت جيدت مراتعه
منازل خاللت السرور بربعها
…
ليالي يدعوني الهوى فأطاوعه
أرب عليها كل محلولك الدجى
…
أحم الرجى مستعجمات مطالعه
هذا البيت خاصة قوي الرنة شديد الأسر غيلاني المعدن. الرجى الناحية، عنى أن السحاب المحلولك النواحي سوادًا قد ألح عليها بالهطول، وجعله أحم الرجى لسواده ودوى رعوده كأن ذلك صوت الرحى، وإذا الرعد يحدو المطر والحداء ضرب من الغناء والغناء سليل القريض، فقد نسب إلى الرعد مطالع كما للقصيد مطالع وهن ابتداءات هديره، وجعلهن مطالع مستعجمات، وكأن ها هنا توليدًا خفيًا من قول حميد المشهور:
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها
…
ولا عربيًا شاقه صوت أعجمًا
وقد مر في صفة الحمامة في الجزء الثالث من المرشد:
إذا ما بكت فيه السحائب جهدها
…
ضحكن بنوار النبات أجارعه
وقفت بها والصحب شتى سبيلهم
…
عذول ومعذول وآخر سامعه
فكاتمتهم ما بي وبالقلب لوعة
…
إذا اضطرمت تنقد منها أضالعه
وهكذا هلم جرًا. والبحر والروي يشعران بمجاراة خفية لحبيب وأبي الطيب معا في كلمتيهما:
هن عوادي يوسف وصواحبه
…
فعزما فقدما أدرك النجح طالبه
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
…
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وكأن عين رويه صدى من عين روى البحتري في:
منى النفس من أسماء لو تستطيعها
…
بها وجدها من غادة ولوعها
وقد تعلم أيها القارئ الكريم أصلحك الله كيف سمح المتوكل إذا زعم أن عينها نثير القيء والتهوع في خبر ذكروه وما أحسبه خفي عن ابن عثيمين رحمه الله فقد كان واسع الاطلاع ضليعًا في علم العربية. ومن جيد شعره في المدح والحكمة قوله للملك عبد العزيز رحمهما الله تعالى:
يأيها الملك الميمون طائره
…
اسمه هديت مقال الناصح الحدب
اجعل مشيرك في أمر تحاوله
…
مهذب الرأي ذا علم وذا أدب
وقدم الشرع ثم السيف إنهما
…
قوام ذا الخلق فب بدء وفي عقب
هما الدواء لأقوام إذا صعرت
…
خدودهم واستحقوا صولة الغضب
واستعمل العفو عمن لا نصير له
…
إلا الإله فذاك العز فاحتسب
واعقد مع الله عزمًا للجهاد فقد
…
أوتيت نصرًا عزيزًا فاستقم وثب
وأكرم العلماء العاملين ركن
…
بهم رحيمًا تجده خير منقلب
واحذر أناسًا أصاروا العلم مدرجة
…
لما يرجون من جاه ومن نشب
هذا وفي علمك المكنون جوهره
…
ما كان يغنيك عن تذكير محتسب
وخذ شوادر البين، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه والسلام من بعد كما قد مر ذكره ولا يخلو ابن عثيمين رحمه الله مع رصانته وجودة ديباجته من بعض الكلال والسرد أحيانًا، وقل كاتب أو ناظم يسلم مما يؤخذ عليه، والسرد أهون خطبًا من الركاكة واللين، وربما قصد أحيانًا قصد عمد إلى بعض ما شذ هذا من مذاهب العلماء معروف كقوله:
فقلدوا أمركم من فيه رشدكمو
…
يا المسلمون وشدوا منه بالعضد
أم لعله لم يقل إلا «يا مسلمون» وبها الوزن مستقيم وأرجح والله أعلم أنه تعمد هذا حذوا على «فيا الغلامان اللذان فرا» ، والخطأ النسخي لا يستبعد (1)
ومن أمثلة الديباجة الرصينة الشيخ محمد سعيد العباسي رحمه الله، وإليك هذه الدالية من شعره وكان رحمه الله مما يواتيه طبع سمح في هذا الضرب والعروض من البسيط.
باتت تبالغ في عذلي وتفنيدي
…
وتقتضيني عهود الخرد الغيد
وقد نضوت الصبا عني فما أنا في
…
إسار سعدي ولا ألحاظها السود
سئمت من شرعة الحب اثنتين هما
…
هجر الدلال وإخلاف المواعيد
لا تعذليني فإني اليوم منصرف
…
يا هذه لهوى المهرية القود
هنا محاولة فيها رقة لمكافأة صدهن بصد مثله، وقد كره أبو السائب المخزومي التخشين في هذا الباب في قوله من قال:
وكنت إذا حبيب رام هجري
…
وجدت وراي منفسحًا عريضًا
وهو مذهب لبيد: «فاقطع لبانة من نعرض وصله» في الميمية المعلقة، وكان العباسي رحمه الله بها سافر السفر الطويل في بادية غرب السودان وكان السفر إلى حين قريب بالجمال. وقوله «المهرية» أراد الإبل النجائب ومن أنجب الإبل البجاوية الصهب وما أشبه أن يكون العباسي كانت له راحلة منها.
لم يبق غير السرى مما تسر له
…
نفسي وغير بنات العيد من عيد
وبنات العيد الإبل النجائب ينسبن إلى العيد فحل مشهور وأصل كلام العباسي رحمه الله بيت حبيب: (2)
(1) وراجع ديوان الشاعر، العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين الطبعة الثالثة الرياض، سنة 1400 هـ 1980 م (ص 197)(راجعه وصححه وأعد معجمه وأشرف على طباعته السيد أحمد أبو الفضل عوض الله)
(2)
ديوان الأستاذ الشيخ محمد سعيد العباسي رحمه الله، ديوان العباسي، الطبعة الثالثة، الدار السودانية طبعة سنة 1388 هـ= 1968 م
حين أغادر كل يوم بالفلا
…
للطير عيدًا من بنات العيد.
ثم قول العباسي رحمه الله:
المدنياتي من رهطي ومن نفري
…
والمبعداتي من أسري وتقييدي
أثرتها وهي بالخرطوم فانتبذت
…
تكاد تقذف جلمودًا بجلمود
تؤم تلقاء من نهوي وكم قطعت
…
بنا بطاحًا وكم جابت لصيخود
عدى جابت باللام وأحسبه بذلك فصيحًا في هذا الموضع لما في اللام من مناسبة لقوم تؤم تلقاء من نهوى فلم يجعل «من» يتسلط عليها الفعل «تؤم» من غير حاجز:
نجد يرفعنا آل ويخفضنا
…
آل وتلفظنا بيد إلى بيد
وشد ما عانقت بالليل من عنق
…
يضني ومن حيف أخدود فأخدود
حتى تراءت لحادينا النهود وقد
…
جئنا على قدر حتم وموعود
النهود بلد بغرب السودان كان منها نهود- أي نهوض- القوافل وقاصدي الموارد والمراعي في حر الصيف وهي في إقليم كردفان غرب مدينة الأبيض في طريق دارفور.
معالم قد أثارت في جوانحنا
…
شوق الغوير لمهضوم الحشى رود
ثم كأنه استحيا من هذا الغزال فقال:
استعفر الله لي شوق يجدده
…
ذكر الصبا والمغاني أي تجديد
وتلك فضلة كأس ما ذممت لها
…
طعمًا على كبر برح وتأويد
وفي هذا البيت حرارة من عاكفة وجانب من رقة وكبعض مذهب الشريف الرضي شيئًا ما. وكان أبوه رحمه الله تعالى، شيخًا معتقدًا وكان هو خليفته من بعده، تلاميذه وتلاميذ أبيه يكرمونه ويتلقاه من يتلقاه منهم بالحفاوة البالغة والاحترام والترحيب. وكان رحمه الله قد درس العربية والقرآن في صباه، ثم نال حظًا من الحياة العصرية والتدريب العصري في الحربية بمصر حين ألحق بها، ثم تخلي عن ذلك وانصرف إلى سبيل آبائه في العلم والتصوف.
مذهب الشريف مع سماحة ذات ظرف ساذج سهل أظهر في هذه الأبيات:
درس العربية والقرآن في صباه، ثم نال حظًا من الحياة العصرية والتدريب العصري في الحربية بمصر حين ألحق بها، ثم تخلى عن ذلك وانصرف إلى سبيل آبائه في العلم والتصوف
مذهب الشريف مع سماحة ذات ظرف ساذج سهل أظهر في هذه الأبيات:
وكم برزن إلى لقياي في مرح
…
وكم ثنين إلى نجواي من جيد
لو استطعن وهن السافحات دمي
…
رشفنني رشف معسول العناقيد
يا دار لهوى على النأي اسلمي وعمي
…
ويا لذاذة أيامي بهم عودي
ثم سلا عن هذا إلى غناء الحمامة:
وذات طوق نزلنا تحت دوحتها
…
وقد تغنت بأهزاج على عود
وأحسبه على كثرة ما ورد في غناء الحمامة لم يخل هنا من نظر إلى قول المعرى
إذا لمست عودًا برجل حسبتها
…
ثقيلة حجل تلمس العود ذا الشرع
أي تلمس العود الأوتار- واحد الشرع بكسر الشين شرعة- وقد أخذ المعري من شاعره الكبير أبي الطيب حيث يقول: -
إذا غنى الحمام الورق فيها
…
أجابته أغاني القيان
ومن بالشعب أحوج من حمام
…
إذا غنى وناح إلى البيان
وقد يتشابه الوصفان جدًا
…
وموصوفاهما متباعدان
وقد مر حديث فيه طول عن هذه الأبيات النونية
فقلت حييت هل تدرين ما فعلت
…
بنا التباريح من وجد وتسهيد
حتى أجدت لنا لحن القريض قرى
…
وما بخلت على ضيف بموجود (1)
هذا مأخوذ من المثل المعروف في عاميتنا: «الجود من الموجود ولو من قطع الجلود»
أنت الجواد على العلات فاتخذي
…
فينا جميلاً ومن هذا القرى زيدي
وسائر الكلمة جيد.
وللعباسي بسيطة أخرى يذكر «مليط» بفتح الميم وتشديد اللام المكسورة، وهي بلدة على واد خصيب في غرب السودان غير جد بعيدة البعد عن الفاشر، موقعها شمالي
(1) وهل أرد لحن الغريض بالغين وهو من أهل الإتقان في الغناء.
بالنسبة إلى الفاشر:
حياك مليط صوب الرائح الغادي
…
وجاد واديك ذات الجنات من وادي
فكم جلوت لنا من منظر عجب
…
يشجي الخلي ويروي غلة الصادي
أنسيتني برح آلامي وما أخذت
…
منا المطايا بإيجاف وإيخاد
كثبانك العفر ما أبهى مناظرها
…
أنس لدى وحشة رزق لمرتاد
وذلك أنها تحتفظ بالماء في جوف تربة ومالها فتزرع وما حولها مجدب
فباسق النخل ملء الطرف يلثم من
…
ذيل السحاب بلا كد وإجهاد
هل يعني بلا كد من الزارعين ولا إجهاد؟ المعروف في النخل أنه على شدة حاجته إلى الماء لا يصلحه كثرة هطول المطر عليه ورد الكد والإجهاد إلى اللثم يجعل العبارة ذات ضعف، فالمعنى الأول كأنه هو الوجه الأفضل على ما فيه مما ذكرنا من أمر إفساد المطر النخل إن كثر عليه.
والورق تهتف والأظلال وارفة
…
والريح تدفع ميادًا لمياد
سياق هذا البيت وسلاسته تقوي رد نفي الكد والإجهاد إلى لثم فروع النخل أذيال السحاب- على هذا التأويل قوله: «بلا كد وإجهاد» مع كونه لا يخلو من ضعف لا يخلو أيضًا من وجه يسوغه على تعب ما
لو استطعت لأهديت الخلود لها
…
لوكان شيء من الدنيا لإخلاد
أحسبه حمل الإخلاد معنى التخليد وفيه نظر
أنت المطيرة في ظل وفي شجر
…
فقدت أصوات رهبان وعباد.
