الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكنه يأتي بكل غريبة
…
تروع على استغرابها وتهول
رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا
…
وما علموا أن السهام خيول
شوائل تشوال العقارب بالقنا
…
لها مرح من تحته وصهيل
فاستعان أبو الطيب بذكر فضل سيف الدولة عليه أنه أتاح له أن يلقى الحبيب بدرب القلة فجعل ذكر ذلك الفضل سبيلا يخرج به إلى المدح. وهذا من رشيق تخلص أبي الطيب وأملئه بالعاطفة وحديث القلب. لعل أبا الطيب ما لقى بدرب القلة إلا تذكرًا قويًا لجمال الحبيب إذ طلعت الشمس في رونق من حسن الفجر كأنه علامة ممن أحب. وهذا المعنى على براعته وخفائه مولد من قول الأنصاري:
تبدت لنا كالشمس خلف غمامة
…
بدا حاجب منها وضنت بحاجب
أم لعل أبا الطيب إنما رأى طيفًا عند تعريس المسافر؟
وأعلم أيها القارئ الكريم أن من علامات نفس الشاعر ودلائله أشياء نذكر منها فيما يلي إن شاء الله:
أولًا: التسلسل:
وهو ضربان، ما كان في ضوء فكرة واضحة وما جيء به على سياق عادة الشعراء- ومرادنا بالتسلسل أن يتتابع الكلام تتابع عقد السلسلة، آخر ما تقدم منه منوط بما يليه، فمن أظهر ما يجيء من الضرب الأول ما تكون عليه صياغة كثير من القطع والقصائد القصار. فمن أمثلة القطع، قول قيس بن زهير:
تعلم أن خير الناس ميت
…
على جفر الهباءة لا يريم
ولولا ظلمه لظللت أبكي
…
عليه الدهر ما طلع النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر
…
بغى والبغي مرتعه وخيم
أظن الحلم دل علي قومي
…
وقد يستجهل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني
…
فمعوج علي ومستقيم
وأمر القطع واسع.
ومن أمثلة القصيدات القصار، قول تأبط شرًا يصف نجاته من هذيل على نحو شبيه بما نراه اليوم في مغامرات رعاة البقر، وكان تأبط شرًا مما يتزيد في أحاديثه عن نفسه،
وشيء من ذلك كان لدهاة العرب مذهبًا، يخيفون به الناس- قال:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
…
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلًا
…
به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
فذاك قريع الدهر ما عاش حول
…
إذا سد منه منخر جاش منخر
أخذ هذه الصورة من اندفاع مسايل الماء في مخارم الجبال، فإن سد منخر جاش منخر، ومن شاء جعله مأخوذًا من تجربة الزكام، وينبغي أن يكون الموصوف هنا منخرًا ضخمًا، والوجه الأول أولى وأشبه.
أقول للحيان وقد صفرت لهم
…
وطابي ويومي ضيق الجحر معور
أي وقد هلكت أو كدت ويومي ضيق ومقاتلي بادية- قال أمرؤ القيس:
وأفلتهن علباء جريضا
…
ولو أدركنه صفر الوطاب
أي قتلناه- قال صاحب القاموس وصفرت وطابه أي مات أو قتل، وهو الوجه الذي ينبغي أن يفسر به هذا البيت.
قالوا وكانت مع تأبط شرًا أوعية مملوءة عسلًا فزعموا أنه قال للحيان إنه يضن عليهم بعسله ولهم أن يأسروه فإن شاءوا منوا وإن شاءوا قتلوا ولن يجمع لهم أن يأخذوه ويأخذوا عسله، فأراق العسل، وفسر بعضهم قوله صفرت لهم وطابي أي خلت وطابي من العسل ووطاب بكسر الواو وطاء مهملة بعدها ألف فباء جمع وطب بفتح فسكون وهو سقاء يكون فيه اللبن. وهذا وجه في التفسير والأول أجود، لأنه إنما أراق العسل بعد أن تظاهر بالاستسلام ويومه ضيق الجحر معور أي ظاهر عورة المقاتل.
هما خطتا إما إسار ومنة
…
وإما دم والقتل بالحر أجدر
أي خطتان، حذف نون المثنى تخفيفًا، وإسار مرفوعة الراء ولك أن تجعل إسارًا مضافة فتكون مجرورة وكذلك منة وعليه فيكون حذف نون «خطتا» من أجل الإضافة والفصل بين المتضايفين بإما كأنه لا فصل لظهور المعنى.
وأخرى أصادي النفس عنها وإنها
…
لمورد حزم إن فعلت ومصدر
أي وخطة ثالثة أصادي نفسي عنها، أراودها عنها، وهي أن أريق العسل وانزلق عليه- فهذا يقوي ما ذهبنا إليه آنفًا أن مراده من قوله: وقد صفرت لهم وطابي، أي كأن قد صفرت، كأن قد مت وقتلوني لضيق يومي وقلة ناصري وإعوار مقاتلي.
فرشت لها صدري فزل عن الصفا
…
به جؤجؤ عبل ومتن مخصر
هذه هي المغامرة «السينمائية» - وكان الخبر الممتع ينوب مكان ما ننهمك فيه الآن من معاينات الصور والتشخيص والأفلام.
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا
…
به كدحة والموت خزيان ينظر
تجسيد الموت هنا وإعطاؤه مشاعر الآدمي وصفاته جد بارع. والخزي إنما كان لبني لحيان. وكانوا هم من رسل الموت وأسبابه. وصفة البطولة كما ترى في نعت هذا الجؤجؤ أي الصدر العبل والمتن الضامر وانزلاق هذا الفتى الخفيف انزلاقًا ماهرًا لم يكدح الحجر به كدحة.
فأبت إلى فهم ولم أك آئبًا
…
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
أي وهي خالية ليس بها من صافر وإنها تصفر بها الريح، وكأن ههنا سخرية وردًا للكلام على قوله من قبل «وقد صفرت لهم وطابي» - صفر الأولى من باب فرح وهذه من باب ضرب.
ومن أمثلة التسلسل في القصار من القصائد، حائية جبيهاء وقد مر خبرها وهي التي أولها:
أمولي بني تيم ألست مؤديًا
…
منيحتنا فيما تؤدي المنائح
ثم استمر في وصف المنيحة إلى آخر القصيدة وهي اثنا عشر بيتًا.
ورائية الحارث بن وعلة الجرمي.
فدى لكما رجلي أمي وخالتي
…
غداة الكلاب إذ تحز الدوابر
وهي أحد عشر بيتًا. وذلك من القطع قريب فلا تعجب أن يتلئب فيه تسلسل الكلام على سهولة في ذلك ويسر.
ويائية عبد يغوث أدخل في القصيد إذ هي عشرون بيتًا والتسلسل فيها جلي. بدأ بالنهي عن اللوم أن يلومه أحد حيث أخذ أسيرًا:
ألا لا تلوماني كفي اللوم ما بيا
…
وما لكما في اللوم خير ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعها
…
قليل وما لومي أخي من شماليا
أي ليس اللوم من سجياتي. وما أحسب المخاطبين إلا شيئًا واحدًا جرده من نفسه وجعله صاحبين- وقد فسر بشار هذا من مذهب الأوائل كما قدمنا حيث قال:
أيها الساقيان صبا شرابي
…
واسقياني من ريق بيضاء رود
وهذا ما لا يكون إلا على معنى التجريد الذي قدمناه.
ثم خاطب الحارث من حال أسره راكبًا أي راكب يبلغ عنه قومه. وبعد أن نهى عن أن يلام هو، أنحى باللائمة على قومه إذ أسلموه، ففسر ما كان من قبل عماه من سبب نهيه عن الملامة، إذ لا خير فيها، إذ يظهر بعد التمحيص خطأ قومه الذين أسلموه لا خطؤه هو- فتأمل.
فيا راكبًا إما عرضت فبلغن
…
نداماي من نجران أن لا تلاقيا
أبا كرب والأيهمين كليهما
…
وقيسًا بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى الله قومي بالكلاب ملامة
…
صريحهم والآخرين المواليا
ولو شئت نجتني من الخيل نهدة
…
ترى خلفها الحو الجياد تواليا
وهذا ما صنعه الحارث بن وعلة إذ فر.
ولكنني أحمي ذمار أبيكم
…
وكان الرماح يختطفن المحاميا
وقد اختطف أسيرًا وشد وثاقه:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة
…
أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا
…
فإن أخاكم لم يكن من بوائيا
أي أنا أشرف شرفًا من أخيكم الذي تريدون قتلي بواء به والبواء في الثأر أن يقتل امرؤ بمن يساويه. قال ابن الأنباري في شرحه البواء السواء قال أحمد أي لم يكن أخوكم نظيرًا لي فأكون بواء له.- أحمد هو أحمد بن عبيد بن ناصح من شيوخ أبي محمد القاسم بن بشار الانباري صاحب الشرح ورواه عنه ابنه أبو بكر محمد بن القاسم رحمهم الله.
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدًا
…
وإن تطلقوني تحرببوني بماليا
وكأنه أحس إجماعهم على قتله فأخذ في البكاء على نفسه.
