الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأن قد خشي أبو عبادة أن ينسب في هذا إلى كذب ونفاق فقال:
حلفت بمن أدعوه ربًا ومن له
…
صلاتي ونسكي خالصًا وصيامي
وهنا نفس قرآني وانظر آخر الأنعام: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي} الآية
لقد حطت دين الله خير حياطة
…
وقمت بأمر الله خير قيام
يشير بهذا إلى أخذ المتوكل بقول أهل السنة وإبطاله ما كان عليه من قبله الواثق والمعتصم والمأمون من حمل الناس على القول بخلق القرآن- فيحمل قوله «بأنك عند الله خير إمام» على هذا الوجه والله تعالى أعلم.
فصل فيما يقع من تشابه أشكال القصائد
كان حق هذا الفصل أن يذكر مع التوطئة التي جعلناها للحديث عن العنصر الرابع من عناصر وحدة القصيدة وهو الذي سميناه بنفس الشاعر بتحريك النون والفاء. ولعله لا بأس بذكره في هذا الوضع استدراكًا لما فات ثم فيما تقدم أمثلة كثيرة مما نأمل أن يكون أعون على توضيح مرادنا في هذا الباب.
أشرنا في أول حديثنا عن المطالع والمقاطع إلى ما تقدم من معالجة لبعض ذلك في الجزء الثالث حيث استشهدنا في الباب الرابع منه بقول النابغة «يا دار مية بالعلياء فالسند» ومطالع تشبهه. وقد ذكرنا في الجزء الثالث أيضًا أمثلة أخرى مما تتشابه فيه طرائق الشعراء نحو.
صحا القلب عن سلمي وأقصر باطله
صحا القلب عن سلمي ومل العواذل
إن الخليط أجد البين فانفرقا
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا
بانت سعاد فأمسى القلب معمودا
ونحو المرأة المغاضبة كما عند الجميح في قوله:
سالتاني الطلاق إذ رأتاني
…
قل ما لي قد جئتماني بنكر
أو تسألاني كما جاء في النص الذي أوردناه أي تسألانني وحذف النون لغة وعليه قراءة نافع في بعض ما قرأ به ورواية الكتاب في باب الهمز «سالتاني» ونبه على أنه من تخفيف الهمزة وهي لغة قريش لا على لغة من قال سال يسال كخاف يخاف قال رحمه الله «وبلغنا أن سلت (1) تسال لغة» وفي خبر ابن هرمة أنه لما قيل له إن قريشًا لا تهمز قال إنه يجيء بقصيدة كلها على الهمز وذلك قوله:
إن سليمي والله يكلؤها
…
ضنت بشيء ما كان يرزؤها
فهذا يلحق بما تقدم ذكره من صناعة ابن هرمة وبديعه وأن البديع والصناعة ديدن في العربية قديم لا من حيث وقوع ذلك على قلة وعفوًا فحسب ولكن من حيث العمد والقصد إليه أيضًا.
وننبه هنا كما نبهنا من قبل على أن سامعي الشعر القديم على زمانه وعلى أزمان قرون الإسلام الأولى كانوا يعملوا كثيرًا مما نجهله نحن علم قلب جليًا لا يحتاج إلى بسط وتفسير فكان بيان مغامض اللفظ والمعنى أكثر ما يهتمون به ثم بعد ذلك لا يخفى عليهم مذهب الوحدة والجودة في أغراضه ومقاصده وألوان إيحائه ودلالات موسيقاه وربات لفظه وطبيعة أسره وأنواع الديباجة وما يلحق بذلك مما يوصف بأنه ماء الشعر ورونقه.
على أننا قد بقيت فينا بقية من ذلك العلم القلبي فعلينا ألا نضيعها. بعض هذه البقية في الدارجة الأصلية التي لم تفسدها بعد شوائب أجهزة الإعلام- وإن شئت فقل الإجهال العصري، التي مما تدخل بتلفيقاتها ودخيلها أصنافًا من اللين والهجنة على أصالتها ومتانة أسرها. وسائر هذه البقية في القرآن وعلوم العربية وميراث آدابها.
واعلم أيها القارئ الكريم أصلحك الله أن القصائد السبع الطوال المعلقات وملحقاتها الثلاث اللاتي يكملنها عشرًا قد ضمن أهم أصول أشكال القصيد العربي والفروع الكبر المتفرعة عنهن وسائر الشعر بعد ذلك يمكن رده إلى هذه وقد سبقت منا الإشارة إلى ذلك، ونقصد ههنا إلى بعض التفصيل.
في السبع شكلان كل منهما أصل، «قفا نبك» وقد أجمعوا على تقديمها وعلى أن الشعراء تأثروا مذهب صاحبها في كثير مما نظموه، وكلمتا عمرو بن كلثوم والحارث اليشكري. وقد قيل في كلمة عمرو بن كلثوم:
ألهي بني تغلب عن كل مكرمة
…
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم
…
يا للرجال لشعر غير مسئوم
(1) بكسر السين من سلت بوزن خفت وليست لغة قريش.
وقيل في همزية الحارث إنه ارتجلها وأنشدها الملك وبينه وبين الملك سبعة ستر إذ كان أبرص يكره دنوه، فطرب له حتى أزال الحجب كلها وأجلسه معه في سريره. والخبر كأنه أسطوري المبالغة. وما أشك بعد أن له أصلاً لاتفاق الرواية عليه. وكلتا القصيدتين شكل واحد عند التأمل.
وفي العشر شكل واحد أصل وهو في قصيدة النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
وقصيدة الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وقصيدة عبيد شكلها من قرى شكل «قفا نبك» كما ذكرنا من قبل ولكن غرابة وزنها، وصاحبها شاعر فحل، مما حث على روايتها كما رويت ميمية المرقش:
هل بالديار أن تجيب صمم
وكما اختيرت كلمة سلمى بن ربيعة
إن شواء ونشوة
…
وخبب البازل الأمون
وقد سبق الحديث عن هذا الجانب في معرض الحديث عن الأوزان في الجزء الأول وفي هذا الجزء أيضًا.
قفا نبك، مخصرة الشكل. نقول هذا على وجه التشبيه. وذلك أن لها وسطًا كأنه في مجال ضيق وهو يفصل بين جزئها الأعلى وهو أولها وجزئها الأسفل وهو آخرها. وهذا الجزء الأوسط يذهب مذهب التأمل والتفكر والحكمة، وما قبله ذكريات ووصف وأشجان فؤاد وكذلك ما بعده وهو قوله.
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
على بأنواع الهموم ليبتلى
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيالك من ليل كأن نجومه
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها
…
بأمراس كتان إلى صم جندل
وقربة أقوام جعلت عصامها
…
على كاهل منى ذلول مرحل
وواد كجوف العير قفر قطعته
…
به الذئب يعوى كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا
…
قليل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئًا أفاته
…
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
وكقفا نبك كلمة علقمة الميمية وخصرها قوله:
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا
…
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
والحمد لا يشتري إلا له ثمن
…
مما يضن به الأقوام معلوم
والجود نافية للمال مهلكة
…
والبخل باق لأهليه ومذموم
والمال صوف قرار يلعبون به
…
على نقادته واف ومجلوم
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه
…
أنى توجه والمحروم محروم
والجهل ذو عرض لا يستراد له
…
والحلم آونة في الناس معدوم
ومن تعرض للغربان يزجرها
…
على سلامته لابد مشئوم
وكل حصن وإن طالت سلامته
…
على دعائمه لابد مهدوم
وما قبل هذا صبابات وصفات وما بعده صفات وصبابات وامرؤ القيس أحذق إذ احتفظ بلون من الوصف وجعل الحكمة تأملاً. وذهب علقمة مذهب المثل فبدت أبيات الحكمة لغير من يتأملها كالمقحمة، وليس كذلك إذ النعامة وظليمها تصوير لما تمناه من ناجية تلحقه بما فارقه من نعيم وهو الأترجة وما الأترجة رمز له، ولذلك صح له من بعد أن يقول.
قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم
…
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
وتخصير بائية عبيد بن الأبرص قوله:
فكل ذي نعمة مخلوسها
…
وكل ذي أمل مكذوب
وكل ذي إبل موروث
…
وكل ذي سلب مسلوب
وكل ذي غيبة يئوب
…
وغائب الموت لا يئوب
أعاقر مثل ذات رحم
…
أو غانم مثل من يخيب
من يسأل الناس يحرموه
…
وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير
…
والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك
…
علام ما أخفت القلوب
أفلح بما شئت فقد
…
يبلغ بالضعف وقد يخدع الأريب
لا يعظ الناس من لم يعـ
…
ـظ الدهر ولا ينفع التلبيب
إلا سجيات ما القلوب
…
وكم يصيرن شانئًا حبيب
ساعد بأرض إن كنت فيها
…
ولا تقل إنني غريب
قد يوصل النازح النائي وقد
…
يقطع ذو السهمة القريب
والمرء ما عاش في تكذيب
…
طول الحياة له تعذيب
فهذا تخصير بطين إذ عدد الأبيات قبله مثله وهو في ذكر الدار وصبابات الحنين غير أن عبيدًا من حذقه ضمنه من معاني الأسى والحكمة والعظة التي في هذه الأبيات وما بعد ذكريات وأوصاف ولكن مطل عليها شبح الأسى وطيف الموت. وقد انتهت القصيدة بمصرع الثعلب لا نجاته ولكنه شبه فرسه بالعقاب. فهل كنى بالثعلب عن امرئ القيس وحجر وملك آل الحارث الكندي؟
وبانت سعاد، سيدة المدائح النبوية، مخصرة بأبيات الحكمة والتأمل إذ قال:
تسعى الوشاة جنابيها وقولهم
…
إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
وقال كل خليل كنت آمله
…
لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبل لا أبالكمو
…
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
…
يومًا على آلة حدباء محمول
أنبئت أن رسول الله أوعدني
…
والعفو عند رسول الله مأمول
فقد أتيت رسول الله معتذرًا
…
والعذر عند رسول الله مقبول
وما قبل هذه الأبيات نسيب ورحلة وصفات وما بعدها مدح مداخله وصف وفخامة تشبيه وبسط حجة.
وقد حاكى كعب منهج أبيه في كلمته:
إن الخليط أجد البين فانفرقا
…
وعلق القلب من أسماء ما علقا
وقد ذهب زهير بخصر هذه القصيدة مرة واحدة كما لو أسبغ عليها ثوب الذي قال، من شعراء الغزل:
أبت الروداف والثدي لقمصها
…
مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت
…
نبهن حاسدة وهجن غيورا
وإنما ذهب بخصر هذا الشكل مذهبه في الاقتضاب، فكأن ذلك منه مبالغة في التخصير. وقصيدة طرفة المعلقة ذات تخصير ولكن فهيا غضبة الشاب ونخوته وحماسته فمن أجل ذلك جاء فيها بصفة الرحلة والناقة، وذلك أن خولة ظعنت فهو يتسلى عن بينها بالسفر:
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
…
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
ولا يخبرنا طرفة أنه يريد بينا عنها كما بانت منه، ولا أنه يريد لحاقًا. ولكن في فؤاده هما لا يعلم وجه تسل منه غير هذه العوجاء المرقال. وهي ناقته الفتية مثله. حتى سفره لا ترى له غاية. وإنما هو قلق ورواح واغتداء.
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت
…
وقد خب آل الأمعز المتوقد
ولكن إلى أين؟
مكان التخصير في هذه الدالية التي لم ير لبيد شيئًا يفوق شعره من الشعر بعد امرئ القيس غيرها هو قوله:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
…
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
…
وأفردت إفراد البعير المعبد
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
…
ولا أهل هاذاك الطراف الممدد
ألا أيها اللائمي أحضر الوغي
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
…
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
…
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقى العاذلات بشربة
…
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف محنبا
…
كسيد الغضى نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الطراف المعمد
كأن البرين والدماليج علقت
…
على عشر أو خروع لم يخضد
من هنا أخذ الأعشى قوله:
تسمع للحلي وسواسًا إذا انصرفت
…
كما استعان بريح عشرق زجل
فجعله انصرافًا وعند طرفة هو إقبال أو إقبال أو إقبال وانصراف حملاً على قوله تروح وتغتدي ويجوز ويهتدى وتناول أطراف البرير وترتدي.
كريم يروى نفسه في حياته
…
ستعلم إن متنا غدا إينا الصدى
أرى قبر نحام بخيل بماله
…
كقبر غوي في البطالة مفسد
ترى جئوتين من تراب عليهما
…
صفائح صم من صفيح منضد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة
…
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لكا لطول المرخى وثنياه باليد
ثم رجع إلى معنى اللوم وهو من الهم الذي أثاره مع بين خولة وما خولة كناية عنه ثم استمر في القصيدة. وهذه الأبيات تأمل وحكمه منفعلة ومداخلها معنى ما كان فيه من غضب الشباب ونخوته ونشوته وشيء من وصف الفتاة التي فيها كشبابه وحيوية حركته: غزالة تنفض، المرد، قلوص تروح وتغتدى وتذيل، وشجرة لأغصانها حفيف، أراكه ذات برير، عشر وخروع لم يخضد.
هذه الأبيات الستة عشر فاصل واصل بين ما تقدم من وصف ونسيب وما خلا من نغمة فخر ونظرة تأمل وروح حكمة وفيه بعد حرارة العاطفة حتى في نعت الناقة الدقيق كما فيه هذا الوصف الحي لمجلس الطرب وقينته:
نداماي بيض كالنجوم وقينة
…
تروح علينا بين برد ومجسد
رحيب قطاب الجيب منها رفيقة
…
بجس الندامى بضة المتجرد
ومن وصف طرفة ولد الأعشى هريرته ومجلس شرابه فتأمل- وبين ما تلا من عراك وخصومة وشكوى ولوم مر واعتزاز بالنفس وافتخار وحكمة تتخلل ذلك وتداخله، ومن مشهور قوله في الملامة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
…
على المرء من وقع الحسام المهند
وأحسب أن مقاله الجاحظ المشهورة التي أولها: «ليس جهد البلاء مد الأعناق وانتظار وقع السيف» ولدها من قول طرفة هذا وهي له كالشرح.
ومن مشهور فخره:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه
…
خشاش كرأس الحية المتوقد
ومن مشهور المثل السائر قوله في آخر القصيدة:
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل ببعضه.
وفي هذا القسم الثاني من القصيدة وصف عقره ناقة شيخة العزيزة الكوماء ليشتوي منها أصحابه ومجلس شرابه. وقد ترى امرأ القيس عقر مطيته لفتيات يوم دارة جلجل، فأغناه ذلك عن نعت الرحلة وعن نعت الناقة أيضًا وأتاح له وصف الغبيط ومغامرته. وقد جاء بوصف لهو الصيد وقديره وشواء في آخر القصيدة يقابل به ما تقدم به في أولها من فعله وفعل الفتيات إذ «يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل.»
والكهاة ذات الخيف الجلالة التي ذكرها طرفة في آخر قصيدته مقابلة للعوجاء المرقال التي في أولها. وقد أعلمنا أن الكهاة التي عقرها ليست له ولكنها:
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد
ولعل العوجاء المرقال التي راح بها واغتدى هي أيضًا ليست له. وصحاب الميسر في آخر قصيده، في مقابلة مجلس الندامى الذي مر قبل التخصير.
شكل قصيدة طرفة هو هكذا في جملته والتحوير الذي افتن به لاءم به أغراضه وروح انفعاله ونفس بيانه.
ومعلقة زهير نمط عزيز. وليس بنمط أصل في المدح، إذ النمط القديم هو بائيه علقمة: -
طحا بك قلب في الحسان طروب
…
بعيد الشباب عصر حان مشيب
هي أقدم من: -
يا دار مية بالعلياء فالسند
ولكنهم لم يذكروا علقمة في أصحاب المعلقات وإن عد من الفحول وأصحاب السموط. ولو قد كانت بائيته هذه في السبع أو العشر الطوال ما عدونا النص عليها أن شكلها هي هو الأصل مكان ما ذكرنا به كلمتي النابغة والأعشى. لعلهم لم يذكروا علقمة في أصحاب المعلقات لكيلا يضاهوا به امرأ القيس. وإنما ذكروا عبيدًا لغرابة وزن قصيدته واشتهارها.