أعيذ حسنك بالرحمن مبدعه
…
يا قرة العين من عين وحساد
هذا بيت فيه عذوبة
وضعت رحلي منها بالكرامة في
…
دار ابن بجدتها نصر بن شداد
فاقتادت اللب مني قود ذي رسن
…
ورقاء أهدت لنا لحنًا بترداد
هاتي الحديث رعاك الله مسعفة
…
وأسعدي فكلانا ذو هوى بادي
فحركت لهوى الأوطان أفئدة
…
وأحرقت نضو أحشاء وأكباد
هوى إلى النيل يصبيني وساكنه
…
أجله اليوم عن حصر وتعداد
وحاجة ما يعنيني تطلبها
…
لولا زماني ولولا ضيق أصفادي
يا سعد سعد بني وهب أرى ثمرًا
…
فجد فديتك للعافي بعنقاد
قوله: «نضو أحشاد وأكباد» وقوله: «عن حصر وتعداد» فيها بعض الوهي وما بعد قوله: «حاجة» ليست للنفي ولكن للإبهام وهي جيدة والبيت ممهد للذي بعد وفيه ما ترى من الإشارة إلى قول سيدنا عمر: «يا سعد سعد بني هيب» رضي الله عنهما، وجعل الشاعر ذلك رمز كنى به عن بعض حاجات نفسه فيه وفيه روح من صبابة وعاطفة ووجدان وقوله:«بعنقاد» حسن الموقع في هذا الموضع- قال تأبط شرًا وأورده أبو العلاء في رسالة الغفران:
وقد لهوت بمصقول عوارضها
…
بكر تنازعها كأسًا وعنقادًا
ثم انقضى عصرها عني وأعقبه
…
عصر الشباب فقل في صالح بادا
وفي هذه الدالية أبيات خاطب بها الحمامة جعلها خاتمة لها
ورقاء إنك قد أسمعتني حسنًا
…
هيا اسمعي فضل ثنائي وإنشادي
إنا نديمان في شرع الهوى فخذي يا بنت ذي الطوق لحنا من بنى الضاد
فربما تجمع الآلام إن نزلت
…
ضدين في الشكل والأخلاق والعاد
لا تنكريني فحالي كلها كرم
…
ولا يريبك اتهامي وانجادي
أحسبه أراد هنا معنى مجازيًا، أي الافتنان في ضروب القول مما يقع فيه التعبير العاطفي المنحى فربما ظن ظان أنه لا يلائم وقار الشيوخ. وفي قوله:«فربما تجمع الآلام» نظر إلى قول شوقي:
إن المصائب يجمعن المصابينا
وإلى أبي الطيب
وقد يتشابه الوصفان جدًا
…
موصوفاهما متباعدان
ورحم الله العباسي فقد كان رقيق الإحساس فصيحًا يغرف بسماحة طبعه من بحر ولإيقاعه رنين وعذوية
هذا وقد كنت جعلت هذا آخر أبواب الكتاب وقلت إنه لا يتسع المجال للخوض في ضروب تجديد العصر، فأقل ما يقال في ذلك أن المعاصرة حجاب. وكان الفراغ من ذلك كله في مدينة فاس حرسها الله تعالى لليلتين بقيتا من شعبان سنة 1403 هـ وذلك يوافق 9 من شهر يونيه سنة 1983 م
ثم بدا لي الآن بعد أن حيل خروج الكتاب كله منشورًا مطبوعًا أن استدرك شيئًا مما فاتني ذكره. من ذلك الإلماع إلى مكان شاعر العراق محمد مهدي الجواهري بين الآخذين بمذهب الجزالة في هذا العصر وله طول نفس وقوة أداء ولكن تشقيق الجدل والسياسة ربما كدر من صفاء ديباجته- وهو بعد يحسن أن يترنم ترنمًا بحتري الإيقاع كقوله:
في قصيدة بعنوان ساعة مع البحتري في سامراء
أكبرت شاعر جعفر وشعوره
…
يستوجب الإكبار والترفيعا
ولمست في أبياته دعة الصبا
…
ولداته والخاطر المجموعا
ولا أدري معنى المجموع إلا أن تكون رويا مقمحا إذا وصف الخاطر بالمجموع يحتاج إلى تأويل كقولك أمر مجموع أي مجمع عليه وقد لا يخلو ذلك من تكلف
ولئن تشابهت المناسب أو حكى
…
مطبوع شعري شعره المطبوعا
فلو قد قال: مطبوع نظمي لكان ذلك أصح
فلكم تخالف في المسيل جداول
…
فاضت معًا وتفجرت ينبوعًا
وهذا توليد من أبي الطيب في بيته الذي كثر التوليد منه والأخذ:
وقد يتشابه الوصفان جدًا
…
وموصوفاهما متباعدان
ثم يقول: -
عبث الوليد بشرخ دهر عابث
…
وصبا فنال من الصبا ما اسطيعا
يشير هنا كما ذكر في الهامش (ديوانه الطبعة الخامسة ص 421) إلى كتاب المعري عن نقد بعض ما وقع في شعر البحتري الذي سماه «عبث الوليد» واسم البحتري الوليد بن
عبيد فهنا تورية
ونما رفيعًا في ظلال خلائف
…
في ظلهم عاش القريض رفيعًا
لا عن بيوت المال كان إذا انتمى
…
يقصي ولا عن بابهم مدفوعًا
قدروا له قدر الشعور وأسرجوا
…
أبياته وسط البيوت شموعًا
وهذا غناء سلس ذو عذوبة، ثم ألتوى بالجواهري الطريق إلى مقالة السياسة وشعور القومية الحديثة الأوربية المعدن، تحاكيه وتباريه، وهذا ديدن قد غلب»
ضيف العراق نعمت من خيراته
…
وحمدت فيه قرارة وهجوعًا
إن تعقد الحفلات كنت مقدمًا
…
أو تنبر الأمراء كنت قريعًا
ضبطت تنبر بضم التاء وما أحرى هذا أن يكون خطأ مطبعة إذ نبر (باب ضرب) ثلاثي ويجوز أنه مضارع من «انبري له» أي اعترض. هذا ولعل قولنا «ألتوى بالجواهري شعور القومية الحديثة وهو ديدن قد غلب» حيث قال يخاطب البحتري:
ضيف العراق نعمت من خيراته
…
وحمدت فيه قرارة وهجوعًا
أن يكون على خلاف وجه آخر أراده الجواهري وهو أشبه بمذهبه وعلمه بالشعر وذلك أن يكون قصد إلى الإشارة إلى قول البحتري المشهور:
حنت قلوصي بالعرق وشاقها
…
في ناجر برد الشأم وريفه
ومدافع الساجور حيث تقابلت
…
بالضفتين تلاعه وكهوفه
فهل أراد عتابه على هذا الحنين إلى برد الشأم وريفه؟ فإن يكن شيئًا من ذلك أراد فقد جعل المعري من قبله عتاب البحتري وملامته مركبًا قال:
وقال الوليد النبع ليس بمثمر
…
وأخطأ سرب الوحوش من ثمر النبع وقال:
ذم الوليد ولم أذمم دياركم
…
فقال ما أنصفت بغداد حوشيتا
فإن لقيت وليدًا والنوى قذف
…
يوم القيامة لم أعدمه تبكيتًا
ثم رجع الجواهري إلى معاني الثورة المحتدمة في نفسه فقال يخاطب البحتري ويذكره بأن العراق أحسن ضيافته إذ ضيافته إذ لم يكن عراقيًا مولدًا ودارًا
وأظن أنك لو نمتك ربوعه
…
لشكوت منه فؤادك المصدوعا
كما يشكو الجواهري
ولكنت كالشعراء من أبنائه
…
ممن تجوهل قدرهم فأضيعا
وهذا من الشعراء ديدن قديم
لك في التي راشت جناحك رفقة
…
لولا جلادتهم لماتوا جوعًا
ولا تمنع جلادة صاحبها أن يموت جوعًا أو عطشًا إن لم يجد من ذلك أدني حاجته.
وهل عنى بالرفقة أولى الجلد ابن الرومي إذ عاصر البحتري ولم يصب من الحظوة كما أصاب؛ أو هل عني نفسه وفي قوله: «في التي راشت جناحك» يعني العراق ولعل الكاف ها هنا عنى بها غير البحتري وجعله رمزا، وما أقرب هذا من مذهب ابن الرومي إذا حسد الغصون المجازية وذمها في قوله:
نعم ألبستهم نعم اللـ
…
ـه ظلال الغصون منها الرطاب
إن تلك الغصون تصبح عند
…
ظالمات فهل لها من متاب
ومن غضبات الجواهري التي قد يخال أنهن مدنيات له يسار مركس وقل شاعر فحل يكون من يسار مركس قريبًا، قوله:
خبت للشعر أنفاس
…
أم اشتط بك إلياس
أم الحي وقد أغفيـ
…
ـت إبلاس وإخلاس
كأن لم يعترف ناسًا
…
فهل أنت به الناس
ويا رب المقاييس
…
ترى أعياك مقياس
أكفرا بالقياسات
…
وما قيس ومن قاسوا
أم الخير شكا الندر
…
ة حيث الشر أكداس
أم الثروة للقبح
…
وعند الحسن إفلاس
أم العبد الأحرا
…
ر قوام ونخاس
أم الفكر بأظلاف الـ
…
وحوش الغبر ينداس
أحسبه لو جعل مكان الوحوش كلمة أخرى لربما كان أصح إذ ليس للوحوش، إن أريد بها السباع أظلاف، وغير السباع يقال لهن الوحش كالوعول والظباء وما أشبه، وقد أراد أمثال الدواب من البشر فهذا مقالنا لو جعل كلمة أخرى وذلك كثير وما جاء به له وجه وفوق كل ذي علم عليم.
أم الأصنام أرباب
…
أم الأرؤس أعجاس
جمع عجس بفتح فضم كعجز
أم الموت غشى الحي
…
فما في الدار أحلاس
غشى كسعي لهجة طيئ وما في الدار أحلاس أراد به ما في الدار وهو حلس داره أي لا يفارقها لكبر سن أو نحو ذلك فأحسبه تصرف في استعمال هذا اللفظ وعسى أن يصلح.
أدر كاسك با خوس
…
فقد صوحت الكاس
في الهامش (357)(1): باخوس إله الخمر عند الإغريق ويريد به الشاعر هنا نفسه- ولا يخفي أنه باخوس هنا من الجند الغريب
واستمع قرعة واقرأ قوله:
عدا على كما يستكلب الذيب
…
خلق ببغداد أنماط أعاجيب
خلق ببغداد منفوخ ومطرح
…
والطبل للناس منفوخ ومطلوب
خلق ببغداد ممسوخ يفيض به
…
تأريخ بغداد لا عرب ولا نوب
لا الأريحي الذي ضمت ملاعبها
…
ولا التقي الذي ضمت محاريب
هذا من مر الهجاء، أن يكون صاحب الملاعب واللهو غير ذي أريحية فيه ذو سماجة وأن يكون مظهر الدين يصلي به في المحاريب غير ذي تقوى ولكن من أهل النفاق.
لو شئت مزقت أستارًا مهلهلة
…
فراح سيان مهتوك ومحجوب
أي فراح الشأن- سيان خبر مقدم والجملة خبر راح واسمها ضمير الشأن
إني لأعذر أحرارًا إذا برموا
…
بالحر يلويه ترغيب وترهيب
والصابرين على البلوى إذا عصفوا
…
بالصابر الشهم آدته المطاليب
فما لعبدان أهواء وعندهم
…
في كل يوم من التغرير أسلوب
(1) ديوانه/ 2
وما لهذا الجبان النكس قد هزئت
…
منه ومن صحبه الغيد الرعابيب
منافقون يرون الناس أنهمو
…
شم أباة أماجيد مصاحيب
وأنهم قادة صيد وأنهموا
…
غر المصابيح والدنيا غرابيب
ما أغرب الجلف لم يعلق به أدب
…
وعنده للكريم الحر تأديب (1)
هذا، وممن عسى أن يحسن الإلماع إلى حسن ديباجته الأستاذ أحمد محرم رحمه الله. وقد أورد الأستاذ محمد إبراهيم الجيوشي في كتابه عنه، (شاعر العروبة والإسلام)(2) اختيارًا حسنًا من شعره ما نورده إن شاء الله هنا منه، مثلا قوله:
إليك دموعي في الصحيفة فاقرئي
…
رسالة أشواقي إليك وأشجاني
فإن تطلبي مني دليلاً على الهوى
…
فهذا دليلي في هواك وبرهاني
فيا هند عذرًا إن جزعت فإن لي
…
تباريح من شوقي إليك وتحناني
ولا تنكري هذي الدموع تذكري
…
عصارة قلبي في هواك ووجداني
ويا هند إن جئت الشهيد تذكري
…
شهيد هوى ما دان يومًا بسلوان
زعم الأستاذ الجيوشي أن اسم الفتاة «رفقة» ومكانه في نص الديوان فراغ وأن الوزن يستقيم بـ «رفق» مناداة مرخمة. وقد وضعنا اسم «هند» لأن رمزيته واضحة كليلى ولبنى وسعدى وسلمى وما أشبه وكرهنا أن نضع «رفق» لما فيه من الظن والقول بما لا نعلم إذ ما ذكروا من عشق محرم لرفقة هذه لا دليل عليه. ولقد أحسن أبو الطيب رحمه الله إذ قال في رثائه لخولة أخت سيف الدولة رحمهما الله تعالى:
كأن «فعلة» لم تملأ مكارمها
…
ديار بكر ولم تخلع ولم تهب
وقال:
أجل قدرك أن تسمى مؤبنة
…
ومن يصفك فقد سماك للعرب
(1) ديوانه 2/ 351
(2)
شاعر العروبة والإسلام، أحمد محرم محمد إبراهيم الجيوشي الطبعة الأولى سنة 1381 هـ- 1961 م.
فإنه لم يرد «بفعلة» إلا «خولة» ولم يكتم اسمها لدفع حرج ولكن أدبًا وإجلالاً لقدرها.