أحقًا عباد الله أن لست سامعًا
…
نشيد الرعاء المعزبين المتاليا
وتضحك مني شيخة عبشمية
…
كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيا
كأنه قال لم ترأ بسكون الراء وهمزة مفتوحة، وحذف حرف العلة ثم ألقى فتحة الهمزة على الراء نقلًا فصارت ترى- قال الشارح ويروي كأن لم ترأ قبلي أسيرًا. قال الفراء أبقى من الهمزة خلفًا والرواية هي الأولى وقلت وغير ظاهر مراد الفراء إلا على الوجه الذي قدمناه أولًا والله أعلم.
وظل نساء الحي حولي ركدًا
…
يراودن مني ما تريد نسائيا
من الأنس والمفاكهة ونشيد الشعر.
وقد علمت عرسي مليكة أنني
…
أنا الليث معديًا علي وعاديا
هذا مساوق لما تقدمه. أي نسائي يعلمن غنائي وبلائي فحديثهن إلى عن إكرام وأما أنتن فما أنا إلا أسير أسيف مهين بينكن فكيف ترمن مني ما ترومه نسائي. ولعل اسم عرسه لم يكن مليكة ولكنه جعل هذا اسمًا لها كناية عن مكانها في قلبه.
وقد كنت نحار الجزور ومعمل الـ
…
ـمطي وأمضي حيث لا حي ماضيا
أراد حيث لا ماضيا وكره الصفة بلا موصوف وهو المذهب الفصيح.
وأنحر للشرب الكرام مطيتي
…
وأصدع بين القينتين ردائيا
فنحر أمرئ القيس مطيته لعذارى دارة جلجل كان على هذا الوجه، وبعيد أن ينتحل نحو هذا منتحل إذ هو منتزع من عرف حي.
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا
…
لبيقًا بتصريف القناة بنانيا
شمصها أي طعنها وآذاها وطردها كل مطرد.
وعادية سوم الجراد وزعتها
…
بكفي وقد أنحوا إلي العواليا
أي رب محاربين منتشرين انتشار الجراد أقبلوا مشرعين إلى الرماح رددتهم بكفي.
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل
…
لخيلي كري نفسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
…
لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا
وهذان كبيتي أمرئ القيس:
كأني لم أركب جوادًا للذة
…
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
…
لخيلي كري كرة بعد إجفال
قال صاحب عيار الشعر (ص 146): «هكذا الرواية وهما بيتان حسنان ولو وضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النسج فكان يروى:
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل
…
لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة
…
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
وقد بين أبو الطيب المتنبي فساد هذا الرأي، وانتصر للرواية التي رويت عن أمرئ القيس بقول فصل ذكره راوو أخباره في شرح قصيدته.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
عند قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وضاح وثغرك باسم
ومن المتوسطات الطول ذوات التسلسل الواضح مع شيء من مراعاة عادة الشعر في البدء بمعنى نسيبي كلمة تأبط شرًا:
يا عيد ما لك من شوق وإيراق
…
ومر طيف على الأهوال طراق
فقد خلص من الطيف وهو يخاطبه إلى ذكر نجائه من بجيلة وذلك حيث قال:
إني إذا خلة ضنت بنائلها
…
وأمسكت بضعيف الوصل أحذاق
نجوت منها نجائي من بجيلة إذ
…
ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي
ثم خرج من هذا إلى صفة الخلة التي يؤثرها والصديق الذي يرى أن يعول عليه. ثم عاد إلى ذكر مأثرة من مآثر نفسه، كما نجا من بجيلة عدوًا على بساط الأرض، صعد مرقبة يرصد من فوقها الأعداء.
وقنة كسنان الرمح بارزة
…
ضحيانة في شهور الصيف محراق
وجعل صفة نفسه وليس على قدمه إلا شرثة يوقى البنان بها متصلة بصفة صاحبه الذي قال في صفته:
كالحقف حدأه النامون قلت له
…
ذو ثلتين وذو بهم وأرباق
لتلبد شعره وكأنه أطباق رمل ندي لبدها الصاعدون عليها. ومن دقيق براعة اتصال بيان الشاعر ههنا أنه خلص من صفة رأس صاحبه الكثيف الشعر المتلبد شعره إلى صفة رأس الجبل الذي صعده وكأن قمته سنان رمح متلهب في حر شمس الصيف وكأن نعامته قزع متفرقات في مقابلة ما تقدم من صفة لبدة الشعر الكثيف ثم انتقل من صفة رأس الجبل ورأس صاحبه إلى صفة عدوه وقدميه هو وهذه النعل الخلق الشرثة الشبيهة بنعامة قنة الجبل المحراق الضحيانة.
ثم عاد إلى خطاب صاحبة الطيف وجعلها عذالة خذالة. ومع اتصال الكلام هنا عنصر من تداعي المعاني إذ النعل من ألفاظ تطلق على الزوجة ألغز بها الحريري في إحدى المقامات ويذكر مع ذلك الوطء -فما يخلو أن شبه العذالة الشرسة بالشرثة الخلق- وقد تعلم قول رؤبة من بعد:
يأوى إلى سفعاء كالثوب الخلق
ومن القصار المتصلات التسلسل نونية المرار في النخل:
وكائن من فتى سوء تراه
…
يعلك هجمة سودا وجونا
وقد ذكرناها في باب الصفات وفيها اثنا عشر بيتًا.
ومن ذوات التسلسل مع توسط دالية عمرو بن معد يكرب الحساسية:
ليس الجمال بمئزر
…
فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال معادن
…
ومناقب أورثن مجدا
أعدت للحدثان سا
…
بغةً وعداءً علندى
وفيها خمسة عشر بيتًا، والكلام فيها أخذ بعضه برقاب بعض.
نهدًا وذا شطب يقد البيض والأبدان قدا
يعني فرسه وسيفه الصمصامة.
وعلمت أني يوم ذاك منازل كعبًا ونهدا
ونهد اسم قبيلة هنا رده على نهد الذي هو فرسه، ثم وصف عدوه بكمال الاستعداد.
قوم إذا لبسوا الحديد تنمروا حلقا وقدا
فالحلق الدروع والقد التروس أو كساء يدرع به من جلد.
كل أمرئ يجرى إلى
…
يوم الهياج بما استعدا
ومن عند هذا الموضع صار إلى ذكر صفة القتال، وكيف أن خوف النساء وأخذهن في
الهرب خشاة السبى لما رأين من تخاذل رجالهن أمام هؤلاء المتنمرين قد أثار حفيظته.
لما رأيت نساءنا
…
يفحصن بالعزاء شدا
وبدت لميس كأنها
…
بدر السماء إذا تبدى
وبدت محاسنها التي
…
تخفى وكان الأمر جدا
إذ كشفت عن ساقها وهي تعدو، فإما أن تحمى وإما أن تسبى- لما كان ذلك:
نازلت كبشهم ولم
…
أر من نزال الكبش بدا
إذ لو لم ينازله لأخذ النعجة.
هم ينذرون دمي وأنذ
…
ر إن لقيت بأن أشدا
ولا بد في الحرب من مصاب وفجيعة وإن تبع ذلك النصر.
كم من أخ لي صالح
…
بوأته بيدي لحدا
ويجوز أن يكون المراد ههنا رب من هو صالح أن يكون لي أخًا لاكتمال صفات الشجاعة والنجدة فيه، اضطرني واجب منازلته أن أقتله فأبوئه بقتليه لحدا- وهذا يشبه سياق الحديث وقوله من بعد:
ما إن جزعت ولا هلعت ولا يرد بكاي زندا
وقوله ولا يرد بكاي بشعر أن الذي بوأه لحدا أخ له من قومه قتله الأعداء كما قد قتل هو منهم وهذا هو المعنى الذي قلنا به من قبل: قوله لا يرد بكاي زندًا أي لا يجدي ولا يحرك شيئًا- الزند هو زند الذراع وحركته طبيعية يسيرة لا تتطلب كبير جهد، فحتى نحو هذا اليسير لا يصنعه البكاء، يشير بذلك إلى عدم جدواه.
وقصيدة الأخنس بن شهاب:
لابنة حطان بن عوف منازل
…
كما رقش العنوان في الرق كاتب
من سبعة وعشرين بيتًا وتبدأ بالنسيب إلا أنه نسيب في طريق الرحلة التي عليها موضوع القصيدة وهو ذكر الجد والتشمير والفخر بذلك، وإنما وقف الشاعر على المنازل وهو في طريق تشميره وجده وإنما هي وقفة ذكرى مشعرة بانصراف عن ذلك الماضي وإقبال على أمر الرجولة والحزم الذي قد أخذ الآن بأسبابه، وقفة الأخنس هنا ليست كوقفة أمرئ القيس في:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
إن هذه وقفة حنين وقلب حزين- قال الأخنس، والقصيدة مفضلية حماسية، حذف منها أبو تمام أبيات ديار القبائل وإنما بنى أمره على الاختيار لا على محض الرواية:
لابنة حطان بن عوف منازل
…
كما رقش العنوان في الرق كاتب
هذا أول القصيدة عند المفضل وروى أبو تمام قبله بيتًا وجاء به ثانيًا هكذا:
فمن يك أمسى في بلاد مقامة
…
يسأل أطلالًا بها لا تجاوب
فلابنة حطان بن قيس منازل
…
كما نمق العنوان في الرق كاتب
وكأن هذا المطلع ينكر البدء بذكر الطلل ثم يرجع إلى ذلك كصنيع عنترة، فإن صح هذا الذي نراه، فلعله مما يكون أبو تمام قد آثر به هذه الرواية، غير أنه لا ريب أن رواية ما روى عن المفضل أجدر أن يعول عليها.