أما قولنا إن معلقة زهير نمط عزيز، فإن بيانها ومعانيها وإنسيانيتها كل ذلك في الذروة، ثم، وهو مقصدنا ههنا، في شكلها افتنان عظيم جدًا. حذف الرحلة.
وأضرب عن ذكر الناقة المعتملة. وجاء بإبل الظعائن وإبل العقل والمفاداة، وكل ذلك جمال منظر ومخبر، لدلالته على السخاء والمعروف والسلم، ثم أشار بالناقة المعقورة إلى شؤم الحرب، وهي ناقة ثمود، وبالرحى إلى ما توقعه من أضرار. وإذ جعل الإبل جمالاً وسلامًا لم يجيء بذكرها تصريحًا في الدلالة على قبح الحرب وشرورها ولكن اكتفى بالتلميح، فلم يذكر ناقة ثمود نفسها ولكن عاقرها:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
…
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
وقد شبه الحرب في اللقاح والنتاج بالإبل ولكنه أسند الفعل إليها وجعلها من البشر إذ نتجها غلمانًا وإنما تنتج الإبل السقاب. وما يخلو زهير إذ أضرب عن صفة الناقة المعتملة وأشار بما أشار به إلى العقر من نظر خفي إلى قول امرئ القيس:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
…
فواعجبا من كورها المتحمل
من حيث إنه احتيال بياني.
وقد كان مكان الحكمة، لو اتبع زهير شكل التخضير (كما سميناه وإنما هو اسم على التشبيه ولا مشاحة في الأسماء كما قال قدامة) بعد قوله
ظهرن من السوبان ثم جزعنه
…
على كل قيني قشب ومفأم
وإذا لكان قال بعده
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
…
ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
إلى قوله:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
…
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
وكان قوله:
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم
…
ومن أكثر التسآل يومًا سيحرم
يجيء بعد قوله:
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه
…
صحيحات مال طالعات بمخرم
لحي حلال يعصم الناس أمرهم
…
إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
كرام فلا ذو الضغن يدرك تبله
…
ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم
ولكن زهيرًا تصرف في الشكل المخصر، فجعل تخصيره تذبيلاً، وجاء بأبيات الحكمة آخر شيء، وقوله «سألنا فأعطيتم البيت» في رواية من رواه، وقد مر حديثنا عن ذلك، مقطع للقصيدة حسن.
وهذا الذي نقول به من جعل زهير التخصير تذييلاً وتصرفه الذي تصرفه لا نبنيه على محض التخمين، ولكن لدينا ما يشهد بأن مثل هذا الصنيع والتصرف جائز. انظر قصيدتي ربيعة بن مقروم الضبي الثامنة والتاسعة والثلاثين في ترتيب المفضليات.
أمن آل هند عرفت الرسوما
…
بجمران قفرا أبت أن تريما
و:
ألا صرفت مودتك الرواع
…
وجد البين منها والوداع
وشعر ربيعة هذا ناصع واضح جميل.
الميمية مخصرة لا ريب فيها وهي خمسة وأربعون بيتًا في رواية المفضليات والتخصير فيها بعد نهاية وصف الأتن وفحلها إذ رماها الصائد فأخطأ ونجت بأحث ما تقدر عليه من النجاء، وذلك قوله:
وإن تسأليني فإني امرؤ
…
أهين اللئيم وأحبو الكريما
وأبني المعالي بالمكرمات
…
وأرضى الخليل وأروي النديما
ويحمد بذلي له معتف
…
إذا ذم من يعتفيه اللئيما
وأجزي القروض وفاء بها
…
ببؤسي بئيسي ونعمي نعيما
فهذا ظاهره فخر وباطنه حكمة إذ هذا الذي ذكره كله من الفضائل، وكانوا يمتدحون بسباء الخمر وإرواء الندامى، ويجوز أن يكون الإرواء بغير الخمر كاللبن والعسل والوجه أن يؤخذ هذا الكلام على عمومه فلا يخص به شراب دون شراب إلا أنه في الخمر أظهر.
ثم أقبل ربيعة على مآثر قومه وصفة الشجاعة والسلاح وذكر أيام قومه أو كما قال:
ولكن أذكر آلاءنا
…
حديثًا وما كان منا قديمًا
ودار هوان أنفنا المقام
…
بها فحللنا محلاً كريما
إذا كان بعضهم للهوان
…
خليط صفاء وأما رؤوما
تأمل جودة هذا البيت ونقاءه:
وثغر مخوف أقمنا به
…
يهاب به غيرنا أن يقيما
جعلنا السيوف به والرماح
…
معاقلنا والحديد النظيما
يعني الدروع لأن حديدها منظوم نظمًا: -
وجردًا يقربن دون العيال
…
خلال البيوت يلكن الشكيما
تعود في الحرب أن لا براح
…
إذا كلمت لا تشكي الكلوما
وهذا الفخر الذي فخر به لقومه، مع ما فيه من ذكر الفضائل، ليس له دخول في الحكمة كدخول الأبيات الأربعة التخصيرية التي مرت، ومن أدلة هذا الذي نذهب إليه قوله:
إذا كان بعضهم للهوان
…
خليط صفاء وأما رؤوما
فهذا تعريض والتعريض ألصق بالفخر منه بالحكمة. وإن يك نفس الحكمة من كل ذلك قد يستفاد:
العينية مذيلة. قسمها الأول كمثل قسم الميمية الأوسط الذي هو تخصيرها من عند البيت الرابع إلى الثامن، خمسة أبيات، هو قوله:
فقد أصل الخليل وإن نآني
…
وغب عداوتي كلأ جداع
أي وبيء:
وأحفظ بالغيبة أمر قومي
…
فلا يسدي لدي ولا يضاع
ويسعد بي الضريك إذا اعتراني
…
ويكره جانبي البطل الشجاع
ويأبى الذم لي أني كريم
…
وأن محلي القبل اليفاع
وأني في بني بكر بن سعد
…
إذا تمت زوافرهم أطاع
فهذا مما ظاهره فخر وباطنه الحكمة وهو من سننخ ما قاله في الميمية، وقبل هذه الأبيات ثلاثة هن في معنى ما وطأ به لتخصير ميميته من المخاطبة والمساءلة حيث قال:
وإن تسأليني فإني امرؤ
…
أهين اللئيم وأحبو الكريما
ثم الأبيات الثلاثة من بعد، وهنا يقول:
ألا صرمت مودتك الرواع
…
وجد البين منها والوداع
وهذا هو المطلع ثم المساءلة والجواب في قوله:
وقالت إنه شيخ كبير
…
فلج بها ــ ولم ترع ــ امتناع
فإما أمس قد راجعت حلمي
…
ولاح علي من شيب قناع
فقد أصل الخليل وإن نآني
…
وغب عداوتي كلأ جداع
فهذا في معنى وإن تسأليني.
ولو قد لزم ترتيب شكل المخصرة لكان قوله:
وملموم جوانبها رداح
…
تزجي بالرماح لها شعاع
بعد قوله: «وقالت إنه شيخ كبير» وهو البيت الثاني ويجري الكلام مجرى المخاطبة الذي في ميمية عنترة وعينية الحادرة ويأتي التخصير من عند قوله «فإما أمس قد راجعت حلمي» إلى «وأني في بني بكر بن سعد» ثم يجيء القسم الثاني من قوله: «وما آجن» إلى آخر القصيدة. وإنما نزعم أن هذا قسم ثان من شكل أصله تخصيري لما فيه من الرجعة إلى ذكرى الشباب. فهو بمنزلة.
وقد اغتدى والطير في وكناتها
وبمنزلة:
قد أشهب الشرب فيهم مزهر رنم
وهاتان شكلهما أصل كما تقدم.
فإن صح هذا الذي نراه من تصرف ربيعة بن مقروم، فاجعل لزهير تصرفًا شبيهًا به، ولا ريب أن جودة الشكل قد زيدت زيادة بينة بهذا التصرف. إذ موقع الحكمة في آخر معلق زهير رائع. وموقع الفخر الحكيم في أول عينية ربيعة أيضًا قوي رائع نبيل.
ومن القصائد المخصرات تخصيرًا شديد الضمور لأمية عبدة بن الطبيب:
هل حبل خولة بعد الهجر موصول
وهي طويلة من نيف وثمانين بيتًا وتخصيرها أبيات عشرة هن قوله، وذلك من البيت التاسع بعد أربعين إلى السادس والخمسين.
لما وردنا رفعنا ظل أردية
…
وفار باللحم للقوم المراجيل
وردًا وأشقر لم ينهئه طابخه
…
ما غير الغلي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مسومة
…
أعرافهن لأيدينا مناديل
ثم ارتحلنا على عيس مخدمة
…
يزجي رواكعها مرن وتنعيل
يدلحن بالماء في وفر مخربة
…
منها حقائب ركبان ومعدول
الوفر بضم الواو وسكون الفاء جمع وفراء وهي قربة الماء. مخربة لها خرب جمع خربة وهي أذن القربة، كأنهم شبهوها بالآذان التي تكون فيها ثقوب الأقراط قال ذو الرمة:
كأنه حبثي يقتفي أثرًا
…
أو من معاشر في آذانها الخرب
يعني الحبش والسودان إذ كانوا يثقبون آذانهم.
نرجو فواضل رب سيبه حسن
…
وكل خير لديه فهو مقبول
رب حبانا بأموال مخولة
…
وكل شيء حباه الله تخويل
والمرء ساع لأمر ليس يدركه
…
والعيش شح وإشفاق وتأميل
والأبيات الأوائل من هذه في وصف السير، ولكنه سير إلى الجهاد فاتصالها بما صار إليه من معنى الحكمة والتحامها به جاعلها جزءًا لا ينفصل عنه فتأمل. هذا ومن باب
التصرف أن يجتزئ الشاعر ببعض الشكل، فيعلم سامعوه أنما هذا حذو قصيدة كذا من عند قول شاعرها كذا. مثلاً كلمة عمرو بن الأهتم:
ألا طرقت أسماء وهي طروق
…
وزارت على أن الخيال يشوق
يوشك أن يكون حذاها على بعض دالية طرفة، ولا سيما قوله:
وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت
…
مقاحيد كوم كالمجادل روق
البرك جماعة الإبل. مقاحيد كوم عظام الأسنمة. المجادل القصور. روق: خيار
بأدماء مرباع النتاج كأنها
…
إذا عرضت دون العشار فنيق
أي وقت نفسها منه بهذه الأدماء أي البيضاء الكريمة التي كأنها فحل لا أنثى من عظمها- الفنيق الفحل. أي كانت هذه أول ما واجهه من الإبل فعقرها ونحرها لضيوفه جازراه.
بضربة ساق أو بنجلاء ثرة
…
لها من أمام المنكبين فتيق
وقام إليها الجازران فأوفدا
…
يطيران عنها الجلد وهي تفوق
فجر إلينا ضرعها وسنامها
…
وأزهر يحبو للقيام عتيق
بقير جلا بالسيف عنه غشاءه
…
أخ بأخاء الصالحين رفيق
فبات لنا منها وللضيف موهنًا
…
شواء سمين زاهق وغبوق
كانوا يستحسنون الضرع وروي كبدها وسنامها والأزهر ولدها الذي في بطنها، عتيق أي كريم، أخ يعني نفسه لكرمه ونحره هذه النفيسة وما في بطنها، وفسر بعضهم الأزهر بالدن وجعله يحبو لامتلائه ويجوز هذا التفسير على بعد، لأن السياق ونموذج طرفة المحذو عليه هذا القول يقتضي المعنى السابق.
وبات له دون الصبا وهي قرة
…
لحاف ومصقول الكساء رفيق
أي لحاف يرقد عليه وكساء يتدثر به.
وكل كريم يتقي الذم بالقري
…
وللخير بين الصالحين طريق
لعمرك ما ضافت بلاد بأهلها
…
ولكن أخلاق الرجال تضيق
نمتني عروق من زرارة في العلى
…
ومن فدكي والأشد عروق
مكارم يجعلن الفتى في أرومة
…
يفاع وبعض الوالدين دقيق
أرومة بضم الهمزة وفتحها والضم لغة الشاعر
فهذا من مقال عمرو بن الأهتم إنما حذاه على قول طرفة
وبرك هجود قد أثارت مخافتي
…
بواديها أمشي بعضب مجرد
من عند هذا البيت إلى آخر القصيدة. وقد عذلت عمرو بن الأهتم امرأته وعذل طرفة عمه.
وخلص طرفة من قوله الذي بدأ به إلى الفخر والحكمة وكذلك صنع عمرو وميمية المخبل:
ذكر الرباب وذكرها سقم
…
فصبا وليس لمن صبا حلم
مما جعل تخصيره تذييلاً. ذلك بأن النسيب ينتهي بعد وصفه الدار ونعته الرباب بأنها
بردية سبق النعيم بها
…
أقرانها وغلا بها عظم
وتريك وجهًا كالصحيفة لا
…
ظمآن مختلج ولا جهم
كعقيلة الدر استضاء بها
…
محراب عرش عظيمها العجم
أغلي بها ثمنًا وجاء بها
…
شخت العظام كأنه سهم
بلبانه زيت وأخرجها
…
من ذي غوارب وسطه اللخم
وأنا كبيضة الدعص
وتضل مدراها المواشط في
…
جعد أغم كأن كرم
هلا تسلي حاجة علقت
…
علق القرينة حبلها جذم
فلذلك على أنه قد تقطعت أسبابها أو يخشى أن تتقطع فهو يتوسل إليها توسلاً مخالطه يأس- وههنا محل التخصير، من حكمة وما أشبه مما تداخله الحكمة أو ينبئ عنها. ثم يجيء ذكر الدهر الذي مضى وكان أسعد وأرفه، وصحة النفس والوصل والعيش كل ذلك فيه أتم:
ومعبد قلق المجاز كبا
…
ري الصناع إكامه درم
للقاربات من القطا نقر
…
في حافتيه كأنها الرقم
عارضته ملث الظلام بمذ
…
عان العشي كأنها قرم
أي كأنها فحل- وقلما تذكر الشعراء غير الناقة إلا أن منهم من ذكر البعير كالمنخل
وكربيعة ابن مقروم في العينية التي مر ذكرها قبل وهو قوله:
وماء آجن الجمات قفر
…
تعقم في جوانبه السباع
وردت وقد تهورت الثريا
…
وتحت وليتي وهم وساع
جلال مائر الضبعين يخدى
…
على يسرات ملزوز سراع
غير أن المخبل وصل تذكره الماضي بما كان من نسيبه ونعته وجعل الحكمة ذيلاً وتبع في ذلك مذهب زهير وقد شهد المخبل الإسلام فهو من المخضرمين فهذا عندما أنه حاكى زهيرًا وأبيات حكمته من قوله:
وتقول عاذلتي وليس لها
…
بغد ولا ما بعده علم
فهذا فيه أنفاس صلة بقوله «هلا تسلى حاجة علقت» . ومما يجعلون المحبوبة سائلة وعاذلة وهازئة وقد مرت من ذلك أمثلة:
إن الثراء هو الخلود وإ
…
ن المرء يكرب يومه العدم
إن وجدك ما تخلدني
…
مائة يطير عفاؤها أدم
والمائة من الإبل مال دثر. عفاؤها وبرها وكنى بقوله يطير عفاؤها عن سمنها.
ولئن بنيت لي المقشر في
…
هضب تقصر دونه العصم
لتنقبن عني المنية إن
…
الله ليس كحكمه حكم
إن وجدت الأمر أرشده
…
تقوى الإله وشره الإثم
وآخر هذه القصيدة فيه روح من الإسلام مع الحكمة التي ترى.