ويعجبني من أبيات له في قصة تحرير المرأة (1)
أغرك يا أسماء ما قال قاسم
…
أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم
ذكرتك إني إن تجلت غيابتي
…
على ما نمى من ذكرك اليوم نادم
تضيقين ذرعا بالحجاب وما به
…
سوى ما جنت تلك الرؤى والمزاعم
سلام على الأخلاق في الشرق كله
…
إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم
أقاسم لا تقذف بجيشك تبتغي
…
بقومك والإسلام ما الله عالم
لنا من بناء الأولين بقية
…
تلوذ بها أعراضنا والمحارم
أسائل نفسي إذا دلفت تريدها
…
أأنت مع البانين أم أنت هادم
ليس جمال هذه الأبيات من قوة الحجة والجدل ولكنه من صدق العاطفة وسلامة الديباجة ولا يعجبني قوله: «في الشرق كله» إذ فيه كالتسليم بأن أوربا مركز الدنيا تنسب إليها الجهات. ويقولون الآن الشرق الأدنى والشرق الأوسط- الأدنى إلى ماذا والأوسط مماذا؟
وذكر صاحب كتاب شاعر العروبة والإسلام أن أحمد محرم رحمه الله كان له رأي حسن في «قاسم أمين» الرجل المصري على ما كان يأخذه عليه من قوله في تحرير المرأة وقد رثاه فذكر من ذلك في رثائه له، قال:
إذا رأى الرأي لم تنكص عزيمته
…
خوف الملام ولم يقعد به اللدد
رمى الحجاب فلولا الله يمسكه
…
لانشق أوخار أوخرت به العمد
قوله: «فلولا الله يمسكه» كأنه يشير به إلى قول المعري «فلولا الغمد يمسكه لسالاً» وذلك أن لولا بعدها غالبًا حذف الخبر كما ذكر ابن مالك.
(1) نفسه 174
لم يبغ حتى رمى شرًا بأمته
…
وإنما خانه رأي ومعتقد
إنا نعيش بواد غير مؤتمن
…
تنزو القلوب به ذعرًا وترتعد
تعدو الذئاب به والويل إن غفلت
…
عين الربيئة أو أغفى به الرصد
وقوله: «أغفى به الرصد» فيه وهي ما وسائر الكلام ذو جزالة سلس.
هذا ومما فاتني ذكره (وليس هذا موضعه ولكنه لا يحسن أن يترك وقد طال هذا الكتاب فيقع فيه النسيان والسهو والتكرار، كما صنع الجاحظ وكما وعد أبو الفرج ولم يفه، وما بمثل ما صنعا يقاس هذا الصنيع وأين الظالع من الضليع) التنبيه على ما كان للطهطاوي من سبق في مجال نهضة الشعر إذ كان من أوائل من أدخلوا عليه روح المقالة وكما تعلم كانت أكثر عيون الشعر في المديح النبوي.
أرسل الشيخ رفاعة إلى السودان مع رفاق له في مهمة تعليمية، وكأن ذلك لم يخل من بعض التخفيض لمنزلته ونوع من النفي له ولم تعجبه الإقامة في الخرطوم، ونظم قصيدة من بحر الوافر دالية على قرى كلمة أبي الطيب:
أحاد في سداس في أحاد
…
لييلتنا المنوطة بالتنادي
أو على قرى كلمة حبيب:
سقى عهد الحمى سبل العهاد
…
وروض حاضر منه وبادى
قال رحمه الله فذكر تأخر السودان وخشونة بعض جوانب الحياة والمجتمع فيه:
رعى الحنان عهد زمان مصر
…
وأمكر ربعها صوب العهاد
رحلت بصفقة المغبون عنها
…
وفضلي في سواها في المزاد
وما السودان قط مقام مثلي
…
ولا سلماي فيه ولا سعادى
بها ريح السموم يشم منها
…
زفير لظى فلا يطفيه وادي
أنت «السودان» كتأنيث «مصر» على العلمية. ولقد فرض الاستعمار هذا الاسم على بلادنا فرضًا ثم تمسكت به حركة الخروج من الاستعمار باسم الدعوة القومية الحديثة. واسم السودان إنما هو اختصار لقول العرب ومن أخذ عنهم بلاد السودان ويطلق ذلك على البلاد الواقعة جنوب الصحراء من بحر الهند وبحر القلزم إلى المحيط الأطلسي الكبير، ولقد استقلت بلاد أخرى في أفريقيا كانت تحت حكم فرنسا وكان اسمها السودان الفرنسي فسمت نفسها السودان، فحدث من ذلك أيما التباس ففطن أهلها ورجعوا إلى اسم قديم وهو «مالي» كما رجع من قبلهم الرئيس نكروما من ساحل
الذهب إلى اسم قديم ادعاه لبلده هو «غانا» كما فر هيلاسلاسي من اسم الحبش إلى اسم «أثيوبيا» وكان هذا يطلقه اليونان القدماء لكبريائهم، ينبزون به سواد الواننا، على بلادنا دون بلاده وقبل أن «أثيوبيا» اشتقاقها من الطيب إذا كان يجلب من بلاد كوش وما وراءها، وفيه نظر، وكان يقال لبلادنا السودان الإنجليزي المصري بعد أن شارك الإنجليز أسرة محمد علي في إدارته وتولى أمره. وإنما كان اسم بلدنا سنار على اسم عاصمة السلطنة التي كانت قائمة على أمرها فيما بين 1500 إلى 1821 م. وقيل إن الملك عمارة مؤسس سلطنة الفنج لقى فتاة اسمها سنار فتفاءل بحسن طلعتها فسمى بلدته باسمها ويجوز أن يكون الاسم اختزل من سنمار «أي القمر» ويجوز غير ذلك وكان قومنا يقال لهم السنارية وعلى ذلك رواق السنارية بالأزهر الشريف هذا ثم أخذ الشيخ رفاعة في ذم الناس والبلاد وبعض ما ذكره ملاحظات قيمة تدخل فيما يقال له الآن علوم الاجتماع أو «انثوبولوجيا» ، قال: وليس هذا بموضع عتب عليه كما سأذكر من بعد إن شاء الله تعالى:
فلا تعجب إذا طبخوا خليطًا
…
بمخ العظم مع صافي الرماد
أحسب هذا ما يسمى «ملاح المرس» وكان يصنع فيما بلغني من قصب يحرق وعظم يترك حينًا ثم يطبخ وهو طعام عام مسنت ولا يخفى أن الرماد يستعان به على هواء البطن
ولطخ الدهن في بدن وشعر
…
كدهن الإبل من جرب القراد
أحسبه أصاب في الصدر وأخطأ في عجز البيت وبلاد السودان جنوب مصر حارة جافة ولأهلها بجفافها وعلاج ما ينشأ من ذلك من أثر على البشرة دراية وقد كان الصفار في جيل مضى والكبار لا يبيت أحدهم إلا بعد أن يمسح بزيت السمسم جسمه وكان البداة يضعون على رءوسهم الودك وكان للنساء خبرة بصناعة أدهان ذات طيب فائق من الودك بعد أن يسلأ ثم يخلط بالصندل والعطور الهندية ولا أشك أنه عطر النجاشي المذكور في السيرة وتمكن به عمرو بن العاص أن يشي بعمارة بن الوليد ويوقعه فيما وقع فيه من آبدة وكانت في وادي النيل عندنا حضارة لم يكلف رفاعة رحمه الله نفسه عناء تتبعها، ولا يلومنه على ذلك أحد لما كان من غيظه من شبه النفي الذي وقع ثم كأنه صادف عام وباء فدخل عليه مع الغيظ خوف شديد.
ويضرب بالسياط الزوج حتى
…
يقال أخو بنات في الجلاد
يضرب مبني للمعلوم وذلك أن «العريس» يقف أمامه صف من الشبان يضرب كلا منهم على جلد ظهره سوطًا أو سوطين أو يزيد، حسب ما يتفق عليه أنه ثمن الشبال- أو شر الشبال «والشبال» أن تدنو الفتاة التي ترقص بعد أن كشفت رأسها، ولا تفعل ذلك في هذا الموقف الفارح المحتفل به، إلا الحرائر، من الشاب الذي يحجل أمامها فتشير بشعرها ثم تغطية مجفلة، هذا هو الشبال ولا ترقص البنات إلا بعد أن يحدد «شر» الشباب، «ولا بد دون الشهد من إبر النحل» - وإنما كان يتقدم للسوط الشبان تعزيزًا «للعريس» وتأييدًا له. ومن أدب الوقوف للسوط أن يكون الفتى ثابتًا كأنه جدار، ولا يختلج منه خد أو طرف أو ما يدل على ألم. وقد يداخل الشبان تنافس فيرفعون «شر الشبال» وإنما يقدم على ذلك الباسلون الذين يقال لهم:«إخوان البنات» أي حماتهن. والسوط مصنوع من جلد فرس البحر (العينسيت- الكلمة مقاربة لقولهم عنس في العربية).
وما في السودان قط مقام مثلي
…
ولا سلماي فيه ولا سعادى
بها ريح السموم يشم منه
…
زفير لظى فلا يطفيه وادي
قوله: «فلا يطفيه وادي» كقوله: من قبل «وفضلي من سواها في المزاد» ولا يخلو من نفس عامي.
فلا تعجب إذا طبخوا خليطًا
…
بمخ العظم مع صافي الرماد
ولطخ الدهن في بدن وشعر
…
كدهن الإبل من جرب القراد
قولنا من قبل إن ما ذكره في عجز البيت غير صحيح فقد بينا أمر دهن الجلد، وقال الشنفري:
بعيد بمس الدهن والفلى عهده
…
له عبس عاف من الغسل محول
فافتخر بصعلكته وجعل منها ألا يدهن رأسه. وقال يزيد بن الطثرية وهو إسلامي:
فيسلك مدرى العاج في مدلهمة
…
إذا لم تفرج غما صؤابها
والصؤاب صغار أولاد الثمل وإنما احتاج إلى تفريج لماته لما بها من ذهن وفي خبر كعب بن عجرة أنه جهده ترك الدهن من أجل عبادة الحج فيما يبدو حتى جعل القمل يتناثر من لمته فأمر بالهدى ونزلت فيه {فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه} [البقرة: 196] والعجب للطهطاوي أن يكون خفي عنه مثل هذا مع وافر علمه ونسبه الشريف.
ويضرب بالسياط الزوج حتى
…
يقال أخو بنات في الجلاد
ويرتق ما بزوجته زمانًا
…
ويصعب فتق ذاك الانسداد
يشير بهذا إلى عادة خفض النساء وأعياه النظم هنا فزعم أن الرتق للزوجة وإنما تختن الفتاة وهي صغيرة فقد تبالغ الخاتنة فينشأ من ذلك ضرر عظيم كأن تصير الفتاة رتقاء لا يستطاع جماعها، والختانة قديمة في العرب وفي حديث أم عطية ذكر ابن الأثير في أخريات مادة خفض. «إذا خفضت فأشمي» قال الخفض للنساء كالختان للرجال وفي مادة «نهك» وفي حديث الخافضة قال لها أشمي ولا تنهكي أي لا تبالغي في استقصاء الختان 1 هـ؟ »
فاستقصاء الختان كالعرب عادة قال جرير
والتغلبية قي ثنيي عباءتها
…
بظر طويل وفي باع ابنها قصر
لأنها من قوم نصارى ذمهم جرير بأن نساءهم لا يخفضن فجعله سبة:
وقال الفرزدق:
وما وجعت ازدية من ختانة
…
ولا شربت في جلد حوب معلب
يجعل الختانة الموجعة كشرب اللبن من إناء الجلد أمرًا خصت به العرب. والحرب عني به البعير لأنه يزجر بحوب. والختانة الموجعة استقصاء ولكنه لا يبلغ به من الفساد ما زعم الطهطاوي إلا في حالات تشذ وليس الشذوذ بما يصح تعميمه وما منعت ختانة من افتضاض طبيعي ولا منعت من نفاس، وليس في هذا تزكية لها فالوجه ما أمر به صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وما أمر إلا بالإشمام. وقد يبالغ في بعض البلاد، (وليس قطرنا ولا أحسبه في قطر أفريقي) في ختانة الرجال وفي الكتاب المقدس في خبر غيره أبناء يعقوب على سباء وقع لنسائهم أن ختانة بني إسرائيل لرجالهم كانت يبالغ فيها حتى يلزم المختون الفراش من وجع الجراح.
ومن تعب النظم في هذا البيت قطع همزة الانسداد.
وإكراه الفتاة على بغاء
…
مع النهى ارتضوه باتحاد
هذا باطل. ولعله أنكر أن يكون لبعضهم مملوكات وأن يهدي المملوكة فهذا قبل أن يمنع الإفرنج بيع الرقيق وملك المملوكين بدعوى التحرير، وإنما منعوا ضربًا وأبقوا ضروبًا لعلها شر مما منعوا، وفو قوله تعالى:{فك رقبة} مذهب واضح لمن كان يرغب في محض التقوى، وما سوى ذلك فما يعتذر به بعض من يدعون التفكير من معاصرينا
إلى مطاعن الإفرنج ليس بكبير شيء فتأمل. وقال أبو الطيب في مدحته للملوك:
من كل موهوبة مولولة
…
كاسرة زيرها ومثناها
فلعل من أهدى مملوكة ممن عسى أن يكون رفاعة شهد ذلك منه ما خرج به عن مذاهب العلية وأهل الثراء. وقد كان أخذ الرقيق من مرتبات الموظفين أول أيام حكم محمد علي باشا ثم نهى عنه احترامًا لفرنسة وبريطانيا ذكر ذلك الدكتور مكي سبيكة رحمه الله في تأريخة، وقول الطهطاوي «ارتضوه باتحاد» لا يخفي ضعف القافية منه.
