الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن النشيد بحب آل محمد
…
أزكي وأنفع لي من القينات
فاحش القصيد بهم وفرغ فيهم
…
قلبا حشوت هواه باللذات
واقطع لبانة من يريد سواهم
…
في حبه تحلل بدار نجاة
وهي أيضًا طويلة مشهورة فتركنا إيرادها».
ولم يكن ابن المعتز يخلو من نصب ما ولم يسلم من لهوجة وتمريض ما في ترجمته لدعبل، وهو معذور إذ هجا أجداده. وزعم المعري أن دعبلًا كان في تشيعه كاذبًا. فالله أعلم أي ذلك كان.
وعلى طريق دعبل في التائية سلك ابن الرومي في الجيمية:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج
وفيهما معًا أمل التبرك والنفس السياسي، وكأن المعري يزعم أنه كان كاذبًا إذ قال إنه على مذهب غيره من الشعراء وهذا أخف من مقاله في دعبل إذ قال:«ما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع» . [ص 420 رسالة الغفران].
الطور الثالث
وهو طور التعبد الممهد
. نعني بالممهد أنه قد كان توطئة لطور نضج القصيدة النبوية، وصار حينئذ التماس التعبد بها طريقًا مهيعًا.
ويدخل في مجال شعر التعبد أصناف كثيرة كلها يصح أن تعتبر من قبيل التمهيد لقصيدة المدح النبوي الناضجة. منهن ما كان في الصدر الأول. وقد أورد صاحب أنساب قريش شعرًا كثيرًا لعباد قريش، مما يشهد بأن أمر الروحانيات في شعر العرب قديم.
وفي النقاد ولع أن يجعلوا بداية الفكر العربي والإسلامي كله من عند القرن الثالث، يحاكون في هذا المستشرقين. وإنما أتى المستشرقون من إصرارهم على أن يجعلوا أمر تطور حضارة المسلمين شبيهًا بما كان من تأريخ النصارى، إذ مرت مائتان من السنين قبل أن يتلئب أمر النصرانية وأناجيلها على نهج واضح. فلزم عندهم أن يكون أمر المسلمين وحضارتهم كذلك.
فمن ههنا مثلًا جاءت قصة التفرقة بين الزهد والتصوف والأوصاف المعنوية والأوصاف الحسية إلى آخر الباطل الذي يسرف فيه المسرفون. ولماذا يطلب المسلم معاني الروحانية وشهود أنوار الحق عز وجل من الهند ومن اليونان ومن الفرس وعنده
كتاب الله سبحانه وتعالى يقرأ فيه: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقًا} ويقرأ فيه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} ويقرأ فيه: {سبحان الذي أسرى بعبده} ويقرأ فيه: {فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا قال إنك لن تستطيع معي صبرًا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا} ويقرأ فيه {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرًا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} . ويقرأ فيه: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} ويقرأ فيه: {ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلةً أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} .
وقال تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} .
يدخل في مجال التعبد نحو قول الراجز:
الحمد لله الذي أعفاني
…
وكل خير صالح أعطاني
رب المثاني الآي والقرآن
وقول الآخر:
حلفت بالسبع اللواتي طولت
…
وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنيت فكررت
…
وبالطواسيم التي قد ثلثت
وبالحواميم التي قد سبعت
…
وبالمفصل اللواتي فصلت
وزهيدات أبي العتاهية على ما قيل فيه وزهيدات أبي نواس وأشعار أهل العقائد والتصوف كشعر الحلاج ومما يروى له:
ياسر سر يدق حتى
…
يجل عن وصف كل حي
وظاهرًا باطنًا تبدى
…
من كل شيء لكل شي
يا جملة الكل لست غيري
…
فما اعتذاري إذًا إلي
وقد فشت أساليب أهل التصوف التي في أشعارهم وأدعيتهم حتى تظرف باستعمالها الشعراء قبل زمان الحلاج وبعده وقد جاءت من أشعار المولدين في شعر أبي نواس مثل قوله:
خلقت لآدم قبل طينته
…
فتقدمته بخطوة القبل
وقد عاصر الجاحظ أبا نواس وذكر أنه أسن منه وقد ورد ذكر المتصوفة في كلامه
مرات.
وفي شعر حبيب:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صب قد استعذبت ماء بكائي
وتقدم الحديث في هذا وما بمجراه، وقد ذكرنا من قبل نار الأحبة التي كانت تشاهدها بصائر القلوب، قلوب العشاق من لدن امرئ القيس إلى جميل إلى أبيات عبيد الله حيث ذكر حب عثمة فقال:
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
…
ولا حزن ولم يبلغ سرور
وفي أبيات الحلاج الحلول. وأصاب المعري إذ لم يعد أن في أبيات الحلاج معنى جديدًا حقًا إذ الناس كما قال قد عبدوا الحجر. فهذا بلا ريب من عنصر توهمهم حلول الإله فيه. ويلحق بهذا الضرب مقال فرعون: «أنا ربكم الأعلى» .
واكتفى أبو العلاء بوقفة عند صياغة الأبيات، قال: فلا بأس بنظمها في القوة ولكن قوله «إلي» عاهة في الأبيات يعني «إلي» بكسر الياء، وأبو العلاء يعلم أن هذه قراءة حمزة في:«وما أنتم بمصرخي» فانصرف بشيء من خبث خفي من نقد الحلاج إلى الطعن في قراءة من السبعة التي اختارها ابن مجاهد والقراءة كما قال شيخ النحو في
كتابه هي السنة، فهذا يجعلها بلا ريب يحتج بها لا عليها. أحسب أن لو كان أبو العتاهية حلى زهدياته بشيء من مدح الرسول صلى الله عليه وسلم مع إدمانه قرع باب الديانة من طريق التذكير بالموت لكانت دخلتها من ذلك بركة ونور، ولسلم إذن من تهمة الزندقة التي اتهمه بها بعضهم، ذلك إذ رجحوا أنه بذكره الموت دون البعث كأنما أسر في نفسه كفرًا به -وقد احتاط أبو نواس في زهدياته إذ يقول:
لا يجتلى الحوراء من خدرها
…
إلا أمرؤ ميزانه راجح
جعل مكان المديح النبوي يقوي في النفوس متصلًا بالعبادة مستقلًا عن السياسة والتشيع. ومما قواه أن أساسه ودعامته حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر ذلك من أمر الكتاب والسنة قريب. قال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} والاتباع لا يصح بلا حب، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطريق للمعرفة، والمعرفة لا تتم إلا بعون الله وتوفيقه، ورأس الحكمة مخافة الله، واتقوا الله ويعلمكم الله، ولا يعرف الإنسان نفسه إلا بالحكمة، فإذا عرفها أحبها الحب الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى، فلم تستول عليه شهواتها فيصرفه هواها عن سبل الرشاد. وسبيل الرشاد السنة. ومن زعم أنه يتبع السنة وليس في قلبه حب الذي سنها فهو غير صحيح الإيمان. لأن الاتباع بلا محبة هواء. فنسأل الله الهداية إنه سميع قريب مجيب. وما يشهد بأن أمر المديح النبوي قد قوي جدًا وأن تعلق الناس به قد كان شديدًا على زمان أبي العتاهية وأبي نواس مقال الجاحظ الذي أنكر به ما أنكر على الكميت بن زيد حيث قال «فأما مدح النبي صلى الله عليه وسلم فمن هذا الذي يسوءه» ؟
ويذكر أن أبا الطيب سئل لم لم يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليم في ذلك فاعتذر بأن قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى من أن يبلغه مدحه أو بشيء من هذا المعنى، وقد رأيت في أحد دواوين أبي الطيب بيتين له في مدحه صلى الله عليه وسلم أو الاعتذار عن ذلك وند عني موضعهما من بعد.
وقال الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله في مقدمة المجموعة النبهاني في المدائح النبوية (طبعة بيروت في المطبعة الأدبية سنة 1320 هـ) في مقدمته لها في الفصل الثامن (ص 17): «قال بعض العلماء إن سبب عدم مدح البعض من مشاهير الشعراء المتنبي وأبي تمام والبحتري للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو علمهم أنهم عاجزون
عما يليق به صلى الله عليه وسلم من المدح فتركوا مدحه أدبًا معه عليه الصلاة والسلام اهـ أقول لا شك في عجزهم عما يليق به صلى الله عليه وسلم من المدح وعجز الناس كافة عن ذلك بل عجز الخلق أجمعين عن معرفة فضائل سيد المرسلين وكنه كمالات حبيب رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الله تعالى فلا يقدر على وصف هدا العبد الكريم إلا سيده العظيم عز وجل. ولكن ذلك لا يمنع الشعراء من مدحه للتقرب إلى رضاه ورضا مولاه سبحانه وتعالى بقدر استطاعتهم فإن الله تعالى شرع لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن نحمده تعالى ونشكره ونثني عليه مع عجزنا كمال العجز عما يجب له ويليق به سبحانه وتعال كما قال صلى الله عليه وسلم وهو سيد الحامدين والشاكرين والمثنين على الله تعالى، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وكم مدح النبي صلى الله عليه وسلم نظمًا ونثرًا من أئمة أمته من الصحابة فمن بعدهم، سادات أجلاء الواحد منهم أكثر أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة بما يليق به من ملء الأرض مثل المتنبي وأمثاله، ولكن السبب الصحيح الذي أراه لعدم مدحهم له عليه الصلاة والسلام أن مدحه من جملة الطاعات والعبادات فيحتاج للتوفيق من الله تعالى للعبد حتى يتيسر له فعله، وهؤلاء وأشباههم لم يوفقوا لهذه الطاعة العظيمة لعدم تأهلهم لها بسبب ما اتصفوا به من أخلاق الشعراء من نحو توغلهم في الكذب بأبلغ العبارات في المدح إن رضوا والذم إن غضبوا، فضلًا عن تعديهم على أعراض الناس وقذفهم المحصنات والتشبيب بمعين النساء والغلمان ونحو ذلك من السفاهات وكفى بذلك مانعًا لهم من مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ما لم يتوبوا إذ الظلام والنور ضدان ففي آن واحد لا يجتمعان وكونهم من أكابر الشعراء لا يقتضي تأهلهم لعبادة الله بمدح عبده ونبيه وحبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم، فإنا نرى كثيرًا من الأغنياء لا يحجون ولا يزكون ولا يتصدقون، ونرى بعكسهم كثيرًا من الفقراء كما نرى كثيرًا من الأقوياء لا يصلون ولا يصومون ولا يقومون الليل، ونرى بعكسهم كثيرًا من الضعفاء وما ذلك إلا بسبب توفيق الله تعالى لكثير من الفقراء والضعفاء، وعدم توفيقه لكثير من الأغنياء والأقوياء، فكذلك يقال هنا يحرم المتنبي وأمثاله من الشعراء من هذا الخير العظيم في مدح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويرزقه كثير من العلماء والصلحاء ممن بضاعتهم في الشعر قليلة بتوفيق الله تعالى لهم. اهـ. الفصل الثامن (ص 19).