وكلمة الأسود بن يعفر الدالية المليحة:
نام الخلي وما أحس رقادي
…
والهم محتضر لدي وسادي
تحذو حذو معلقة امرئ القيس، ولكن من عند ذكر الليل إلى آخر القصيدة، وهذا من الأسود بن يعفر حذق عظيم، إذ قد فقد بصره فهو في ليل، ومع الليل الهم والأحزان وطلب العزاء. وقد جعل أول قصيدته كله لذلك. ثم أردفه ذكر ملذات مضت وختم بالحصان ونشوة الرحلة. وكأن بعضهم لم ترضه هذه النهاية فجعل آخر القصيدة قوله:
فإذا وذلك لامهاه لذكره
…
والدهر يعقب صالحًا بفساد
ولعل الأسود قاله ثم أضرب عنه والشعراء مما يفعلون ذلك، والقصيدة بدونه أجود وأتم إذ هو لا يعدو أن يكون صوتًا أجوف، وقد سبق ما هو أعمق منه وأوقع.
أما القسم المنبئ عن الهم والليل فقوله بعد البيت الأول:
من غير ما سقم ولكن شفني
…
هم أراه قد أصاب فؤادي
ومن الحوادث لا أبا لك أنني
…
ضربت على الأرض بالأسداد
فهذا مع الهم وبعده حزن
لا أهتدي فيها لموضع تلعة
…
بين العراق وبين أرض مراد
ثم غلبه الحزن فأخذ في ذكر الموت على الطريقة القبرية الكفنية التي عند الممزق، ذرء منها:
ولقد علمت سوى الذين نبأتني
…
أن السبيل سبيل ذي الأعواد
إن المنية والحتوف كلاهما
…
يوفي المخارم يرقبان سوادي
لن يرضيا مني وفاء رهينة
…
من دون نفسي طارفي وتلادي
ثم أخذ في التأسي:
ماذا أؤمل بعد آل محرق
…
تركوا منازلهم وبعد إياد
لا يعني بآل محرق ملوك الحيرة ولكن ملوكًا من غسان
أهل الخورنق والسدير وبارق
…
والقصر ذي الشرفات من سنداد
أرضًا تخيرها لدار أبيهم
…
كعب بن مامة وابن أم دؤاد
جرت الرياح على مكان ديارهم
…
فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
…
في ظل ملك ثابت الأوتاد
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم
…
ماء الفرات يجيء من أطراد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به
…
يومًا يصير إلىبلى ونفاد
أهل الخورنق إلخ عني بهم إيادا، والخورنق موضع، والسدير النخل، وسنداد بكسر السين وروى فتحها نهر، وكل هذه مواضع، وأنقرة من بلاد الشام لا يعني بلدة الأناضول الرومية وكعب بن مامة صاحب الكرم المشهور، وابن أم دؤاد هو أبو دؤاد الشاعر، كلاهما من إياد -ثم مضى يتأسى: -
في آل غرف لو بغيت لي الأسى
…
لوجدت فيهم أسوة العداد
آل غرف من قومه بني تميم قيل هو زيد مناة نفسه وقيل أحد أبناء أبنائه فمن قال ذلك جعل زيدًا المذكور في البيت التالي من هذه السلالة وإلا فهو زيد مناة -الأسى بضم الهمزة وكسرها جمع أسوة بضمها وكسرها وهي ما يتأسى به وما يقتدى به وقرئ بكسر الهمزة وضمها في القرآن والعداد بضم العين وفتحها فالضم جمع والفتح مفرد أي من يعد ما يتأسى به.
ما بعد زيد في فتاة فرقوا
…
قتلاً وأسرًا بعد حسن تآدي
أي فرقوا بسبب فتاة أبوا تزويجها كما أراد المنذر بن ماء السماء فغزاهم وفرقهم والتآدي حسن الحال
فتخيروا الأرض الفضاء لعزهم
…
ويزيد رافدهم على الرفاد
أي وكانوا قد تخيروا الأرض الفضاء قبل أن يقع بهم هذا الخطب فهذا آخر التأسي ويقابله في النموذج الذي حذا على مثاله وهو «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» قوله:
كلانا إذا ما نال شيئًا أفاته
في رواية من روى أبيات الذئب لامرئ القيس وهو الذي عليه الرواة غير ما طعن به الأصمعي ومن لم يروها فإنه يقابله منه قوله:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
وما يلحق به من ذكر الأمراس والثريا.
وبعد هذا ذكر الشباب وما تصرم من سعادة العيش ولذاته من عند قوله: «وقد أغتدي والطير في وكناتها» إلى وصف الخيل والصيد وشيم البرق والصوار والسيل إلى آخر القصيدة- وكذلك ها هنا أخذ الأسود بن يعفر في ذكر لذات الماضي اللاتي قد انقضين يحزن بذلك ويتسلى معًا، وهو من عند قوله:
إما تريني قد كبرت وغاضني
…
مانيل من بصري ومن أجلادي
أو عصيت أصحاب الصبابة والصبا
…
وأطعت عاذلتي ولان قيادي
فلقد أروح إلى التجار مرجلاً
…
مذلاً بمالي لينا أجيادي
ثم يمضي في الذكريات. وقوله مرجلاً عني به شبابه إذ سواد الشعر ووفوره إنما يكون في
ميعة الشباب ويعجبني قوله «لينا أجيادي» إذ يبس العنق وتغضنه من شواهد تقدم السن. وجعله جيادًا لترائيه به، يريه من جميع جوانبه وما حوله مما هو به مزدان.
ولقد لهوت وللشباب لذاذة
…
بسلافة مزجت بماء غوادي
من خمر ذي نطف أغن منطق
…
وافى بها لدراهم الإسجاد
قالوا في الإسجاد أقوالاً وأدناها أي ليكسب دراهم موسمه. قالوا كانت على الدراهم صورة يكفرون لها ويسجدون وهي دراهم الأكاسرة وهذا تفسير الأصمعي. وقالوا الإسجاد عني به النصارى، أسجدتهم جزيتهم، وإنما يصح هذا المعنى إن كانوا يدفعون جزية للفرس أو لملوك الحيرة في الجاهلية أو جعل ما كان عليهم من ضريبة بمنزلة الجزية وعن أحمد بن عبيد ابن ناصح فيما روى ابن الأنباري الكبير الإسجاد أي التي جاء بها الخمار بعدما حال عليها الحوف وهو وقت الجزية. وأحسب أن المراد بالجزية هنا الضريبة التي تؤدى للملوك.
ثم وصف الساقي هذا الذي عليه النطف أي الأقراط بفتح النون والطاء مفردها نطفة كشجرة، والنساء النواعم الحسان اللائي يتم بهن اللهو.
يسعى بها ذو تومتين مشمر
…
قنأت أنامله من الفرصاد
أي من الخمر شبهها بالفرصاد وهو التوت لحمرتها والتومتان اللؤلؤتان
والبيض تمشي كالبدور وكالدمي
…
ونواعم يمشين بالأرفاد
قالوا أراد بالأرداف وذلك لهزهن أردافهن تبرجًا.
والبيض يرمين القلوب كأنها
…
أدحى بين صريمة وجماد
يعني كأنهن بيضات نعام من حسنهن محفوظات بين صريمة أي رمل وجماد أي مواضع غلاظ جمع جمد بضم الجيم والميم وجيم جماد مكسورة أو مفتوحة بمعنى الجماد المعروف أي بين رمل وأرض جماد
ينطقن معروفًا وهن نواعم
…
بيض الوجوه رقيقة الأكباد
ينطقن مخفوض الحديث تهامسًا
…
فبلغن ما حاولن غير تنادى
وهذا من حلو الكلام ورقيقه. ثم أخذ في وصف ما راد من الأرض ونعت الحصان الذي راد به، وذكر الصيد من بعد:
ولقد غدوت لعازب، متناذر
…
أحوى المذانب مونق الرواد
فهذا قريب من قول امرئ القيس «وقد أغتدى والطير إلخ»
جادت سواريه وآزر نبته
…
نفأ من الصفراء والزباد
قطع نبات من هذين النوعين
بالجو فالأمرات حول مغامر
…
فبضارج فقصيمة الطراد
وضارج ورد في شيم امرئ القيس البرق
بمشهر عتد جهيز شده
…
قيد الأوابد والرهان جواد
وقيد الأوابد من امرئ القيس كما ترى. عتد: أي قادر على الجري هنا، أي عنده عدة الجري كما فسره الشارح.
يشوى لنا الوحد المدل بحضره
…
بشريج بين الشد والإيراد
أي بمزيج من هذين الضربين من الجري والحضر بضم الحاء العدو بفتح فسكون. ثم ختم قصيدته بذكر الناقة وهو يناسب ما قدمه من الخمر والنساء والصيد، فبقي أن يذكر الصبابة والعشق واتباع الظعينة المعشوقة ولا يخفى أن هؤلاء اللاتي يمشين بالأرفاد إنما هن قيان وبغايا. وهو ما قدمه امرؤ القيس قبل ذكره الليل من حكايات الصبابة والشوق والدموع والغزل ويوم دارة جلجل وخدر عنيزة. ولم يحتج امرؤ القيس إلى اللحاق فقد عقر مطيته وبعير صاحبته.
ولقد تلوت الظاعنين بجسرة
…
أجد مهاجرة السقاب جماد
أي قوية وورود الفتح في جيم جماد هنا يرجح أنها مكسورتها في «أدحي بين صريمة وجماد»
عيرانة سد الربيع خصاصها
…
ما يستبين بها مقيل قراد
وأحسب أن هذا هو آخر القصيدة- لا البيت الملحق به «فإذا وذلك» ولا يصلح على التفسير الذي فسرناه. وفي النفس شيء من البيت الآخر
أين الذين بنوا فطال بناؤهم
…
وتمتعوا بالأهل والأولاد
وهو بعد «نزلوا بأنقرة» وموضعه ناب هناك، وعجز البيت ذو ضعف ما- أحسبه في قوله «بالأهل والأولاد» فتأمله.
ومما يجري مجرى التذييل الذي عند المخبل وجارى به زهيرًا وأصل الشكل المخصر عينية
مالك بن نويرة:
صرمت زنيبة حبل من لا يقطع
…
حبل الخليل وللأمانة تفجع
ويروى ولا الأمانة يفجع أي وحبل من لايخون الأمانة. والقصيدة مروية لمتمم بن نويرة وذكروا عن أحمد بن عبيد بن ناصح أن بعض الرواة يرويها لمالك. وعندي أن مذهب أسلوبها كأنه أقل حرقة تفجع من مذهب متمم في رثاء أخيه، إن كان قوله:
أفبعد من ولدت نسبة أشتكي
…
زو المنية أو أرى أتوجع
مما يستعان به على نسبة الكلمة إلى متمم، لقول متمم في عينيته المنصوبة الروي المشهورة:
وفقد بني أم تتالوا فلم أكن
…
خلافهم أن أستكين وأخضعا
ولم يفسروا لنا بيت متمم هذا تفسيرًا شافيًا. وينبغي أن يكون قد مات له من الإخوة من أمه وأبيه قبل مالك، مع الألى فصل ذكرهم من بعد ممن ذكرت لنا أسماؤهم ومقاتلهم وهو قوله:
وغيرني ما غال قيسًا ومالكًا
…
وعمرًا وجزءًا بالمشقر ألمعا
أي الذين معًا
وما غال ندماني يزيد وليتني
…
تمليته بالمال والأهل أجمعا
قالوا كان يزيد ابن عمه وقد خبرنا أنه ندمانه. فهذا يدل على أن كأنهما معًا.
ونسيبة أم مالك ومتمم، والبيت ليست ضربة لازم أن يكون قاله متمم، فمالك كأخيه يبكي على من هلك من شقيق وشقيقة. ونسبة البيت احتجاجًا به، على أنه لمتمم توشك أن تفيد أن نسيبة لم تلد مع متمم إلا مالكًا وكأن متمم يريد أن يقول «أفبعد مالك» بقوله «أفبعد من ولدت نسبة» وكأنه يريده وحده بقوله «وفقد بني أم إلخ» فيكون هو وحده بني الأم- وهذا بعيد.
وفي القصيدة بعد أشياء، ليست بدليل قاطع، ولكنها من ضرب ما يحدس به، توشك أن تنبئ بأن الكلمة لمالك لا لمتمم. منها أن متممًا زيد في شعره، وهذا قد ذكره ابن سلام، وأن العلماء أخرجوا ما زيد. فهذا مما أخرجه بعضهم. هذه واحدة.
وثنتان مما يقع مثلهما عند الشعراء تهجس قلوبهم بالمعيتها عن بعض ما وراء الغيوب- أولاهما قوله: وللأمانة تفجع -أو- ولا الأمانة يفجع. فقد أؤتمن مالك على مال الصدقات فخان. والثانية ذكره الموت وتوقعه له وعجزه عن الدفاع عن نفسه. ولقد نظر بعين كشف إذ قال:
قال:
ولقد غبطت بما ألافي حقبة
…
ولقد يمر على يوم أشنع
فضمير الغبطة هنا المتكلم المفرد وفي عينية متمم جاء بنفس المعنى ولكن المتكلم فيه جمع:
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا
…
أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فهذا يشمله وأخاه. وكان مصدر خيره من أخيه ولذلك قال:
وليست إذا ما الدهر أحدث نكبة
…
ورزءًا بزوار القرائب أخضعا
فخص نفسه بالزرء من بعده.
والحزم بعد أن يوقف عندما وقف عنده قديمًا فنقول إن هذه العينية المرفوعة رويت لمتمم بن نويرة ورواها بعض الرواة لأخيه مالك. ونميل إلى هذا الوجه الثاني والله تعالى أعلم.
أخر القسم الأول من هذه القصيدة في البيت الثاني عشر- وقد بدأ بذكر صرم صاحبته له، وأتبع ذلك بمكافأة له من مذهب لبيد في معلقته
فاقطع لبانة من تعرض وصله
…
ولشر واصل خلة صرامها
وأحب المجامل بالجزيل وصرمه
…
باق إذا ظلعت وزاغ قوامها
ثم تسلى بناقة عنس جعلها رمزًا لمضائه وزماعه. وأتبع ذلك تشبيهًا لها بحمار الوحش كما صنع لبيد وقد شاركه في بعض اللفظ والصفات فكأنه نظر إليه وقد اشتهر أمر لبيد بالشعر في الجاهلية قبل زمان الهجرة.
صرمت زنيبة حبل من لا يقطع
…
حبل الخيل وللأمانة تفجع
ولقد حرصت على قليل متاعها
…
يوم الرحيل فدمعها المستنفع
هذا كأنه من قول بشامة- و «ما كان أكثر ما زودت البيت.»
جذي حبالك يا زينب فإنني
…
قد استبد بوصل من هو أقطع
قالوا أي قاطع وهذا ما ذهب إليه الشارح وروى قولاً عن أبي عمرو «هو الشيباني» أي أقطع مني وروى بصرم وهذا واضح على مذهب لبيد. ولو جاز القياس في هذا الموضع ما امتنع عندي أن يقاس بوصل من هو أقطع على قول الآخر: ولا بذات تقلت أي لا توصف بهذا فيقال تقلت، فهو حكاية. وعليه فمن هو أقطع من شأنه أن يكون لسان حاله:«أقطع» أي أنا أقطع وأبدأ الصرم وما هو بهذا المعنى. وهذا في جملة معناه مقارب لقول امرئ القيس لعنيزة: «فمثلك حبلى البيت» أي إن تتمنعي فرب كذا وكذا قد استطعت وصلها. وأنت إن تجذي حبلى يا زنيبة فقد انفرد لنفسي بوصل من يزعم أنه قاطع عسير المنال وهل يقوى هذا الوجه قوله زنيبة فهي موازنة وزنًا لعنيزة والمعنى كما ترى، على هذا التأويل، وعلى الشرح الذي شرحوا أيضًا. ويقويه أيضًا البيت الذي إذ يدل على صحة رواية «استبد بوصل من هو أقطع» لا «بصرم من هو أقطع» ويناسب المعنى الذي ذكرناه:
ولقد قطعت الوصل يوم خلاجه
…
وأخو الصريمة في الأمور المزمع
وعند لبيد «ونجح صريمة إبرامها» فهذا قريب منه
بمجدة عنس كأن سراتها
…
فدن تطيف به النبيط مرفع
قاظت أثال إلى الملا وتربعت
…
بالحزن عازبة تسن وتودع
تسن وتودع مثل مثل به واستعارة، أي هي عدة لمثل هذه المهمة من السفر كما السيف عدة للحرب يسن ويحفظ فهي مثله تسن بحسن الرعاية ثم تصان فلا تبتذل في غير وقت الحاجة حقًا. والأماكن التي ذكر الشاعر أن ناقته قاظتها أي قضت القيظ -زمن الحر- بها والربيع هي من جياد مراعي الإبل. قال الشارح، قال حنيف الحناتم وكان آبل الناس أي من أحسن الناس قيامًا على الإبل وكان أحد بني ثعلبة بن عكابة:«من قاظ الشرف وتربع الحزن وتشتى الصمان فقد أصاب المرعى» .