لهم شغف بتعليم الجواري
…
على شبق مجاذبة السفاد
وهذا أمر خاص بالنساء ومعروف عند العرب منه شكوى الذب شكا إلى علي أنه كلما دنا إلى امرأته قالت قتلتني وما كان أغنى رفاعة عن ذكره. قال أحد المادحين يذكر الصوفية وإقامتهم الليالي يذكرون الله ويسبحون بسبحات خرزها من ثمر «اللالوب» في كل سبحة ألف حبة يعد بها المسبح مثلاً 129 ×129 من عدد «يا لطيف» ، فهذا قد يقضي فيه ليلة بأكملها:
يا ليلى النوم تركوه
يا ليلى اللالوب بكوه
«ليلى» اسم الحضرة العلوية الصوفية النبوية، جعل «اللالوب» كالعرائس يبكين تغنجًا ودلالاً فافهم حفظك الله:
قوله رحمه الله: «لهم شغف» أبدة، إذ كثير من الشبان ربما فاجأهم هذا من تدبير اللواتي وصفهن الكتاب المحكم بالكيد العظيم في ليلة الدخلة ويذكر أن الشيخ الدردير رضي الله عنه أهدى له بعض مريديه مملوكة لقنت هذا العلم ففزع من أمرها ثم أحبه حبًا فالله أعلم أي ذلك كان من خبر الرواة.
ولا يلام الشيخ رفاعة على إنكاره ما أنكر وتفرنجه بالزعم أن إهداء الجواري من البغاء المنهي عنه في قوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا} وكانت قريش في جاهليتها تفعله. فقد بلغ من رقة التأثر بما فتنه من حضارة مبلغًا، ولعل ما أصابه من ذلك في زمانه دون ما أصابنا من ذلك في هذا الزمان.
وقال الحارث بن أبي ربيعة وكان في وجه الحرب عاملاً لابن الزبير رضي الله عنهما يزجر أخاه عمر إذ بعث إليه يطلب منه جارية:
بعثت إلي تستهدي الجواري
…
لقد انعظت من بلد بعيد
ثم يقول الشيخ رفاعة:
وشرح الحال عنه يضيق صدري
…
ولا يحصيه طرسي أو مدادي
وضبط القول بالأخبار يزري
…
وشر الناس منتشر الجراد
أي هذا قليل من كثير وليس الخبر كالعيان والشر الذي رأيناه كالجراد المنتشر
ولولا البعض من عرب لكانوا
…
سوادًا في سواد في سواد
أي سواد وجوه وقلوب وعيون فالعياذ بالله من ذلك. وهذا البعض الذي أشار إليه كثير قديم يرجع زمان أوائله إلى ما قبل الجاهلية والله أعلم
وحسبي فتكها بنصيف صحبي
…
كأن وظيفتي لبس الحداد
وسخطته ههنا لا تخفى وتداخل ذلك مع الأسى روح النكتة القاهرية
وقد فارقت أطفالاً صغارًا
…
بطنطا دون عودي واعتيادي
افكر فيهم سرًا وجهرًا
…
ولا سمري يطيب ولا رقادي
وطالت مدة التغريب عنهم
…
ولا غنم لدي سوى الكساد
وهل تجارة أكسد من أن يغادر القاهرة إلى خرطوم ذلك الزمان
وما خلت العزيز يريد ذلي
…
ولا يصغي لأخصام لداد
فصرح هنا بما كان يحسه قلبه من أن بعثه للسودان ضرب من النفي ومنبئ عن سخط عليه من الخديوي عزيز مصر أو جفوة «وتلك التي يهتم منها وينصب» كما قال النابغة وفي الأبيات التي ذكر فيها أطفاله وأسرته صدق حنين واسماح أسلوب. وعلى طول القصيدة لم تجده عند العزيز. فعدل إلى الاستغاثة فنظم تخميسًا لقصيدة الشيخ عبد الرحيم البرعي:
خل الغرام لصب دمعه دمه
…
حيران توجده الذكرى وتعدمه
وعسى أن يكون توسل بالسيد البدوي حامي طنطا قدس الله سره. فكان ذلك أجدى عليه من:
وما السودان فيه مقام مثلي
…
ولا سلماي فيه ولا سعادى
فاستجيب له وعاد رحمه الله إلى مصر.
وفي معجم البلدان لياقوت حيث ذكر بلاد النوبة شبهها ببلاد اليمن وذكر أن في عيش أهلها شدة.
وقال العباسي رحمه الله:
أحبتي خذي الدمو
…
ع بعدكم غيث همي
صيرت عن كره قري السـ
…
ـودان لي مخيمًا
ولي بمصر شجن
…
أجري الدموع عندما
فارقت مصر ذاكرا
…
أرجاءها والهرما
والنيل والجزيرة الـ
…
فيحاء والمقطما
ربوع خير طالما
…
أسدت إلي أنعما
مصر وأيام الشبا
…
ب الغمض من لي بهما
لله محبوب رأي
…
حبة قلبي فرمى
أعيذه من جائر
…
حكمته فاحتكما
مررت بالحي ضحى
…
أروض مهرًا أدهما
مرتديًا من الشا
…
ب صافيًا منمنما
لقيته في أربع
…
بيض كأمثال الدمى
شابهن أزهار الربيـ
…
ـع وحكين الأنجما
قوله: «صيرت عن كره» أي غير اختيار لا يعني عن بغض، وقد عرضت في «ذكرى صديقين» (1) لهذه الأبيات ثم قلت: «ورب آخذ على العباسي قوله:
صيرت عن كرة قرى السـ ـودان لي مخيما
ولا آخذه عليه فإن قلب الشعر كما وصفه أبو الطيب- وهذا من آيات الصدق والصفاء. الإشارة إلى قوله:
وبي ما يذود الشعر عني أقله
…
ولكن قلبي يابنة القوم قلب
هذا، والأستاذ محمد عبد القادر كرف (1912 - 1989 م) ممن ينبغي التنبيه على مكانه في الرصانة وكان معاصر للتجاني يوسف بشير رحمهما الله من أديبين كبيرين وقرينًا له
(1) ذكرى صديقين، صدر سنة 1408 هـ= 1987 م، الطليعة، الكويت انظر ص 14.
في درس جامع أم درمان وصديقًا وشاعرًا موهوبًا مثله مؤثرًا للجزالة شديد الأسر وكان عالمًا ومعلمًا محسنًا متقنًا وجميل الخط أريحي النفس كريم الخلق جوادًا برًا بالأقربين والإخوان نزيهًا محبوبًا عز فقده وقل في الناس نده توفى رحمه الله يوم 13 من المحرم سنة 1410 هـ= 15 من أغسطس 1989 م.
كتب إلي منذ تسعة عشر عامًا قصيدة من المتقارب إخوانية نونية علائية رنة الروى أثبتها ههنا كما جاءني نصها البديع البارع منه إلى الأخ الفذ حامل لواء الفصحى وصاحب المرشد الدكتور عبد الله الطيب أقدم هذه القافية العسية له ولمن أحبه وعرف قدره.
عطفت فلم ألو عنك الأعنة
…
وكم لي من حنة بعد حنة.
وعجت ومن لوعتي مزهر
…
له نبرات القوافي المرنة
وهشت لي الدار واستبشرت
…
مقاصيرها والرياض المغنة
وإذ جئتها خلتني مذنبًا
…
صليت بنار وبدلت جنة
وكائن دلفت إلى ظلة
…
لديها وروض أنيق وكنة
وقد وشت الجدر المشرقات
…
بنان قريز لدا وهي المفنة
وقد أشربت من ضروب الوفا
…
ء حتى غدت وهي أخت وحنة
تبادر ما أوجبته الحقوق
…
عليها وتلزم ما العرف سنه
ولم نلق إلا الندى عندها
…
وإلا فتى آثر الدهر فنه
أقام على الجد لا ينثني
…
ومن قدم جنب اللهو سنه
وشتان ما واهن عزمه
…
وذو ثقة واعتزام ومنة
وأتحفنا وهو طلق الجبين
…
بما ليس تلفيه إلا لدنه (1)
وعندي لك الود أخلصته
…
نقيًا وناهيك ما القلب كنه
(1) بضم الدال وتشديد النون لغة في لدنه بتسكينها كما يجوز تسكين الدال وإعراب النون في غير هذا الموضع.
وإنك دهقان هذا القريض
…
سبقت الندامى وأفرغت دنه
لصدرك زمزمة تستجيب
…
إلى جرسه أو بغام وغنة
وكالشفري إذ يرود الشعاف
…
وإذ هو حلس لكهف أجنة
وفي النفس شنشنة من عكاظ
…
ومن ذي المجاز ومن ذي المجنة
نثرت فجاوزت شأو البيان
…
ولم تأت قافية ذات ظنة
وجاهدت في الله لا في الطماع
…
وذلك فضل حباه ومنه
وطاعنت حتى انزوى الأرذلون
…
وبوأتهم من بوار أكنة
وأرزمت تخطف ألبابهم
…
كما ترزم الغيمة المرجحنة
وظن امرؤ السوء أن يدعى
…
عليك الشنار فكذبت ظنه
إلى أن غدوت وأنت الفرند
…
له فوق هام الأعادي دنة
وأنت المجلى إذا أخرت
…
هوادي الفحول الخناذيذ عنه (1)
وما إن ينوشك سهم الدعي
…
ودونك من عصمة الله جنة
ألا حي بالشاطئ الدامري
…
ربوعًا على حجره مطمئنة (2)
بني نقر إذ هم المتقون
…
وإذ دأبهم في كتاب وسنة (3)
إذا أطفأ الدهر نار القرى
…
فنار المجاذيب نار مبنة
وما ضنكت أو عفا قدرها
…
إذا ألف النكس لومًا وضنة
وتالين من حولها يجأرون
…
لهم أرج مستطاب وبنة
وحي أخا الرشد واصدح له
…
بقافية ذات ردف ضفنة
وقل للفتى العبقري السما
…
ت وابن الثقات وعلق المضنة
تولت سني الصبا الحافلات
…
ولم تبق إلا العجاف المسنة (4)
فليتن في النعق نعف الرباب
…
وفي كاهلي فضل حبل وشنة (5)
(1) بتشديد النون- لغة
(2)
نسبة إلى الدامر بلدنا
(3)
بنو نقر من قبيلة المجاذيب ومنهم الشاعر محمد المهدي مجذوب رحمه الله نصب بني نقر بفعل محذوف أي أذكرهم والإشارة إلى الشاعر محمد المهدي رحمه الله وديوان شعره الأول نار المجاذيب.
(4)
سني بتشديد الياء مفتوحة أي سنوات عمري أنا والصبا عطف بيان وقال أيضًا: (سنين الصبا) مضاف ومضاف إليه والنون ثابتة، كلاهما قال رحمها الله.
(5)
الرباب بكسر الراء قبائل من العرب معروفة ونعف الرباب موضع والعف أصله جزء من الجبل.
أصادي النجوم فإما خبت
…
غمست لها أعيني في الدجنة
طليق الجناحين أغشى الوهاد
…
وأعلو الذرى قنة بعد قنة
وألقاك في زمر الأولين
…
على شارف أو قلوص زفنة (1)
وتختال تحتي ذات البغام
…
لها خطرات وللنسع أنة
ونضرب في التيه لا نرعوي
…
جموحًا ونصحب في الدو جنة (2)
أو أني ذو صولة فاتك
…
أغير وحولي الطبول المطنة
ودوني من خثعم فيلق
…
يغمغم تحت الظبا والأسنة
فذرني والمقرفين الغواة
…
أولى الضغن والفتكات المجنة (3)
عسى الدهر يحسر من كيدهم
…
ويفلق هام العبدي الأقنة
فأوجههم كالحات قباح
…
وأبدانهم منتنات مصنة
وإنهم مذ أصابوا الحياة
…
خساس النفوس ومذ هم أجنة
وأنهم قذر لو دنت
…
أكفهم من طعام تسنه
محمد عبد القادر كرف
العاشر من ذي الحجة 1391 هـ
السادس والعشرين من يناير 1972 م
هذا والعلامات المشروح عليها الهامش من صنع مؤلف هذا الكتاب
وجلي واضح ما في هذه القصيدة من برهان واضح على ما أوتى صاحبها من الفصاحة وقوة الشاعرية وسحر البيان. قوله: «وقد وشت الجدر المشرقات» يمدح به لوحات رسم السيدة قريزلدا زوج المؤلف، وقوله:«ودوني من خثعم فيلق» يشير به إلى أصول نسبه في شرق السودان بأقطار جبال البحر الأحمر وسواكن وما بين شاطئ البحر الأحمر الغربي والشرقي من شوابك الأرحام والنسب نبه عليه من قبل الرحالة ابن بطوطة في صفة رحلته إذ زار ذلك الإقليم في المائة التاسعة. وصفة الشنفري التي وصف بها نفسه فيها شبه شديد بما عليه مظهر فتيان البجاة أخل الحروب، قال:
ويوم من الشعري يذوب لوابه
…
أفاعيه في رمضائه تتململ
نصبت له وجهي ولا كن دونه
…
ولا ستر إلا الأتحمى المرعبل
وضاف إذا هبت له الريح طيرت
…
لبائد من أعطافه ما ترجل
بعيد بمس الدهن والفلى عهده
…
له عبس عاف من الغسل محول
هذا وكنت وعدت نفسي أن أجيب الأستاذ كرفا رحمه الله بكلمة على روى كلمته ووزنها. أردت شيئًا شبيهًا بما صنعه أبو العلاء حين وافته قصيدة لأحد معاصريه من الشرفاء أهداها إليه مطلعها:
(1) الشارف من الإبل كبيرة والقلوص شابة.