مقال الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله في جملته لا غبار عليه. غير أنه ربما صح عليه الاستدراك في أشياء، سوى الذي سبق من زعمنا أن المديح النبوي طور خلص
إليه خلوصًا آخر الأمر بعد أن خبت جذوة القصيدة المادحة وما أشبهها مما هو من سنخها كقصيدة الفخر وشكوى الحال والمراثي الحسان: من ذلك أن طاعة الله في غير عزائمه التي جاء بها الكتاب وهدت إليها السنة واتلأب عليها أمر العبادة والعمل الصالح، باب واسع. وأن هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين ذكرهم، أبا تمام وأبا عبادة وأبا الطيب، كانوا أهل جد على وجه العموم، وأمرهم في دينهم أعلم به خالقهم، ولعلهم فائزون برضاه. وقد خدموا بشعرهم رؤساء وأمراء من أهل الجهاد والذود عن حياض الإسلام. وروح الجهاد في بائية أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب
جلية لا تحتاج إلى دليل- وفيها يذكر وقعة عمورية:
أبقيت جد بني الإسلام في صعد
…
والمشركين ودار الشرك في صبب
وفيها مما فيه توكيد لمعنى الجهاد:
لو كان بين صروف الدهر من رحم
…
موصولة أو ذمام غير منقبض
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
…
وبين أيام بدر أقرب النسب
والمدح المستكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم هنا كما ترى
وقال في مدح الخليفة وما مدحه إلا بالجهاد هنا:
أجبته معلنًا بالسيف منصلتا
…
ولو أجبت بغير السيف لم تجب
حتى تركت عمود الشرك منعفرا
…
ولم تعرج على الأوتاد والطنب
وقال في كلمة مدح بها عمرو بن طوق فصرح في أثناء مدحه بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم يذكره أن له به -لو اقتدى بسنته أسوة حسنة: -
لك في رسول الله أعظم أسوة
…
وأتمها في سنة وكتاب
أعطى المؤلفة القلوب رضاهم
…
كملًا ورد أخايذ الأحزاب
فقوله «أعظم أسوة» هو شاهدنا ههنا.
وقال في رائية مقتل الأفشين:
هذا الرسول وكان صفوة ربه
…
ما بين باد في الأنام وقارى
وقال في إحدى مدائحه:
سلام الله عدة رمل خبت
…
على ابن الهيثم الملك اللباب
وأرى أنه أخذ هذا الأسلوب في التسليم من طريقة الصلاة والسلام في المديح النبوي وأن ذلك في النبويات المتعبد بها كان معروفًا شائعًا في زمانه. على أن هذا المذهب له في العربية أصول قديمة كما في قول الآخر «ألا فاسلمى ثم اسلمي ثم اسلمى» ولكن قولهم عدة كذا وعدد كذا مذهب نبوي والله أعلم.
وقال البحتري:
إن لم يبلغك الحجيج فلا رموا
…
في الجمرتين ولا سقوا في زمزم
فهذا دعاء من قلب مسلم وقد سبق منا القول أن نفس هذه الديباجة للبحتري مما اقتدي به مداح الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد -وقال:
ذكروا بطلعتك النبي فهللوا
…
لما برزت من الصفوف وكبروا
وإنما ذكرهم النبي صلي الله عليه وسلم أن المتوكل برز في برد النبي صلي الله عليه وسلم -وذلك قوله:
وبرزت في برد النبي مذكرا
…
بالله تنذر تارة وتبشر
فالقصد من البحتري ههنا إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم ضمناً، كما ترى، وإن ما جعل مدحه الخليفة فرعًا من ذلك وطرفًا
وقال أبو الطيب في سيف الدولة:
فمن كان يرضى اللؤم والكفر ملكه
…
فهذا الذي يرضي المكارم والربا
وقال:
هنيئًا لضرب الهام والطعن في العدا
…
وراجيك والإسلام أنك سالم
وقال:
أرى المسلمين مع المشركيـ
…
ـن وإما لعجز وإما رهب
وأنت مع الله في جانب
…
قليل الرقاد كثير التعب
كأنك وحدك وحدته
…
ودان البرية بابن وأب
وقال:
فباتوا لخالقهم سجدا
…
ولو لم تغث سجدوا للصلب
وشعر المتنبي في الجهاد المقصود به رفع راية الإسلام وإعلاء كلمة الشهادة كثير، وصدق روحه فيه يشهد بأنه ما أراد به الدنيا -وذلك وإن لم يصرح فيه بمدح النبي صلي الله عليه وسلم فقد صرح فيه بنصر دين الله، وذلك نصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم -فنأمل أن يدخله ذلك في زمرة من عزروه ونصروه. وإن يكن إساء في بعض أمره، كالذي اتهم به من دعواه في صباه، وكقوله يمدح أحد الأشراف العلويين:
وأبلغ آيات التهامي أنه
…
أبوك وأبهى مالكم من مناقب
مما اضطرته إليه مذاهب المبالغة المفرطة، فقد أحسن في جهادياته كل الإحسان: -
مثلًا قوله
مخلى له المرج منصوبًا بصارخة
…
له المنابر مشهودًا بها الجمع
وهل تشهد الجمع إلا بإعلان النداء وفيه الشهادتان اللتان هما ركن الإسلام الأول؟
وبعد فقيمة الإنسان ما يحسنه. وهؤلاء الثلاثة قد فرغوا بأنفسهم للشعر وأبلغ ما قالوه مستمد من صميم بيان العربية الذي يدرك به أمر معجزة بيان القرآن ولئن كان الذي وقع لهم من الحكم والأمثال -وما منهم إلا له قول يتمثل به- من باب الحكمة التي من يؤتها فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فلهم بهذا إن شاء الله فضل بين.
وقد جاء أبو العلاء بقطعة نبوية في لزومياته أولها:
دعاكم إلى خير الأمور محمد
…
وليس العوالي في القنا كالسوافل
وأغلب الظن أن قومه كانوا يعجبون من أمره شاعرًا يتحدث في ذم الدنيا ولا يمدح رسول الله عليه الصلاة والسلام -فقد مدحه في رسالة الغفران وههنا ونونيته في سقط الزند:
عللاني فإن بيض الأماني
…
فنيت والظلام ليس بفاني
فيها من روح المديح وإن كان جرى به على وجه من وجوه الميل إلى التشيع وهو قوله:
أحد الخمسة الذين هم الأغر
…
ـراض في كل منطقة والمعاني
ومن أقدم مدائح التعبد رائية الزمخشري (توفي رحمه الله سنة 538 هـ) التي مطلعها:
قامت لتمنعني المسير تماضر
…
أني لها وغرار عزمي باتر
شامت عقيقة عزمتي فحنينها
…
رعد وعيناها السحاب الماطر
وهي في جملتها من فصيح الكلام وفيها أبيات جياد وعواطف طيبة وصدق تجود معه المعاني.
والزمخشري قد عزم على هجرة أوطانه إلى بيت الله الحرام لا لأداء الفرض وحده ولكن للمجاورة عند البيت الحرام بعد أداء الفريضة وزيارة القبر الشريف. بدأ الزمخشري كلمته بحماسة أعلن بها تحديه لتماضر وفخر عليها بأنها إن تك ظبية فهو ليث العرين. ثم أمرها أن تصبر. ثم خلي سبيلها غير مبال ما تقول عنه في شكواها. وما يخلو الزمخشري من أن يكون ضمن تماضره هذه معنى الدنيا وزهرتها غير أنه رحمه الله ما كان يخلو من جانب خشن إلى النساء والرفق بهن ما أمر به المولى عز وجل وذلك قوله سبحانه وتعالي:
{وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} من تخشين الزمخشري لتماضر، وينبغي أن نحملها معنى الدنيا، حتى يتم عندنا إن شاء الله معنى إعراضه وتخشينه:
حني رويدا لن يرق لظبية
…
وبغامها ليث العرين الزائر
سيأكلها إن كان جائعًا وإلا فإنه سيرق- فلعلك أن تلمح في المعنى هنا بعض الاضطراب.
أرخي قناعك يا تماضر وامسحي
…
عينيك صابرة فإني صابر
هذا البيت تخالطه رقة، ومصدرها قوله «أرخي قناعك» فإنها إن تكن ممن يحل له فكشفها قناعها أشبه بحال الطبيعة، فما يكون أمره إياها بإغداف القناع -وارخاؤه إغدافه- إلا أن وجهها وعينيها أثرتا فيه، فلاذ بهذا الأمر الذي ظاهره خشونة وباطنه رقة. وإن تكن محرمًا فهو زجر دفعته إليه رقة مستكن الحب، حب الأخت والأم والمحرم، والعرب كانت مما تذكر بناتها وما إلى ذلك في باب السفر كقول الراعي:
قالت خليدة ما عراك ولم تكن
…
أبدًا إذا عرت الشئون سئولا
أخليد إن أباك ضاف وساده
…
همان باتا جنبه ودخيلا
وقال الأعشى:
تقول ابنتي حين جد الرحيل
…
أرانا سواء ومن قد يتم
والزمخشري من أعلم الناس كان بالعربية وبالشعر.