هذا وبعد الوقفة قليلًا، رجع الأخنس إلى مذهب ما أخذ به من الجد والحزم. وإنما وقف لقضاء حق الذكرى وتوديع عهدها، وداعًا كل الوداع:
ظللت بها أعرى وأشعر سخنةً
…
كما اعتاد محمومًا بخيبر صالب
وهذا من جيد أوصاف الحمى، وكان الأستاذ التجاني الماحي رحمه الله مما ينشد هذا البيت ويقرنه بقول عبدة بن الطبيب:
رس كرس أخي الحمى إذا غبرت
…
يومًا تأوبه منها عقابيل
ويقول إن ذلك من أدق ما وصفت به حمى الورد وهي التي يقال لها الآن الملاريا ويقرن بذلك أبيات المتنبي من قصيدته الميمية المشهورة:
وزائرتي كأن بها حياء
…
فليس تزور إلا في الظلام
ومما يحسن أن نستطرد به هنا ما عيب به قوله:
إذا ما فارقتني غسلتني
…
كأنا عاكفان على حرام
إذ الغسل واجب على كل حال. ومقال أبي الطيب جيد محكم لأنه جعلها زائرة في الظلام، فلا يكون وصلها إلا حرامًا.
ثم يقول الأخنس وهذا البيت متقدم في رواية ما اختاره حبيب:
تظل بها ربد النعام كأنها
…
إماء تزجي بالعشي حواطب
والنعامة هوجاء، فعدل عن تشبيه النعام بإماء صاحبته في الزمان الذي تصرم إلى صفة ناقته الهوجاء وصفة ما كان عليه من أمر الصرامة والحزم:
خليلاي هوجاء النجاء شملة
…
وذو شطب لا يحتويه المصاحب
وقد عشت دهرًا والغواة صحابتي
…
أولئك خلصاني الذين أصاحب
رفيقًا لمن أعيا وقلد حبله
…
وحاذر جراه الصديق الأقارب
فهذا زمان صعلكته وشراسته، ثم لما أنجلت عنه عماية الشباب أقبل على ما أقبل عليه
فأديت عني ما استعرت من الصبا
…
وللمال عندي الآن راع وكاسب
ثم أخذ في تعداد ديار القبائل، ليخلص من ذلك إلى ذكر قومه أنهم بأرض صحصح لا يحميها حجاز جبال أو سيف بحر- وذلك قوله بعد تسعة أبيات هي مرجع في معرفة كثير من حال مواضع القبائل على زمان الجاهلية:
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا
…
مع الغيث ما نلقى ومن هو غالب
ثم أخذ في باب الفخر بقومه ومنعتهم. ولا شك أن القصيدة أبياتها متصلة وأن المقدمة النسبية ملتحمة بما بعدها أشد التحام.
هذا ومن المتوسطات في موضوع واحد متصلة أجزاؤه كلمة السموأل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
…
فكل رداء يرتديه جميل
وفيها اثنان وعشرون بيتًا وهي مشهورة والنفس الإسرائيلي فيها قوي- من ذلك قوله:
وإنا لقوم ما نرى القتل سبه
…
إذا ما رأته عامر وسلول
فهذا كأنه يطعن به في العرب.
وقوله:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول
وهذا ما يفعلونه.
وقوله: تعيرنا أنا قليل عديدنا
…
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
…
عزيز وجار الأكثرين ذليل
ومن هذا الضرب المتوسط نونية العدواني إن لم نعد نسيبها.
ومن ذوات التسلسل مع الطول عينية متمم وهي من مشهور الشعر وقد استشهدنا منها بأبيات عدد والشعر الجيد مما يعذب على التكرار. والقصيدة كلها متسلسلة الأبيات في ضوء فكرة واحدة هي الفجيعة بأخيه مالك. وفيها واحد وخمسون بيتًا. من البيت الأول إلى العاشر عدد متمم فضائل أخيه. أول ما بدأ به أنه كما قال:
لعمري وما دهري بتأبين هالك
…
ولا جزع مما أصاب فأوجعا
فنفى أن يكون مراده محض التأبين أو أنه جزع مع أن المصاب موجع، ولكن الفقيد قد كان امرأ ذا فضائل يعظم فقده من أجل فقد نظيرهن عند غيره من بعده.
لقد كفن المنهال تحت ردائه
…
فتى غير مبطان العشيات أروعا
وقد عجل إلى ذكر المنهال لينوه بفضيلة ما أسدى من يد الوفاء حيث كفن مالكًا ولم يخش أن يؤخذ عليه ما أبدى من المروءة. ثم أخذ متمم أولًا في تعداد الجانب السلبي من مآثر أخيه -فتى غير مبطان- ولا برما وقابل ذلك بجانبه الإيجابي وما يناقضه عند غيره -لبيبًا خصيبًا- يهتز للندى.
ويومًا إذا ما كظك الخصم إن يكن
…
نصيرك منهم لا تكن أنت أضيعا
وإن تلقه في الشرب لا تلق فاحشًا
…
على الكأس ذا قاذورة متزبعا
ذو القاذورة هو الذي يترفع عن الناس والمتزبع البخيل السيء الخلق وقالوا ذو القاذورة المتزبع هو الذي فيه فحش وسوء خلق.
وإن ضرس الغزو الرجال رأيته
…
أخا الحرب صدقًا في اللقاء سميدعا
وما كان وقافا إذا الخيل اجحمت
…
ولا طائشًا عند اللقاء مدفعا
ولا بكهام بزة عن عدوه
…
إذا هو لاقي حاسرًا أو مدرعا
أجحمت بتقديم الجيم أي جبنت. بزه سلاحه. كهام، كليل غير قاطع، مثل هذا خليق أن تبكيه البواكي وذلك لأنه سيحس فقده، زمان الشتاء وعند اجتماع الشرب وفي ساحة الحرب وإذا طرق الضيف وإذا عز فداء الأسير وللأرامل والأيتام وعندما يدعى إلى الميسر.
إذا جرد القوم القداح وأوقدت
…
لهم نار أيسار كفى من تضجعا
أي أتم العدد واحتمل ما يكون في ذلك من خسارة وغرم
وأن شهد الأيسار لم يلف مالك
…
على الفرث يحمي اللحم أن يتمزعا
وعل شيئًا من ذلك كان يصنعه كثير ممن يشهدون الميسر من أهل البخل أو الحرص.
وإذ هكذا سيحس فقد مالك فلماذا يصبر هو- أليس مثل هذا الفقيد مما تنفطر معه الأفئدة ويستعذب الجزع؟
ثم أليس هو بأولى الناس ألا يصبر على فقده من بعده؟
أبي الصبر آيات أراها وأنني
…
أرى كل حبل بعد حبلك اقطعا
وأني متى ما أدع باسمك لا تجب
…
وكنت جديرًا أن تجيب وتسمعا
أخذ من عند البيت السابع عشر إلى الثاني والعشرين في حديث فجعه هو خاصة:
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا
…
أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
ههنا نفس «أينى» يروم سبيل الحكمة والعزاء.
فلما تفرقنا كأني ومالكا
…
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وكنا كندماني جذيمة حقبة
…
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فإن تكن الأيام فرقن بيننا
…
فقد بان محمودًا أخي حين ودعا
شبه حالهما بندماني جذيمة لأن هذا كان ملكًا وأصاب نديميه بنزوة غضب من نزوات الملوك. فشبه متمم أمر خالد بذلك. ثم تأمل أيها القارئ الكريم أنه في الأبيات المتقدمات تناول أمر المصاب من جوانبه التي تعم العشيرة، ثم جعل يخصص حتى صار إلى نفسه وما فجع به من فراقه بعد طول المودة والاجتماع. ثم بعد أن استوثق من أنه قد قرر عندك فضائل مالك وعظيم فقده قرن ذلك بتصريح موجز جمع فيه بين الحزن والاعتزاز.
فقد بان محمودًا أخي حين ودعا
هو أخي وهو محمود -نعم إنه قد بان وقد فارق وفارقناه- وانفرط عقد البكاء:
أقول وقد طار السنا في ربابه
…
وغيث يسح الماء حتى تريعا
بكى الشاعر واسترجع بعد الزفرات ثم جعل يحيى أخاه بتحية الوداع وهي السقيا تعم البلاد وتخص المكان القفر الموحش الذي هو تربته.
سقى الله أرضًا حلها قبر مالك
…
ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
ثم يقول:
فوالله ما أسقي البلاد لحبها
…
ولكنني أسقي الحبيب المودعا
تحيته منى وإن كان نائيا
…
وأمسى ترابًا فوقه الأرض بلقعا
ولو كانت القصيدة انتهت ههنا لكان في ذلك بلاغ بليغ، ولكن الشعر ربما انبثق من الشعور دفعات.
وقد بلغ الشاعر بفكرة الأسى على مالك من حيث فقد الرجل العظيم الذي كأنه مبلغ ما صار به إلى أن يحزن عليه ويعتز بذكراه.