(2)
الدو: الصحراء.
(3)
المجنة بضم الميم وفتح الجيم أي الخفية.
غير مستحسن وداد الغواني
…
بعد سبعين حجة وثمان
فأجابه أبو العلاء بالكلمة السقطية المشهورة:
عللاني فإن بيض الأماني
…
فنيت والظلام ليس بفاني
عنى ظلام عينيه وظلام الزمان حوله بالفتن والحروب وقال فيها:
قد أجبنا لفظ الشريف بلفظ
…
وأثبنا الحصى من المرجان
أي بدلاً من المرجان وفي مكانه. ولعمري لقد كانت أبيات المعري من نفس المرجان لا بدلاً منه، ولم أكن أشك أن نونية كرف رحمه الله
عطفت فلو ألو عنك الأعنة
…
وكم لي من حنة بعد حنة
هي المرجان. وكأن قد خشيت أن تكون الإجابة عنها بمعارضة لها في البحر والروى إنما ذلك حصى. فأخرني هذا التهيب عن المسارعة بجوابها. ثم إن السنين تعاقبت وتعرضت للنونية المذكورة بإلماع وحسن ثناء في ذكرى صديقين (1) وتحدثت عنها من مذياع أن درمان وعلمت أن ذلك وقع من الأستاذ كرف رحمه الله موقعًا حسنً وكنت أزوره من حين إلى حين فعقدت العزم أن أنظم نونية جوابه حصى أو مرجانًا وإذا بالمنية تبادر إليه. ناداني أستاذ العربية الدكتور بابكر دشين وأنا أجتاز بعض الطريق فقص على النبأ الحزين. لكل أجل كتاب، وإذا بهذه المرثية تنثال علي مع الدموع: -
سقت قبرك الديمية المرحجنة
…
ياكرف الخير والموت سنة
وأسكنك الله دار المقامـ
…
ـة ترضى بها نفسك المطمئنة
كما لغة للكتاب العزيز
…
عراها بدرسك وثقتهنه
وتصبر حتى عقول التلاميـ
…
ـذ بالفهم تلفى إليها ركنه
وقد كنت في الشعر تعطي الغريب
…
معانيه واضحًا شرحهنة
وتشده عربي السليقـ
…
ـة والصوت ذو نبرات وغنة
بهيًا به وشجيًا به
…
وأشجانه عن سواه شجنه (2)
(1) نفسه ص 21.
(2)
أي أحزان الشعر قد حبسته عن كل شيء سواه- شحنته عنه (من باب نصر).
وتكتبه مثل خط ابن مقلـ
…
ـة تشرق أسطار نسخ ضمنه
وللنحو عندك إتقانه
…
إذا ما البديهيات فيه امتحنه
وتحفظ آي الكتاب الحكيم .. وفيك مع الحفظ تجويدهنه
وفقه المشايخ أحرزته
…
وتلك المتون تدبرتهنه (3)
ومع عزة النفس فيك القناعـ
…
ـة إن القناعة كنز وجنة
وذاك بلا كلفة منك تأتيـ
…
ـه إن التكلف لا أحمدنه (4)
ومن تخذ الكبر سمتا فرب
…
عزيز بكبر خطوب أهنه
وكنت امرأ صدره قد حوى الـ
…
ـعلوم وحاز من الشعر فنه
وصنو التجاني ديباجة
…
معا لكما القول مرخى الأعنة
وشرفتما قومنا بالبيا
…
ن الذي ليس فيه عيوب يشنه
وخلدتما معهدًا سوحه
…
بذكر كما خالد ذكرهنه (5)
وهبت الفصاحة ثم البديـ
…
ـع أبياته الغر حبرتهنه
وأغراض شعر الزمان الحديث
…
تناولتها بضرب رصنه (6)
أسيت لفقدك كنت امرأ
…
صحيح المودة ما فيه ظنة
وكم من سجية بر له
…
وكم من عطاء له لم يمنه
وقد ذقت في دارك الطيبات
…
وشاهدت من فضلك الجم قنة (7)
وألفيت فيك الأديب اللبيـ
…
ـب الذي ليس كالضعفاء الأظنة (6)
ومن قلبك فيه ضوء البصير
…
ة ذرهم قلوبهم في أكنة
عرفتك في عنفوان الشباب
…
ب والضاد عندي علق المضنة
إذا الحرب نيرانها مشعلات
…
وهتلر غاراته شنهنه
وإذا وضعت حرب أهل الصليـ
…
ـب أوزارها المشرعات الأسنة (9)
وأعجبني منك حب الأصيل
…
وعبك من منطق العرب دنه
كأن العنطنطة العنس بالد
…
وتحتك بارت زفوفًا زفنة (10)
(3) أي متون العلوم كألفية ابن مالك ومختصر خليل والشاطبية وجوهرة التوحيد والخريدة.
(4)
أي لا أحمدنه والنون للتوكيد قال تعالى: {واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصةً} أي لا تصيبهم
(5)
هو المعهد العلمي بأم درمان ومنه تخرج الأستاذ كرف وفيه درس الأستاذ التجاني يوسف بشير رحمهما الله تعالى. ولدًا كلاهما في سنة 1912 وتوفي التجاني سنة 1937 م.
(6)
أي بأنواع ذات رصانة وإلها للسكت.
(7)
قنة أي ذروة وقمة عالمية.
(8)
الأظنة جمع الظنين أي المتهم.
(9)
كان ذلك سنة 1945 م لما استسلمت ألمانيا بلا قيد ولا شرط.
(10)
العنطنطة من غريب الحديث أي الناقة الشابة الجيدة وتوصف المرأة الشابة كذلك، العنس القوية. والدو الصحراء. الزفوف الناقة التي تتبختر في مشيها وكذلك الزفنة وزفوف من كلمات معلقة الحارث اليشكري.
كأنك بالنعف نعف الرباب
…
ولم تلف ثم الضعيف الضفنة (1)
ولك تقم رجليك يوم الكلاب
…
بأميك والجري حاذي حذنة (2)
نبذت جوار الدنية نبذًا
…
كنبذ أبي بكر ابن الدغنة (3)
ونبذ ابن مظعون ابن المغير
…
ة لا يبتغي لسوى الله منه (4)
وجنات روض السهيلي ردت
…
وروضات جنات أخرى كهنة (5)
ورمت الوجادات في الخرد العيـ
…
ـن أي عين نشوان إذ هن عنه (6)
وشخ أبي روف الطيب الفـ
…
ـذ والشرد الحوش مما فتنه (7)
أجلك قد كان دأبًا له
…
ويقرع غيرك إن زار سنه (8)
تذكرت لما دعانا معًا
…
ومجلسه ذاك لا أنسينه
تهلل منبلجًا كالغماما
…
ت برق الخريف سرى بينهنه
وكان جميل المحيا نبيلاً
…
له لم كيزيد يزنه (9)
ولحيته كثة زانت الخـ
…
ـد والأنف يا شؤم يوم أطنه
وما كان بعد بني قصره
…
ولكنه له دار طين زونة
وكل المساكن في أم درما
…
ن كن مداميك طين يطنه (10)
(1) الضفة بوزن فعلة: أي الضعيف الأحمق- هو ضفن بكسر الضاد وفتح الفاء وتشديد النون مفتوحة وهي صفته وهنا للمبالغة.
(2)
هنا إشارة لقول الحارث بن وعلة الجرمي:
فدى لكما رجلي أمي وخالتي
…
غداة الكلاب إذ تحز الدوابر
كأنا وقد حالت حذنة دوننا
…
نعام تلاه فارس متواتر
وانظر القصيدة (32) من المفضليات البيت الأول والبيت الرابع وخبر القصيدة في الشرح.
(3)
بتنوين راء أبي بكر وهو الصديق رضي الله عنه رد على ابن الدغنة بضم الدال والغين مضمومة مشددة ونون مفتوحة مشددة.
(4)
هو عثمان بن مظعون رضي الله عنه رد جوار الوليد بن المغيرة وصبر للأذى.
(5)
الروض الأنف للسهيلي كهنة أي مثلهنه والهاء للسكت وتاء جنات منونة وهمزة أخرى منقولة.
(6)
الوجادات العلوم والنفائس منها، الخرد العين الكتب ولنشوان بن سعيد كتاب اسمه الحور العين أراد الكتب، عنه من عانه يعينه إذا نظر إليه.
(7)
هو الشيخ الطيب السراج رحمه الله وأبو ريف حي بأم درمان.
(8)
سنه مفعول ليقرع الرباعي.
(9)
هو يزيد بن الطثرية الشاعر.
(10)
أي يصنعن طينًا من مداميك طين جمع مدماك والكلمة معروفة فصيحة بكسر الميم وفي العامية بضمها. زونة بكسر ففتح فنون مشددة مفتوحة أي قصيرة حسنة.
وفي جانب الحوش كانت له
…
من الشعر خيمة بدو وشنة (11)
ويا ربما ارتبط الصافنات
…
وسيف له وسنان أسنة (1)
وقد كان يلبس زيًا سريًا
…
يسر العيون إذا ما شفنه (2)
ومدت سماطًا لنا أريحيـ
…
ـته بجفان ملاء مفنة
وأنشدنا كلمات حسانًا
…
رصانًا بوشي بديع وزنه (3)
ولحن طويس بما بال همـ
…
ـك أنشده يا طويس تغنه (4)
وجاذبنا من كلام الأوائـ
…
ـل أخبار إنس وأخبار جنة
وأمر الخلافة والأمر من بعد .... ـد حين العصائب للملك دنه (5)
وأنشدته أنا بائية
…
فسر وهم لبين بزنة (6)
وعندك نصر لما قلته
…
شواهد في ابن عقيل مبنة
ويا نعم ساعات ذات اللقاء
…
ويا طيبهن ويا حسنهنه
ظللنا نساقي سلاف القريـ
…
ـض صرفًا وكاساته ما صبنه (7)
لدن غدوة ذاك حتى دنا الـ
…
ـعشاء وأذان بر أذنه (8)
وما زالت الناس عند السذاجـ
…
ـة عاداتهم فيهم لم يخنه
ولم تكن اللغة المجتباة
…
تصدت لها شبهات رطنه
وكيد الشعوبية المحدثين
…
أولاك أولو عتكات مصنة (9)
(11) شنة: قربة بفتح الشين.
(1)
كان له فرسان مانا فرثاهما فقال:
فرسان ماتا للفتى السراج
…
من شدة الإبكار والأدلاج
كانا له حصنًا حصينًا مثلما
…
سكن السموأل شامخ الأبراج
(2)
شفنه أي نظرن بطرف العين والهاء للسكت.
(3)
بديع بالتنوين وبالإضافة إذا كان رحمه الله يحب البديع.
(4)
إشارة إلى خبر الأغاني لطويس حيث تغني:
ما بال همك ليس عنك بعازب
…
يمري سوابق دمعك المتكاسب
يا طويس لك تنويها
(5)
دنة: أي خضعت- دانت
(6)
بزنة باتهام وعيب وذلك أنني أنشدت: لهم شرف عالي الذرار والمناكب فذكر الشيخ الطيب أن المناكب ضخمة لا عالية وقال كرف (رحمهما الله) هذا مثل وزججن والعيونا وهو من الشواهد فقبل الشيخ ذلك.
(7)
لم تصرف عنا.
(8)
أذنه أي أذنت إليه أي سمعته.
(9)
عتكات: أرجاس وسخ ذات صنان.
أولاك هم المقرفون الغواة
…
أولو الضغن والفتكات المجنة (10)
وتلك لقاءات فكر وذكر
…
سعدت بها في فؤادي خزنه
عرفتك في فتية كالنجوم
…
وكان سناك يضئ الدجنة
نعاك إلى صديق حبيب
…
درى أن قلبي لك الحب كنه (1)
رآني أبادر عرض الطريق
…
مغذا فألمع لي أن تأنه
نعاه إلي فللنبأ المـ
…
ـر أحسست أغوار قلبي حزنه
لقد كنت أنوي زيارته أمـ
…
ـس حنت إليه من النفس حنة
سبقت إليه. قضاء المهيمـ
…
ـن يمضي ونحن العبيد الأقنة (2)
وفي عالم الذر كان الكتا
…
ب من قبل أن البطون الأجنة
تذكرت إنشاده الشعر حتى
…
له في الشغاف من القلب رنة
إذا أنشد الشعر ألفيته
…
تكشف أسراره المستكنة (3)
لمعرفة عنده بالبيان
…
إذا ما خفاياه لم يستبنه
أسيت على فقده إنه
…
لقد كان ريحانة ذات بنة (4)
ومات وما قدرته بلاد
…
كم العبقريات فيها دفنه
وكم من نفوس وهن النفيسا
…
ت فيها لعمري غبنا غينه
(10) مجنة بضم الميم أي مستورة مخفية للاغتيال وهذا من نصف بيت للفقيد رحمه الله بل أكثر من نصفه وهو قوله:
فذرني والمقرفين الغواة
…
أولي الضغن والفتكات المجنه
(1)
كنه وأكنه أي أخفاه وحفظه.
(2)
الأقنة أي لهم قدم في العبودية، وعبد قن أي قديم العبودية ورثه عن آبائه.