لو أشبهت عبرات عينك لجة
…
وتعرضت دوني فإني عابر
أخذ هذا من رائية وضاح اليمن، ولكنه أخذ جيد وجانب العاطفة فيه قوي.
إني لذو جد كما جربتني
…
صلب وبعض الناس رخو فاتر
وقع في الطبع خطأ إذ هو هناك «إني لذو وجد كما جربتني صلب» وهذا لا يستقم به المعنى وإنما هو لذو جد وهذا البيت كأنه أراد به أن يستمر في معنى ليث العرين ومضاء العزم، ولو كان تنبه للأمر رحمه الله لكان قد تبين له أنه قد فرغ من المعنى كله عند قوله «فإني عابر» فإن رام زيادة بعد ذلك فإنها تحسن إن جاءت غنائية محضة، وهذا باب قل من يحسن طرقه، بله أن يؤذن له- مثلًا قول البحتري:
إني وإن جانبت بعض بطالتي
…
وتوهم الواشون أني مقصر
ليروقني سحر العيون المجتلى
…
ويشوقني ورد الخدود الأحمر
البيت الأول تام معناه، ولكن الشاعر احتال على التغني بجعله شرطًا يحتاج إلى جواب، ثم لما أتم المعنى والغناء معًا صرف شعره إلى المدح إذ لم يبق في الذي كان بصدده من زيادة لمستزيد- وقال أبو تمام:
إن كان مسعود سقى أطلالهم
…
سيل الشئون فلست من مسعود
فهذه نهاية تشعرك أنها آخر الكلام، ثم إذا بالشاعر يزيد معنى آخر يتغنى به ويترنم ويفتن.
رحلوا فكان بكاي حولًا بعدهم
…
ثم ارعويت وذاك حكم لبيد
فهو من لبيد لا من مسعود، وعنى به ذا الرمة أو عنى به أخاه لقول ذي الرمة، كما مر بك أيها القارئ الكريم من قبل:
قد عجبت أخت بني عبيد
وهزئت مني ومن مسعود
رأت غلامي سفر بعيد
يدرعان الليل ذا السدود
مثل ادراع اليلمق الجديد
وقد جاء الزمخشري بعد البيت الذي زعم فيه أنه صلب وبعض الناس رخو فاتر بأبيات وسط هن قوله:
إن عن لي أمر فلي عن رفضه
…
ناه وبالإقدام فيه آمر
وعنى أمرًا من الجد ولكن عبارته كما ترى عامة فلا تفيد الدلالة القاطعة على معنى الجد الذي هو مراده إن شاء الله. هذا وبعض الأمور مما يجب على العاقل رفضه وألا يقدم عليه. قال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} - استشهدنا بالآية للدلالة على أن الأمر يقع على الشيء وعلى ضده ونقيضه.
فإذا عزمت على تقارب نهضتي
…
أمضى العزيمة حدي المتناصر
أي الذي ينصر بعضه بعضًا وفي القافية كما ترى قلق
والجد شيمة من له عرق إذا
…
عدت عروق ذوي المرائر طائر
قال الشارح الشيمة الطبيعة والعرق أصل كل شيء والمرائر جمع مريرة وهي العزيمة وأصلها الحبل المفتول والطائر المرتفع- انتهى قلت لا يظهر المعنى على هذا الوجه، وقد
ذكر الشارح رحمه الله أنه نقل القصيدة من ديوانه الخط (ج 2 - ص 131 - 135) - هل يريد إذا استمر ذوو المرائر في سيرهم الجاد فإن له عرقًا يطير به طيرانًا؟ يجوز هذا الوجه على بعد ويكون يعني بالطيران هنا منتهى الغلو في السرعة وقد يسوغ هذا التأويل ذكره المهري من بعد وهو الجمل السريع النجيب، منسوب إلى مهرة التي تنسب إليها الإبل المهرية النجب.
ما فضل المهري إلا أنه
…
بالجد في طي المراحل ماهر
ذهب هنا من مذاهب أهل البديع إلى حسن التعليل- ثم بعد هذه الأبيات التي كما قدمنا لم يزد بها كبير شيء على قوله يفتخر «إني لذو جد» رجع إلى حديث تماضر:
سيرى تماضر حيث شئت وحدثي
…
إني إلى بطحاء مكة سائر
تماضر اسم الخنساء. وما ذهب الزمخشري إليه ولكنني أحسبه ذهب إلى معنى تماضر سلمى بن ربيعة حيث يقول:
حلت تماضر غربة فاحتلت
…
فلجا وأهلك باللوى فالحلة
وكأن في العينين حب قرنفل
…
أو سنبلًا كحلت به فانهلت
زعمت تماضر أنني إما أمت
…
يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
تربت يداك وهل رأيت لقومه
…
مثلي على يسري وحين تعلتي
رجلًا إذا ما النائبات غشينه
…
أكفي لمعضلة وإن هي جلت
والأبيات من مشهور الفخر وجيده وهي مما اختاره أبو تمام في الحماسة فإلى هناك نظر جار الله رحمه الله أما قوله: «سيري تماضر» فقد جارى به قول الضبي «تربت يداك» وكأنه أخذه من قول الحطيئة:
سيري أمام فإنا الأكثرين حصى
…
والأكرمين إذا ما ينسبون أبا
فجعل مكان أمامة تماضر وهي المزجورة في قول الضبي، وجعل مكان الحث في قوله سيري معنى الزجر الذي في «تربت يداك» وإنما دعا عليها ومراده زجرها لا أن تصب عليها لعنة ما.
فاختيار تماضر لم تمله عليه القافية بل فيما أرى من أجله جعلت القافية هكذا إذ قد تقمص الزمخشري رحمه الله شيئًا من نفس هذه الكلمة المختارة.
سيري تماضر حيث شئت وحدثي
…
إني إلى بطحاء مكة سائر
ضبط في المجموعة بفتح همزة أن على أن هذا حديثها والوجه القوي وهو المقصود إن شاء الله الكسر أي اذهبي أنى شئت وحدثي الناس أني فارقتك- إني سائر إلى بطحاء مكة، هذا عزمي وأنا به صارح. يدلك على أن هذا كلام مستأنف تعلق ما بعده به:
حتى أنيخ وبين أطماري فتى
…
للكعبة البيت الحرام مجاور
متعوذ بالركن يدعو ربه
…
يشكو جرائر بعدهن جرائر
يشكو جرائر لا يكاثرها الحصى
…
لكنها مثل الجبال كبائر
ظاهر الشكوى أنه يشكو جرائر جرها عليه غيره، إذ لم يعين أنه صاحبها. ثم كأنه في البيت التالي لبيت الركن يلوم نفسه مع بقاء الإيهام بجواز كون الجرائر من غيره، والذي يشعر بلوم نفسه قوله لا يكاثرها الحصى لكنها مثل الجبال- فكأن هذا تأمل منه لنفسه وفيه بعض نفس انكسارة. يقوي هذا الوجه الذي نذهب إليه قوله من بعد:
والله أكبر رحمة والله أكـ
…
ـبر نعمة وهو الكريم القادر
وأحق ما يشكو ابن آدم ذنبه
…
وأحق من يشكو إليه الغافر
فدل بهذا أنه قد عني نفسه وإن كان قد بدأ بها يوهم شكوى ذات عموم.
فعسى المليك بفضله وبطوله
…
يكسو لباس البر من هو فاجر
يلاحظ على صياغة الزمخشري الصحة وقصد الفصاحة ولكنه بالتزامه ذلك ربما جاء بالكلام جافًا غير عذب الرنين- قوله «لا يكاثرها الحصى لكنها مثل الجبال» فيه تعب صناعة وتكلفها لأنه لما شبه الذنوب في الكثرة بالحصى بالغ فكبر هذا الحصى فجعله جبالًا لأن الذنوب كبائر وفي كبائر هنا معنى الكبر الذي في الجبال لا معنى الكبر الذي يجعل صاحبه في منزلة بين المنزلتين على رأي المعتزلة، فكأن قوله حصى كبائر أي كبار مثل الجبال يحترس به أن تظن كبائر من نوع الفواحش اللواتي هن من كبائر الإثم. وقوله يكسو لباس البر من هو فاجر فالفاجر ضد البر بفتح الباء فمن لبس لباس البر بكسر الباء فهو بر بفتحها. ههنا أيضًا عمل وتعب. وقوله:«وأحق من يشكو إليه الغافر» ، إن أراد بالغافر المولى سبحانه وتعالى وهذا من أسمائه لقوله تعالى: {غافر الذنب
وقابل التوب} فهو لا بأس به، وإن أراد أحق من يشكو إليه من يغفر ذنبك ففيه نظر. والعرب تقول: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك. والذي يصح به المعنى ويستقيم أن يريد بالغافر الله عز وجل، وإيهام قصد عموم المعنى يدخل في سنخ صياغة هذا البيت نوعًا من ضعف.
يا من يسافر في البلاد منقبًا
…
إني إلى البلد الحرام مسافر
عجز البيت حسن لأنه تغن بتكرار المعنى الذي سبق «إني إلى بطحاء مكة سائر» ولكن الصدر ضعيف، أولًا لأن النداء خارج عن السياق، إذ السياق يقتضي أن يكون ينادي تماضر وما يشبه معناها. فقد ترك زجرها ليزجر غيرها وهذا تشويش- ويمكن أن يعتذر له بما تقدم ذكره من أن تماضر رمز للدنيا وزهرتها وطلب متاعها الفاني، فقوله:
يا من يسافر في البلاد منقبًا
كأنه يقول به: «يا من غرته تماضر» أي الدنيا فخرج يطوف في الآفاق يريد المال والجاه.