ولكن بقى بعد ذلك ما يعقب الحزن والاعتزاز من عواقب الفقد التي تعظم بها الفجيعة، فقدان النصير، وتضعضع الجاه والوجاهة وانجراح الفؤاد أمام توالي النوائب، ولقاء الشماتة والتجلد للأعداء والحساد، وتعذر الثأر والقصاص وهلم جرا.
تقول ابنة العمري مالك بعد ما
…
أراك حديثًا ناعم البال أفرعا
فقلت لها طول الأسى إذ سألتني
…
ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا
وفقد بني أم تداعوا فلم أكن
…
خلافهم أن أستكين وأضرعا
ولكنني أمضي على ذاك مقدما
…
إذا بعض من يلقى الحروب تكعكعا
هنا كرر ما قدمه في أول بيت حيث قال:
.. ولا جزع مما أصاب فأوجعا
ولكنه هناك أجمل وهنا أخذ في نوع من التفصيل- ثم زاد تفصيلًا يوضح ما أجمله في جواب صاحبته حيث قال لها:
فقلت لها طول الأسى إذ سألتي
وكأن قد توهمها تسأله عن طول الأسى هذا أن يزيدها فيه بيانًا فقال:
وغيرني ما غال قيسًا ومالكًا
…
وعمرًا وجزءًا بالمشقر ألمعا
وما غال ندماني يزيد وليتني
…
تمليته بالأهل والمال أجمعا
فذكر كما ترى فجائع مرت به قبل مقتل مالك، فكان مقتله مما نكأ قرحها وجدد الحزن وزادت به حال الضعف وتضعضع منزلة الحي.
وإني وإن هازلتني قد أصابني
…
من البث ما يبكي الحزين المفجعا
ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة
…
ورزءا بزوار القرائب أخضعا
في هذا البيت السادس والثلاثين أدخل الشاعر عنصرًا جديدًا زاد به في تتابع تسلسل فكرة الفجيعة- وهو هؤلاء القرائب الذين أفادوا منزلةً وجاهًا بعد هلاك مالك. ولن
يقترب هو منهم أو يبدي خضوعًا لهم- ويلتفت في سياق هذا الحديث إلى امرأته مرة أخرى:
قعيدك ألا تسمعيني ملامة
…
ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا
ثم كأنه يعتذر عن بعض التقصير إذ يقول من بعد:
فقصرك إني قد شهدت فلم أجد
…
بكفي عنهم للمنية مدفعا
إنما هو القدر ودول الأيام.
ومما ينبه عليه ذكر متمم لابنة العمري وحديثه إليها والكلمة مرثية كما ترى. والحق أن ذكر النساء في باب الرثاء ليس بشاذ وإن يك الاستهلال به على المألوف من مذهب ظاهر حنين النسيب نادرًا كقول دريد:
أرث جديد الحبل من أم معبد
وقد تعلم أن النساء كن هن النائحات، فقد يخاطبن في أول الرثاء بهذا المعنى كقول كعب بن مالك في رثاء سيد الشهداء:
صفية قومي ولا تعجزي
…
وبكى النساء على حمزة
وقد يذكر الشاعر النوائح للإخبار بإدراك الثأر كقول الربيع بن زياد:
من كان مسرورًا بمقتل مالك
…
فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء سوافرًا يبكينه
…
يلطمن أوجههن بالأسحار
وقد يذكر الشاعر النساء لينبه على أن الفجيعة قد صرمت عهده منهن وأبدلته بطلب أنسهن حزنًا وبكاءً- وإلى هذا المعنى أو قريب منه ذهب الذي رثى قتلى بدر فقال:
ألمت بالتحية أم بكر
…
فحيوا أم بكر بالسلام
ألا يا أم بكر لا تكري
…
على الكأس بعد أخي هشام
وقال الحماسي:
أرابع مهلًا بعض هذا وأجملي
…
ففي اليأس ناه والعزاء جميل
ورابعة هذه امرأته وأم ابنه الذي مات وجعلها هي الجازعة ثم أقر من بعد بجزعه هو أيضًا.
فإن الذي تبكين قد حال دونه
…
تراب وزوراء المقام دحول
نحاه للحد زبرقان وحارث
…
وفي الأرض للأقوام قبلك غول
وأي فتىً واروه ثمت أقبلت
…
أكفهم تحثى الثري وتهيل
وظلت بي الأرض الفضاء كأنما
…
تصعد بي أركانها وتجول
فهذا شاهد بالجزع، وقريب في الدلالة من قول المرقش:
صحا قلبه عنها على أن ذكره
…
إذا خطرت دارت به الأرض قائما
وما أجود قول أمرئ القيس في تائيته: «غشيت ديار الحي بالبكرات» حيث قال:
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدًا
…
أعد الحصى ما تنقضي حسراتي
وقال ابن قيس الرقيات وذكر النوائح:
تبكي لهم أسماء معولة وتقول سلمى وافجيعتيه
وقال الهذلي:
فليس كعهد الدار يا أم مالك
…
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وهذا في كلمة رثاء والمعنى قريب مما ذهب إليه متمم بن نويرة وهو سابق له لأن أبيات هذا الرثاء قيلت بعد حنين وقبل زمان الردة.
وقد جعل الشنفري مكان خطاب أم مالك وابنة العمري وما أشبه خطابه للضبع حيث قال:
لا تقبروني إن قبري محرم
…
عليكم ولكن أبشرى أم عامر
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري
…
وغودر عند الملتقى ثم سائري
هنالك لا أرجو حياة تسرني
…
سجيس الليالي مبسلا بالجرائر
هذا.
ثم إن متممًا يعود فيقرر أنه متجلد ويتبع ذلك معاني من الحزن وجراح الفؤاد.
فلا فرحًا إن كنت يومًا بغبطة
…
ولا جزعًا مما أصاب فأوجعا
أما قوله «ولا جزعا مما أصاب فأوجعا» فقد مر من قبل ودلالته معلومة ولكن ما مراده من قوله «فلا فرحًا إن كنت يومًا بغبطة» - أين مكان الغبطة هنا؟ أتراه يرد مقالته هذه على ما كان قال من قبل:
أراك حديثًا ناعم البال أفرعا
وذلك في زمان مضى قبل عهد الفجائع؟
لا ريب أن هذا الكلام مردود على قوله:
. بزوار القرائب أخضعا
هؤلاء القرائب هم الذين بغبطة هذا اليوم، هم الفرحون. وهم لعل منهم الشامت- هذا مما يجدد الحزن، وانصرف متمم إلى وصف أحزانه، وجاء بهذا التشبيه:
وما وجد اظآر ثلاث روائم
…
أصبن مجرًا من حوار ومصرعا
والحوار هو الصغير من الإبل، وروائم جمع رائمة ومنه قولنا أم رءوم أي ترأم ولدها أي ترحمه وتحنو عليه يصف نوقًا ثلاثًا أصبن صغيرهن قد ذبح وجر.
يذكرن ذا البث الحزين ببثه
…
إذا حنت الأولى سجعن لها معًا
إذا شارف منهن قامت فرجعت
…
حنينًا فأبكى شجوها البرك أجمعا
بأوجد مني يوم قام بمالك
…
مناد بصير بالفراق فأسمعا
التشبيه مألوف، كثير في المراثى ومعاني الأسى والحنين- قالت الخنساء:
وما عجول على بو تطيف به
…
لها حنينان إعلان وإسرار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
يومًا بأوجع مني حين فارقني
…
صخر وللدهر إحلاء وإمرار
وقد جعلت الخنساء المشبه به ذات البو، فشبهت حال حزنها على بوها بحال حزنها هي على صخر.
وفائدة مثل هذا النوع من التشبيه أنه يحمل مع معنى الحزن معنى العزاء لأن الحزين لا يفطن إلى صورة حزين آخر فيوازن نفسه به إلا وقد ابتعد هو بنفسه عن ملابسة الحزن كل الملابسة بحيث يقدر أن يتأمله من مسافة بعده ثم يصفه. ومن أجل ذلك لم يلزم في مثل هذا الضرب من التشبيه أن يكون مبتكرًا ولكن أن يكون مألوفًا، إذ الألف يجري مجرى التذكير والعظة.
ومع التعزي يكون شيء من التسلي ويؤوب الجلد ويفطن المرء لما حوله مما كان شغله عنه وجع الحزن وذهول الجزع.
بأوجد مني يوم قام بمالك
…
مناد بصير بالفراق فأسمعا
تأمل لفظ «بصير» الذي وصف به المنادي وهو السميع المسمع. ثم مع هذا المنادي القادم بمعنى مالك وهو يعلم مرارة وقع الفجيعة على من ستقع به، أخبار أخرى مما يسوء -هي أخبار هذا المحل- قالوا هو رجل مر بما لك قتيلًا فلم يواره وقالوا أعطي
المحل سلب مالك ففرح به وأقبل راجعًا. ولعل الذي جاء بمنعي مالك ورفع صوته به وخبر بمقتله هو هذا المحل، يدل على ذلك قول متمم:
بمشمته إذ صادف الحتف مالكًا
…
ومشهده ماند رأى ثم ضيعا
أأثرت هدمًا باليًا وسوية
…
وجئت بها تعدو بريدًا مقزعا
فهذا الرجل قد حضر مقتل مالك وأظهر شماتة وأخذ سلبه ثم جاء كأنه صاحب البريد يحمل أخبار الشؤم والمساءة.