(3)
تكشف: أي تتكشف بحذف التاء الأولى.
(4)
بنة أي رائحة فائحة والكلمة معروفة في عاميتنا واشتقاق لفظ البن الذي يصنع منه القهوة من هذا الأصل لأن رائحته تفوح.
أخي هاك مني هذي الدموع
…
دموعي هذه القوافي المرنة
لمثلك فلتنح الباكيات
…
بأدمعهن غزارًا هتنه
وكم لم عندي من عهد ود
…
وكم لك من ذكريات يصنه
ونونية لك طوقتنيها
…
لشدتها الجزلة الأسر طنة
فهذا جوابي ولكن عدت
…
سماعك أقضية قد أحنه (1)
سقت قبرك الديمة المرجحنة
…
وأسكنك الله في الخلد جنة (2)
(1) أي أحانها الله وقضاها.
(2)
المرجحنة: الثقيلة الممطرة.
* العلامات والشروح من عمل المؤلف.
رحم الله كرفا فقد كان شاعرًا فحلاً
ولمحمد المهدي مجذوب رحمه الله تعالى (1918 - 1982) قصيدة بعنوان «اللغة حجاب (1)» نوردها هنا كاملة لأنها تتناول موقفًا له بما نال من ثقافة عصرية من درسه الإنجليزية والمنهج الحديث في المدارس العصرية إلى كلية غوردون وقد كان والده الأستاذ محمد مجذوب جلال الدين من كبار أساتذة العربية فيها، وبما نشأ عليه من ثقافة دينية عربية عريقة في أهل بيته- قال:
سئمت من لغة الإعراب قيدني
…
فيها بياني من حفظ وإملاء (2)
لم يشفها الزيت غرافًا وما برحت
…
تذري المدامع في أطلال أسماء (3)
أرح قوافلها الحسرى بمنزلة
…
لا في الجزيرة أو في تيه سيناء
جرحى ينوح وراء الروح منتظرًا
…
إطلاق نفسي من أمسي وإبرائي
أشتاق صوتي لا ما كنت آخذه
…
من صوت غيري لا يدري بأبنائي (4)
أجهر بنفسك وانفض ما شعرت به
…
ولا تبال بأفعال وأسماء
واسمع بسمعك صوتًا تستريح له
…
كما تبسم وجه البدر في الماء
هل يمسك الشعر ميزان يكيل به
…
مقلدون بلا وحي وإصغاء
مضى ابن أحمد محمودًا ومن ورثوا
…
أوزانه الآن مثلي غير أكفاء (5)
سمى البحور تعالى البحر عن صفة
…
وعن قواف تحاكي عي فأفاء
حتام أذهل في آثار شاردة
…
وكيف أعقد آفاقًا بإرشاء
إني وثبت مع العميان أحسبني
…
لا أستقر على أحضان ظلماء
(1) ديوانه «تلك الأشياء» ، بيروت، 1981 ص 282.
(2)
الإعراب بكسر الهمزة وفي الديوان الهمزة فوق الألف وهو خطأ مطبعي.
(3)
غرافًا بالغين المعجمة ولو كانت بالمهملة لكان المعنى أيضًا مستقيمًا كقول عروة بن حزام.
جعلت لعراف اليمامة حكمه
…
وعراف نجد أن هما شفياني
ولو كان الشاعر رحمه الله أراد المهملة لكان قد جعل القافية عفراء مكان أسماء لأنها صاحبة عروة.
(4)
أشتاق لازم ومتعد، اشتقت الشيء وإلى الشيء.
(5)
أكفاء أي نظراء اهل لأن يكونوا أزواجًا للأوزان وإيقاعها وكفء مثلثة الكاف وبضمها وكأمير وسفينة وكساء، ذكر ذلك في هامش القاموس وقريب منه في تفسير الإخلاص عند الطبري.
ناد العبيد عبيد الشعر هل حصدوا
…
إلا ندامة مداح وهجاء (1)
يلقى الربيع روايات وعنعنة
…
عمياء تسأل في آثار عنقاء (2)
هومير ينشد مسحورًا ملاحمه
…
وينشدون مديح الإبل والشاء
من مغرب الشمس جاء الصبح منطلقًا
…
يمسى مضيئًا وما يسعى لإمساء
يحيا به الناس أفراحًا سواسية
…
كأسًا بكأس وإغراء بإغراء
يعبرون كما شاؤوا وما عرفوا
…
متنا يعالج أدواء بأدواء
أتعرف الشرق كان الشرق في بلد
…
قد استراح إلى يأس وإرجاء
خان الخضارة في صفين من بخلوا
…
على ابن فاطمة الزهراء بالماء
أم أنت تسخر مني ليس في وتري
…
إلا قوافل أوزان وضوضاء
هون عليك جزاك الله صالحة
…
إن بت أتبع إقواء بإيطاء
أزريت بالشعر والفصحى مقدسة
…
فاحمل علي وما يعدوك إزرائي (3)
أما سمعت بعبدان العصا طربوا
…
لما أخل عبيد الشيخ بالباء
أصابر اللوم أحيانًا وأغفره
…
ولا أنام على هون وإغضاء
هاتوا ابن أحمد ترضيني حكومته
…
إذا تملأ من نقلي وصهبائي (4)
يطوى الموازين في بغداد منتجعًا
…
باريس عالم إيقاع وأزياء
تنسيه صيحته في البئر قيدها
…
في دفتر ندب الأطلال بكاء
(1) عبيد الشعر زهير والنابغة والحطيئة ومن تبع طريقتهم وله أيضًا دلالة عامة.
(2)
العنقاء طائر خرافي، ويشير الشاعر هنا إلى سؤال الشعراء الأطلال، يسألونها عن أمر مبهم مستحيل كالعنقاء.
(3)
لك أن تجعل والفصحى مقدسة جملة معترضة أو تعطف وتجعل مقدسة حالاً منصوبة وأزريت الضمير تاء الفاعل، أي احمل علي أيها المعتقد أني أسأت إلى الفصحى وتكون قد انتقمت لها ولم يقع الإزراء عليها ولكن عليك.
(4)
ابن أحمد عني به الخليل (160 هـ).
بيكاس جرد أشكالاً حقيقته
…
لم يخفها بين أظلال وأضواء (1)
يرنو ويخرج في عينيه من أبد
…
كالموميات بألوان وأصداء
كم شف نفسًا كساها لحم لذته
…
بها يعود إلى بوح وإفضاء
إن كانت اللغة الفصحى فهل سمعت
…
سحر الطبيعة في صمت وإيماء
ضحكت منطلق الأنفاس مبتهجًا
…
مع الحياة أحبتني وأهوائي
سكرت حبًا على صحو يلازمني
…
في ظلمة الخمر حب غير نساء
أصارع الشعر كي تبدو حقيقته
…
فيها حقيقة ميلادي وإنشائي
قيد بنفسي لا أنفط أضربه
…
حتى أسالم في جنبي أعدائي
نشأت في اللغة الفصحى مقدسة
…
حتى اكتهلت وما فارقت صحرائي
أتعرف العرب الأمجاد في بلد
…
فيه تحطم معراجي وإسرائي
نسج هذه القصدة متين محكم، وقال شاعرنا يخاطب نفسه بثورة العصر على قيود اللغة وإعرابها «ولا تبال بأفعال وأسماء» وقد بالى هو بذلك فقوله «أشتاق صوتي» أدق تعبيرًا مما لو قال «أشتاق صوتي» أدق تعبيرًا مما لو قال «أشتاق إلى صوتي» وكلا الوجهين صحيح والتمييز بين الصحيحين أدخل في ملكة البيان. ولله المثل الأعلى، حاء بالفعلين مضارعًا وماضيًا في سورة الكهف (اسطاع واستطاع) قال تعالى:{ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا} وهذا يتضمن معنى إشارة الخضر عليه السلام إلى ما كان من عجلة موسى عليه السلام لم تسطع تتضمن معنى العجلة عن تريث للصبر حتى يتبين ما هناك. وقال تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا} فالظهور ومحاولة الصعود في ذلك تعجل يتضمنه معنى التعبير بـ (اسطاعوا) والنقب وما فيه من أداة وعمل فيه بطء يتضمنه معنى التعبير بـ (استطاعوا) - والله تعالى أعلم نعوذ به أن نقول في كتابة بما لا نعلم.
وقال شاعرنا «وعن قواف تحاكي عي فأفاء» يعتذر عن التزامه القافية وكأن تكرار الروى برتابته فيها فأفأة من غير فصيح اللسان. وهذا النعت صحيح حيث تكون القافية مغتصبة متكلفة وإيقاع الشعر غير رنان. وهنا تواضع به كالمعتذر للخليل أن نظامه المحكم نعجز عنه الآن ونضعف عنه. سمى الوزن بحرًا لأنه عنده ذو سعة ممتدة النغم، ونحن إنما ندركه الآن بتضييق مجاله في حدود وصفنا له بالأوتاد
(1) أي بيكاسو الفنان المعروف.
والأسباب والفواصل والأعاريض والضروب. ونحن الذين ورثنا أوزانه غير أكفاء لهن، ومن شواهد انعدام الكفاءة (1) بيننا وبينها أننا نتصيد القوافي، نذهل عن المعنى وعن أنفسنا في طلب قافية شاردة شرود- شاردة إذا كلما طلبناها أمعنت في الفرار، شرود أي جيدة، إذ كذلك نريدها، فلا نظفر بلا إلا ضعيفة، ذلك بأن إيقاع بحر الشعر واسع كالبحر وآفاقه ونحن نمد بحبال تصيدنا نريد أن نعقد الأفق البعيد بقافية. الكلمة التي في آخر البيت «نعقد آفاقًا بإرشاء» كلمة إرشاء، مصدر بكسر أولها الرباعي أرشى الدلو يرشيها أي جعل لها رشاء بكسر الراء وهو حبل البئر والجمع أرشية وفي طبع الديوان خطأ، إذ الهمزة تحت الألف دالة على الكسرة وقد طبعت فوق الألف في الديوان.
وزعم شاعرنا لنفسه أن يتبع «إقواء بإيطاء» وقد مر تعريف الإقواء والإيطاء في الجزء الأول من هذا الكتاب، وليس في هذه القصيدة إيطاء أو إقواء. قوله:«في أطلال أسماء» وبعده بثلاثة أبيات «بأفعال وأسماء» ليس بإيطاء لاختلاف الكلمتين معنى ولفظًا، الأولى علم مؤنث أصله «وسماء» أي جميلة قلبت واوه ألفًا والثانية جمع «اسم» وليس في القصيدة إقواء. قوله:
إلا قوافل أوزان وضوضاء
إن عطفت ضوضاء على قوافل رفعتها فكان هذا إقواء ولكن ضوضاء معطوفة على أوزان، وتوهم الشاعر الإقواء لأن ههنا إشارة إلى الحارث بن حلزة حيث قال:
أجمعوا أمرهم عشاء فلما
…
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن تصـ
…
ـهال خيل خلال ذاك رغاء
وفي القصيدة بين الإقواء المشهور الذي آخره «ملك المنذر بن ماء السماء» والروى كله مرفوع.
قول محمد المهدي رحمه الله: «أما سمعت بعبدان العصا البيت» - منع «عبيد» من الصرف جائز ويجوز أن يكون الشاعر قد نون اسم عبيد [هو عبيد بن الأبرص]
(1) أي الشبه والمناظرة والمكافأة التي تكون في الزواج مثلاً.
وأدغم التنوين في الشين المشدد تبعا لقراءة أبي عمرو في «أهلك عادا الأولى» [عاد أولاً](1) وبها قرأ المهدي رحمه الله في صباه.
المهدي في هذه القصيدة صاحل ثورة ومحافظة معًا، وقد اجتهد في معاني الثورة ولكنه كأنه عير مقتنع بصحتها كما هو مقتنع بالقيد والمحافظة. من أجل هذا في أداء الأجزاء الثائرة من القصيدة نوع من عناء فكري وغموض مع جهارة المنحى الخطابي ووضوحه. الشاعر مقدام جرئ على التعبير الثوري، ولكنه في نفس الوقت فزع الروح من هذه الجراءة نفسها غير مقتنع حقًا بها- خذ مثلاً قوله: -
ناد العبيد عبيد الشعر هل حصدوا
…
إلا ندامة مداح وهجاء
يلقى الربيع روايات وعنعنة
…
عمياء تسأل في آثار عنقاء
هومير ينشد مسحورًا ملاحمه
…
وينشدون مديح الإبل والشاء
هنا شيء من روح «عاج الشقي على رسم يسائله» وقد بينا أن هذا من مذهب الشعراء قديم ضجر قريب الأمد.
من مغرب الشمس جاء الصبح منطلقًا
…
يمسي مضيئًا وما يسعى لإمساء
يحيا به الناس أفراحًا سواسية
…
كأسًا بكأس وإغراء بإغراء
هل هنا إعجاب مفرط بأساليب الأدب وبالمدينة الحديثة والحضارة الغربية؟ نعم ولكنه إعجاب مشوب بخوف فقراء «الدامر» وعلماء الإسلام المغروس في النفوس منذ النشأة الأولى.
قال الفكي ود دوليب من علماء السودان في القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري)(2)
واختلفوا في رابع القرون
…
هل ناقص أو كامل التكوين
أي هل تقوم الساعة في أوله وقبل أن يكتمل
(1) عدد الأولى قوم هود عليه السلام والآخرة قوم صالح عليه السلام ذكره في الجلالين وهذا مرتب على أنهم خلفوا عادا كما في سورة الأعراف. والله تعالى أعلم.