إن هاجر الإنسان عن أوطانه
…
فالله أولى من إليه يهاجر
وتجارة الأبرار تلك ومن يبع
…
بالدين دنياه فنعم التاجر
تالله ما البيع الربيح سوى الذي
…
عقد التقي وكل بيع خاسر
نظم هذه الأبيات مستقيم، إلا أنها قليلة الرونق وذلك أنها لم تعد أن نظمت بعض معاني آي الكتاب كقوله تعالى:{فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} ونظم معاني الآي مسلك مزلة، والحاذق من يقصد قصد الاقتباس والإشارة، إذ أن المصباح لا يضيء في الشمس، وبلاغة القرآن ضوء شمسها غامر باهر، ولا ريب أن الزمخشري قصد إلى معنى الاقتباس، فسلك بما سلكه من نظم المعاني القرآنية مسلكًا يجعل شعره تعليمي المعدن، فذلك يكسبه من الجفاف ويذهب ببعض الرونق. ثم يقول رحمه الله، يشكو الذنب، بانكسارة عابد، على أنها انكسارة فيها جانب من شدة نفس العالم اللغوي التي لا تفارق الزمخشري رحمه الله:
خربت هذا العمر غير بقية
…
فلعلني لك يا بقية عامر
وعهدتني في كل شر أولًا
…
فلعلني في بعض خير آخر
في طاعة الجبار أبذل طاقتي
…
فلعلني فيها لكسري جابر
تأمل الطباق في كل بيت- ولكنه سهل سائغ، ونفس شاعر ينتظم هذه الأبيات فيه
روح من أدب وصدق في حضرة المولى سبحانه عز وجل:
سأروح بين وفود مكة وافدًا
…
حتى إذا صدروا فما أنا صادر
هذا كأنه يخاطب به نفسه، ولذلك حسن شيئًا موقع العزم والجزم به، إذ لو كان مراده مخاطبة غيره لكان لزمه الاحتراس بذكر الأمل والمشيئة، وقد جاء بهذا المعنى فيها بعد، فدل بذلك أنه ههنا إنما يخاطب نفسه- غير أنه قبل أن يصل إلى موضع ذلك أطال في تفسير قوله «فما أنا صادر» أنه يريد به المجاورة، وقد سبق أن قال ذلك، وهذا كما لا يخفى مذهب نثري يصير به ناظمه في طريقة الشعر إلى ما وسموه بالإخلاء- غير أن في أطناب الزمخشري الذي أطنبه نغمة حزن خفية، كأنه بها يعزي نفسه على فراق تماضر، هاته التي تحتمل الكناية عن الوطن وزهرة الدنيا جميعًا.
بفناء بيت الله أضرب قبتي
…
حتى يحل بي الضريح القابر
يعني حتى أحل به، والعبارة فصيحة في مذهب العربية ولا ريب أن الزمخشري تعمدها.
ألقى العصا بين الحطيم وزمزم
…
لا يطبيني إخوة وعشائر
عني بالحطيم البيت كله.
ضيفًا لمولى لا يخل بضيفه
…
ويريه أقصى ما تمنى الزائر
حسبي جوار الله حسبي وحده
…
عن كل مفخرة يعد الفاخر
لا يخفى أن ههنا تطويلًا ونفسًا خطابيًا ما عدا به تكرار الفكرة التي تقدمت ومع أن هذا التوكيد يخاطب به نفسه قد عدا به الاعتدال المؤثر حقًا.
سأقيم ثم وثم تدفن أعظمي
…
ولسوف يبعثني هناك الحاشر
هذا مما عجل به الزمخشري في طلبه توكيد المعنى، معنى الجوار الذي بدأ به، فغفل من حيث لم يشعر -أم قد شعر- من قوله تعالى:{وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} وهي مما لا يغفل عنه، فكأن قد تذكر وتنبه، فمن أجل ذلك قال من بعد ذلك مباشرة:
يا ليت شعري والحوادث جمة
…
والعيب فيه للحكيم سرائر
هذا كما ترى كالاستدراك والتذكر.
والعبد يحرص أن ينفذ عزمه
…
ووراء عزم العبد حكم قاهر
هل في قضاء الله أني قادم
…
أم القرى وإلى البنية ناظر
والنظر إلى الكعبة عبادة.
فمقبل الحجر الممسح ملصقًا
…
خدي به وعليه دمعي قاطر
وإنما يقبل الناس الحجر اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي وضعه في موضعه بعد أن أوشكت قبائل قريش أن تقتتل حرصًا منها ألا تنفرد واحدة منها بشرف وضعه- فكفاهم الله ذلك بمحمد الأمين، إرهاصًا بما أعده له من وحيه وإكرامه بأن يكون خاتم الأنبياء المرسلين الداعي إلى توحيد الله لا نشرك به شيئًا «إليه أدعوا وإليه مئاب» - صلى الله على نبينا وسلم تسليمًا وعلى آله وصحبه.
ثم أخذ الزمخشري يصف نفسه حاجًا قائمًا بما يقوم به الحاج.
فبذلك البيت المطهر طائف
…
في ثوبي الإحرام أشعث حاسر
فمبادر للسعي ما بين الصفا
…
والمروة والعبد المجد مبادر
التعبير مستقيم غير أن في نظم البيت عناء وقلة رونق في الديباجة- كأنها إلى تخشين النظم التعليمي أقرب. ويعتذر لذلك بما يخالطه من أرب التعبد.
فمراقب نفر الحجيج إلى منى
…
فإلى منى قبل المعرف نافر
أي نافر إلى منى قبل يوم عرفة والمعرف بضم الميم وفتح الراء مشددة.
بهم يباهي الله في ملكوته
…
أهل السماوات العلى ويفاخر
حتى إذا دلكت براح فطارق
…
جمعًا فمنه إلى المحصب نافر
جمعًا: أي مزدلفة. طارق أي آت بليل ليذكر الله عند المشعر الحرام ويجمع فيها بين المغرب والعشاء جمع تأخير. دلكت براح بكسر الباء وراح جمع راحة وفيه قولان ذكرهما الطبري عند تفسير آية الإسراء فمن قال غربت قال إن المأمور بصلاتها المغرب ومن قال مالت عن الزوال قال إن المأمور بها صلاة الظهر ورجح الطبري القول الأول وبكليهما قيل وبراح بوزن قطام قيل اسم للشمس وبراح بكسر الباء من مسح العينين لمعرفة الزوال أو المغيب يدلك المرء عينيه لاتقاء الشعاع والذي هنا براح بفتح الباء إذ ليس في الحاء تنوين وأنشدوا- ذكره الطبري والقرطبي وصاحب المجاز جميعًا:
هذا مقام قدمي رباح
…
ذيب حتى دلكت براح
وآية الإسراء هي {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا} .
والوقوف بعرفة الواجب الذي الإخلال به فيه الدم هو ما بين الزوال إلى الليل ولا يجزئ الوقوف قبل الزوال- هذا في مذهب مالك، أعني كونه واجبًا، والوقوف الذي هو أحد أركان الحج التي لا حج للمرء بدونها هو عند مالك ما يكون في جزء من الليل فإن نفر قبل الغروب فلا حجة له وعند غيره يجزئه الوقوف بعد الزوال.
وقوله «بهم يباهي» ، أخذه من الحديث ومعنى المباهاة جلي أي يرى الله الملائكة حجاج بيته شعثًا غبرًا وهم بذلك أبهى منهم، إذ لا يخفى أن الملائكة لا يباهون الله عز وجل إذ هم عبيده {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} . ويفاخر اضطرت الزمخشري إليها القافية ويمكن تأويلها على قريب من نفس المعنى في عسر.
فمجمر فمقصر أو حالق
…
نحر النهار فللنسيكة ناحر
وفي الجناس «نحر- ناحر» عمل كعمل المعرى وجهد علماء وكان المسلمون إلى زمان قريب يؤثرون الحلق على ترك الشعر سائبًا كما يفعل الناس اليوم. وإنها سيب الناس شعورهم بتقليد الإفرنج، ثم إذا بعضهم يفطن ويفطنهم إلى أن ذلك كان من عمل العرب.
وكان بدو البجاة عندنا ولا يزال ذلك دأبهم يتركون شعرهم ينمو على الرؤوس ويسقونه الدهن.
وقال ابن الطثرية يصف شعره:
فيهلك مدرى العاج في مدلهمة
…
إذا لم تفرج مات غمًا صؤابها
والصواب صغار القمل (1).
وكان ثور أخوه قد عاقبه بحلق رأسه إذ تعدى مرارًا على إبله فنحر منها فقال في هذه الكلمة:
فأصبح رأسي كالصخيرة أشرفت
…
عليها عقاب ثم طارت عقابها
وقال الشنفري:
ويوم من الشعرى يذوب لوابه
…
أفاعيه في رمضائه تتململ
نصبت له وجهي ولا كن دونه
…
ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل
وضاف إذا هبت له الريح طيرت
…
لبائد من أطرافه ما ترجل
بعيد بمس الدهن والفلي عهده
…
له عبس عاف من الغسل محول
نحر النهار أوله.
وحلق الرأس الذي كان يفعله الرجال في أكثر بلاد إفريقية تبركًا بعمل الحج بالنسبة إلى حال أكثرهم أصح وأدخل في حاق النظافة، ومن سيب عملًا بما كانت عليه عادة العرب في غير الحج وجاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أفرع فوجه الصواب والبركة في ما قصد إليه ظاهر ومثل هذا لا ريب يلتزم بالنظافة التي سن الشرع
(1) راجع التماسة عزاء بين الشعراء للمؤلف ص 135 - 137.
وإنما الأعمال بالنيات، وفي خبر الحديبية ما يشعر بتفضيل الحلق على التقصير في العمرة ثم جعل الله سبحانه وتعالى لهما معًا الفضيلة في قوله تعالى:{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون} [الفتح].
وقال الزمخشري من بعد فأخذ في مدح النبي صلى الله عليه وسلم جاعلًا الزيارة تتمة لما كان من أداء الفريضة، وكأن الحاج حين يقصد المدينة يقفو أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هاجر، وبعض أهل الفضل والعزم الصحيح يتعمدون سلوك طريق الهجرة يتبركون بذلك:
ومتى تضم قتود رحلي ضامرًا
…
يهفو به نحو المدينة ضامر
عنى بالضامر الأول نفسه وبالضامر الثاني بعيره.