فلا تفرحن يومًا بنفسك إنني
…
أرى الموت وقاعًا على من تشجعا
واجعل هذا الشامت الذي جاء به قبيل آخر القصيدة بمنزلة مقابلة للمنهال الذي بادر بذكره بعد أول بيت- وشتان ما بين الرجلين
العلك يومًا أن تلم ملمة
…
عليك من اللاتي يدعنك أجدعا
هذا كالدعاء عليه.
نعيت أمرًا لو كان لحمك عنده
…
لآواه مجموعًا له أو ممزعا
وهذا كالشتم.
فلا يهنئ الواشين مقتل مالك
…
فقد آب شانيه إيابًا فودعا
أي أما شانيه فقد آب وأما هو فقد ودع، وهذه خاتمة مشعرة بالحسرة والتجلد للأيام معًا. وحسبنا هذا القدر في التمثيل للتسلسل المطرد في ضوء فكرة واحدة. وكثير مثله مما يرد في قصائد الوصايا والحكم.
هذا والضرب الثاني من ضروب التسلسل مما جيء به على سياق عادة الشعراء من أجود أمثلته بائية علقمة.
طحا بك قلب في الحسان طروب
وهذا الضرب والذي قبله قد يتداخلان كما قد تدخل فيهما ضروب كثيرة مما سنذكر من بعد ومما قد لا يتسع المجال لذكره. ولن نفتأ نكرر للقارئ الكريم ما قدمناه من أن الشعر كل واحد جميع وإنما نجزئه من أجل الدرس.
وقد جعلنا بائية الأخنس وقافية تأبط شرًا من الضرب الأول، لأن البداية النسبية الإلماع فيهما غير خارجة حقا عن حيز التسلسل الذي بعدها وإنما هي إلماع وإيماء ليس غير، فوجب حمل الأقل على الأكثر، وهو الفكرة المنتظمة لسائر بيان الشاعر.
ومكان مراعاة عادة الشعراء في بائية علقمة أنه بناها على نسيب ورحلة وخلوص إلى الممدوح، وهو الذي سماه ابن رشيق المبدأ والخروج والنهاية. ومكان التسلسل أنه جعل الأبيات آخذًا بعضها برقاب بعض في حيز كل من هذه الأقسام الثلاثة ثم ربط بين أطراف ذلك وأوساطه ربطًا محكمًا. فجاء الكلام كلًا واحدًا تام الصياغة والترتيب، في القصيدة سبعة وثلاثون بيتًا، وهذا فوق التوسط وأقرب إلى الطول إذ ذات الأربعين بيتًا مما تعد طويلة.
الأبيات العشرة الأول في النسيب. والمطلع مشعر بأنفاس من غرض الشاعر. وقد كنا تعرضنا لبسط في هذا المعنى من قبل. وقد تصرمت فيما بيننا وعهود الشعراء الأقدمين مئات من السنين. وقد اختلفت حال الناس بعد الإسلام عما كانت عليه قبل الإسلام اختلافًا كبيرًا. وعلى أيام الفتنة عما كانت عليه قبلها. وفي زمن معاوية عما كانت عليه أيام الراشدين. وفي زمان المروانية عما كانت عليه من قبل. وهكذا إلى يومنا هذا. ولقد كان القدماء من جاهليين وإسلاميين إلى قريب من زمان أبي الطيب إذا افتتح الشاعر كلامه أحسوا بأنفاس غرضه ووجهة سبيل مقاصده. ولقد كانوا في الجاهلية لطول الفهم الشعر يعرفون ما لكل مطلع من دلالة، وما لكل نسيب من مكنونات الرمز. ونحن إذ نحاول فهم مقالهم في هذا الصدد نستعين بالحدس والترجيح فينبغي التسليم بأن القدماء كانوا يعلمون كثيرًا مما لعله قد أغلق عن علمنا بابه، فيجب علينا من أجل ذلك أن نتواضع.
قوله:
طحا بك قلب في الحسان طروب
…
بعيد الشباب عصر حان مشيب
مشعر بأن قلبه يكلفه أمرًا ذا بعد ومشقة، وكذلك ما كان هو قد عزم عليه من الوفادة في قصة أخيه شأس قد كان أمرًا ذا بعد ومشقة. وقد خلع من تهيبه لقاء ملك غسان بعض الوصف على محبوبته.
محجبة ما يستطاع كلامها
…
على بابها من أن تزار رقيب
ولعل القارئ الكريم يذكر وقفتنا من قبل عند قول مزرد بن ضرار أخي الشماخ:
صحا القلب عن سلمى ومل العواذل
أنه منبئ عن بعض أمره.
وقول زهير:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو
فيه إشعار بتقدم سنه وأنه رجل جد وذلك ابتداءً حسن في معرض الصلح بعد حرب داحس.
وقوله:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
…
وعرى أفراس الصبا ورواحله
فيه أيضًا الإشعار بالجد. وأي جد، إذ المدح كان مجال التزيد والكذب، وقد عرف زهير بالصدق فيه وبالحكمة -فكأنه بمثل هذا المطلع يقرع الأسماع أن تصيخ لما سيقول مما ليس من سبيل الباطل ولا منحاه- قال الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء بعد أن أورد الأبيات الثلاثة التي تلي هذا البيت.
وأقصرت عما تعلمين وسددت
…
على سوى قصد السبيل معادله
وقال العذارى إنما أنت عمنا
…
وكان الشباب كالخليط نزايله
فأصبحن ما يعرفن إلا خليقتي
…
وإلا سواد الرأس والشيب شامله
«فهو هنا يفسر إعراضه عن اللذة وإقصاره عن اللهو وإقباله على الجد» .
وقال بشامة بن الغدير وهو خال زهير وأستاذه الذي علمه الشعر.
هجرت أمامة هجرًا طويلًا
…
وحملك النأي عبئًا ثقيلًا
وحملت منها على نايها
…
خيالًا يوافي ونيلا قليلا
فأشعر بأمر لا يخلو مما يكره.
قال المسيب بن علس:
أرحلت من سلمى بغير متاع
…
قبل العطاس ورعتها بوداع
قبل العطاس أي بخلس قبل أن تستبين العواطس وهي ما يراه المرء مما يكره فيتشاءم به.
من غير مقلية وإن حبالها
…
ليست بأرمام ولا أقطاع
فدل بهذا المطلع أن رحيله من أجل حاجة يلتمسها، مكسب من مال أو جاه.
والمسيب خال الأعشى ومنه تعلم صنعة التكسب بالشعر.
ثم يقول علقمة يثني على هذه التي طحا قلبه إليها طربًا بعد أن شاب لداته:
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
…
وترضى إياب البعل حين يؤوب
وهذا أخذه الشنفري حيث قال:
إذا هو أمسى آب قرة عينه
…
مئاب السعيد لم يسل أين ظلت
وقد فصل ما أجمله علقمة- ثم يقول علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر
…
سقتك روايا المزن حين تصوب
الدعاء لها بالسقيا مشعر بالبعد. وقوله فلا تعدلي، فيه رجعة إلى معنى طربه عصر حان مشيب، فإن يكن الشباب قد فاته، فقد فاتت معه عجلته وطيشه وقلة تجاربه، فلا ينبغي أن يخدعها منظر من هو أشب منه ولكنه مغمر لا تجربة عنده يكون معها صلاحها وإسعادها. وفي مثل هذا التقرب نوع من كناية -كأنه يخاطب الملك ويقول له إن يكن أخي قد حاربك فهو غر غير مجرب، وهأنذا أشفع بتجربتي ومديحي فيه عندك- وكرر السقيا إمعانًا في التقرب والتحبب.
سقاك يمان ذو حبي وعارض
…
تروح به جنح العشي جنوب
ومع ذلك البعد.
وما أنت أم ما ذكرها ربعية
…
يخط لها من ثرمداءً قليب
فهذا أول انصرافة عن ليلى التي شط وليها وعدت عنها العوادي. ليست هي من قومك الأدنين ولن تراها حتى تموت، هذا على معنى أن القليب هو القبر. وأظهر من ذلك أن ثرمداء هذه مكان ناء وأنها مقيمة به عند قليب تشرب منه. وكان العرب أهل آبار، لولاها لهلكوا. ثم أتبع هذه الانصرافة عنها لبعدها وعداوة قومها أو بعد علاقتهم وأنها في حجاب ورقيب، انصرافة عن النساء عامة، ورجوعًا إلى ما ينبغي لمثل من هو في سنه من أتباع الرشاد:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
…
فليس له في ودهن نصيب
بردن ثراء المال حيث علمنه
…
وشرخ الشباب عندهن عجيب
وقد أعلمنا من قبل أن شبابه قد ولى وأنه حان عصر مشيبه، وأنبأ هنا من جانب إشارة خفية أن لا مال عنده- فعلام التصابي؟
فدعها .....
إلى ها هنا ينتهي النسيب، وقد فتح به مجال القول بما ضمنه فيه من كناية وإيحاء، - ولكن ماذا يصنع وقد أقلقه قلبه الطروب بما أقلق، فلا بد عند الانصراف من وجه ينصرف إليه ويقبل على الانصراف إليه قلبه.