حتى إذا لقحت وعولي فوقها
…
قرد بهم به الغراب الموقع
أي لا يقدر الغراب أن يقع عليه لامتلائه وانملاسه، هكذا شرحه القاسم بن محمد بن بشار الأنباري أبو محمد، ثم قال، وهذا كقول الراعي:
بنيت مرافقهن فوق مزلة
…
لا يستطيع بها القراد مقيلا
قلت فينبغي أن يكون صواب عجز البيت:
يهم بها القراد الموقع
والقاف قد تنقط النقطة الفوقية الواحدة كما في الخط المغربي فإن كان الناسخ قد اعتاد ذلك فربما وهم إذ خط حينًا آخر بالحرف المشرقي والباء قد تحرف من الدال. ولا معنى لموقع الغراب على سنام صحيح ممتلئ وإنما تقع الغربان على الجروح أو ما تتوهم أنه جروح. قال علقمة:
عقلاً ورقمًا تظل الطير تخطفه
…
كأنه من دم الأجواف مدموم
ولا فائدة في ذكر ابن الأنباري للقراد إن كان الذي في الشعر الغراب، وقد اتبع بيت الراعي قوله: «يقول فمغرز المرافق ليس به ضاغط ولا ناكت ولا حاز ولا عيب فآباطهن ملس لا يثبت بها القراد لانملاسها أي لا يجد ما يقيل فيه يزل عن موضعه لملاسته وامتلائه، وكقول امرئ القيس
زيل الغلام الخف عن صهواته
…
ويلوي بأثواب العنيف المثقل
وكقول الكلابي:
دلنظ يزل القطر عن صهواته
…
هو الليث في الجمازة المتحرد
الدلنظ السمين قال أبو عمرو إنما هو الدلنظي وهو القصير السمين. أ. هـ.» - قلت فكل هذا قريب من قريب وليس فيه ذكر للغراب لماذا يخشى أن يزل، وإنما ينقر بمنقاره النقرة بعد النقرة فليس هو بقراد يريد أن يلصق ولا بقطر لا يمسكه مبتل وبر.
ثم يقول في ناقته العنس:
قربتها للرحل لما اعتادني
…
سفر أهم به وأمر مجمع
فكأنها بعد الكلالة والسرى
…
علج تقاليه قذور ملمع
هنا التشبيه بالحمار والقذور أتانه- قذور أي نفور قال الأنباري والقذور الظريفة الحسناء سميت بذلك لأنها كثيرة التقذر للأشياء- قلت هذا في النساء. أما هذه الأتان فهي مستعصية على فحلها لأنها وسقت وأشرق ضرعها للحمل.
يحتازها عن جحشها وتكفه
…
عن نفسها إن اليتيم مدفع
اليتيم هو الجحش قالوا وحمار الوحش غيور يطرد عن إنائه جحاشها وربما كدم مذاكيرها.
ويظل مرئتبًا عليها جاذلاً
…
في رأس مرقبة ولأيا يرتع
أي يرتفع على الأماكن العالية ليرى أثم صائد أو ما يكره، ولا يرعى إلا بعد لأي لفرط شفقته على أتانه وغيرته عليها.
حتى يهيجها عشية خمسها
…
للورد جأب خلفها متترع
الجأب هو الحمار الغليظ. متترع: متسرع
يعدو تبادره المخارم سمحج
…
كالدلو خان رشاؤها المتقطع
المحح الأتان الطويلة على الأرض، شبه سرعة مضيها في المخارم وهي الطرق الجبلية واحدها مخرم، بالدلو التي انقطع رشاؤها أي حبلها وأخذا هذا من قول زهير:
يشج بها الأماعز فهي تهوي
…
هوي الدلو أسلمها الرشاء
وبيت زهير أوضح وأجود، إذ مالك أو متمم جعل الأتان مبادرة من تلقاء نفسها وزهير جعلها متسلطًا عليها يدفعها دفعًا فتهوى هويًا من سرعتها. ثم قول زهير:«أسلمها الرشاء» فيه فجاءة السقوط. وفي مقال مالك نوع من ريث:
حتى إذا وردا عيونًا فوقها
…
غاب طوال نابت ومصرع
لاقى على جنب الشريعة لاطئًا
…
صفوان في ناموسه يتطلع
فرمى فأخطأها وصادف سهمه
…
حجرًا ففلل والنضي مجزع
أهوى ليحمي فرجها إذ أدبرت
…
زجلاً كما يحمي النجيد المشرع
فتصك صكًا بالسنابك نحره
…
وبجندل صم ولا تتورع
لاشيء يأتو أتوه لما علا
…
فوق القطاة ورأسه مستتلع
أي علا برأسه وراءها فوق ردفها وهما مغذان هربا.
قوله «غاب طوال نابت ومصرع» كقول لبيد:
محفوفة وسط اليراع يظلها
…
منه مصرع غابة وقيامها
وقد جعل لبيد القيام قافية وذلك في باب الفأل أجود وجعل مالك المصرع قافية فتأمل. وكذلك قوله وصادف سهمه حجرًا- وقد تم المعنى عند إخطاء الرامي فأبى إلا أن يتكسر النصل ويبقى النضي أي القدح الذي لا نصل فيه. وقد لقي مالك بسهمه من خالد حجرًا بئيسًا.
ثم يجيء القسم الثاني من المذيل وهو في الأصل ثالث وفيه ذكر القنيص والفتوة وصفة الحصان
ولقد غدوت على القنيص وصاحبي
…
نهد مراكله مسح جرشع
ضافي السبب كأن غصن أباءة
…
ريان ينفضها إذا ما يقدع
قالوا وكان لمالك جمة حسنة وكان يسمى الجفول. فحصانه كالرمز لنفسه:
تثق إذا أرسلته متقاذف
…
طماح أشراف إذا ما ينزع
تئق أي ممتلئ حيوية وحدة
وكأنه فوت الجواب جانئًا
…
رئم تضايفه كلاب أخضع
الجوالب أصحاب الصياح والجلبة في الرهان، يشوشون بذلك على الفرس السابق. جانئًا منحنيًا لأن الفرس لمام صيح به خضع عنقه ومر مسرعًا. رئم: غزال. قالوا قال الأصمعي كان هذا الوصف يرد من قوله وينسب فيه إلى الغلط لأن خير جري الذكور الاشتراف وخير جري الإناث الخضوع. وقد أحسن الشارح الرد على الأصمعي إذ قال: وإنما أراد أنه خضع ليعتمد في الجري كما يعتمد الظبي. قلت إن كان هذا الشعر قاله مالك فقد كان أعلم بالخيل وأدرب بأمرها من الأصمعي. والوجه ما قاله الشارح. تضايفه الكلاب أي تأخذ بجانبيه فيخضع الغزال عنقه ثم ينخرط جريًا. فهؤلاء الجوالب بمنزلة الكلاب.
فله ضريب الشول إلا سؤره
…
والجل فهو مربب لا يخلع
قوله إلا سؤره ينبئنا به أنه يعطى الحليب أولاً، فلا يشرب أحد من أهل البيت إلا بعد أن يأخذ الفرس كفايته:
فإذا نراهن كان أول سابق
…
يختال فارسه إذا ما يدفع
بل رب يوم قد حبسنا سبقه
…
نعطي ونعمر في الصديق وننفع
ثم أتبع هذا ذكر سباء الخمر وكرر لفظ السبق ومعناه يترنم بذلك
ولقد سبقت العاذلات بشربة
…
ريا وراووقي عظيم مترع
جفن من الغربيب خالص لونه
…
كدم الذبيح إذا يشن مشعشع
ألهو بها يومًا وألهي فتية
…
عن بثهم إذا ألبسوا وتقنعوا
وروى أبلسوا وتقنعوا
ويوقف شيئًا عند هذا البيت. ونتساءل هل نظمت هذه القصيدة عند شروعهم في الردة. وإلا فالمعنى إلا لباس والتقنع. قال الشارح: «أي من شدة همهم كأن لهم منه لباسًا وقناعًا» - وأبلسو أي وجموا من الهم. وأبسلوا رواية قال أي «أسلموا
بجرائرهم». وإنما يكون الهم الذي معه الإبلاس والإبسال والتقنع عند توقع الأمر الخطير المفظع. وكأن أمر جيوش أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة مفظعًا. ورووا مما كان أهل الردة يتناشدونه:
ألا يا اصبحاني قبل جيش أبي بكر
…
لعل منايانا قريب ولا ندري
وقد جاء بعد بيت الإلباس والتقنع بذكر الموت والتفكر في مصاير الأيام والبشر. وقد استهل التفكر بنوع مظلم كليل امرئ القيس قبري المعدن كأبيات الممزق، حزين روح الإقدام كأبيات ضبع الشنفرى- وأول ما استهل به ذكر الضبع ونبشها عن جيف الموتى، وتأمل بعد قوله الذي جعله تذييلاً حكميًا ذا عبرة وأحزان:
يا لهف من عرفاء ذات فليلة
…
جاءت إلي على ثلاث تخمع
ظلت تراصدني وتنظر حولها
…
ويريبها رمق وأنى مطمع
فقد جعل نفسه هنا قتيلاً لا جنازة تنبش من قبر- قاتل حتى أثبته الجراح والضبع تراقبه حتى إذ مات أكلته. هكذا توهم نهايته وما باعد.
ظلت تراصدني وتنظر حولها
…
ويريبها رمق وأني مطمع
وتظل تنشطني وتلحم أجريا
…
وسط العرين وليس حي يدفع
لو كان سيفي باليمين ضربتها
…
عني ولم أوكل وجنبي الأضيع
هل نظم مالك هذا الشعر وهو أسير خالد رضي الله عنه؟
ولا أشك أن البحتري إلى هنا نظر إذ قال
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي
…
درى الفاتك العجلان كيف أبادره
وقد ذكروا كيف كان هلعه واختباؤه
ولقد ضربت به فتسقط ضربتي
…
أيدي الكماة كأنهن الخروع
ذاك الضياع فإن حززت بمدية
…
كفي وقولي محسن ما يصنع
ولا يصنع ذلك إلا نادم- فهل ندم على أنه استأسر؟
ولعل هذا هو آخر القصيدة والأبيات التي أوهمت أنهم لمتمم وهن الثلاثة الأواخر:
ولقد غبطت بما ألاقي حقبة
…
ولقد يمر علي يوم أشنع
ويكون المعنى ولقد غبطت لما يكفيني مالك ولقد مر علي يوم مصرعه وهو شنيع
أفبعد من ولدت نسيبة أشتكي
…
زو المنية أو أرى أتوجع
ولقد علمت ولا محالة أنني
…
للحادثات فهل تريني أجزع
فهذا يشبه بعض ما في عينية الرثاء.
هذا وشكل قصيدتي في عمرو والحارث أنهما خطبتان جمهوريتان. ومخاطبة الظعينة فرع من ذلك. وكذلك مخاطبة واحدة في عتاب أو خصومة أو ما أشبه. وقد عجل عمرو والحارث كلاهما بنسيبهما إلى موضوع خطابتهما. بل نسيبهما منذ البداية جلي أنه توطئة وتمهيد واستجلاب للأسماع لا نغم صبابة. وعند عمرو بدء بالخمر ودلالة ذلك على إدراك الثأر والانتصار. وبداية الحارث بظعينة آذنت وقد ملها. والغالب على الشعراء إذا أرادوا معنى الصبابة ولو رمزًا أن يزعموا أن الرحيل فاجأهم لا أنهم أذنوا به -والإيذان بالرحيل تصريح بالمصارمة. ثم عمرو والحارث كلاهما يخلصان آخر الأمر إلى الفخر ومواجهة «الجماهير» - قال عمرو:
وقد علم القبائل من معد
…
إذا قبب بأبطحها بنينا
والقبائل مخاطبة ههنا.
هل علمتم أيام ينتهب النا
…
س غوارًا لكل حي عواء
ثم مضى يعدد المآثر ويفصح بالحجج. مذهب الحارث وعمرو كليهما [وهو كما قدمنا شكل خطابي واحد] فيه هو نضج أسلوب المهلهل ومناقضيه. ويذكر عن الأصمعي أنه قال لو كانت للمهلهل ست قصائد مثل:
أليلتنا بذي حسم أنيري
لعده في الفحول. وحسب المهلهل أنه شرع لمن بعده مسلك الطويل في أشعار الفخر القبلي والثأر. وإنما كانت أبياتًا. فإن يكن المهلهل قد سبق إلى التطويل في هذا الباب، فحظه على الأقل أنه جوده وأحكمه حتى صلح لأن يتناقل ويروى. ولا ريب أن القصاص قد نحلوه هو وخصومه ما نحلوا.
وفي الذي وصل إلينا من الشعر القديم كلمات عدة تنتهج منهج الحارث وعمرو في لهوجة النسيب وصرف العناية إلى المواجهة الجهيرة التي تخطب جمهورًا بمفاخر جمهور. من ذلك مثلاً قصيدة الحصين بين الحمام المرى
جزي الله أفناء العشيرة كلها
…
بدارة موضوع عقوقًا ومأثما
وقصيدة الخصفي التي يرد عليها بها
من مبلغ سعد بن ذبيان مألكا
…
وسعد بن ذبيان الذي قد تختما
وكثير مما يطول ويقصر في هذا المجال يجري مجرى هاتين الكلمتين من ذلك مثلاً نونية العدواني سواء اعتددت بنسيبها أم لم تفعل. وما نسيبها إلا خمسة أبيات ثم ما بعد ذلك منافرة وخصام وربما بلغ به تعريض الهجاء مثل قوله:
عني إليك فما أمي براعية
…
ترعى المخاض وما رأيي بمغبون
كأنه يعرض به أن أمه أمة.
ولم يرو المفضل فيما أسند إليه عن أبي عكرمة غير ثمانية عشر بيتًا لا نسيب بين يديها وروي غيره ستة وثلاثين بيتًا فزاد على الثمانية عشر ثلاثة عشر ثم أبيات النسب، والنون حرف ذلول ركوب، ولعله قد زيد في نونية ذي الأصبع كما قد زيد في نونية عمرو بن كلثوم وقيل بلغوا بها ألفًا، ولعله لو كان في عدوان عدد كما في تغلب، قد بلغ بها بعض ذلك.
وعينية ذي الإصبع الأبيات العشرة التي أولها
إنكما صاحبي لن تدعا
…
لومي ومهما أضع فلن تسعا
وروي ومهما أضق و «تسعًا» تسوغها، والمعنى متقارب.
قوامها مذهب الخطبة كنونيته غير أنه أدخل فيها عنصر تأنيث عند قوله في سابع أبياتها:
إما ترى شكتى رميح أبي
…
سعد فقد أحمل السلاح معًا
وهذا من أسلوب تذكر الشباب. وما أرى إلا أن ذا الإصبع عمد إلى ضرب من السخرية والتهكم بهذين السفيهين اللذين خاطبهما. وقد جعل بعض كلاهما كأنه كلام أنثى حيث قال:
إنكما من سفاه رأيكما
…
لا تجنبان السفاه والقذعا
إلا بأن تكذبا على ولم .. أملك بأن تكذبا وأن تلعا
لن تعقلا جفرة علي ولم
…
أوذ نديمًا ولم أنل طبعا
أي أنتما تؤذيان النديم وتنالان الطبع وهو اتساخ العرض.