(2)
قصيدة «ود دوليب» مشهورة، والذي قرأناه منها على أنه هو هي في الصغر لم يبلغ عشرين بيتًا، ثم قد وجدنا منها ما جاوز المائة- وداخلته تنبؤات سياسية، فهل ذلك من الأصل أو زيد فيه؟ بعضه زيد بلا ريب إذ ليست فيه روح أسلوب الشيخ وسمته رحمه الله تعالى.
ثم خروج الدابة الغريبة
…
من الصفا بهيئة عجيبة
وهي المذكورة في سورة النمل {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابةً من الأرض تكلمهم}
ثم طلوع الشمس من مغربها
…
صاعدة قاصدة مشرقها
وقالوا في تفسير قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} [في أواخر سورة الأنعام]- قيل طلوع الشمس من مغربها وحين ذلك لا تقبل التوبة ممن لم يكن تاب من قبل.
كانت قصيدة «ود دوليب» يعرفها فقراء الدامر وغيرهم ويحفظها من يعقل من الصغار وتكتب في الألواح أحيانًا. وفي وصف علامات الساعة أن القرآن يرفع من السطور ومن الصدور وأن الناس يعيشون كالأنعام يأكلون ويشربون ويتسافدون. أم ليس في قول الشاعر: -
يحيا به الناس أفراحًا سواسية
…
كأسًا بكأس وإغراء بإغراء
بعض الإشارة إلى هذا المعنى. هذه القبلات العلانية في السينما. هذا المادة التي لا تهاب
يعبرون كما شاؤوا وما عرفوا
…
متنا يعالج أدواء بأدواء
داء الأنانية والمادية بخوف المجهول،
ثم خروج الدابة الغريبة
…
من الصفا بهيئة عجيبة
هذا أحد المتون مما كان وما زالت تتداوى به البقية الباقية من تراث الفقراء.
ها هنا عند شاعرنا مع الإعجاب (يعبرون كما شاؤوا خوف الساعة وعلاماتها- تأمل قوله (وما يسعى لإمساء) لكفر هذا الغرب لا ينتظر ظلام «إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت» وتأمل قوله: «وإغراء بإغراء» . هل الدابة الغريبة هي هذا الناس بعد أن تمسخهم المادية قردة وخنازير ثم يقع بهم الخسف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب؟ حتى الغربيون أنفسهم منهم من فزع من مادية حضارة عصره وسماها الدابة The Animal
والذي يدلنا على فزع شاعرنا من جراءته وثورته التي كأنها شعوبية يسارية الظاهر التجاؤه إلى تراث العقيدة السنية القديم العميق:
أتعرف الشرق كان الشرق في بلد
…
قد استراح إلى يأس وإرجاء
الشرق الأولى هي العبارة المعاصرة التي يرد بها دار الإسلام كما مر في شعر محرم والشرق الثانية بمعنى الشروق والضوء. الصبح الآن من الغرب ولكنه من قبل كان ها هنا ونحن صرفناه عن دارنا يوم استرحنا إلى اليأس وفرضنا التحكيم على علي وهوله كاره، ثم داهنا وأدهنا من بعده وصرنا مرجئين وأطلق العنان للدهاة وللملوك وللجبارين.
خان الحضارة في صفين إلخ
أي صلة هذا وبين قضايا اللغة والشعر الحديث والثورة الجريئة اللسان- نعم الشك والفزع وجذور الإيمان التي في الجنان
أم أنت تسخر مني إلخ
الشاعر يخاطب محافظه ثائره، الذي نسى العصر ودابته مع عمار بن ياسر ومع الحسين بن علي رضي الله عنهم نعم «أنا» المحافظ أسخر مني أنا الثائر، والثائر المعترف في بمحافظته يسخر من ذلك أيضًا- وترى ما هو إلا تكرار للغناء القديم، قوافل الأوزان الخليلية التي تقف على الأطلال وتسائلها
هل غادر الشعراء من متردم
وعبدان العصا هم هذه الشراذم التي تطرب لتهديم الأوزان واضطرابها، هؤلاء هم عبيد العصا. «عبيد الشيخ» رمز به الشاعر لنفسه حين حاول التحرر من الوزن، مضطربًا به عن عمد، كاضطراب عبيد بن الأبرص في:
أقفر من أهله ملحوب
هذا وفي الثلث الأخير من القصيدة يعرض الشاعر لثلاثة أغراض، أحدها بقية ثورة وتهيب ولا يخلو من غموض وهو قوله:
هاتوا ابن أحمد ترضيني حكومته
…
إذا تملأ من نقلي وصهبائي
يطوي الموازين في بغداد منتجعًا
…
باريس عالم إيقاع وأزياء
تنسيه صيحته في البئر قيدها
…
في دفتر ندب الأطلال بكاء
وفي هذا من مقارنة الشعوبية والثورة على قديم التراث باسم العصر الحديث. وفي قوله: «حكومته» صدى من صفين وتحكيمها وفي خطب على وردت «الحكومة» بمعنى التحكيم وأراد شاعرنا: «يرضيني حكمه» ولكن بشرط أن يتملأ من فتنة العصر
الحديث ويطوي موازين عصر بغداد- إذ كان الخليل بالبصرة وكانت بغداد قصبة الدنيا آنئذ- منتجعًا باريس بما فيها من فن وموسيقا وأوبرا وترف مادي وأدبي. إذن لأنسته فتنتها عمل العروض واستعانته بسماع صدى صيحته في البئر وتقييده ذلك في الأعاريض
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ماذا وقوفي على رسم عفا
…
مخولق دارس مستعجم
وهلم جرا
الغرض الثاني الاستدلال بثورة بيكاسو الفنان وتجديده، وزعم شاعرنا أنه كان ينظر ثم لا يجعل فنه بعد ذلك مستعبدًا لقوانين الظلال والرؤية والضوء، بل يجرد انفعاله إزاء ما يرى في هيئة أشكال، يحنط فيها أشباح لذته كما تحنط الموميات فهو بدلاً من أن يرسم الجميلة بظلال وأضواء تبين زاهر ملامحها، يشق هذا المنظر الجميل بمبضع تشريحي، فلا يبقى إلا الهيكل العظمى، فيكسو هذا الهيكل لحمًا موميائيًا معبرًا عما أصاب هو من لذة. عمل وتعب تأوله الشاعر الرسام أنه هو مذهب بيكاسو. ولعل أمر ما صنعه بيكاسو لم يكن أكثر من محاولة يائسة للتجديد، إذ مع ما كان له من مهارة، قد سبقه الفنانون الأولون واللاحقون بهم من بعدهم، وكان يعلم في نفسه تقصير ما يستطيعه من إبداع، أقصى ما كان يستطيعه من إبداع، عن مدى غوية (1746 - 1828 م) والغريكو من فناني قطره، بله من سبقوه في عصر قريب من التأثيريين ومن إليهم ومن تقدمهم وهلم جرا.
ثم يقول المهدي رحمه الله.
إن كانت اللغة الفصحى فهل سمعت
…
سحر الطبيعة من صمت وإيماء
هل ههنا يوازن الفنان المهدي بين القدرة صاحب الريشة المصورة وصاحب القلم المبين، هل هو ثائر على أن ضحى الأول من نفسه هو من أجل الإخلاد إلى الثاني- التصوير حرم، والبيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة، إلا أن يكون شيء غير ذي حيوية أو بمنزلة اللعب للأطفال كالخيل المجنحة التي ذكر بعض رواة الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند عائشة رضي الله عنها مرجعه من تبوك فقالت إنها خيل الملائكة؟
والغرض الثالث وهو ختام القصيدة وزبد معناها، اعتراف صريح بتمرد على ما أحاط به من بيئة محافظة من نفسه ونشأته ولغته وثقافة آبائه الفقراء الدامر المجاذيب ومجدهم وأورادهم واحتفالهم بالمولد:
صلينا مشتاقين
…
ليست الكونين
صلينا مشتاقين
…
لقرة العينين
وبرجية المعراج:
ردف السلام
…
للنبي الإمام
صاحب المقام
…
يوم الازدحام
وجهه كالسراج
…
نوره وهاج
ليله المعراج
…
كبروا له التاج
ومن أخريات نماذجهم وكبرياتهم والده الأستاذ العلامة الحافظ الشاعر المثقف أستاذ العربية بكلية غوردون وقد تخرج منها من قبل في أول دفعة كما تخرج ابنه هذا الشاعر من بعد، بارعًا في معارفها وفي اللغة الإنجليزية وآدابها وأفنديا مبنطلاً من صميم الجيل المتحرر الواعد الحديث.
ومع التمرد انتماء عميق وقيد الانتماء عتيق.
ضحكت منطلق الأنفاس مبتهجًا
…
مع الحياة أحبتني وأهوائي
سكرت حبًا على صحو يلازمني
…
في ظلمة الخمر حبًا غير نساء
في التعبير هنا عناء حبيبي المعدن. سكر الشاعر بحب العصر وفتنته ومع هذا السكر صحو ملازم هو الشعور بالانتماء والقديم- ولأمر ما حين شبه الشاعر افتنانه بحب التحرر الحديث بسكر الخمر ولذتها، جعل الخمر والسكر ظلمة- ولا يخفي أن الصحو الذي هو نور هو هذه المحافظة وهذا الانتماء.
أصارع الشعر كي تبدو حقيقته
…
فيها حقيقة ميلادي وإنشائي
الرسم ذوبان في فتنة العصر الحديث. الشعر يتيح لي عرض الصراع الذي في نفسي بين الثورة والمحافظة. عدوى هذه الثورة وهي أنا. لا بد من القيد لترويضها وتذليلها. أنا ابن اللغة الفصحى وقيودها. لعنة على هذه الحرجات العربية الثورية التي تمزق عني ثوب مجدي القديم. مجد فقرائي علماء السيرة أهل الأوراد والأذكار والإسراء والمعراج.
قيد بنفسي لا أنفك أضربه
…
حتى أسالم في جنبي أعدائي
نشأت في اللغة الفصحى مقدسة
…
حتى اكتهلت وما فارقت صحرائي
مقدسة، لبدئها بحفظ القرآن وحرصها على قيم بلاغته. وفارقت صحرائي أي بلدي الدامر التي وصفها بوركهاردت وبروس وأعجبوا بما فيها من سخاء وعلم وفضل وشيم نبيلات.
أتعرف العرب الأمجاد في بلد
…
به تحطم معراجي وإسرائي
الأمجاد صفة للعرب أي هل تحس من عرب ماجد في هذه العاصمة الكافرة، في هذا العصر الحديث؟
القصيدة رصينة ولكن انفعال عاطفة الشاعر فيها غير شاف لما خالطه من شك وتهيب وجسارة يخالها غموض. بهذا هذه القصيدة من أجود أنواع التعبير عن مشكلة العارف بهذه اللغة المتذوق لروائعها إزاء ما يحيط به من فتنة محاربتها والتنكر لأساليبها- هذا الذي قارب شاعرنا المهدي التصريح به في قوله:
(أتعرف العرب الأمجاد إلخ) قد صرح به تصريحًا فيه حمية أهله الجعليين حيث قال في قصيدة عنوانها «يوم الماهية» : (1)
وقفت إلى الصراف والدين واقف
…
بكشف كحبل البئر أهوى إلى الورد
(كان الناس إلى عهد قريب لا يعرفون الماء عندنا إلا من الآبار)
سلامًا على الصرف أضحى أصابعًا
…
تراقص بين الخضر والحمر والربد
كان المهدي محاسبًا فنظره إلى الصراف عن مراقبة عارفة والخضر أوراق الجنيه والحمر والربد ما دونها إلى قطع البرونز
أوقع في كشف المواهي فليتهم
…
وقد نقدوا صانوا حيائي من النقد
أي وقد أعطوني النقد، والنقد الثانية أي الطعن والوخز والعيب لأن في فرض التوقيع نوعًا من إذلال
أقلب أوراقًا وصفرًا وفضة
…
أعد فلوسي كم خسرن على العد
صكوك بلوناها طويلاً وضيعت
…
هداي وسماني أولو الرشد بالمهدي
أكل غنى بات في الناس آمرًا
…
يجوز له أكل الجهود بلا جهد
ورب جنيه بات عندي أصره
…
يطير إلى البنيان طاروا إلى الهند
البنيان طائفة من الهندوس كان منهم بالسودان تجار كثيرون وما زالت منهم بقية ويظهر أن صلتهم بهذه البلاد ضاربة في القدم.
(1) تلك الأشياء ص 168 - 171.