ماض على الظلماء يخبطها إلى
…
بلد أضاء به السراج الزاهر
يهوي إلى قبر النبي محمد
…
خببًا كما زف الظليم النافر
أما يهوى فقرآنية (سورة ابراهيم) وأما «الظليم النافر» فجاهلية- وكان ينبغي أن يلتمس تمام البيت بغير قوله «كما زف الظليم النافر» إذ كأنه غير تام الملاءمة لما سبق، لأن الهوى تناقضه حركة النفار، فتأمل.
لله ميت بالمدينة قبره
…
قصر مشيد والقصور مقابر
المراد من المعنى ظاهر ولكن الأداء قاصر، إذ من القبور ما يبنى كالقصور كتاج محل. ولكن مراده أنه قصر في القلوب والأرواح معمور بالمحبة النابعة من صدق التقوى والإيمان، ولا معنى للموازنة من بعد إذ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك. ويأبى الزمخشري رحمه الله إلا أن يقحم بعض ما كان يشعر به من تبرم ممن لم يكن عنهم ذا رضا.
لله ميت كل حي لم يكن
…
بهداه حيًا فهو عظم ناخر
هذا البيت بحمد الله جيد ومعانيه من القرآن- قوله تعالى: {أومن كان ميتًا فأحييناه} [الأنعام] وقوله تعالى: {أئذا كنا عظامًا نخرةً} [النازعات] وقرأ الكسائي «ناخرة» وقال الطبري إنها أعجب القراءتين إليه، وكان الزمخشري رحمه الله كثير الاتباع للطبري في تفسيره جزاهما الله عن هذا العمل الحميد خيرًا.
ثم أخذ الزمخشري بعد هذا البيت الجميل في ذكر معنى قريب من نفسه، وذلك أنه كان أعرج فلا يقدر على الغزو وكان ذلك زمان جهاد لإبراز الصليبيين أنيابًا
عصلًا، أخذوا بها بيت المقدس، فيا أشبه اليوم بالبارحة، إن الله على كل شيء قدير.
إن لم أنله ولم يكن مني له
…
بسنان رمحي أو لساني ناصر
يعني إن لم أكن من أهل ذلك الزمان فأسعد بنيل رؤياه كما سعد الصحابة الأبرار، فأجاهد كما جاهدوا بالسنان واللسان.
فأنا النصور لوحيه بدلائل
…
وجه اليقين بهن أبلج زاهر
ثم من ههنا رجع إلى أمر نفسه وترك ما كان فيه من المديح، وهذا أشبه بمذهب القصيدة، إذ كلها مبنية على ما عزم عليه من هجرة الأوطان والمجاورة بالبيت الحرام- غير أن ههنا التفاتا من باب التعبد المحض الذي كان ينبغي أن يرومه إلى نوع من مقارعة الخصوم. وقد يعتذر له في هذا بأنه قد استفاد من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نشوة واريحية وشجاعة فؤاد، وقد صدق في هذا الذي ذكره عن تفسيره وما هو ملحق بالتفسير من علوم اللغة والأدب، أساسه، وفائقه، ومفصله فكل أولئك ذو فوائد جمة تمت إلى فهم التنزيل والسنة بسبب متين.
من يلقهن بفهمه فكأنما
…
في مسمعيه الوحي غض ناضر
غض فيها إشارة إلى قول ابن مسعود رضي الله عنه.
ويهز من أملي إذا جن الدجى
…
أملى كما هز الجناح الطائر
التشبيه هنا ضعيف البنية غير متناسب مع ما قبله، وذلك أن الطير لا ترفرف إذا جن الدجى ولكنها تفعل ذلك عند اقتراب الصباح وإنما يذكر من الطير مع الليل البوم وما أشبه مما يكره أن يشبه به المرء نفسه.
والجن من سراء الليل. فأعجب لما روي من قول الآخر:
أتوا ناري فقلت منون أنتم
…
فقالوا الجن قلت عموا صباحًا
في أبيات، والراجح أن يكون هذا مصنوعًا، لأن النار لا توقد مع الصباح والجن ليليون، وإنما حذي هذا على قول الآخر:
ونار قد حضأت بعيد وهن
…
بدار لا أريد بها مقاما
سوى تحليل راحلة وعين
…
أكالئها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت منون قالوا
…
سراة الجن قلت عموا ظلاما
وقلت إلى الطعام فقال منهم
…
زعيم نحسد الانس الطعاما
وزعم أهل الكتاب فيما سطروا من كتابهم أن الملائكة أكلت من العجل الحنيذ لما أرسلوا وهم في طريقهم إلى تدمير قوم لوط. فتأمل.
قال الزمخشري:
والله أكرم أن يرى متجردًا
…
من حلتي نعماه عبد شاكر
جعلهما حلتين تشبيهًا بكساء الحج. يدلك على ذلك قوله «متجردًا» ، إذ الحاج يتجرد من المخيط والمحيط:
يا رب إني أستجيرك في الذي
…
نطت الرجاء به وأنت الخائر
هكذا استجيرك في المطبوعة وما أرى إلا أنه أستخيرك بالخاء المعجمة أي أنا استخيرك وأنت سبحانك تختار لي.
وإليك أرغب في النهوض بهمتي
…
حتى أفي بجميع ما أنا ناذر
وهذا مقطع حسن للقصيدة، ومقطعه على قول من قال إن المقاطع هي أواخر الأبيات، أيضًا حسن.
وقريب من زمان الزمخشري، سابق له إذ هو من رجالات آخر القرن الخامس (توفي سنة 507 هـ) الأبيوردي الشاعر، الأموي السفياني نسبًا وكان يقول في نسب نفسه المعاوي نسبة إلى معاوية رحمه الله. وله في المجموعة النبهانية قصيدة جاري بها «بانت سعاد» ، نبوية، عمد فيها إلى ألفاظ ضخام، ولم يخل من أنفاس أموية إذ نسب النبي صلى الله عليه وسلم قرشيًا ليدخل بذلك بنو أمية وأجداده منهم في حيز هذا الشرف، ولا ريب أنهم كانوا في قريش يعاسيب، إلا أنهم لم يكونوا من أهل البيت، إلا أم حبيبة رضي الله عنها وما كان لمعاوية رحمه الله من جهة الصهر، وقد رام يزيد أن يعتذر عن قتل الحسين صلوات الله عليه ولا عذر له حيث قال:
بيني وبين حسين الله والرحم
ولم يرع لا الرحم ولا الله سبحانه عز وجل فقصمت عنقه وهو في أوج ما كان يظن لنفسه من نصر- وأول كلمة الأبيوردي:
خاض الدجى ورواق الليل مسدول
…
برق كما اهتز ماضي الحد مصقول
أشيمه وضجيعي صارم خذم
…
ومحملي برشاش الدمع مبلول
وصدق من نعت الأبيوردي بأنه صاحب ألفاظ لا معان فأول هذا البيت من أبي الطيب وأخره من أمرئ القيس.
ومن غزلها بعد أن ذكر السير- وإنما جاء بالغزل بعد السير لجعله المحبوبة ذكرى وطيفًا-
واعتاده من سليمي وهي نائية
…
ذكر يؤرقه والقلب مبتول
ريا المعاصم ظمأي الخصر لا قصر
…
يزري عليها ولا يزرى بها طول
فالوجه أبلج واللبات واضحة
…
وفرعها وارد والمتن مجدول
كأنما ريقها والفجر مبتسم
…
فيما أظن بصفو الراح معلول
فهذا منهج كعب، وقال النبهاني في مقدمة مجموعته (1):«والذي عليه الأكثرون أن التشبيب بمعين غير من يحل له من زوجة أو جارية، وبغير معين، جائز لأن المقصود منه تحسين الشعر وترقيقه على عادة الشعراء، وسماعه جائز أيضًا إن لم يفتتن به سامعه بأن يهيجه إلى المعصية أو يطبقه على من يحرم تمتعه به، هذا في مطلق الغزل، وهو في المدائح النبوية غير مستحسن مطلقًا، لأن الغزل ولو في غير معين، المشتمل على وصف الخدود والقدود والأرداف وما أشبه ذلك من أوصاف النساء والغلمان التي من هذا القبيل، وما يجري للعاشق مع المعشوق من السفاهات والترهات هو مما يأبى ذكره الذوق السليم، والطبع المستقيم، في مقدمة قصيدة يمدح بها أحد العلماء العاملين، والأولياء العارفين، فضلًا عن سيد الأنبياء والمرسلين، وصفوة خلق الله أجمعين، صلى الله عليه وسلم أما قصيدة «بانت سعاد» التي اتخذها دليلًا بعض من سلك هذا المسلك واستحسنه وهو في نفسه غير حسن فهي لا تصلح دليلًا لذلك لأن ناظمها كعب بن زهير رضي الله عنه كان قبل إسلامه شاعرًا جاهليًا فنظمها على طريقتهم قبل أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسلم على يديه ويعرف آداب الإسلام، وما ينبغي أن يخاطب به سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له ولغيره على ذلك لعله لهذا السبب وقرب عهدهم بالجاهلية وعوائدها مع علمه صلى الله عليه وسلم أنهم لم يقصدوا بغزلهم معينًا، وإنما هو شيء جرى على
(1) مقدمة النبهاني- الفصل الخامس.
قاعدتهم فلا يترتب عليه محذور، وحينئذ لا حاجة إلى الجواب بأن سعاد هي زوجته ابنة عمه وقد طالت غيبته عنها، لأن تشبيب الرجل بزوجته وإن كان جائزًا إلا أنه مخل بالمروءة كما هو ظاهر ونقله في الزواجر عن بعض الفقهاء. ولو صدرت منه هذه القصيدة بعد إسلامه واجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته أحكام الدين وآداب المسلمين، ولزوم كمال التأدب في خطاب سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، لربما كانت تصلح أن تكون دليلًا لمن سلكوا هذا المسلك ويدل على ما قلته أنه رضي الله عنه لم يحصل منه مثل هذا التشبيب بعد إسلامه ولا من أحد من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم كحسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم في مقدمة شعر مدحوا به النبي صلى الله عليه وسلم إلا مع قرب عهدهم بالجاهلية وعوائدها، أما بعد ذلك فلم يرو عن أحد منهم شيء من هذا القبيل. وكيف يكون ذلك وهم أوفر الناس عقولًا وأعظم الناس أدبًا مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقةً} أتراهم بعد أن سمعوا هذا يضعون سفاهات الغزل بالنساء وأوصافهن المتهجنة موضع الصدقة في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حاشاهم ثم حاشاهم، ونحن مع ما بيننا وبينهم من الفرق العظيم في كل وصف جميل عقلًا وشرعًا، ندرك بالبداهة عدم استحسان ذلك. 1. هـ».