فدعها وسل الهم عنك بجسرة
…
كهمك فيها بالرداف خبيب
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي
…
لكلكلها والقصريين وجيب
جاء في هذين البيتين بالرحلة ووسيلتها وهي راحلته التي معناها متضمن بعض معاني نفسه وهمه- يدلك على ذلك قوله:
كهمك فيها بالرداف خبيب
ولم يكن معه عليها رديف على الأرجح، ولكن ظاهر المعنى المبالغة، أي هي تقوى على الخبب بالردف، ثم إذ هي كهو وكهمه فكأنه ردف لها- فعلى هذا الرداف بها قوة بلا ريب.
ومع الرحلة ووسيلتها جاء فيهما أيضًا بالغرض الذي من أجله ارتحل. وتأمل قوة صلة قوله: «أعملت ناقتي» مع قوله: «فيها بالرداف خبيب» والخبيب اعتمالها، ومع قوله «كهمك» وقوله «أعملت ناقتي» كالتفسير لهذا اللفظ الموجز.
ثم هو هنا قد خلص من مقدمة نسيبه ذات الطرب والكناية والسقيا والفكاهة والأسى والحكمة -كل أولئك معًا- إلى هذا البيان الصريح الواضح الشافي الذي هتك به أستار ما كان قدمه قبل من خوف وتهيب عند قوله:
محجبة ما يستطاع كلامها
…
على بابها من أن تزار رقيب
لا ريب أن مثل هذه المواجهة المبينة قد قرعت سمع الحارث الملك أيما قرع.
بعد هذه المواجهة رجع علقمة إلى الناقة التي زعم أنه أعملها، وفي هذا استئناف للتهيب، واعتذار للملك بإيجاب بعض الحق عليه إذ يذكر ما لقيه وما لقيته راحلته من مشقة. ولعلمه أنه امرؤ ناء من بلد ناء ووافد من قبل دار خصوم حاربوا الحارث وانتصر عليهم متشفعًا في أمر أخيه الذي كان مع عدوه ملك الحيرة وقد أسر- لعلمه جميع هذا احتاج إلى تقرير لإيجاب الحق بقصد الملك والمشقة التي تكلفها بعد تقرير، ليؤكد مراده تأكيدًا لا يدع عند الملك موضعًا لأدنى شك في صدق نيته إذ عقد العزم على قصده:
إليك أبيت اللعن كان وجيفها
…
بمشتبهات هو لهن مهيب
كما أنت مهيب.
هداني إليك الفرقدان ولا حب
…
له فوق أصواء المتان علوب
بها جيف الحسرى فأما عظامها
…
فبيض وأما جلدها فصليب
تأمل هذه الوحشة والمناظر المفزعة والضياع بين الأماريت
تراد على دمن الحياض فإن تعف
…
فإن المندى رحلة فركوب
ويروى ترادي أي تداري وهي رواية كتاب سيبويه استشهد به في باب حتى قال «لم يجعل ركوبه الآن ورحلته فيما مضى، ولم يجعل الدخول الآن وسيره فيما مضى، ولكن الآخر متصل بالأول، ولم يقع واحد دون الآخر» .- قوله السير والدخول يشير به إلى اتصال السير بالدخول في نحو سرت فأدخلها. والمندى مصدر ميمي وهو التندية وذلك أن تشرب الإبل قليلًا ثم ترعى قليلًا ثم ترد فتشرب. يقول إنها تراد على المياه المتغيرة ذات الدمن من بقايا الحياض فإن عافت فليس لها بعد ذلك مرعى ولا شراب ولكن الركوب والسير.
ومن تأمل هنا أحس كأن ها هنا نوعًا من كناية، جعل فيه الشاعر راحلته رمزًا رمز به لنفسه، أنه حمل نفسه على أن يرد هذا المورد، فإن عافه فلا يجد شيئًا. والعرب تسمى الحقد والضغينة دمنة. وتتحدث عن حياض المنايا- وفي شعر منسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وقيل هو مما صح له:
حياض المنايا تقطر الموت والدما
وقال كعب بن زهير:
لا يقع الطعن إلا في نحورهم
…
وما لهم عن حياض الموت تهليل
فقوله «دمن الحياض» مع الدلالة الظاهرة على الماء وبقايا الروث في الحوض فيه معنى ما كان من حرب وعداوة وأحقاد وضغائن تركها ذلك وهو قد أقدم ليشرب من أسارها موقنًا أنه إن لم يفعل فليس بعد ذلك إلا الهلاك.
فلا تحرمني نائلًا عن جنابة
…
فإني امرؤ وسط القباب غريب
ثم ليس هو غريبًا فقط ولكنه شاعر يعرف كيف يمدح ويفضل سيدًا على سيد:
وأنت امرؤ أفضت إليك أمانتي
…
وقبلك ربتني فضعت ربوب
أي أنت الآن سيدي. وكان لي سادة قبلك فأضاعوني.
وقبلك ربى قوم ملكًا فأضاعوه وغودر قتيلًا في بعض الجنود. وربتك بنو كعب ابن عوف فقد نصروك وانتصروا بك.
فأدت بنو كعب بن عوف ربيبها
…
وغودر في بعض الجنود ربيب
قدمنا تفسير هذا البيت من أجل التنبيه على جانب اللعب اللفظي، حيث صار الشاعر من بعد ذكره «ربتني» بمعنى كانت لي أربابًا وسادتني إلى ذكره الربيب المشتق من ربب وربى التي للتربية لا للربوبية والسيادة.
ولا يخفى أن هذا داخل في تسلسل كلام الشاعر واتصال أواخره بأوائل ما يليهن- ثم في ذكر الشاعر بني كعب بن عوف التفاتة ذات أهمية بالغة، إذ عسى بذلك أن يكونوا عونًا له في الأمر الذي قدم من أجله أو على أقل تقدير، أن يأمن جانبهم فلا يحذروا الملك منه أو يضعفوا من شأنه عنده.
وأخذ في المدح وصفة الحرب، فأبدع مع الإيجاز، إبداعًا عزيز النظير- وذلك قوله:
فوالله لولا فارس الجون منهم
…
لآبوا خزايا والإياب حبيب
فارس الجون هو الحارث- خصه بعد أن مدح قومه وجنده وفضله عليهم، وذلك ما ينبغي في مثل ذلك المقام، ثم لم ينس قومه أن يمدحهم بأنهم لم ينهزموا من جبن ولكن قد صدمهم فارس الجون، ولولاه لانتصروا وآب خصومهم خزايا يحمدون النجاة إن وجدوا سبيلها.
تقدمه حتى تغيب حجوله
…
وأنت لبيض الدارعين ضروب
مظاهر سربالي حديد عليها
…
عقيلًا سيوف مخذم ورسوب
فقاتلتهم حتى اتقوك بكبشهم
…
وقد حان من شمس النهار غروب
فدل على أن القتال استمر النهار كله وما فضه إلا إقدام الحارث وانبراء ملك الحيرة له فقتله قبيل الغروب، فكانت الهزيمة وذلك كان يوم عين أباغ- وبعد أن صور هذه الصورة الباهرة للحارث، أتم صفة القتال بتصوير ساحته كلها وما كان فيها من عراك:
تخشخش أبدان الحديد عليهم
…
كما خشخشت يبس الحصاد جنوب
وقاتل من غسان أهل حفاظها
…
وهنب وقاس جالدت وشبيب
قالوا إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تمثلت بهذا البيت لما رأت مجتلد القوم حولها يوم الجمل، ولله ما كان أعظم تلك من فتنة. ولا ريب أن الذين ثبتوا حول الجمل صنعوا ذلك لعلمهم أن صاحبته زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها أم المؤمنين- فعنه صلى الله عليه وسلم لا عن ذات شخصها كانوا يقاتلون. هذا مكان الفتنة واشتباه الأمر على الناس. ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ثم تجيء من بعد الصورة الفنية الرائعة لمشهد القتال بما فيها من الحركة والهول والمخافة والأحزان.
كأن رجال الأوس تحت لبانه
…
وما جمعت جل معًا وعتيب
هذا يصف به إشراف فارس الجون وإحداق جنده الراجلين به، كأنهم تحت لبان هذا الحصان المشرف كلهم أجمعين.
ثم مناظر الحرب وغبارها وأصوات المنايا فيها من فارس مجدل وفرس عقير.
رغا فوقهم سقب السماء فداحض
…
بشكته لم يستلب وسليب
أي هدرت عليهم رعود الحرب وهوت صواعق الأقدار. وسقت السماء فالسقب هو البعير الصغير وههنا إشارة إلى خبر فصيل ثمود وذلك أنهم لما عقروا الناقة صعد الفصيل ورغا ثلاثًا -فكان هلاكهم بعد ثلاثة أيام. فسقب السماء هنا علم للكارثة- قال الشارح قال الرستمي قال يعقوب ضرب ثمود لهم مثلًا أي هلكوا أي نزل بهم من الشؤم ما نزل بأولئك.
كأنهم صابت عليهم سحابة
…
صواعقها لطيرهن دبيب
أي ما أفلت فلم تصبه الصواعق لم يقدر إلا على الدبيب من هول الصواعق ولم يستطع أن يطير.