أجور ألفناها وورد مكدر
…
وحمد لرب الماس أشبه بالجحد
فليتن بعت المش في الحي كاسبًا
…
وأعليت من أطباقه شرف المجد
لأن الطبق له حافة ناتئة تظلل رأس من يحمله وتبدو كأنها شرفة بالنسبة إلى جسم حاملها- فليتني بتخفيف كسرة نون الوقاية بلا إتباع لها بياء المتكلم
عجبت لنفسي كيف أصبحت جالسًا
…
إلى مكتب أبلى حياتي بالجرد
وصاحوا أتى الصراف أهلاً بطائف
…
يزور على طول الترقب والوعد
وأمسى أبو حيان عندي مقلبًا
…
كتابًا وأقلامًا حرثن بلا حصد
وقد أحرق أبو حيان كتبه واعتذر عن ذلك في رسالة له حزينة
تجردت إلا من خلال كريمة
…
خشيت عليها الصبر فقدًا على فقد
يعلمني الإيثار قومي ثراؤهم
…
من الدين والأحساب والكرم العد
أي الغزير الكثير كعد الماء الذي لا ينقطع مدد عينه
ومرت ضحى سيارة ذات غبرة
…
وزهو على الدنيا مصعرة الخد
أي صاحبها يصعر خده زهوًا وغرورًا
من الحلب الأشرار فيها مغامر
…
رآني فحياني حريصًا على ردي
وأعرض عنه حاقرًا منه نفخة
…
ألم يدر أن الزيف محتقر عندي
الحلب أصل معناها الأخلاط من الناس لا أصل لهم وتطلق في العامية على الغجر ومن هم كالغجر من نابتة العصر الطارئين على البلاد.
هذه الأبيات من قصيدة طويلة آثر الشاعر فيها كما قدمنا البيان الصارح مع حرارة نفس وانفعالة ثورة أصالة ليس معها شك أو تردد- ومع ذلك تصوير بليغ وأنفاس سخرية وفكاهة.
وشعر المهدي الجيد كثير لا تتسع له صفحات هذا المجال المحدود ودونك نموذجًا أخيرًا هذه الأبيات من قصيدة له بعنوان «غارة طليانية» يصف بعض تجاربه إذ تطوع في الجندية الإضافية بالعاصمة سنة 1941 م إلى حين:
يقول البريطاني دافع ولا أرى
…
دفاعًا ومالي في بلادي موطن
وراطنته حينًا وأصغيت معجبًا
…
لصوتي كأني كافر متمدن
يقوا تطوع قلت لا ثم ردني
…
أخ ضيق العينين كالتيس أرعن
يخوفني مكر الخواجة حاقدًا
…
على وسجني إن تمردت ممكن
ولي إن تعلمت السلاح وسيلة
…
بها يستشفى حقد أعانيه مزمن
وأصبحت جنديًا فجاءت مغيرة
…
وزامرة صاحت ففر المؤذن (1)
الزامرة صفارة الإنذار- وأغارت طائرة طليانية
أمد حبالاً من شواظ متينة
…
وأمسك أقطار السماء وأطعن
هذا وصف جيد وكان المهدي رحمه الله يطلق النار من مدفعه الرشاش بالخرطوم البحرية حين أغارت الطائرات الطليانية ذات عشاء
عجبت لهذا الإنجليزي لابدا
…
بخندقه والطير فوقي تدندن
لبد يلبد من بابي نصر وفرح
وألقت رعودًا قاصفات ولذنى
…
من الخوف موت فيه من خاف يأمن
لذ من باب فرح لذنى الشيء ولذذته، وجهان
ومالي إلا موطن ليس حكمه
…
إلي ولكني أسير مسجن
ومن فوق رأسي خوذة مستديرة
…
وكمامة بلعومها ليس يؤمن
الخوذة بضم الخاء لا فتحها كما ضبط خطأ في الديوان. وكانت الكمامة للوقاية من الغاز السام ولم يستعمل في معارك الحرب الثانية، وقوله:«ليس يؤمن» لأن الكمامات التي صرفت للمطوعة كانت قديمة يخشى ألا تقي مما جعلت وقاية منه
وأطلق نيرانًا تعاوى وترتقي
…
لها شعل بالليل تهذي وترطن
هي الحرب جاءتنا ونصلى أوراها
…
وما بلدي روما ولا هي لندن
والطائرات المغيرة بأمر روما والمدافع ترميها بأمر لندن وضلع الشاعر مع الألمان غيظًا على الاستعمال البريطاني، وكذلك كان كثير من العرب
سلام على الألمان ذقنًا هزيمة
…
معًا وأتى روميل فالثأر ممكن
وصف الشاعر لحبال الذخيرة حي دقيق.
وتعجب الشاعر من نفسه كيف نطوع ليدافع كما قيل وزعم عن الوطن والوطن ما زال تحت المستعمر، وذلك قصر السردار، الحاكم العام البريطاني يشرف على النيل ببياضه من شاطئ الخرطوم المقابل، إذا كان هو عند مدفعه بالخرطوم البحرية على الشاطئ الشمالي من النيل الأزرق، ألا يوجه مدفعه إليه فيدكه دكًا- نسى الشاعر رحمه الله أنه
(1) ديوان الشرافة والهجرة للشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب بيروت 1402 هـ 1982 ص 18.
مدفع رشاش لن يضيع في الجدران الضخمة كبير شيء ولكن عسر أن تصيب طلقة منه السردار نفسه. وفي الصبح جاء الضابط المسئول (1) فطلب عهدة الذخيرة وعدها كما يتطلب ذلك نظام الفرنجة الدقيق، فغضب الشاعر على الصاغ البريطاني غضبة مضرية- قال وهو قصص جيد ذو حيوية وروح فكاهة ساخرة مع النمط العربي الرصين
عجبت لنفسي في قيودي محاربًا
…
على النيل والسردار في القصر يكمن
ويا مدفعي الصخاب لودرت دورة
…
عليه شفاني قصره وهو مثخن
ألم نحتمل غوردون رأسًا بحربة
…
لخا صيحة بالنصر والفخر تعلن
ويا كسلا صبرًا ولا بأس إنها
…
حروب وإني بالمقادير مؤمن
وقعت كسلا في قبضة الطليان، فقوله:«ولا فرق» أي كله استعمار،
ولا بأس أن نشقى بحرب لعلها
…
تدك بلاد الإنجليز وتدفن
وصبحني في أول الصبح ميجر
…
يعد رصاصي وهو للعد محسن
هذه شهادة المحاسب والشاعر المراقب
فصحت به حاربت عنك فهل ترى
…
أبيع رصاصي وهو صنف مدون
وهذه غضبه وطني وحجة مدني إداري، وما حارب هوعن البريطاني حقًا ولكن عن وطنه.
فقام ولم يغضب وسلمت عهدتي
…
إليه وحياني الكدوس المدخن
كان رئيس المصلحة التي كان يعمل فيها المهدي الميجر «فلي» فيجوز أنه كان الميجر الذي عد الرصاصات المائة وخمسين رصاصة كما بين الشاعر من بعد، ويجوز أنه يكون قد جاء «ميجر» حربي وعدها بحضرة الميجر «فلي» ولكن السياق يدل على أن الذي تولى ذلك هو «فلي» وكان إداريًا حازمًا ووصفه الشاعر هنا ببرود وتعال ومظهر تهذيب- حياه، ولكن بنزع غليونه من فمه حينًا يسيرًا
ليسقط «فلي» وليعل في الحرب هتلر
…
فقوموا بني السودان فادعوا وأمنوا
كما كان يدعو فقراء الدمراء ويؤمنون كلما حزبهم أمر يخشونه، يقرأون يس أربغين ومائة وألفا- آمين آمين كل منهم يؤمن بعدد ما قرأ ثم اكتمل العدد أذن «الفكي» الكبير ءآمين
(1) أي صاغ أو رائد كما يقال الآن.
ومن يرد شرًا لنا يقود
…
فكيده في نحره يعود
ومن يرد شرًا لنا يجر
…
فسقفه من فوقه يخر
حياه فلى بالغليون المدخن وأعفاه من التطوع، أنغ أن يكون دفاعًا عنه هو، وأعطاه مكافأة وبرر تصرف إعفائه له بتقرير إداري
وأبعدني من خدمة الجيش صارفًا
…
مكافأة عن خدمتي ليس تسمن
جنيه ونصف كل قرش بطلقة
…
وما لحياتي عنده من يثمن
لا يخفى ما ههنا من مرارة
وسجل في التقرير أني مشاغب وأسعدني أني طليق ملجن
التلجين هو أن تجتمع لجنة وتصدر تقريرًا بالاستغناء عن كذا وكذا وأكثر ما كان يطلق التلجين على الأشياء والمعدات التي يستغنى عنها، فالملجن كأنه غير صالح ليستفاد منه.
وهذا وقد كال هذا الكتاب ولا أريد أن أخرج به عن جادة ما وضع له من تتبع قضايا الوزن والجرس والبيان وأشكال تقصيد القصيدة وأطوارها وما طرأ عليها من معاني العصر الحديث وهزاته وتحدياته وهي عبارة لا تعجبني، أعدها من هذا الجند الغريب الذي طرأ على لغتنا وأساليبنا. لا أريد أن أخرج إلى باب من التراجم والاختيار فذلك يصير بنا إلى بحر لا ساحل له. والمحسنون ممن لا يزال يؤثر مذاهب الجزالة قد جعلوا بحمد الله يكثرون في بلدنا وفي سائر البلاد العربية، كما أن بدعة الشعر الذي يقال له حر قد جعلت كبرى غمراتها توشك أن تنحسر والله المستعان وبه التوفيق.
وقد كان الشيخ مصطفى السقا رحمه الله أشار علي حيت تولت شركة مصطفى البابي الحلبي طبع الجزئين الأول والثاني ونشرهما سنة 1955 م 1956 م ذكر لي أنه يستحسن أن أكتب عن الموشحات، وحسن ما أشار به رحمه الله وجزاه خيرًا عن كل ما أسدى إلي من خير ولكن الموشحات باب قائم بنفسه، تدخل فيه مع عامية الأندلس أساليب المورسكيين وما يصل ذلك بما تطور منه في بروفنس وأقاليم فرنسة وأوروبا في العصور التي يقال لها الوسطى، فخذا يطلب تخصيصًا وانصرافًا جديدًا إلى بابه من البحث، ولعل غيري أن يكون أجدى كفاية وأدرى دراية بذلك مني في هذا المضمار، وكل ميسر لما خلق له وليس من الحكمة أن يقدم المرء على ما عسى ألا يكون له محسنًا- إن الله يحب المتقن عمله.
وفي النفس شيء من باب من أبوب الشعر الحديث لا يسمح الطول الذي طاله هذا الكتاب والجهد الذي كلفنيه من الإقبال على شيء منه الآن- وذلك هو الجانب
المسرحي فإن نسأ الله في العمر سبحانه عز وجل، وأعان بمدد منه من صبر وصحة وعمل وتوفيق فآمل أن أفرد لذلك بحثًا. رحم الله أحمد شوقي فهو أول من جود المسرحية العربية وروض الأوزان والديباجة الناصعة عليها. ونظرت عرضًا في أوائل مسرحية مجنون ليلى:
وأنت إذا ما ذكرنا الحسين تصاممت
«بشر هامسًا ومتلفتًا كأنما يخشى أن يسمعه أحد»
لا جاهلاً موضعه
ولكن أخاف امرأ أن يرى
…
على التشيع أو يسمعه
حبست لساني عن مدخه
…
حذار أمية أن تقطعه
إذا الفتنة اضطرمت في البلاد
…
ورمت النجاة فكن إمعة
«ليلى»
ابن ذريح نحن في عزلة
…
فهل على مستفهم منك باس
دار النبي كيف خلفتها
…
كيف تركت الأمر فيها يساس
«ابن ذريح»
تركتها يا ليل مضبوطة
…
يحكمها وال شديد المراس
إن حديث الناس في يثرب
…
همس وخطو الناس فيها احتراس
«ليلى»
ابن ذريح لا تجر واقتصد
…
أحلام مروان جبال رواس
يؤسسون الملط في بيتهم
…
والعنف والشدة عند الأساس
«تتضاحك الفتيات وتقول إحداهن للأخرى»
«فتاة»
ليلى على دين قيس
…
فحيث مال تميل
وكل ما سر قيسًا
…
فعند ليلى جميل
«ابن ذريح»
ما الذي اضحك منس الظـ
…
ـبيات العامرية
ألأني أنا شيعيـ
…
ـي وليلى أموية
اختلاف الرأي لا يفـ
…
ـسد للود قضية
«الخ الخ.1. هـ
أحسن أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إذ يقول: في الكامل في معرض تقديمه أبياتًا دالية لابن مناذر رثى بها عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي قال: «فله في شعره شدة كم العرب بروايته وأدبه وحروة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته، ولا يزال قد رمى في شعره بالمثل السائر والمعنى اللطيف واللفظ الفخم الجليل والقول المتسق النبيل وقصيدته لها امتداد وطول» - وكذلك مسرحية مجنون ليلى وما جمع شوقي رحمه الله من تجديد إلى حسن صياغة وصفاء ديباجة ومحافظة على الوزن والفصاحة وتعبير عن معان عصرية بروح حضرية- هذا ولنجعل ما ألمعنا إليه وما نسأل الله أن يعيننا على أن نفي ما وعدنا فيه خاتمة لصفحات هذا الكتاب ....
والمرء مظنة الزلل وتعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونسأل القبول وله الحمد أولاً وأخيرًا وكان الفراغ منه في الليلة الخامسة عشرة من ربيع الأول سنة 1411 هـ (أي مساء 3 من نوفمبر سنة 1990 م) في مدينة الخرطوم أعني الفراغ من الفصل الأخير بعد مراجعته كما تقدم من ذكر ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مؤلفه عبد الله بن الشيخ الطيب بن عبد الله بن الطيب بن محمد بن
أحمد بن الفقيه محمد المجذوب
رضي الله عنه