وقد حذف الغزل من همزية حسان وأثبت نعت الخمر فلم يجيء من غزله إلا بقوله:
لشعثاء التي قد تيمته
…
فليس لقلبه منها شفاء
كأن سبيئة من بيت رأس
…
يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يومًا
…
فهن لطيب الراح الفداء
ولا يمكن أن يزعم لحسان أنه قال هذه القصيدة وهو حديث عهد بإسلام فقد قيلت في فتح مكة ومسلمو المدينة قد أسلم منهم العدد الصالح على يد أوائل الأنصار من أهل البيعة الأولى كأسعد بن زرارة رضي الله عنه.
ولحسان في ميمية بدر غزل منه قوله:
بنيت على قطن أجم كأنه
…
فضلًا إذا قعدت مداك رخام
فهذا من نعت الجسم لا يخفى. وفي الأبيات الهمزية قول حسان رضي الله عنه:
كأن سبيئة من بيت رأس
…
يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غض
…
من التفاح هصره اجتناء
على فيها إذا ما الليل قلت
…
كواكبه ومال بها الغطاء
فإن يكن النبي صلى الله عليه وسلم سمع هذه الأبيات من حسان رضي الله عنه فليس بصواب أن نحرم سماعها، إلا أن يكون الشيخ يوسف رحمه الله قد ثبت عنده أنه لم يسمعها الرسول عليه الصلاة والسلام. ويعذل رحمه الله إن يكن حذفها ليقوي بذلك حجته المتقدمة: ولعله قرأ الهمزية في نسخة ليست هذه الأبيات فيها- قال المعري في رسالة الغفران يخاطب حسان رضي الله عنه على لسان ابن القارح: «ويحك، أما استحييت أن تذكر مثل هذا في مدحتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول كان أسجح مما تظنون إلخ»
قال تعالى جل من قائل: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} .
ونقل النبهاني عن ابن حجة في الفصل الرابع من مقدمته بعد أن مهد بأنه يستحسن لمن يمدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يشبب بذكر الديار الحجازية ومعالمها إلخ قال: «قال العلامة تقي الدين بن حجة في خزانة الأدب في شرح البيت الأول من بديعيته وهنا فائدة وهو أن الغزل الذي يصدر به المديح النبوي يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب ويتضاءل ويتشبب مطربًا بذكر سلع ورامة وسفح العقيق والعذيب والغوير ولعلع وأكناف حاجر ويطرح محاسن المرد والتغزل في ثقل الردف ورقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد وخضرة العذار وما أشبه ذلك وقل من يسلك هذا الطريق من أهل الأدب. أ. هـ.
عابوا أبا الطيب لقوله:
إني على شغفي بها في خمرها
…
لأعف عما في سراويلاتها
فقيل ما معناه أي عفاف هذا الذي يذكر السراويلات؟
ولقد أعجب من هذين الفاضلين إذ ينهيان عن ذكر الخدود والقدود والأرداف ولا يخلو كلامهما من بعض الأنس إلى ذكر ذلك، ولا سيما ابن حجة إذ لم يكد يدع شيئًا من صفة ما يشتهي وتأمل قوله «وبياض الساق وحمرة الخد» .
وأحشم من ذلك، وحق له ذلك قول الباعونية: «ويتعين في غزل المديح النبوي أن يحتشم فيه ويتشبب بذكر الجهات الحجازية من سلع ورامة والبان والعلم وذي سلم وما في معناها ويطرح ذكر التغزل في الردف والقد والخد ونحو ذلك فإن سلوك هذا
(? ) راجع كتاب التماسة عزاء ص 228 وهامش خزانة الأدب لابن حجة طبعة مصر 1304 هـ تصوير بيروت ص 312.
الطريق في المدح النبوي مشعر بقلة الأدب، وحسب العاقل قول الله تعالى:{ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} أ. هـ.
على أن الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله كأن قد رجع عما قطع به من أن الغزل في المدائح النبوية على الوجه الذي نصه، سوء أدب إذ قال في الفصل السادس: «كنت عزمت أن لا أضع في هذه المجموعة شيئًا من القصائد التي وقع التشبيب فيها بوصف الولدان والنساء الحسان لئلا أكون شريكًا لناظميها فيما يلحقهم من الملام بتغزلهم بما ذكر في مقدمة مديح النبي عليه الصلاة والسلام ثم رأيت ذلك في كثير من غر القصائد فلم تسمح نفسي بحرمان المجموعة من ذلك الدر النظيم وحرمان أولئك الأفاضل من هذا المقام الكريم والفضل العظيم بإدخالهم هنا في جملة مداح هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولئن أساءوا رحمهم الله وعفا عنهم من تلك الجهة بعض الإساءة، فقد أحسنوا من جهة مديحهم للنبي صلى الله عليه وسلم كل الإحسان. وقد قال صلى الله عليه وسلم أتبع السيئة الحسنة تمحها. وفي حديث آخر: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. ولا يخلو أمرهم من إحدى هذين.
وعلى كل حال فقد فازوا بأعظم الحسنيين، مع أن مقاصدهم في تغزلهم بتلك الحبيبة وذلك المحبوب لا يطلع عليها إلا علام الغيوب. بل الظاهر المتعين أنهم ليس مرادهم ما يتبادر للأفهام من ذلك الكلام. مع أنا نعلم أن تغزلات الشعراء منذ عهد الجاهلية إلى الآن هي جارية هذا المجرى بدون أن تعاب من أحد من أهل هذه الصنعة بل يعدون ذلك من محاسنها وإنما جاءها العيب الذي شرحناه من جهة رعاية الأدب اللازم مع النبي صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك لجاءت على القياس ولم يكن فيها بأس وقد غلبت عليهم رعاية الصنعة الشعرية فجروا على قاعدتها بدون سوء قصد ولا فساد نية ولذلك رجعت عن عزمي الأول وأدخلتها في هذه المجموعة كغيرها راجيًا من الله تعالى ثم من النبي صلى الله عليه وسلم العفو عني وعنهم والقبول مني ومنهم أن الحسنات يذهبن السيئات وإنما الأعمال بالنيات. أ. هـ».
قلت قولنا بعد أبيات الأبيوردي الأربعة فهذا منهج كعب ربها أغنى عن الإطالة، غير أن كلام الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله في غاية الأهمية، لما فيه من تقرير قوة الصلة بين القصيدة القديمة وهذه النبوية التي خلفتها، ولا يخفى ما في الرجوع الذي رجعه من سماحة النفس ومن استشعار بركة الأرب الذي من أجله صمم مجموعته النفيسة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا:
ونقف يسيرًا عند قول الأبيوردي رحمة الله عليه:
كأنما ريقها والفجر مبتسم
…
فيما أظن بصفو الراح معلول
فقوله والفجر مبتسم يشير به إلى المعنى الذي يكرره الشعراء من ذكر طيب رائحة الفم بعد الرقاد عند الفجر والغالب أن تتغير رائحة الفم انئذ- قال اليشكري يصف ثغر رابعته:
أبيض اللون لذيذًا طعمه
…
طيب الريق إذ الريق خدع
قال الشارح (1) يقال خدع ريقه إذ تغير.
وقوله فيما أظن احترس به من ناقدي الغزل وفيه نظر إلى دفاع المعري عن حسان في رسالة الغفران واستمر يعتذر عن غزله فقال:
صدت ووقرني شيبي فيها أربي
…
صهباء صرف ولا غيداء عطبول
وحال دون نسيبي بالدمى مدح
…
تحبيرها برضا الرحمن موصول
أزيرها قرشيًا في أسرته
…
نور ومن راحتيه الخير مأمول
هنا مع مجاراة كعب ومحاكاته (نظر إلى «لنور يستضاء به» أو «لسيف يستضاء به» وإلى «والعفو عند رسول الله مأمول»)، مع هذا نظر شديد إلى الكميت وأخذ منه.
قوله: وقرني شيبي، من قول الكميت: ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب.
وقوله: «فما أربي صهباء صرف ولا غيداء عطبول» .
من كلمات الكميت: «طربت وما شوقًا -ولا لعبًا- ولم يلهني دار إلخ» .
وقول الأبيوردي: «أزيرها قرشيًا إلخ» .
من قول الكميت:
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى
…
وخير بني حواء والخير يطلب
بني هاشم رهط النبي فإنني
…
بهم وهم أرضى مرارًا وأغضب
فجعل الأبيوردي قرشيًا مكان قول الكميت بني هاشم، فهذا ما قدمناه من معنى أمويته.
على أنه رحمه الله قد سار في سائر المدحة على منهج منبئ بأن القصيدة النبوية على زمانه قد اتلأبت على منهاج واضح: النسيب الرمزي أو ما بمجراه وقد يستغنى عنه، التخلص إلى مدحه صلى الله عليه وسلم، الاختتام بالصلاة عليه وذكر أصحابه-
(1) شرح الأنباري الكبير ص 383.