إن تزعما أنني كبرت فلم
…
ألف بخيلاً نكسًا ولا ورعًا
أي فقد كبرت ولكن سلا ما تأريخي، إني لم أكن نكسًا ولا ضعفًا جبانًا وزعمهما أنه كبر هذا كلام الأنثى، كقول الآخر:
على ما أنها هزئت وقالت
…
هنون أجن منشأ ذا قريب
فإن أكبر فإني في لداتي
…
وعصر جنوب مقتبل قشيب
وقال الآخر:
أما تريني قد بليت وغاضني
…
ما نيل من بصري ومن أجلادي
فلما جعلهما ذوي حديث أنثى هنا، عاد فزعم أنه إنما يخاطب أنثى حيث قال:
إما ترى شكتي رميح أبي
…
سعد فقد أحمل السلاح معًا
وليس أسلوب الأعشى في «ودع هريرة» من شكل أسلوب الخطبة الشعرية الذي عند عمرو والحارث. ولكنه كما قلنا من قبل من معدن شكل مدحة النابغة، وإنما خلج أبواب الغزل والرحلة والشراب عن سمت جد الوصف إلى هزل من الفكاهة ليجعل ذلك توطئة لتوبيخ يزيد بني شيبان والطنز به مع التهديد والوعيد.
وما أنصف ابن قتيبة العجاج حيث أخذ عليه زعمه أن من يحسن البناء لا يعجز عن الهدم، يجعل المدح بناء والهجاء هدمًا، فزعم ابن قتيبة أن العجاج أخطأ وأن المدح بناء والهجاء بناء، نعم بناء من حيث إنه لابد فيه من صناعة وحذق وتجويد. ولكنه من حيث منهج القول وشكله سلب لما يوجبه المدح. فهذا الجانب من أمره هدم، وكأنه هذا هو مراد العجاج. ومن أدل الشواهد على ذلك مثلاً قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتًا دعائمه أعز وأطول
بيتًا زرارة محتب بفنائه
…
ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
فنقضه جرير بقوله:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعًا
…
وبنى بناءك بالحضيض الأسفل
بيتًا يحمم قينكم بفنائه
…
دنس مقاعده خبيث المدخل
والذي صنعه الأعشى لمن تأمله ينزل بخفة هزله منزلة النقض بالنسبة إلى وقار النابغة وحسن أدب علقمة.
ولمزرد بن ضرار أخي الشماخ دالية طويلة في المفضليات مطلعها
ألا يا لقوم والسفاهة كاسمها
…
أعائدتي من حب سلمى عوائدي
تهدد فيها رجلاً يقال له زرعة بن ثوب. وقص الشارح خبر هذه القصيدة قال (1: 128) «قال أحمد أخبرنا محمد بن عمرو بن أبي عمرو الشيباني إملاء علينا قال: كان أهل بيت من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان جاوروا في بني عبد الله بن
غطفان، فذهب رجل من بني عبد الله إلى غلام من الثعلبيين يقال له خالد وهو أحد بني رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وللثعلبي إبل كرام جلة حسان، فلم يزل يخدع الثعلبي حتى اشترى الإبل منه بغنم. فرجع الغلام إلى أبويه فأخبرهما فقالا هلكت والله أهلكتنا. ثم إن أبا الغلام ركب إلى مزرد فقص عليه القصة فأخبره بالخبر. فقال مزرد أنا ضامن لك إبلك أن ترد عليك بأعيانها، ثم أنشأ يقول:
ألا قل لعبد الله والجهل كاسمه
…
أعائدتي من حب سلمى عوائدي
قال أحمد فهذا كان سبب قول مزرد لهذه القصيدة. أ. هـ»
فتأمل قوة الشعر. وقد جاوز مزرد التوبيخ إلى الهجاء المقذع. ولذلك استعدي ابن ثوب عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاعتذر إليه. ويوشك السياق أن يدل على أن ابن ثوب إما رد الإبل وإما أرضى أهل الغلام. وإلا فما كان مزرد ليعتذر إن كان ذلك البيع كما قصوا خبره قد كان غبنًا، والله أعلم.
وقد جمع مزرد بن مذهب تهكم الأعشى وخطابة ذي الأصبع. وأصل ذلك كما قدمنا أسلوب الخطبة الشعرية الذي عند الحارث وعند عمرو بن كلثوم- قال مزرد:
أزرع بن ثوب إن جارات بيتكم
…
هزلن وألهاك ارتغاء الرغائد
الرغائد أي عيش الخصب، فزعم أن الغلام المخدوع ابن جارات زرعة بن ثوب
وأصبح جارات ابن ثوب بواشما
…
من الشر يشويهن شي القدائد
تركت ابن ثوب وهو لا ستر دونه
…
ولو شئت غنتني بثوب ولائدي
فهذا مما جاوز به إلى تناول الأعراض، إذ أقبل على ثوب نفسه بعد أن فرغ من ذم ابنه
صقعت ابن ثوب صقعة لا حجي لها
…
يولوول منها كل آس وعائد
فردوا لقاح الثعلبي أداؤها
…
أعف وأتقى من أذى غير واحد
ثم قال:
فيا آل ثوب إنما ذود خالد
…
كنار اللظى لا خير في ذود خالد
وفي سياق الشرح ما يدل على أن مزردا كان يزيد في هذه القصيدة حينًا بعد حين، يتغنى بالشر الذي أخذ في مسالكه من ممض القول ولاذعه.
ومن هذا الباب قصائد عدة في المفضليات- مثلاً همزية عوف بن الأحوص (35) ومع مرارته فيها كان أعف لسانًا من المزرد. وكأن مذهب المزرد كان من باب التهيئة والتمهيد لما جاء بعد من إقذاع الفرزدق وجرير. وأول همزية عوف بن الأحوص:
هدمت الحياض فلم يغادر
…
لحوض من نصائبه إزاء
وهو فاتحة نسيب منبئة بغضب قريب مما صنع الحارث إذ قال:
آنتنا بينها أسماء
…
رب ثاو يمل منه الثواء
وفيها يقول:
فإنك والحكومة يا بن كلب
…
علي وأن تكفنني سواء
خذوا دأبًا بما أثأيت فيكم
…
فليس لكم على دأب علاء
ودأب هذا ابنه. فقد سلك سبيلاً من الإنصاف أسد مما فعل مزرد من بعد:
وليس لسوقة فضل علينا
…
وفي أشياعكم لكم بواء
وما إن خلتكم من آل نصر
…
ملوكًا والملوك لهم غلاء
ولكن نلت مجد أب وخال
…
وكان إليهما ينمي العلاء
فهذا تهكم، أي أبوك وأمك ليسا من الملوك ولكن سوقة كسائر الناس وإنما يفخر المرء في النسب بأبويه.
أبوك بجيد والمرء كعب
…
فلم تظلم بأخذك ما تشاء
أي فقد ظلمت لأنه ليس واحد من هذين بملك وإنما أنتم سوقة أو كما قال:
ولكن معشر من جذم قيس
…
عقولهم الأباعر والرعاء
أي أنتم تدفع لكم الدية، الإبل ورعاؤها، فلم تطلبون القصاص، وفوق ما أنتم له أهل. والأمثلة في هذا الباب كثيرة. وبعض ما جاء فيه خطاب المرأة سنخه من هذا الباب ككلمة أبي قيس بن الأسلت:
قالت ولم تقصد لقيل الخني
…
مهلاً فقد أبلغت أسماعي
وكلمتا سلمة بن الخرشب وعامر بن الطفيل (السادسة والسابعة بعد المائة من المفضليات) وقد يداخل جميع ذلك نفس من هجاء.
ومن بين الطوال السبع قصيدتا عنترة ولبيد فرعان معًا من مذهب المدحة النابغية الشكل ونقيضتها الأعشوية، وعنترة أسبق من هذين كليهما، وإنما مقصدنا التنبيه على معادن الأشكال، ولا نزعم أن عنترة قد أخذ من هذين، بل قد نرى أن الأعشى في
روضته كأنما نظر إليه وأخذ منه.
وعلى تشابه شكلي «عفت الديار» و «هل غادر الشعراء» بينهما فرق نلفت النظر منه إلى أمرين، أولهما أن لبيدًا يبدأ بعفاء الديار مقدمًا عليه راضيًا عن قوله، وعنترة يبدأ بالتساؤل عن قيمة سؤال الديار وكأنه حائر كيف يبدأ. فقربنا عنترة إلى نفسه بهذه البداية الصادقة التساؤل. ولكن لبيدًا آثر أن يكون فخمًا وفي ذلك بعد ما.
وثانيهما أن صاحبة لبيد، وقد سماها نوار ومعنى نوار النفور أو ذات الصد والتمنع، قد صارمته وصارمها. وليست كذلك صاحبة عنترة التي رحلت فجاءة:
ما راعني إلا حمولة أهلها
…
وسط الديار تسف حب الخمخم
فهو يريد أن يلحق بها. خطاب لبيد لصاحبته فيه شدة. صاحبته رمز خصومة. ولكن صاحبة عنترة حبيبة يريد أن يتودد إليها. حبيبة سواء أكان هي أنثى بشرًا هو عاشقها أم شيئًا آخر جعلها رمزًا له.
وقد خلص لبيد آخر أمره إلى فخر من فخر خطب القبائل:
إنا إذا التقت المجامع لم يزل
…
منا لزاز عظيمة جشامها
ومقسم يعطي العشيرة حقها
…
ومغذمر لحقوقها هضامها
فضلاً وذو كرم يعين على الندى
…
سمح كسوب رغائب عنامها
من معشر سنت لهم آباؤهم
…
ولكل قوم سنة وإمامها
وقد خلص عنترة إلى وصف ملحمي رائع وحماية فارس نبيل.
نفس الخطابة أجهر شيئًا عند لبيد. ونفس التغني أعمق عند عنترة. وفي ترتيب السبع الطوال الذي في شرح ابن الأنباري الصغير معلقة عنترة رابعة بعد معلقة زهير. ولعل هذا أجدر بها من أن تجعل تالية لنون عمرو بن كلثوم. والسبع بعد كلهن روائع جياد. وكذلك الثلاث المتماتهن عشرًا.
هذا وطرائق الأشكال الثلاثة اللاتي نعدهن أوصلاً قد خلط الشعراء بينها. وقد نبهنا من قبل إلى جعل سحيم وعمرو آخر قصائدهما في نعت الناقة وكذلك فعل الفرزدق في الرائية التي ذكر فيها زيادًا فجعل ذكره زيادًا مكان التخصير. وقد جعل أسلوب الخطبة يواجه بها شخص واحد أو جمهور يغلب، وكان ما يدعو إلى هذا الوجه من القول من أحوال العصر وفتنه كثيرًا. وقد تعلم خبر كعب بن معدان الأشقري إذ وفد علي الحجاج من قبل المهلب بن أبي صفرة بخبر النصر على الخوارج فأنشده:
يا حفص إني عداني دونك السفر
…
وقد سهرت فأذى جفني السهر
فقال له الحجاج: أشاعر أم خطيب فزعم له الأشقري أنه هما معًا، وكذلك كان وكانت قصيدته. وقد سبق الاستشهاد بأبيات منها في معرض الحديث عن البحر البسيط. وهي تنظر في جملتها من حيث نفس الشكل، على اختلاف ما في تفاصيل الغرض، إلى كلمة لقيط الإيادي:
يا دار عمرة من محتلها الجرعا
…
أهدت لي الهم والآلام والوجعا
وكأن الحجاج أشار إلى هذا من طرف خفي إذ تمثل في حسن ثنائه على المهلب بأبيات منها:
وقلدوا أمركم لله دركم
…
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعًا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
…
يكون متبعًا طورًا ومتبعًا
حتى استمرت على شزر مريرته
…
مستحكم الرأي لا قحمًا ولا ضرعًا
ولا ريب أن أبا تمام أخذ من هاهنا في قوله:
من لم يقد فيطير في خيشومه
…
رهج الخميس فلن يقود خميسًا
إلا أنه أشربه ما ذكرنا من تفسير قول بشار «كأن مثار النقع» فأعطى مثار النقع هذه «أبعادًا» كما يقال بلغة أبناء الآن.
وقد ذكروا أن بشارًا كان فيما كأنه خطيبًا، ونفس الخطيب في فخماته جهير، وقد وصفه صاحب الأغاني بجهارة الإنشاد وأنه به يروع القلوب. وأحسب أن ميميته التي قيل إن أصل أولها كان هكذا:
أبا جعفر ما طيب عيش بدائم
…
وما سالم عما قليل بسالم
قد كانت أطول بكثير مما بلغنا، إذ قرنوها بميميات الفرزدق وجرير وهذه كانت طوالاً. وقد كان أبو تمام خطيب فؤاد وقلم مع مقدرة له فائقة على طرب الإيقاع والإطراب به.
وحسبك شاهدًا:
السيف أصدق أنباء من الكتب
فقد جمع فيها بين متانة النظم، ووحدة الغرض، وجهارة صوت الخطيب، ورنين غناء الشاعر وموسيقاه. ومن قدمه بها على أبي الطيب فعسى ألا يكون بعيدًا من الصواب.
وقد رتبها ترتيبًا بالغ البراعة. بدأ بمدح السيف وثني بالسخرية من المنجمين وأقاويلهم وأباطيلهم واندفع بعد إلى ذكر الفتح الجليل:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
…
متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة
…
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
هذا الغزل بالسيف والرمح جعله أبو تمام مكان النسيب. وما أشك أن أبا الطيب قد لبث دهرًا يود لو أن هذا كان قد ادخر له حتى يقوله هو- وقد حاوله في قوله:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
…
المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدًا بعد الكتاب به
…
فإنما نحن للأسياف كالخدم
أسمعتني ودوائي ما أشرت به
…
فإن غفلت فدائي قلة الفهم
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
…
أجاب كل سؤال عن هلم بلم
وهذا شعر جيد. وأصله من حيث هو بيان من هناك.
وقال أبو الطيب:
محب كنى بالبيض عن مرهقاته
…
وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
وقال: وكان أطيب من سيفي مضاجعة
…
أشباه رونقه الغيد الأماليد
فكل هذا من بائية أبي تمام. وليس أبو الطيب وحده أخذ منه، فقد أصاب ابن الأثير إذ قال فيه إنه رب معان وصيقل ألباب وأذهان.
ثم بعد هذا النسيب الحربي الحماسي، وقد ترى ما مهد به لذكر النجوم، وما زال أهل الحروب، حتى زماننا هذا يلجئون إلى استخبارها يريدون أن يهتكوا بذلك حجاب الغيوب، قال:
أين الرواية بل أين النجوم وما
…
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصًا وأحاديثًا ملفقة
…
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
النبع شجر صلب والغرب رخو. قال التبريزي يقول هذه الأحاديث ليست بقوية ولا ضعيفة أي هي غير شيء.
عجائبًا زعموا الأيام مجفلة
…
عنهن في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة
…
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبرج العليا مرتبة
…
ما كان منقلبا أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
…
ما دار في فلك منها وفي قطب
لو بينت قط أمرًا قبل موقعه
…
لم تخف ما تحل بالأوثان والصلب
ذكر التبريزي أن «مرتبة» تروى بتشديد التاء مفتوحة وهو عنده ضعيف ومكسورة وهو الوجه القوي عنده، وأن «ما كان منقلبا إلخ» بدل من «مرتبة» وليس مفعولاً وهو قول أبي العلاء ذكره المحقق في الهامش نقلاً عن ابن المستوفي وذكر رد ابن المستوفي على أبي العلا والذي رآه أبو العلاء كأنه نطق به عن لسان أبي تمام. وقوله ما كان منقلبًا أو غير منقلب فعند المنجمين أن الأبراج ثلاثة أقسام قسم منقلب ولا يعول فيما زعم التبريزي في تحقيق الأخبار إذ وردت وقت طالعه وما سوى المنقلب فهو غير المنقلب وهو ما يقولون له الثابت وهذا يعول عليه عندهم فيما ذكره التبريزي وذو الجسدين، وينبغي أن يكون هذا لا يعول عليه. والمنقلبة هي ما تمثل الأمزجة الأربعة وهي الحمل والسرطان والميزان والجدي والأمزجة هي الدم والصفراء والبلغم والسوداء والثوابت تمثل العناصر الأربعة ويقال للمنقلب بالإنجليزية cardinals وللثوابت fixed ولذوات الجسدين mutables يقضون بالأمر عنها إلخ.