فلم ينج إلا شطبة بلجامها
…
وإلا طمر كالقناة نجيب
وإلا كمي ذو حفاظ كأنه
…
بما ابتل من حد الظبات خضيب
هذا الكمي هو فارس الجون. فتمت صورة القتال. وعاد بنا إلى مشهد إشراف الفارس المنتصر الذي قد كان بدأ به.
وكما أوجب عليه من قبل حق الرحلة حيث قال:
فلا تحرمني نائلًا عن جنابة
…
فإني امرؤ وسط القباب غريب
أوجب الآن عليه حق ما أحسن من الثناء عليه.
وأنت الذي آثاره في عدوه
…
من البؤس والنعمي لهن ندوب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
…
فحق لشأس من نداك ذنوب
قال الضبي شأس أخو علقمة. والذنوب النصيب. وقال أبو عبيدة فلما سمع الحارث قوله «فحق لشأس من نداك ذنوب» - قال أذنبة وأذنبة ثم أمر بإطلاق شأس وجميع أسرى بني تميم.
وما مثله في الناس إلا أسيره
…
مدان ولا دان لذاك قريب
وهذا حسن اختتام كما لا يخفى.
وكما رأيت اتصال المعاني وتسلسلها مع براعة التأتي، وجودة التمهيد لفكرة تلي، وجودة رد الكلام على فكرة تقدمت. وسير التسلسل كله في إطار ما قدمنا لك ذكره من عادة الشعراء أن يبدئوا بالنسيب ثم يرتحلوا ثم يخلصوا بعد ذلك إلى المدح وغيره من الأغراض -وغرض الشاعر الأكبر لم يذكره علقمة إلا في آخر بيتي القصيدة- ولو وقف بالقصيدة عند قوله:
فحق لشأس من نداك ذنوب
لكان ذلك اختتامًا خطابيًا بالغًا. ولعله كان الختام، إلا أن الملك لما قال: وأذنبة، استوجب من الشاعر مزيدًا من الثناء وتوضيح مراده من هذا الذنوب أي النصيب بفتح الذال وأصل معناه الدلو- فقال علقمة من أجل ذلك:
وما مثله في الناس إلا أسيره
…
مدان ....
إذ هو يكرم الأسير على أن الأسير لا يمكن أن يكون مثله، ولا يمكن لأحد أن يدانيه أو يقرب من منزلة فضله وجوده ومجده:
ولا دان لذاك قريب
ولا يخفى أن ههنا استراحة من انفعال النفس الخطابي ونهاية طيبة.
ومثال آخر من أمثلة التسلسل الجاري على سياق عادة الشعراء كلمة النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
…
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقد يذكر القارئ الكريم وقفتنا من قبل عند هذا المطلع وقولنا إنه «لأمر ما مثلًا اختار النابغة أسمي العلياء والسند في مستهل المطلع ثم زعم أن ذلك قد أقوى ومر عليه زمن بعيد، ولأمر ما وقف عند الدار أصيلًا لا بعد أن مضى الضحا والظهر والعصر جميعًا ثم لم يجد جوابًا ولم يلق في الدار أحدًا إلخ» .
بنى النابغة قصيدته على أجزاء عادة الشعراء من نسيب ورحلة وخروج من ذلك إلى الغرض.
وضمن كل جزء ألوانًا من عادة الشعراء فنعت معالم الدار في مقدمة النسيب، ومع أنه جعل عمودها الطلل الموحش، لم يأل أن ضمن ذلك ذكرى عهد كان معمورًا وكانت الوليدة فيه تعمل.
ردت عليه أقاصيه ولبده
…
ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
خلت سبيل أتي كان يحبسه
…
ورفعته إلى السجفين فالنضد
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا
…
أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وتأمل السجفين هنا، وقد تعلم قوله من قبل في المتجردة.
قامت تراءى بين سجفي كله
…
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
فهل الوليدة كناية عن المتجردة؟
وقوله بعد هذا:
فعد عما مضى إذ لا ارتجاع له
…
وانم القتود على عيرانة أجد
ليس منقطعًا عما قبله بل متصل به، إذ قد أخنى على المكان ما أخنى على لبد من الفناء فلا معنى لإطالة الوقوف عنده، ذلك زمان مضى فعد عنه وأقبل على زمان جديد. نظر النابغة بلا ريب إلى طريقة الانقطاع المتصل الذي جاء به علقمة حيث قال:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة
…
كهمك فيها بالرداف خبيب
ورب قائل إن هذا سبيل مطروق من مذاهب شعر العرب، وهو كذلك، إلا أن الشعراء ينظر بعضهم إلى بعض في الدقائق من صور وطريقة لفظ وإيقاع وأنواع أسلوب. وإضراب علقمة بعد أن وفي بابًا حقه من القول فأصبح الانصراف عنه لازمًا، وهكذا صنع النابغة وعلقمة سابق فقد اتبعه. ثم جانس علقمة بين الهم وهمك
في قوله «كهمك فيها» - ولم يخل النابغة من روح مجانسة خفية -أو قل مقابلة- بين «رفعته إلى السجفين» وبين «وانم القتود على عيرانة» - ثم أقبل على صفة الناقة فقال:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها
…
له صريف القعو بالمسد
والقعو البكرة. والبئر تكون عند الحاضر فصلة هذا المعنى بالوليدة ومقام الحي كما ترى.
ثم لما أخذ النابغة في وصف الناقة والرحلة ضمن ذلك ما اعتاده الشعراء من الاستطراد إلى نعت الوحش. وصنيعه هنا كصنيع علقمة حيث قال:
وناجية أفنى ركيب ضلوعها
…
وحاركها تهجر فدءوب
وتصبح عن غب السري وكأنها
…
مولعة تخشى القنيص شبوب
تعفن بالأرطى لها وأرادها
…
رجال فبذت نبلهم وكليب
إلا أن علقمة جعل المشبه به بقرة وجعله النابغة ثورًا، وتأمل اختيار النابغة ألفاظه وما يخالط ذلك من روح معاني الغرض الذي هو بسبيله:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
…
بذي الجليل على مستأنس وحد
والمستأنس الوحد هو الثور الوحشي الذي أحس أو توجس نبأه من الإنس فخاف والجليل الثمام وذو الجليل موضع أو مكان ما فيه هذا الجليل فأشار إليه بما فيه وهو مقبل على أمر جليل وهو وحد ومستأنس.
وقد اختصر علقمة الوصف لأن أربه صفة انخراط سيره وجده وتشميره حتى يبلغ الحارث الوهاب. ولكن النابغة قصد إلى معنى من الكناية وهو في طريق المعتذر المتهيب المؤمل الحذر إلى النعمان- هو هذا الثور المستأنس الوحد. والوشاة هم هؤلاء الكلاب، وقد انتصر عليهم:
شك الفريصة بالمدرى فأنفذها
…
شك المبيطر إذ يشفى من العضد
كأنه خارجًا من جنب صفحته
…
سفود شرب نسوه عند مفتأد
فظل يعجم أعلى الروق منقبضًا
…
في حالك اللون صدق غير ذي أود
الذي ظل يعجم أعلى الروق هو الكلب ضمران. وتأمل إلى تضوره هنا. «حالك اللون» هو قرن الثور الأسود المستقيم كالسنان. غير ذي أود أي ليس به اعوجاج. وقد
قلنا من قبل في أخريات حديثنا عن الأوصاف: «ولكأن الكلب المتضور في دالية النابغة هو أحد هؤلاء الوشاة» .
لما رأى واشق إقعاص صاحبه
…
ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس إني لا أرى طمعًا
…
وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
واشق هذا كلب آخر وواش آخر. ولئن صح الخبر الذي ذكروه أن المنخل اليشكري كان يختلف إلى المتجردة، وأنه غار من وصف النابغة لها وكاده عند النعمان، ثم إن أمره هو قد عرفه النعمان من بعد فحبسه ووكل به عكبا فعذبه ورووا أنه قال:
يطوف بي عكب في معد
…
ويضرب بالصملة في قفيا
وقتله آخر الأمر- لئن صح هذا الخبر فضمران المتضور المقتول هو المنخل، والروق الذي شك الفريصة فأنفذها هو شعر النابغة. وواشق هذا واش آخر آثر السلامة لما رأى هلاك ضمران.
فتلك تبلغني النعمان إن له
…
فضلًا على الناس في الأدنين والبعد
رجع إلى ما كان فيه من أمر الرحلة والناقة وجعل ذلك خاتمة لهذا الجزء الذي أطال فيه ووفاه حق القول فيه. ثم إنه لم يترك أتباع علقمة والنظر الشديد إليه- فكما طريقة قوله فعد عما مضى إلخ كطريقة قول علقمة «فدعها وسل الهم عنك إلخ» .
كذلك قوله هنا «فتلك تبلغني النعمان إلخ» طريقته مثل طريقة قول علقمة:
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي
…
لكلكلها والقصريين وجيب
وعجز بيت علقمة تتميم لمعنى قوله «أعملت ناقتي» فوصف حال إعمالها من اضطراب كلكلها ووجيب أضلاعها القصري. وسائر بيت النابغة من عند آخر الصدر إلى آخر عجزه تتميم وتفسير للمعنى المتضمن في قوله «فتلك تبلغني النعمان» إذ هو لم يتبع اسم النعمان وصفًا يمدحه به ويغني عن الشرح كما فعل علقمة حيث قال: «إلى الحارث الوهاب» - فهذا التفسير المصدر بإن وفيها ما نعلم من دلالة التوكيد، هو بمنزلة قول الحارث الوهاب، وبنظر إليه ومحاكاة خفية له.