قال الأبيوردي:
يا خاتم الرسل إن لم تخش بادرتي
…
على أعاديك غالتني إذن غول
والنصر باليد مني واللسان معًا
…
ومن لوى عنك جيدًا فهو مخذول
وكل صحبك أهوى فالهدى معهم
…
وغرب من أبغض الأخيار مفلول
هذا من الحديث: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. ثم خلص إلى الخلفاء الأربعة ومضى على منهج أهل السنة أنهم خير الصحابة أو كما قال اللقاني في الجوهرة:
وخيرهم من ولي الخلافة
…
وأمرهم في الفضل كالخلافة
ثم خصص الشيخين بجمعها معًا ومفهوم ضمنا أن أبا بكر رضي الله عنه هو المقدم، وأحسب أن سبب هذا التخصيص أراد به الطعن في الروافض على وجه من التعريض:
وأقتدي بضجيعيك اقتداء أبي
…
كلاهما دم من عاداه مطلول
وهل عنى بقوله «أبي» آبائي أم كان أبوه ذا موقف في هذا الاقتداء عرف به، فأراد الأبيوردي أن يدل على مكان قدم هذا الاعتقاد عنده؟
ومن كعثمان جودًا والسماح له
…
عبء على كاهل العلياء محمول
وأين مثل علي في بسالته
…
بمأزق من يرده فهو مقتول
أي من مثل علي في الشجاعة وخوض المآزق التي يخاف فيها الهلاك وواردها مقتول. الكلمة بلا شك مأزق ميم وألف همزة وزاي وميم لا ألف بلا همزة وذال معجمة، فهذه لا معنى لها. وينظر الأبيوردي إلى قول أبي تمام:
والحرب قائمة في مأزق لحج
…
تجثو الكماة به صغرًا على الركب
وفي عبارة الأبيوردي على قوة تبدو في صناعة لفظه قصور عن أداء المعنى على تمامه.
وآخر القصيدة:
إني لأعذل من لم يصفهم مقةً
…
والناس صنفان معذور ومعذول
فمن أحبهم نال النجاة بهم
…
ومن أبى حبهم فالسيف مسلول
والمعنى المراد حسن إلا أن اللفظ مقصر عنه، إذ القسمة في كلا البيتين غير صحيحة إذ ليس الناس صنفين: معذور ومعذول ولكن معذور وغير معذور؛ أو معذول وغير معذول فيدخل في (غير معذور) من هو ملوم ومن هو ليس بحاجة أن يعذر إذ لم يقع منه ما يوجب ذلك، (على أن أكثر ما يستعمل «غير معذور» للدلالة على الملوم ولكن قصدنا إلى معنى القسمة المنطقية الصحيحة). وهذا أظهر في معذول وغير معذول إذ يدخل في (غير المعذول) من كان معذورًا ومن لم تكن به حاجة لأن يعذر أو نحو ذلك مما يشعر بسبق خطأ أو ذنب.
وقوله فالسيف مسلول لا يقابل (نال النجاة بهم) لأن السيف قد يسل ولا يقع، والمعنى الصحيح أن من أحبهم نال النجاة بهم ومن أبى حبهم لم ينل النجاة وكان مصيره الهلاك.
ورحم الله الأبيوردي فقد رام بما صنع سبيل الثواب، وإنما الأعمال بالنيات، وهو بعد من أقدم كبار الشعراء في زمانه، نظم قصيدة خالصة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومدح أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
ويقوى ما ذهبنا إليه من أن مدحة الأبيوردي قد سار بها على نهج قد استقامت عليه بنية القصيدة النبوية ما صنعه المعري وهو أسبق من الأبيوردي في القطعة اللزومية.
دعاكم إلى خير الأمور محمد
…
وليس العوالي في القنا كالسوافل
حداكم على تعظيم من خلق الضحا
…
وشهب الدجى من طالعات وآفل
وألزمكم ما ليس يعجز حمله
…
أخا الضعف من فرض له ونوافل
وحث على تطهير جسم وملبس
…
وعاقب في قذف النساء الغوافل
وحرم خمرًا خلت ألباب شربها
…
من الطيش ألباب النعام الجوافل
يجرون ثوب الملك جر أوانس
…
لدى البدو أذيال الغواني الروافل
فصلى عليه الله ما ذر شارق
…
وما فت مسكًا ذكره في المحافل
هذا البيت الأخير من صميم أسلوب القصيدة النبوية. وما قبله سار به أبو العلاء على مذهب الخطباء الوعاظ إذ لا يخلو قوله دعاكم وحداكم وألزمكم من جفاء؛ وكان أدخل في المدح لو قال: دعانا، حدانا، ألزمنا، فلم يبد كأنما قصد إلى أن يخرج نفسه. والوجه ما قدمنا أنه ذهب مذهب الخطباء الوعاظ، وكمذهب أبي العتاهية في نحو:
لدوا للموت وابنوا للخراب
…
فكلكم يصير إلى ذهاب
ولكن أبا العتاهية كان نديمًا داهية يعرف كيف يتأتى إلى القبول لدى نفوس ملوكه الذين يعظهم- فسرعان ما ترك الخطاب إلى ضمير المتكلمين الجماعة ثم إلى ضمير المتكلم الواحد:
لمن نبني ونحن إلى تراب
…
نصير كما خلقنا من تراب
ألا يا موت لم أر منك بدًا
…
أبيت فلا تحيف ولا تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي
…
كما هجم المشيب على شبابي
ويا دنياي ما لي لا أراني
…
أسومك منزلًا إلا نبا بي
وعلى كثرة ما يبدأ بحمد الله وسبحان الله لا تجد أبا العتاهية يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو يصلى عليه بعد أن بدأ بالحمدلة.
قصيدته ذات الأمثال بدأها بالحمد فبلغ به تسعة أبيات فيما بلغنا منها:
الحمد لله على تقديره
…
وحسن ما صرف من أموره
الحمد لله بحسن صنعه
…
شكرًا على إعطائه ومنعه
يخير للعبد وإن لم يشكره
…
ويستر الجهل على من يظهره
خوف من يجهل من عقابه
…
وأطمع العامل في ثوابه
وأنجد الحجة بالإرسال
…
إليهم في الأزمن الخوالي
نستعصم الله فخير عاصم
…
قد يسعد المظلوم ظلم الظالم
فضلنا بالعقل والتدبير
…
وعلم ما يأتي من الأمور
يا خير من يدعى لدى الشدائد
…
ومن له الشكر مع المحامد
أنت إلهي وبك التوفيق
…
والوعد يبدي نوره التحقيق
ثم يجيء بعد:
حسبك مما تبتغيه القوت
…
ما أكثر القوت لمن يموت
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا
…
فكل ما في الأرض لا يغنيكا
الفقر فيها جاوز الكفافا
…
من عرف الله رجا وخافا
ولو صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحمدلة لكان ذلك لكلامه زينًا. وقوله وإن لم يشكره مذهب في العربية جيد، أي لم يشكره بسكون الراء وضم الهاء ثم نقل ضمة الهاء إلى الراء ومن شواهد سيبويه:
عجبت والدهر كثير عجبه
…
من عنزي سبني لم أضربه
وقوله:
فضلنا بالعقل والتدبير
…
وعلم ما يأتي من الأمور
عجزه فيه نظر، إذ المعنى مقبول إن أراد به التفكر في العواقب وليس التفكر في العواقب علمًا بالغيب وإن اتفق فيه الحدس الصائب أحيانًا، إذا لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.
فهذا موضع مأخذ على قول أبي العتاهية:
وعلم ما يأتي من الأمور
وموضوع آخر قوله:
وأنجد الحجة بالإرسال
…
عليهم في الأزمن الخوالي
كان عليه أن يتبع ذلك ما من الله به على خلقه أجمعين وعلينا نحن معشر المسلمين خاصة من إتمام نعمته بإرساله بعد تلك الأزمن الخوالي سيدنا محمدًا على فترة من الرسل، هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
هذا ومن قديم المدح وأنضجه ويقوي ما قدمناه ذكره اللامية الشقراطيسية أوردها النبهاني في ص 138 في قافية اللام (المجلد الثالث) وهي من مائة وخمسة وثلاثين بيتًا.
رصينة السبك صريحة في المدح النبوية عميقة الفهم للسيرة، كثيرة البديع والشقراطيسي المغربي من رجال الخامس الهجري توفي سنة 496 هـ. وقد أورد هذه اللامية أيضًا صاحب المنهاج الواضح (1) في آخره، ومطلعها:
الحمد لله منا باعث الرسل
…
هدى بأحمد منا أحمد السبل
خير البرية من بدو ومن حضر
…
وأكرم الخلق من حاف ومنتعل
توراة موسى أتت عنه فصدقها
…
إنجيل عيسى بحق غير مفتعل
وقد أفاض مادحو الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد في أمر البشارة ومن أوسعهم وأجودهم قولًا في ذلك الإمام البوصيري رحمه الله.
أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت
…
بما رأوا ورووا في الأعصر الأول
ثم ذكر خبر المولد النبوي والمعجزات ثم ذكر المعراج فمما قال فيه:
عرجت تخترق السبع الطباق إلى
…
مقام زلفى كريم قمت فيه علي
وفي القافية هنا جهد ما وقل مثل ذلك في هذه القصيدة.
ومما قال في قتلى بدر:
غادرت جهل أبي جهل بمجهلة
…
وشاب شيبة قبل الموت من وجل
(1) المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح ألفه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن محمد صالح بن نيصارت الماجري المغربي طبع مصر 1352 هـ- 1952 م.
لأنه لقى حمزة أسد الله وسيد الشهداء رضي الله عنه.
وعتبة الشرك لم يعتب فتعطفه
…
منك العواطف قبل الحين في مهل
وعقبة الغمر عقباه لشقوته
…
أن ظل من غمرات الموت في ظلل
أي عقبة بن أبي معيط ووصفه بالغمر جيد بالغ والغمر الذي لا تجربة له ومن أهل الطيش لذلك.
وآخر القصيدة قوله:
وصل رب وواصل كل صالحة
…
على صفيك في الإصباح والأصل
عليه صل صلاة لا انقطاع لها
…
عد الحصى وعديد الرمل ثم صل
واحفظ على القلب منى حسن خلته
…
واغفر لعبدك عبد الله وابن علي
فهو أبو محمد عبد الله بن علي أبي زكريا الشقراطيسي المغربي رحمه الله.
يدخل في باب طور التمهيد الذي صارت بعده مدحة الرسول صلى الله عليه وسلم هي القصيدة الحقة ومادحه صلى الله عليه وسلم هو الشاعر الحق ما جعل بعض مداحه عليه الصلاة والسلام يفتنون فيه من البديع. مع العلم بأن افتنانهم هذا قد جاء بعد أن قطع البديع أشواطًا من فرط التكلف والتصنيع نجد لديهم من الأريحية إلى ما يفتنون فيه ما يذكرنا بنشوة البديعيين الأوائل. ولا ريب أن مرد ذلك إلى روح التعبد وسماحة النفس فيه ببذل الجهد التماسًا للأجر.