نظر أبو العلاء إلى مقال أبي تمام هذا وولد منه كلمته الميمية:
لو كان لي أمر يطاوع لم يشن
…
ظهر الطريق يد الحياة منجم
يولي بأن الجن تطرق بيته
…
وله يدين فصيحها والأعجم
وقفت به الورهاء وهي كأنها
…
عند الوقوف على عرين تهجم
ويقول ما اسمك واسم أمك إنني
…
بالظن عما في الغيوب أترجم
وقول أبي تمام «ما دار في فلك» أي في طريق دائر، «وفي قطب» قال التبريزي القطب كل ما ثبت فدار عليه شيء وفي السماء قطب الشمال وقطب الجنوب. مراد أبي تمام أن الذين يحكمون به على النجوم ويستنبطونه منها، لا حقيقة له، ولم يدر منها في فلك ولا في قطب. ما هنا نافية، قوله الأوثان، فقد كان من المشركين عبدة الشعري وغيرها من النجوم فلو كانت تخبر شيئًا لخبرتهم بما سيكون من غلبة الإسلام عليهم. وما حل بالصلب جمع صليب فهو فتح عمورية.
ثم أخذ أبو تمام في بيان أمر الفتح- إذ آخر كلامه يقول إليه:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
…
نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له
…
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
وقد كان أبو تمام وصافًا للطبيعة، وهذه الصورة منتزعة من نعمة الغيث وبهجة نبت الربيع، وقد استمر بصورة النعمة الربيعة فأتبع أثواب الأرض القشب المنى الحفل أي الممتلئات الضروع كالنعم التي رتعت فدرت ضروعها ولكنها حلبها عسل وهذا مبالغة في معنى النعمة.
يا يوم وقعة عمورية انصرفت
…
عنك المنى حفلاً معسولة الحلب
تأمل هذا التجسيد للمنى، أي الآمال- أي قد تحققت فهذا احتفال ضروعها.
أبقيت جد بني الإسلام في صعد
…
والمشركين ودار الشرك في صبب
أم لهم لو رجوًا أن تفتدي جعلوا
…
فداءها كل أم برة وأب
فجعل عمورية أما مفداة- وقد خلص إلى ذكر قوتها وامتناعها في تأكيد معنى عظمة الفتح الذي ذكره. ثم انتقل من صورة الأم المفداة إلى صورة البكر العزيزة التي لا تنال. وكلا المعنيين لو تأملته راجع إلى قوله «بالأوثان والصلب» إذ عند النصارى ضرب من تأليه للعذراء أم المسيح سلام الله عليهما فأخذ أبو تمام قوله «أم لهم» من معنى الأم المقدسة، وأخذ معنى البكر العزيزة من معنى العذراء المقدسة، عمد إلى ذلك أو تداعت به المعاني.
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها
…
كسرى وصدت صدودًا عن أبي كرب
هو تبع ملك اليمن
بكر فما افترعها كف حادثة
…
ولا ترقت إليها همة النوب
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد
…
شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
قال شكسبير في صفة كيلو بترة
Age cannot wither her، nor custome stale
Heer infinite variety، other woman cloy
The appetites they feed، but she makes hungry
Where most she satisfies
وترجمة هذا على وجه التقريب كما ترجمناه في كتابنا التماسة عزاء بن الشعراء
فلا العمر مبليها ولا عادة اللقا
…
بها من مجاليها الصنوف تضيع
سواها من النسوان يتخمن بالجدا
…
وأقوى إذا ما أشبعتك تجيع
ولا أستبعد بل أرجح أن يكون شكسبير قد نمى إليه علم ما عن هذا الوصف الذي
وصفه أبو تمام لعمورية فرتب عليه ما رتبه فأجاد من نعته لكليو بترا. وقد ذكر ناقدوه (وهو كذلك) أنه أخذ من صفة «بلوتارك» كليو بترا والسطر الأول وأول الذي يليه شبه صياغة أبي تمام فيها شديد فتأمله. وقد مر بك عتق صلة الاستشراق الإنجليزي منذ زمان أديلارد البائي Adelard of Bath (القرن الثاني عشر) وروجر بيكون (القرن الثالث عشر) وشوسر (القرن الرابع عشر) وبدويل معاصر شكسبير ممن نعلم وغير هؤلاء ممن لا نعلم.
ثم يقول أبو تمام:
حتى إذا مخض الله السنين لها
…
مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
وقد ذكرنا هذا البيت من قبل وما ضمنه أبو تمام من إشارة إلى بخيلة حميد بن ثور- «وزبدة الحقب» هذه هي الفتح وهو خلافًا لما استقراه أهل الصلب من نجومهم كربة سوداء
أتتهم الكربة السوداء سادرة
…
منها وكان اسها فراجة الكرب
جرى لها الفأل نحسًا يوم أنقرة
…
إذ غودرت وحشة الساحات والرحب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت
…
كان الخراب لها أعدى من الجرب
كم بين حيطانها من فارس بطل
…
قاني الذوائب من آنى دم سرب
بسنة السيف والخطى من دمه
…
لا سنة الدين والإسلام مختضب
الرحب بكسر الراء جمع رحبة بفتح الراء والحاء وتسكن زعم التبريزي أنها رحاب ثم خففت والذي أنشده بفتح الراء والحاء كشجر جمع شجرة وهذا أوضح والذي ذكره التبريزي رواه قال والأصل أن يقال رحاب بالألف فحذفت لأنه حر لين كما قالوا ثلل في جمع ثلة والأصل ثلاث وذكر صاحب القاموس في جمع ثلة المفتوحة الثاء أنها كبدر (أي جمع بدرة) وسلال. فهذا كقول التريزي ولكنه في جمع رحبة بفتح الحاء وسكونها والراء مفتوحة ذكر صيغتي رحب ورحبات مع رحاب المكسورة الراء وذكر التسكين فيهما مع الفتح ولم يذكر كسر الراء من رحب ولا يحتج به على التبريزي. وروى التبريزي «بسنة السيف والحناء من دمه» والذي أثبتنا هو الذي اختاره البارودي وهو مروي واستحسنه التبريزي قال: «وبعضهم ينشد «بسنة السيف والخطى من دمه» وهو أجود في صحة المقابلة لأنه يقابل الدين والإسلام بشيئين ليسا في الحقيقة مختلفين، إذ كانا من آلة الحرب، وهو في الرواية الأخرى يقابل الدين والإسلام بالسيف
والحناء وليس الحناء من جنس السيف. ويجوز رفع الحناء وخفضه فإذ خفض كان قوله «من دمه» في موضع الحال. أ. هـ» - قلت ورواية «بسنة السيف والحناء من دمه» جيدة، وههنا تورية واستخدام معًا. أي هذه سنة السيف أن يخضب ولا حناء له إلا الدم، فالحناء من دم هذا البطل ولك وجها الخفض والرفع اللذين ذكرهما وسنة السيف أيضًا حد السيف وطريقته الماضية القاطعة. فهذا موضع الاستخدام، إذ دل لفظ سنة السيف هنا على معنيين حده ومذهبه الذي يسير عليه وموضع تورية لما في معنى السنة عندنا معشر المسلمين، فالسيف اتبع السنة وجعل الحناء من دمه، لأن الصحابة كانوا يخضبون الشيب بالحناء قال التبريزي: لأن الصحابة والتابعين كانوا يرون من السنة أن يخضبوا شعورهم بالحناء والكتم وما يجري مجراهما من نبات الأرض، ويكرهون الخضاب بالسواد ويؤثرون الحمرة إلخ ما قاله أ. هـ».
ثم أخذ أبو تمام في صفة ما وقع بعمورية من تخريب وتحريق، وهذا متمم لما صوره من قبل من هذا القتال بين حيطانها وهذا الدم الآني القاني السرب.
لقد تركت أمير المؤمنين بها
…
للنار يومًا ذليل الصخر والخشب
وتلي بعد هذا صورة مفزعة من صور الخراب والحريق وشريج ما بين زهو منتصر وانكسارة منهزم وشكر مؤمن ويأس كافر
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى
…
يشله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت
…
عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة
…
وظلمة من دخان في ضحى شحب
عين هذه الاختلاطة من الألوان جاء بها زاهية مشرقة مفرحة في قوله:
تريا نهارًا مشمسًا قد شابه
…
زهر الربا فكأنما هو مقمر
تأمل كيف جعل الضحى شحبا بالدخان وظلمته ومقمرا بدريا بالزهر ونعومة ألوانه وظلاله.
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت
…
والشمس واجبة من ذا ولم تجب
تصرح الدهر تصريح الغمام لها
…
عن يوم هيجاء منها طاهر جنب
فالغمام ظل ولأبي تمام ولع بصفة المزن والسحائب، بعضه من طول نظره في شعر العرب، وبعضه من تجربته البداوة وعيشها- وهو بعد القائل:
ديمة سمحة القياد سكوب
…
مستغيث بها الثرى المكروب
لو سعت بقعة لإعظام نعمى
…
لسعى نحوها المكان الجديب
لذ شؤبوبها وطاب فلو تسـ
…
ـطيع قامت فعانقتها القلوب
فهي ماء يجري وماء يليه
…
وعزال تنشا وأخرى تذوب
كشف الروض رأسه واستر الـ
…
ـمحل منها كما استسر المريب
أيها الغيث حيهلا بمغدا
…
ك وعند السري وحين تؤوب
شدد الطائي لام حيهلا كأنه وقف ثم وصف علىنية الوقف وروى بعضهم «حي أهلاً» وكأنهم يصلحون به قول حبيب وما جاء به حبيب أجود وكأن طريقه في فصيح الكلام واسع وكأن ظاهر قول سيبوبه يفيده، قال في باب الوقف في أواخر الكلم المتحرك:«وأما التضعيف فقولك هذا خالد وهو يجعل وهذا فرج حدثنا بذلك الخليل عن العرب. ومن ثم قالت العرب في الشعر في القوافي سبسبا يريد السبسب وعيهل يريد العيهل، لأن التضعيف لما كان في كلامهم في الوقف أتبعوه الياء في الوصل والواو على ذلك كما يلحقون الواو والياء في القوافي فيما لا يدخله ياء ولا واو في الكلام وأجروا الألف مجراها لأنها شريكتهما في القوافي ويمد بها في غير موضع التنوين ويلحقونها في غير التنوين» -يعني ألف الإطلاق نحو أقلي اللوم عاذل والعتابا- «فألحقوها بهما فيما ينون في الكلام وجعلت سبسب كأنه ما لا تلحقه الألف في النصب إذا وقفت» يعني أنك إذا وقفت ولم تضعف قلت رأيت سبسبا، فإذا ضعفت قلت رأيت سبسب ولم تلحقها الألف في النصب حين لا تضعيف، فإذا جئت بها قافية صنعت بها صنيع سببًا في رأيت سبسبًا» مع التضعيف. قال سيبوبه:
قال رجل من بني أسد: -
ببازل يهماء أو عيهل
وقال رؤبة:
لقد خشيت أن أرى جدبًا
…
في عامنا ذا بعدما ما أخصبا
أراد جدبًا وقال رؤبة:
بدء يحب الخلق الأضخما
فعلوا هذا إذ كان من كلامهم أن يضاعفوا فإن كان الحرف الذي قبل الآخر ساكنًا لم يضاعفوا نحو عمرو وزيد إلخ أ. هـ» قلت لم يقيد سيبوبه عبارته «إذ كان من كلامهم أن يضاعفوا» كما قيدها من قبل حيث قال لأن التضعيف لما كان من كلامهم في
الوقف، فهل اكتفى بقوله هذا أن يكرره وجعل عبارته هذه الثانية مردودة عليه أو أراد العموم هذه المرة وأن التضعيف مما يقع في كلام العرب لا يخص به قبيلة دون قبيلة؟ ثم إن سيبوبه يقول في أوائل كتابه «ومن العرب من يثقل الكلمة إذ وقف عليها ولا يثقلها في الوصل نحو سبسبًا وكلكلا لأنهم قد يثقلونه في الوقف فأثبتوه في الوصل كما أثبتوا الحذف في قوله لنفسه مقنعًا وإنما حذفه في الوقف قال رؤبة: -
ضخم يحب الخلق الأضخما
تروى بكسر الهمزة وفتحها وقال بعضهم «الضخما بكسر الضاد. أ. هـ» فهذا فيه ما ترى من عموم في الشعر لا يخص به القوافي ولكن الذي استشهد به قافية. وقال في باب الوقف «وقد استعملوا في شيء من هذا الألف في الوقف كما استعملوا الهاء لأن الهاء أقرب المخارج إلى الألف وهي شبيهة بها فمن ذلك قول العرب حيهلا فإذا وصلوا قالوا حيهل بعمر وإن شئت قلت حيهل كما تقول بحكمك.» وقال في موضع آخر «وحدثني من أثق به أنه سمع عربيًا يقول أعطني أبيضه والحق الهاء كما ألحقها في هنة وهو يريد هن» قلت فعلى قوله الأول يجوز أن تلحق الألف بعد حيهل المشددة للام من أجل الوقف كأنه قال حيهل مشددة كما قال أبيض مشددة وألحقها هاء ثم أبدل مكانها ألفًا. وأما التنوين فعلى التنكير، إذ قرأت حيهلا بمغداك منونًا حيهلا. فتأمل هذا التخريج.
فهذا ما حثنا على القول بأن طريق «حيهلا بمغداك» بالتشديد كأنه واسع في العربية. وكأن في كلام التبريزي شيئًا من هذا المعنى حيث قال: «ويجوز أن يكون الطائي سمعها مشددة في شيء من شعر العرب ولو كانت قافية لجرت مجرى قوله: «كأن مهواها من الكلكل» ثم قال التبريزي «ومن روى حي أهلاً فهذه كلمة مرفوضة إلا أن يجعل حي في معنى هلم وينصب أهلاً بفعل مضمر ويجوز أن تكسر الياء في معنى التحية أي حي أهلاً حاضرين بمغداك» - قلت فهذا يبين فضل مقال حبيب على قول من راموا إصلاحه.
والعرب قد تجري الوصل مجرى الوقف فتصل بما تقف به وعليه رواية بيت امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
…
إثمًا من الله ولا واغل
لا بل عليه إلحاق الألف سبسبا وأخصبا إذ هو ترنم، والشعر كله ترنم.
هذا ولما ذكر أبو تمام الغمام في قوله «تصرح الدهر تصريح الغمام لها» وجاء بطاهر
وجنب، خرج من صف ما كان وصفه من الدمار والنار إلى صفة نشوة النصر وما يصنعه أهل الفتح من الإباحة:
لم تطلع الشمس فيهم يوم ذاك على
…
بان بأهل ولم تغرب على عزب
فهذه إباحة، قتل وسباء. فالباني على أهله قتل وأخذت امرأته. والغازي العزب بات وله صاحبة فليس بعزب. وزعم بعض المعاصرين أن بائية أبي تمام كلها مدارها على الجنس. وصدق ابن قتيبة قبل دهر «فرويد» بأن الجنس كل ضارب فيه بسهم وآخذ منه بنصيب حلال أو حرام. ولكن ليس معنى ذلك أن نلتمس الجنس فنجده في كل مقال. وتشبيه أبي تمام لعمورية بالبرزة المستعصية والبكر المطلوبة بأشد الطلب قريب جميل. وصفته ما وقع من تحريق وتقتيل وسباء عمل شاعر متقن، وقد انتبه ونبهنا إلى الجانب غير الحسن من ذلك، مما ينبئ بدقة إحساسه المرهف كل إرهاف وإنسانية نفسه مع التزامه بهذا التغني الواضح القوي الجهير بنصر الخلافة والإسلام والعرب وذلك قوله:
ما ربع مية معمورًا بطيف به
…
غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
يعني أبو تمام أنه معمور بحسن نعت غيلان له، إذ لم يكن حقًا معمورًا لما وقف غيلان عنده في مثل قوله:
وقفت على ربع لمية ناقتي
…
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
…
تكلمني أحجاره وملاعبه
فقد جعله غيلان هنا معمورًا بالذكرى، وكقوله:
خليلي عوجا من صدور الرواحل
…
بجمهور حزوي فابكيا في المنازل
لعل انهمال الدمع يعقب راحة
…
من الوجد أو يشفي نجى البلابل
وقوله:
أدارًا بحزوى هجت للعين عبرة
…
فماء الهوى يرفض أو يترقرق
ثم أكثر ما يصفه غيلان وأكثر ما يصف الشعراء الربوع حين تبدل من أهلها أصناف الوحش وتصير رياضًا ومراتع، فهذا لها حسن وعمران، وقد نعلم شغف حبيب
بالرياض. فقوله: معمورًا يطيف به غيلان، منبئ بأنه عمران من إطافة غيلان به وغيلان هو ذو الرمة. أما ربع عمورية فخرب. وهو أبهى ربا من ربع مية على ما فيه من خراب، لهذا النصر، وهذه الاستباحة التي هي جزاء المجاهد المنتصر في هذه الدنيا {ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}
ولا الخدود وإن أدمين من خجل
…
أشهى إلى ناظر من خدها الترب
هذا البيت نفيس حقًا.