ثم بسط النابغة هذا المعنى. وليس أمره كأمر علقمة، فعلقمة قد كان غريبًا وافدًا، فاهتم بأن يقرع السمع بأنه وافد من بعيد وآمل عظيم الأمل معًا. أما النابغة فقد كان ذا قرب وسابق مودة وخدمة للنعمان، فحاجته إلى استئناف تجديد القربى إليه وطلب الزلفى عنده تستلزم أن يسمعه ما يطرب له من حسن الثناء، وأن يضمن ثناءه روح ما يتلمسه عنده من عفو وعطاء وجاه- فقال بعد تأكيده أن له فضلًا على الناس في الأدنين والبعد:
ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه
…
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له
…
قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة
…
تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
إلا لمثلك أو من أنت سابقة
…
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
قوله إلا سليمان- يجري مجرى المبالغة، إذ ملك سليمان كان يضرب به المثل لما كان له ولوزيره آصف بن برخيا من الأسرار ومعرفة الاسم الأعظم والمقدرة على تخييس الجن وتسخيرها. ولئن صح أن النعمان قد كانت أمه من يهود، فعن عمد يكون النابغة قد أشار إلى ملك سليمان لما يعلم من حسن موقع ذلك عند النعمان. وقوله «ومن عصاك نعاقبه» يتضمن تبرئة نفسه كما يتضمن التعريف بالوشاة والإشارة إلى ما حل بالمنخل من النكال. وقوله ولا تقعد على ضمد أي على حقد، ولكن انتقم ولا يخلو النابغة من أن يكون قصد إلى معنى الضماد وهو أن يكون للمرأة خليلان أي ولا تقعد على أن يكون لك في أمرك منازع أو شريك. والعاصي منازع وطالب للمشاركة في سلطان من يعصيه- وأرى هذا المعنى أقرب، ثم فيه من التعريض بأمر المنخل ما فيه. والضمد بسكون الميم كالضماد معنى والفتح كثيرًا ما يعاقب السكون.
ومما ينبئ باستقامة المعنى على ما تأولناه من أن المراد ولا تقعد على عصيان عاص ينازع في السلطان ويروم أن يشارك فيه، قوله من بعد:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه
وليس لسليمان مثل. ومن يكون سابقًا هو له، فهو وزير وعون كآصف بن برخيا. وما أرى إلا أن النابغة عنى المتجردة إذ هي القريبة من النعمان كقرب وزارة آصف من سليمان. أم هل يا ترى عنى النابغة نفسه؟ أم عنى الأمرين معًا؟
عسى ذلك أن يناسب قوله من بعد:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
…
إلى حمام سراع وارد الثمد
والقمد بالتحريك الماء القليل وفي دراجتنا «التمد» بصيرورة الثاء تاء، وزعموا أن محمد أحمد المهدي رحمه الله سأله أصحاب الطرق ما يصنعون بطرقهم إن تبعوه فقال لهم ما معناه وبعض لفظه «من كانت له تمده وجاءه البحر الكبير فماذا يصنع؟ »
وفتاة الحي هي زرقاء اليمامة وذكرنا من خبرها. وهذا معطوف على قول الإله قبل: «قم في البرية فأحددها» «وخيس الجن» ، أفعالا لأمر- أي واحكم بنظر ثاقب بعيد كما صنعت زرقاء اليمامة إذ قالت حين رأت الحمام وقد عرفت عدته:
ليت الحمام ليه
إلى حمامتيه
ونصف قديه
تم الحمام ميه
فحسبوه فألفوه كما حسبت
…
تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
أي تسعا وتسعين بعد إضافة النصف إذا كان عدد الحمام ستا وستين فبإضافة حمامتها يصير مائة، ولعل الرواية الصحيحة «ستا وستين لم تنقص ولم تزد» ولكن هكذا هو في النصوص «تسعًا وتسعين» والدلالة واضحة على كل حال.
أمن آل مية رائح أمغتدى
وهي المتجردة.
ومهما يكن من شيء فعقد الكلام متصل إذ قد رجع النابغة إلى ما بدأ به حيث قال: أعطى لفارهة حلو توابعها»، إذ سياق الكلام هكذا.
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه
…
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
أعطى لفارهة حلو توابعها
…
من المواهب لا تعطى على نكد
ففصل بين مفعول الرؤية الأول ومفعولها الثاني بتقديم ما استثناه وهو سليمان عليه السلام وما قصه من أمر الإله، وأقحم فتاة الحي لسببين، للإشارة الخفية إلى المتجردة، وللإلماع بأنه مظلوم، وأن على النعمان أن يحكم فيه هو الحكم المنصف المبني على صدق النظر، وإذ جريرته ما كان فيه من وشاية من وشى به إما في أمر قصيدة المتجردة وإما في ما زعموه أنه هجاه قال:«وارث الصائغ الجبان الجهولا» يعرض بأمه سلمى بنت
الصائغ اليهودية، فمناسبة خبر سليمان وفتاة الحي لذلك ظاهرة.
ثم زاد النابغة سيده مدحًا:
الواهب المائة الأبكار زينها
…
سعدان توضح في أورباها اللبد
والساحبات ذيول المرط فنقها
…
برد الهواجر كالغزلان بالجرد
والخيل تمزع غربا في أعنتها
…
كالطير تنجو من الشربوب ذي البرد
أي يهب الإبل والخيل والجواري، وقوله الساحبات ذيول المرط من قول أمرئ القيس:
خرجت بها أمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرط مرحل
فنقها أي جعلهن جواري منعمات.
وذكر الطير الناجية مناسب لما تقدم من صفته الحمام وقوله:
يحفه جانبا نيق وتتبعه
…
مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
مثل الزجاجة يريد صفاءها وأنها شفافة وأنها كالمرآة أي عينها-
والأدم قد خيست فتلا مرافقها
…
مشدودة برحال الحيرة الجدد
الأدم إبل وهي البيض هنا، وميزها من المائة الأبكار، إذ المائة الأبكار مال يقتني، للبن وللنتاج ولذلك جعلها أبكارا لتطول مدة الانتفاع بها ويكثر ما تلد. أما هذه الأدم فرواحل وهي الإبل الصهب الموثوق بقوتهن على السير وجودتهن ركائب. وإذ أثمل النعمان بما أحسن من الثناء على سخائه، ثم في ذلك ما يناسب تأميله، أردف بالحلف والتبري، وأشرب حلفه وهو يروم أن يجعله موجزًا قارعًا للسمع، نوع تفصيل ملائم لما تقدم من تفصيله في صفة الدار وفي صفة الثور، وفي خبر سليمان وخبر فتاة الحي منسجم التجاوب مع ذلك كله:
فلا لعمر الذي قد زرته حججا
…
وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير يمسحها
…
ركبان مكة بين الغيل والسند
تأمل ذكر الطير والعياذ والأمن
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه
…
إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي
إذن فاقتلني فلا أرجع أحث ناقتي إلى دياري بسوطي، إن كنت حقًا تعتقد أني جئت بشيء تكرهه، إنما وصفت كما أمرتني وأما الهجاء فهو قول افتراه على من تعلم، وهو لك حاسد، ولفضلك جاحد.
إذن فعاقبني ربي معاقبة
…
قرت بها عين من يأتيك بالفند
لم يكتف النابغة بقوله «إذن رفعت سوطي إلى يدي» وهو الموت، ولكن جاوزه إلى ما يكون أشد من عقاب المولى الذي يعلم السرائر، وذلك ما لن يكون، كما لن يأتي بالحسد والفند أحد وتقر عينه بأن يرى النابغة حل به عقاب الله، لأن هذا الآتي بالحسد والفند هو نفسه قد حل به عقاب الله.
هذا لأبرأ من قول قذفت به
…
طارت نوافده حرا على كبدى
ثم مضى في تبرئة نفسه، وعاد إلى مدح النابغة فشبهه هذا التشبيه الرائع بالفرات:
فما الفرات إذا جاشت غواربه
…
ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يمده كل واد مترع لجب
…
فيه ركام من الينبوت والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصما
…
بالخيزرانة بعد الأين والنجد
يوما بأجود منه سيب نافلة
…
ولا يحول عطاء اليوم دون غد
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني
…
ولا قرار على زأر من الأسد
وهذا البيت بارع- إن شاء النعمان حمله على أن النابغة قدم إليه على خوف منه لما سمع بوعيده. وإن شاء جعله اعتذارًا عن ابتعاده عنه ولجوئه إلى الغساسنة. وقد علم النابغة أنه قد بلغ ما أراد من استلال سخيمة النعمان بهذا القول الصافي والعتاب النبيل والاعتذار المشرق.
هذا الثناء فإن تسمع لقائله
…
فما عرضت أبيت اللعن بالصفد
والصفد أي العطاء دليل القبول، فقد عرض به كما ترى. وتأمل مكان هذا البيت، أليس كمكان بيت علقمة:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
…
فحق لشأش من نداك ذنوب