فمن ذلك صنيع الوزير أبي زيد الفازازي الأندلسي من رجال أوائل القرن السابع الهجري صاحب العشرينيات، وهي قصائد من عشرين بيتًا كل منها، نظمها على حروف المعجم، يبدأ البيت بالحرف ويختمه به، فهو مطلع البيت ومقطعه- مثلًا من الكلمة التي اختارها له النبهاني في المجموعة:
سلام كعرف الروض أخضله الندى
…
على خير مخلوق من الجن والإنس
سليل خليل الله خاتم رسله
…
وفي الختم منع للزيادة في الطرس
سبوق بلا أين قريب بلا مدى
…
عليم بلا خط حفيظ بلا درس
سري المزايا ظاهر البأس والندى
…
كريم السجايا طاهر الجسم والنفس
سريرته والجهر نور وحكمة
…
وقد سبق التطهير للقلب في الحس
يعني خبر شق الصدر كما في حديث المعراج وحديث أيامه صلى الله عليه وسلم عند حليمة السعدية.
سرى نحو مولاه وجبريل صاحب
…
فناهيك من قدسين في حضرة القدس
وذكر النبهاني في مقدمته لهذه القصيدة أنه أي الفازازي أنشأ ديوانه سنة 604 هـ وحدث به في الحرم المكي سنة 624 هـ. فذلك قبل سقوط بغداد كما ترى.
والوتري من رجال القرن السابع في النصف الثاني منه وتأريخ وفاته لعله سنة 662 هـ (الذي في وترياته المطبوعة بالدار البيضاء 266 هـ وأغلب الظن أن هذا مراد لتقرأ المئين فيه من جهة اليمين) وفي المجموعة النبهانية أنه أكمل نظم وترياته بالأندلس سنة 652 هـ وأكملها تهذيبًا بمصر سنة 661 هـ وإنما سميت الوتريات لأنه زاد على عدد الفازازي واحدًا فجعل كل قصيدة من واحد وعشرين بيتًا وبهذا التوتير سمي الوتري وهو مجد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الواعظ البغدادي. وقد أورد النبهاني وترياته كلها في مجموعته مع ما فيها من ظاء وشين وغين في القوافي- قال:
«قال وقد ظهر لي الآن أن أذكرها جميعها لقوله في خطبتها أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه منها وهي في يده الشريفة ومعه جماعة من أصحابه عرف منهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال فلما رآني قام إلي ضاحكًا مستبشرًا إلخ ما قاله في ص 287 من الجزء الأول من المجموعة. وهي تسع وعشرون قصيدة جعل فيها لام الألف قافية وكان حقه أن يجعلها مقصورة وقد تنبه الشيخ النبهاني لهذا، وله بعد وجه إذ مراده إظهار مكان الألف التي ليست بهمزة ولو كان قد جعلها ألفًا مقصورة لسلمت من أن يلتبس أمرها باللاميات وهي التي أولها (1):
(1) طبعة دار الفكر، الدار البيضاء غير مؤرخة ص 31.
لأحمد فضل لا يعد ولا يحصى
…
ومن ذا بعد القطر أو يحصر الرملا
لأعظم رسل الله قدرًا ومنزلًا
…
وأوفاهم عزًا وأعلاهم فضلا
ومن أشهر الوتريات، ما كان ينشده المداح عندنا إلى زمان غير جد بعيد سينيته التي أولها (1).
سلام سلام لا يحد انتشاره
…
على من له نور يزيد على الشمس
سلوا زمرة الأملاك عن عرس أحمد
…
وكيف جلوه في السماء على الكرسي
سماءً وأفلاكًا وحجبًا يجوزها
…
وما زال حتى باشر العرش باللمس
سرى وسما يبغى السمو على السما
…
فأكرم بالإيحاء في حضرة القدس
سليل خليل الله لله قددنا
…
وخص من الرحمن مولاه بالأنس
سقاه بكأس الوحي فوق سمائه
…
فساد على الأملاك والجن والإنس
سعادتنا إذ رد بالبشر راجعًا
…
ومن بعد خمسين الصلاة إلى الخمس
سماوية أمست فضائل أحمد
…
فوالله ما تحصى بحفظ ولا درس
وفي كتاب أزهار الرياض في أخبار عياض للمقري رحمه الله كلمات عدد ملتزم فيها ما لا يلزم على طريقة المعري، نظمن في التبرك بمثال نعله عليه الصلاة والسلام، وكان شكل المثال ربما رسم وتبرك به على نحو من كتابة التمائم والمعوذات.
ومن أقرب المهملات من المنظومات عهدًا:
ألا واصل الله السلام المرددا
من نظم العلامة ألفا هاشم الفلاتي من رجال النصف الأول من القرن المنصرم (الهجري) وشطرها الشيخ ولد الشيخ الطاهر المجذوب رحمهم الله أجمعين فصار المطلع المشطر:
ألا واصل الله السلام المرددا
…
لأكرم رسل الله طرًا وأسعدا
وقد خلص أسلوب النظم على حروف المعجم من الفصيحة إلى الدارجة فاقتدى بديعيوها بمشابه منه، مثل كلمة المادح:
يا ناس لنصل على نبينا
…
كونه علينا أشفق من أبينا
(1) نفسه ص 27 واعتمدنا على النبهانية الجزء الثاني ص 262.
بالألف ابتدينا وما غبينا
…
وهلم جرا
ومن أغرب أنواع الالتزام صنيع ابن جابر الأندلسي في رائية نسجها على روي أبي قردودة:
يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا
…
ومنطقًا مثل وشى اليمنة الحبرة
فجاء فيها بسور القرآن تباعًا، قال في أولها:
في كل فاتحة للقول معتبرة
…
حق الثناء على المبعوث بالبقرة
في آل عمران قدمًا شاع مبعثه
…
رجالهم والنساء استوضحوا خبره
قد مد للناس من نعماه مائدة
…
عمت فليست على الأنعام مقتصرة
أعراف نعماه ما حل الرجاء بها
…
إلا وأنفال ذاك الجود مبتدرة
به توسل إذ نادى بتوبته
…
في البحر يونس والظلماء معتكرة
هود ويوسف كم خوف به أمنا
…
ولن يروع صوت الرعد من ذكره
مضمون دعوة إبراهيم كان وفي
…
بيت الإله وفي الحجر التمس أثره
وهكذا حتى يقول:
والكافرون إذا جاء الورى طردوا
…
عن حوضه فلقد تبت يد الكفرة
إخلاص أمداحه شغلي فكم فلق
…
للصبح أسمعت فيه الناس مفتخرة
أزكي صلاتي على الهادي وعترته
…
وصحبه وخصوصًا منهم العشرة
صديقهم عمر الفاروق أحزمهم
…
عثمان ثم على مهلك الفجرة
وهكذا. وكان ابن جابر (توفي سنة 780 هـ) مولعًا بالبديع والتزام ما لا يلزم مفتنًا في ذلك وله المقصورة التي التزم فيها قبل الألف حروف المعجم أولها:
بادر قلبي للهوى وما ارتأى
…
لما رأى من حسنها ما قد رأى
ثم بعد عشرة أبيات انتقل إلى الباء بعدها الألف اللينة ثم إلى التاء وهكذا حتى استوفى حروف المعجم الثانية والعشرين فبقي له التاسع والعشرون وهو الألف اللينة ولا تستطاع قبل مثلها فجاء بلام الألف جريًا على عادة تعليم الهجاء، ليست ألفها ألف إطلاق ولكن ألف لين هكذا:
والآن قد أكملتها في مدحه
…
مقصورة يقصر عنها من خلا
ثم بعد أربعة أبيات من هذا الضرب جاء بتسعة قبل الألف فيهن راء ثم بسبعة قبل الألف فيهن دال.
وفي المقصورة أبيات حسان، وهي طويلة تدل على تمكن من اللغة واقتدار على النظم، وقد فخر في أوائلها فقال وذكر شوقه إلى وطنه:
لولا اشتياقي لديار كرمت
…
لبعدها يرثى لنا من قد رثى
ومدح من أرجو بأمداحي له
…
إصلاح ما قد عاث مني وعثى
عني الرسول عليه الصلاة والسلام:
لم أجعل الشعر لنفسي خلة
…
ولم يجش فكري به ولا غثا
يا ضيعة الألباب في دهر غدا
…
فيه فتيت المسك يعلوه الخثى
أي بعر البقر- ثم يقول:
أنا الفتى لا يطبيني طمع
…
فأبذل الوجه لنيل يرتجي
لا أسأل النذل ولو أني به
…
أملك ما حاز النهار والدجى
حسبي بنو عبد مناف بهم
…
يغنى من استغنى وينجو من نجا
فإن يكن عنى ببني عبد مناف آل البيت فيجوز أن يكون مراده بني هاشم وبني المطلب، على أنه لو قال بنو هاشم ويمكن أن يستقيم بذلك الوزن كأن يقول مثلًا «إذ هم بهم» لفهم أن بني المطلب متضمنون فيهم، وإن يكن عنى كل بني عبد مناف فقد دخل فيهم بنو أمية، ولعله كان لهم بحكم أندلسيته ذا هوى-
ومما فيه أنفاس أندلسية قوله في مقدمة النسيب:
يا رب ليل قد تعاطينا به
…
حديث أنس مثل أزهار الربا
في روضة تعانقت أغصانها
…
إذ واصلت ما بينها ريح الصبا
نادمت فيها من بني الحسن رشا
…
يصبو له من لم يكن قط صبا
أيام كان العيش غضا حسنه
…
عذب الجنى ريان من ماء الصبا
أي زمان ومحل للمنى
…
ما ضاق مغناه بنا ولا نبا
ومن جيد مدحه للمصطفى عليه الصلاة والسلام:
صلى عليك الله يا من جاهه
…
يوم الحساب ملجأ لمن عصى
يا من جرى من كفه الماء ومن
…
حن له الجذع وسبح الحصى