ربعها الخرب فيه هذا السباء وهؤلاء المستباحات وخدودهن النواعم يتفطرن خجلاً ذا انكسار.
وهذه المدينة التي افتتحت، هي أيضًا بكر، ولكن خدها ضارع ترب، إذ كانت ذات كبرياء وأنف شامخ. هذا الإذلال لها والترتيب مدعاة للحزن. قول الشاعر «خدها الترب» مشعريًا بأساه لهذه الذلة بعد العز.
ولا شيء أعظم من نشوة الانتصار عليها بعد ما كان لها من طول استعصاء وامتناع- هذه الخدود المتفطرات خجلاً اشتهيت بنشوة الظفر، فهذا الخد الترب أشهى إلى نظر المنتصر المستبيح من هذه الخدود المدميهن الخجل.
والمنظر بعد فظيع سمج.
والنصر يجعل هذه السماجة الفظيعة أمرًا عظيم الجمال:
هنا إنسانية أبي تمام الضخمة ودقة إحساسه المرهف.
فأمر هذه القصيدة ليس كله أو عموده شبق جنسي فروئدي، فتأمل.
سماجة غنيت منا العيون بها
…
عن كل حسن بدا أو منظر عجب
وحسن منقلب تبدو عواقبه
…
جاءت بشاشته عن سوء منقلب
أخذ هذا أبو الطيب- أخذه كله بنظر شديد إلى ما ذكره حبيب من نصر واستباحة:
فلم ينج إلا من حماها من الظبي
…
لمى شفتيها والثدى النواهد
تبكي عليهن البطاريق في الدجى
…
وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
…
مصائب قوم عند قوم فوائد
فهذا عين مقال أبي تمام أن حسن منقلب المنتصرين جاءت بشاشته بعد سوء المنقلب
الذي حل بالمنهزمين.
ومن ثم أخذ أبو تمام في تعليل أسباب النصر وأن الخليفة بما حباه الله من تأييده كان هو السبب فيه.
لم يعلم الكفر كم من أعصر كمنت
…
له العواقب بين السمر والقضب
هذا مردود على قوله «حتى إذا مخض الله السنين لها» أي هذا النصر قد كمنت عواقبه عصورًا طويلة بين السيوف والرماح. حتى اختارها المعتصم بالله وداهم بها العدو فقهره.
وما خلا أبو تمام من نظر قوي إلى طريقة علقمة في بائيته حيث قال:
فوالله لولا فارس الجون منهم
…
لآبوا خزايا والإياب حبيب
فجعله هو سبب النصر. ويوشك الصولى أن يكون قد تنبه أو نبه إلى هذا الوجه حيث قال في البيت التالي:
ومطعم النصر لم تكهم أسنته
…
يومًا ولا حجبت عن روح محتجب
أن أول من قال بهذا علقمة بن عبدة فقال ومطعم النصر يوم النصر إلخ- قلت ورواية علقمة المعروفة: «ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه البيت» -وما أشك- والله أعلم- أن حبيبًا تعمد الإشارة إليه ولوى قوله «ومطعم النصر» منه. قال في هامش شرح التبريزي [دار المعارف تحقيق د. محمد عبده عزام. الطبعة الرابعة ص 58 هامش 5 من ج] وله رواية أخرى في لـ: ومطعم الغنم يوم الغنم. قلت هذه الرواية لا نعلم غيرها. وليس في الشرح الكبير سواها ولا في طبعة مطبعة المعارف 1361 هـ ص 201.
لم يغز قومًا ولم ينهد إلى بلد
…
إلا تقدمه جيش من الرعب
لو لم يقد جحفلاً يوم الوغى لغدا
…
من نفسه وحدها في جحفل لجب
هذا من المبالغة، ويبرره أن المعتصم كان مشغولاً بالجيوش، فتركه كانوا إذا رأى عرضهم كأنما هم امتداد لنفسه. وقد كان يخيل لنا أن هذا خبر وليس بمبالغة وأن المعتصم به أشجع من عنترة الذي ليس كسيرته الحربية من سيرة. ثم ثبت عندنا بعد أن عنترة أعظم شأنًا في باب الشجاعة الفردية البطولة.
رمى بك الله برجيها فهدمها
…
ولو رمى بك غير الله لم تصب
ويروى لم يصب بالياء والتاء أجود وأراد الإشارة إلى آية الأنفال أي أنت إنما خرجت غضبًا لله ولو كنت خرجت لغير ذلك ما انتصرت وما يكون لك أن تخرج لغير ذلك، إذ أنت خليفة الله، كل أمرك في الله ولله.
من بعد ما أشبوها واثقين بها
…
والله مفتاح باب المعقل الأشب
أشبوها أي حصنوها حتى صارت كالشجر الملفت [هذا لفظ التبريزي ولعله من أبي العلاء] بما حولها من كثرة السلاح. ومن شاء جعل هذا المعنى جنسيًا
وقال ذو أمرهم لا مرتع صدد
…
للسارحين وليس الورد من كثب
هذه فكرة الروم، وخلفائهم الإفرنج عن العرب والمسلمين، أنهم بدو يطلبون المرعى وموارد الماء،
أمانيا سلبتهم نجح هاجسها
…
ظبي السيوف وأطراف القنا السلب
خفف الأماني، والسلب أي الطوال جمع سلب بفتح فكسر
إن الحمامين من بيض ومن سمر
…
دلوا الحياتين من ماء ومن عشب
هذا تهكم بهم من أبي تمام إذ قالوا لا مرتع ولا ورد- قال بلى، فالمرتع والورد سيوفنا ورماحنا. مناياهن هن الدلاء التي نصيب بها الحياة- حياة المرتع (العشب) والمورد (الماء) - وهيأ هذا من مقاله ما سيجيء به بعد من خبر المرأة التي قالت وامعتصماه وهم يظنون أن لا معتصم لها من أجل أنه لا مرتع صددا أي قريبًا له ولا ورد من كثب أي من قريب.
لبيت صوتًا زبطريًا هرقت به
…
كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
لما جعله ولي أمر الدين جعل لا لذة له إلا لأهل، ولا خمر له إلا إغفاءة النوم. فنفض إغفاءة النوم وترك الحلائل من أجل الغيرة والنجدة. وعسى بعض هذا أن خيل به لمن خيل له أن فكرة الجنس هي الغالبة على أبي تمام في هذه البائية، وإنما قصد أبو تمام إلى معنى قول الآخر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
…
دون النساء ولو باتت بأطهار
وقول الآخر:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
…
حصان عليها عقد در يزينها
وذكر كأس الكرى لأن عادة العرب أن تترك الخمر إذ غزت وقد أراق الربيع بن زيادة زقاق خمره لما بلغه مقتل مالك بن زهير وحرم النساء وقال:
أفبعد مقتل مالك بن زهير
…
ترجو النساء عواقب الأطهار
فجعل كأس المعتصم التي أراق كأس كراه كما تقدم ذكره. وأحسبه أخذ تصير الكرى كأسًا من قول تأبط شرا:
فاحتسوا أنفاس نوم فلما
…
هوموا رعتهم فاشمعلوا
ولا يلام على أخذ وهو بعد صاحب ديوان الحماسة.
قالوا- وهو الذي في شرح التبريزي: زبطري منسوب إلى زبطرة وهي بلد فتحه الروم فبلغ المعتصم فيما قيل أن امرأة قالت في ذلك اليوم وامعتصماه فنقل إليه ذلك الحديث وفي يده قدح يريد أن يشرب ما فيه فوضعه وأمر بأن يحفظ فلما رجع من فتح عمورية شرب.» أ. هـ
عداك حر الثغور المستضامة عن
…
برد الثغور وعن سلسالها الحصب
أجبته معلنًا بالسيف منصلتا
…
ولو أجبت بغير السيف لم تجب
أي أجبت الصوت الزبطري
حتى تركت عمود الشرك منعفرا
…
ولم تعرج على الأوتاد والطنب
أي قصدت مدينة الكفر المستعصية فعفرت خدها وهو المعنى الذي كان فيه من خراب عمورية فعاد إلى صفة الحرب، وبعد أن وصف حال المعتصم وصف حال عدوه، وجعل هذا في مقابلة ذلك.
لما رأى الحرب رأى العين توفلس
…
والحرب مشتقة المعنى من الحرب
فهذا تفسير اقتصادي للحرب والمعنى قديم ويدعي السبق فيه لكارل ماركس وسبقه في طريقة تأويل بعض أحداث التأريخ في ضوئه لا في نفس المعنى وقد زعم «براتراند رسل» في تأريخ الفلسفة الغريبة أن أفلاطن سبق ماركس ولكن المعنى أقدم من ذلك لمن تأمله.
غدا يصرب بالأموال جريتها
…
فعزه البحر ذو التيار والحدب
هيهات زعزعت الأرض الوقور به
…
عن غزو محتسب لا غزو مكتسب
فالغزو للاكتساب قديم واضح الأمر. ولكن الغزو للاحتساب، هو الذي ينبعث من روح الإيمان والدين. ومن أجل ذلك لبى المعتصم الصوت الزبطري وهراق كأس الكرى، هذه التي حاولت أساطير الأخبار أن تجعلها كأس نبيذ- وترجع بروحها الإسلامي إلى روح جاهلي كروح الربيع بن زياد. والمعتصم بالله لم يكن أدبيًا ناقدًا كأبيه الرشيد ولا فلسفيًا جدليًا كأخيه المأمون، ولكنه كان جنديًا أمة تركية، أقرب إلى سذاجة صدق العقيدة مما تصوره هذه الأسطورة، والله أعلم.
لم ينفق الذهب المربي بكثرته
…
على الحصى وبه فقر إلى الذهب
أي إن المعتصم ما كان ليقبل رشوة مال من توفلس الذي أراد أن يدرأ خطر الحرب بعطاء الجزية، ذلك بأن المعتصم صاحب دولة غنية، ما أنفق ما أنفق من ذهب لكي يرشى بمثله ولكن ليصول لدينه وينتقم ممن غضوا من قدره.
إن الأسود أسود الغاب همتها
…
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وهذا كان رأي بلال والأنصار رضي الله عنهم في أمية بن خلف.
ولى وقد ألجم الخطى منطقه
…
بسكتة تحتها الأحشاء في صخب
هذا البيت غاية في جودة التعبير. وجعل الصخب في مقابلة السكتة. وأخذ المعنى فأجاد الأخذ من قول عمرو بن معد يكرب، وقد اختاره هو في حماسته،
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرت
فقد صخبت أحشاء عمرو ههنا بأسف شديد مع زعمه أن الخطى ألجمه لفرار قومهم وهزيمتهم. ولم يعن أبو تمام بالصخب وجيب القلب وحده كما يفهم من شرح التبريزي ولكنه عنى الخوف وهواجس الأسف والحزن. وقوله من بعد يؤيد قولنا هذا:
أحذى قرابينه صرف الردى ومضى
…
يحنث أنجى مطاياه من الهرب
موكلاً بيفاع الأرض يشرفه
…
من خفة الخوف لا من خفة الطرب
قال أبو الزكرياء: «المعنى أن هذا الرجل يعلو ما ارتفع من الأرض لينظر إلى الطرق هل فيها من يتبعه أ. هـ» . وقوله من خفة الطرب يشير إلى نحو قول توبة:
وأشرف بالقور اليفاع لعلني
…
أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وفيه أيضًا إشارة إلى إشراف حمار الوحش، إذ في فعله خفة طرب إذ هو مع حلائله:
يأحزة الثلبوت يربأ فوقها
…
قفر المراقب خوفها آرامها
ويدلك أنه مما خلا من إشارة إلى حمار الوحش ذكره الظليم من بعد، وهذه معان يدعو بعضها بعضًا والقارئ الكريم يعلم صلة بينها:
إن يعد من حرها عدو الظليم فقد
…
أوسعت جاحمها من كثرة الحطب
من حطب هذا الجاحم أعداء الله الذين انكبوا فيه. وعاد أبو تمام إلى ما بدأ به من السخرية. وقد كان سخر بالنحوم والكوكب والغربي ذي الذنب. فآن أن يسخر بالرواية وزخرفها وما قيل إنها -أي عمورية- لا تفتح قبل نضج التين والعنب. ومما ينبه إليه ها هنا أن قوله «عدو الظليم» فيه وحي رجعة إلى قوله في أول القصيدة: «زعموا الأيام مجفلة» والإجفال للنعام. وقد أجفلوا هم. فتأمل.
تسعون ألفًا كآساد الشرى نضجت
…
جلودهم قبل نضج التين والعنب
يا رب حوباء لما اجتث دابرهم
…
طابت ولو ضمخت بالمسك لم تطب
هذا قريب من قوله ما ربع مية وسماجة غنيت. أي طابت النفس بسرور النصر وذلك أطيب من المسك. وذكر المسك لقولهم ما كان الطيب إلا المسك برفع المسك وهو من كلمات الكتاب فأحسبه يشير إلى ذلك.
والحرب قائمة في مأزق لجج
…
تجثو الكماة به صغرًا على الركب
صغرا أي تصاغوا لكي يقدروا على المأزق اللجج ولعل الرواية الصحيحة لحج بحاء مهملة مكسورة وجيم معجمة وشرح التبريزي يدل على ذلك إذ لحج بالحاء المهملة والجيم من باب فرح هي المناسبة لسرحه إذ شرح فقال: لحج في الشيء إذا نشب فيه فلم يخلص وقد يقال مكان لحج أي ضيق- كل ذلك في الطبع (ص 71) بجيمين وفي مادة لحج في القاموس لحج السيف كفرح نشب في الغمد ومكان لحج ككتف والملاحج المضايق. قلت كل ذلك بحاء مهملة قبل الجيم وليس شيء في مادة اللجاج بمطابق ما وقع في شرح التبريزي من تحريف طابع أو ناسخ وأحسب رواية مختارات البارودي لحج بحاء مهملة فجيم وهو الصواب. صغرًا بضم الصاد بعدها غين معجمة ساكنة مصدر صغر ككرم. والصورة مأخوذة من صفات أيام صفين وأبو تمام كان أعلم بذلك من حاق الممارسة للحروب.
كم نيل تحت سناها من سنا قمر
…
وتحت عارضها من عارض شنب
كم كان في قطع أسباب الرقاب بها
…
إلى المخدرة العذراء من سبب
رجعة أبي تمام هنا إلى ما كان ذكره من باب بأهل وعزب، إجمال بعد تفصيل. بدء هذا الإجمال قوله تسعون ألفًا إذ رجع به إلى روح مطلعه ثم أتبع ذلك روح صفته للحرب والفتح والحريق والاستباحة ثم يختم بمدح وحكمة تقرع الأسماع وتبقى في القلوب. وقوله إلى المخدرة العذراء- عنى عمورية، ثم ما في عمورية من عذارى سبين فافترعن.
كم أحرزت قضب الهندي مصلتة
…
تهتز من قضب تهتز في كثب
بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت
…
أحق بالبيض أبدانًا من الحجب
هذا لعب لفظي معنوي مرقص. البيض السيوف. والبيض أبدانًا: نساء الروم وحجب السيوف أغمادها. وحجب النساء معروفة. فهذه البيض إذا سلت، صارت هي أحق بالروميات من خدورهن.
وهذا كله ثمرة الفتح والنصر المبين.
خليفة الله جازي الله سعيك عن
…
جرثومة الدين والإسلام والحسب
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
…
تنال إلا على جسر من التعب
إن كان بين صروف الدهر من رحم
…
موصولة أو ذمام غير منقضب
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
…
وبين أيام بدر أقرب النسب
كما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب النسب- هذا متضمن
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم
…
صفر الوجوه وجلت أوجه العرب
فقد سمى أبو تمام بلاد الروم الرجل المريض. ثم رد الإفرنج هذا الاسم على المسلمين من بعد فسموا تركيا رجل أوروبا المريض. {وتلك الأيام نداولها بين الناس} {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} .
وزعم التبريزي أنه يقال «إنما يقال لملوك الروم بنو الأصفر لأن حبشيًا كان غلب على بلادهم فنكح فيهم فولد له أولاد يخالط بياضهم صفرة من سواده فازدادوا بذلك حسنًا» - أ. هـ. قلت أبي العرب أيام عزهم إلا أن يجعلوا الحبش الذين غلبوهم على اليمن، غلبوا الروم أيضًا. ولا يعلم على وجه الحقيقة لماذا كانت تسمى العرب الروم بني الأصفر، ولكن يغلب على الظن إن المراد بذلك شعور رؤوسهم إذ كان يوستنيان ملك الروم ومن قبله روسا في أصولهم في شعورهم غير ما اعتادوه من لون السواد. ولذلك قالوا صهب السبال. كما قالوا زرق العيون. قال عبد الله بن سبرة يصف الرومي:
أحم أزرق لم يشمط وقد صلعا
وليس قول حبيب «صفر الوجوه» بمبعد هذا الذي ذهبنا إليه من قصد الشعر، والصفرة والحمرة والصهبة كل ذلك في ألوان الشعر مباين لما يألف العرب ومثال حبيب الذي قاله اجتهاد منه وافتنان.
هذا، وقد جعل الدكتور طه حسين «ليالي بعد الظاعنين شكول» أميرة شعر أبي الطيب. وهي من الجياد الروائع. وليس مذهب أسلوبها كمذهب «السيف أصدق». وقد نبه الدكتور طه رحمه الله على أن أبا الطيب جاري فيها مجاراة استحسان لا محاكاة أو معارضة كلمة السموأل الحماسية. ولله دره ناقدًا متذوقًا. فالسمؤال يقول:
لنا جبل يحتله من نجيره
…
منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به
…
إلى النجم فرع لا ينال طويل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
…
وليست على غير الظبات تسيل
صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا
…
إناث أطابت حلمنا وفحول
وأيامنا مشهورة في عدونا
…
لها غرر مشهورة وحجول
وأسيافنا في كل غرب ومشرق
…
بها من قراع الدارعين فلول
وكلمة السمؤال جرى فيها على مخاطبة امرأة من العرب كما يدل عليه السياق ومحل استشهادنا هذا الضمير الجهير «نا» وإياه اتبع أبو الطيب إذ يقول:
تمل الحصون الشم طوال نزالنا
…
فتلقي إلينا أهلها وتزول
وإنا لنلقي الحادثات بأنفس
…
كثير الرزايا عندهن قليل
يهون علينا أن تصاب جسومنا
…
وتسلم أعراض لنا وعقول
وذكر العقول هنا وثبة من وثبات أبي الطيب ترفعه فوق المحاكاة البحتة. وفي هذه اللامية ضروب من المخاطبة، آنا يخاطب سيف الدولة وآنا يجرد من نفسه آخر يخاطبه:
سوى وجع الحساد داو فإنه
…
إذا حل في قلب فليس يحول
وحينًا يخاطب الدمستق. ولا ريب أن القصص الحربي عنتري الروح يخاطب به التي لقيها بدرب القلة أو زعم ذلك.
ليست «ليالي بعد الظاعنين شكول» من ضرب «السيف أصدق» في نوع شكلها. ليس صاحبها على جهارة صوته فيها بخطيب. ولكنه صائح وصادح.
القصيدة التي فيها منهج بائية حبيب ميميته.:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وهي فخمة جزلة، غير أن فرق ما بينها وبين بائية حبيب كفرق ما بين سيف الدولة والمعتصم.
وأفخم من «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» وأشد شبهًا ببائية حبيب واتباعًا لها ميميته التي قيل إنها أخر ما أنشده سيف الدولة:
عقبى اليمين على عقبى الوغي ندم
…
ماذا يزيدك في إقدامك القسم
وهذا المطلع فيه نفس من مطلع البائية لما فيه ما بين اليمين والوغي من مقابلة غير بعيدة جدًا من مقابلة ما بين السيف والكتب- وسرعان ما قال أبو الطيب بعد هذا المطلع بأبيات قلائل.
أين البطاريق والحلف الذين حلفوا
…
بمفرق الملك والزعم الذي زعموا
فهذا فيه أنفاس:
أين الرواية بل أين النجوم وما
…
صاغوه من زخرف منها ومن كذب
وقد أبدع أبو الطيب في تصوير حركة الجيش غير أن نموذج البائية أمامه ومن جيد صناعته فيها قوله:
فما تركن بها خلدًا له بصر
…
تحت التراب ولا بازًا له قدم
ولا هزبرا له من درعه لبد
…
ولا مهاة لها من شبهها حشم
ترمي على شفرات الباترات بهم
…
مكامن الأرض والقيعان والأكم
فهذه صفة غارة وحركة. وكأن قول حبيب:
غدًا يصرف بالأموال جريتها فعزه البحر ذو التيار والحدث
دعا أبا الطيب إلى صفة حركة العبور. وقد جاء بصورة جيدة منها في اللامية إذ قال:
ورعن بنا قلب الفرات كأنما
…
تخر عليه بالرجال سيول
يطارد فيه موجه كل سابح
…
سواء عليه غمرة ومسيل
تراه كأن الماء مر بجسمه
…
وأقبل رأس وحده وتليل
وهذا وصف مشاهد، عظيم حيوية الحركة. وقد ألم أبو الطيب بصورة النيران والحريق، ولكنه أشرب ذلك الحركة وسرعة مجاوزته، ولقد علم إبداع حبيب في هذا الباب، فاكتفى منه بأخذة خلس لا يزيدها:
تسايرها النيران في كل مسلك
…
به القوم صرعى والديار طلول
وفي الميمية أقام شيئًا يسيرًا عند صفة العبور بالسفن، كأنه يريد بذلك أن يربى على الأوصاف التي في بائية أبي تمام وأعرض عن ذكر النار إلا تلميحًا في معرض تشبيه السيوف بها:
عبرت تقدمهم فيه وفي بلد
…
سكانه وهم مسكونها حمم
فهذه صفة الحريق ثم عدل عن ذلك فجعل السيوف هي النار:
وفي أكفهم النار التي عبدت
…
قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
هندية إن تصغر معشرًا صغروا
…
بحدها أو تعظم معشرا عظموا
وقد أخذ أبو العلاء من هاهنا إذ قال:
ليست كنار عدي نار عادية
…
باتت تشب على أيدي مصاليتا
ولا تلهينك الإشارة إلى «يا سليمي أوقدي النارا» عن أصل أخذه. ثم جاء أبو الطيب بنعت سفن العبور- وكما قدمنا دعاه إليه تيار البحر وحدبه عند أبي تمام:
قاسمتها تل بطريق فكان لها
…
أبطالها ولك الأطفال والحرم
تلقى بهم زبد التيار مقربة
…
على جحافلها من نضحه رثم
الرثم بياض في شفاه الخيل وجحا فلها شفاهها المفرد جحفلة والمراد هنا صفة سفينة بياض الماء حول مقدمها كأنه رثم حول جحفلة فرس. وزبد التيار هذه صدى مباشر من «فعزه البحر ذو التيار والحدب» . وذكروا عن أبي الطيب أنه كان ينكر أن يكون يأخذ من المحدثين وأنه إنما كان يأخذ من القدماء. فإن صحت هذه الرواية فما يكون عدا بها الكتابة، إذ شعر أبي تمام مشحون بالقدماء، لا يخلو من نظر في شعره من أن ينظر فيما يضمنه أو يشير إليه من شعرهم.- ثم بعد قوله: تلقى بهم زبد التيار قوله:
دهم فوارسها ركاب أبطنها
…
مكدودة وبقوم لا بها الألم
يريد السفن، فالدهم من صفة الخيل وركوب الأبطن من نعت السفن.
وخاتمة هذه الميمية فيها صدى من خاتمة أبي تمام، وذلك قول أبي الطيب:
القائم الملك الهادي الذي شهدت
…
قيامه وهداه العرب والعجم
ابن المعفر في نجد فوارسها
…
بسيفه وله كوفان والحرم
وهذا قريب من قول أبي تمام «خليفة الله جازى الله سعيك عن إلخ» - ثم
أضرب أبو الطيب عن هذا القري، وكأن قد أقر في نفسه بسبق أبي تمام في البائية: -
لا تطلبن كريمًا بعد رؤيته
…
إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره
…
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
واستشهد بهذين البيتين ابن الأثير في المثل السائر ينبه بهما على فضله. وقد أشرنا في كلمتنا التي بعنوان «إلى ليلاه الخجول» إلى أخذ أندرو مارفيل ANDREW MARVELL من أبي تمام في مطلع قصيدته التي مدح بها زعيمه البريطاني Oliver Crom well (1)
This time to leave the Books in dust،
An oly th'unused Amours rust.
So restless Crom wel could not cease
In the inglorious Arts of Peace
But through Adventrous war
Urged his active star.
لقد آن أن ينبذ الكتاب إلى التراب
وأن يصقل من الدرع صدأ الإهاب
وما كان لكرومويل القلق الفؤاد
أن يكون إلى فنون دعة السلم ذا إخلاد
ولكن في مصادمة حومة القتال
احتث نجم طالعه الفعال
قالوا وكان كروميل عاكفًا على درس وكتب ثم ترك ذلك وانبرى للحرب فكان ما كان من ظفره- وهذا من استهلال أندرو مارفيل مأخوذ من استهلال أبي تمام على الأرجح.
والشبه ظاهر.
وقال أندرو مارفيل في آخر هذه الكلمة:
But thou the wars and Fortune's son
March indefatigably on:
(1) لم يورد النص الإنجليزي في ليلاه الخجول (مصر 1403) والتهجي هنا من ضرب قديم.
And for the last effect
Still keep thy sword erect
Besides the force it has to fright
The spiril's of the shady night
The same arts that did gain
A Pow'r must it maintain
أما أنت فابن الحروب والجد السعيد
لاتني في سيرك الشديد
ولكي يكون لك الأثر البالغ الأخير
فإن حسامك مصلت شهير
إذ قوته كما تخيف أشباح ظل الظلام
فإن الفنون التي نيلت بها السطوة بها أيضًا تستدام
هذه ترجمة تقريبية.
وعين هذا المعنى في ميمية أبي الطيب إذ يقول:
أهي الممالك عن فخر قفلت به
…
شرب المدامة والأوتار والنغم
مقلدًا فوق شكر الله ذا شطب
…
لا تستدام بأمضى منهما النعم
وكأن أبا الطيب رام بهذه الميمية أن يضاهي أبا تمام لا في المعاني فحسب وأن يربي عليه بذكر السفن والعبور أيضًا، ولكن تعمد مع ذلك أن يقارب بعدد أبياتها عدد أبيات «السيف أصدق» إذ هي نيف وستون بيتًا، وأبو الطيب أحرص على الإيجاز منه على الإطالة. وهذه الميمية (1) على جودتها لا تبلغ بين السيفيات مبلغ: -
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
…
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وهذه نفسه فيها كأن فيها قصدًا إلى مجاراة بائية أبي تمام:
أهن عوادي يوسف وصواحبه
…
فعزما فقدما أدرك النجع طالبه
إذا فيها شيء من مشابه تفخيمه. وقد نبه الدكتور طه حسين رحمه الله على محاسنه بما لا مزيد عليه في هذا الموضع.
ومن أعجبها إلى قوله في غزلها:
(1) سبق لنا أن قلنا وقد أوردنا من هذه الميمية في الجزء الثاني في باب التكرار أن عمل أبي تمام إنما كان إعدادًا لما سيأتي به (أبو الطيب) من روائع وهو كذلك.
سقاك وحيانا بك الله إنما
…
على العيس نور والخدور كمائمه
إذا ظفرت منك العيون بنظرة
…
أثاب بها معيي المطي ورازمه
حبيب كأن الحسن كان يحبه
…
فآثره أو جار في الحسن قاسمه
تحول رماح الخط دون سبائه
…
وتسبى له من كل حي كرائمه
ويضحى غبار الخيل أدنى ستوره
…
وآخرها نشر الكباء الملازمه
وزعم بعض شراح شعر أبي الطيب أن ههنا من المبالغة. وليس الأمر على ما توهمه.
وقوله:
وما استغربت غيني فراقًا رأيته
…
وما علمتني غير ما القلب عالمه
فلا يتهمني الكاشحون فإنني
…
رعيت الردى حتى حلت لي علاقمه
مشب الذي يبكي الشباب مشيبه
…
فكيف توقيه وبانيه هادمه
وتكملة العيش الصبا وعقيبه
…
وغائب لون العارضين وقادمه
وما خضب الناس البياض لأنه
…
قبيح ولكن أحسن الشعر فاحمه
ثم بعد هذا يجيء مدحه الجيد وفخره الرصين:
سلكت صروف الدهر حتى لقيته
…
على ظهر عزم مؤيدات قوائمه
مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه
…
ولا حملت فيها الغراب قوادمه
لا يكثر أبو الطيب من الإشارة إكثار أبي تمام ولا يظهرها إظهاره. ولكنه يخفيها وكأنها وحي يلحن به. وجلى ههنا أنه يشير إلى نعت الشعراء الذئب وإلى حديث الجاحظ عن الطير والحيوان. شعر أبي الطيب لمن تأمله مليء بالإشارة الخفية وهذا من معدن ميله إلى الإيجاز.
ثم أنه كان ينشد شعره فضلاء أذكياء، فإما فطنوا إلى مراده بما رزقوه من سعة الاطلاع، وإما تفطنوا إليه من بعد فأدركوا مغامض معانيه مثلاً قوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
…
فإن لحت ذابت في الخدور العواتق
والرواية الأخرى (حاضت في الخدور العواتق) ولعلها هي الأولى وعيبت علي أبي الطيب وما أشك أنه يشير إلى نفسه من فسر قوله تعالى {أكبرنه وقطعن أيديهن} بمعنى الحيض والله أعلم.
ومثلاً قوله: -
أمنعمة بالعودة الظبية التي
…
بغير ولي كان نائلها الوسمي
الوسمي المطر الأول والولي بعده- قال ابن الرومي، وكان أبو الطيب من حمله ديوانه ورواته، يصف روضة: -
شكرت نعمة الولي على الوسـ
…
ـمى ثم العهاد بد العهاد
وأشار إلى هذا المعنى في قوله
من يزره يزر سليمان في الملـ
…
ـك جلالاً ويوسفا في الجمال
وربيعًا يضاحك الغيث فيه
…
زهر الشكر من رياض المعالي
ورياض المعالي من أنفاس النسيم ونفحاته. ولا غرو فقد كان يحب البرية مع كثرة أسفاره. وهو بعد القائل
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى
…
إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا
والقائل
كلما رحبت بنا الروض قلنا
…
حلب قصدنا وأنت السبيل
والقائل
رعى الله عيسًا فارقتنا وفوقها
…
مها كلها يولي بجفنيه خده
بواد به ما بالقلوب كأنه
…
وقد رحلوا جيد تناثر عقده
إذا سارت الأحداج فوق نباته
…
تفاوح مسك الغانيات ورنده
وحال كإحداهن رمت بلوغها
…
ومن دونها غول الطريق وبعده
ثم يقول بعد بيت (مهالك لم تصحب إلخ) من الميمية، وإنما استطردنا عن ذلك فطال الاستطراد قليلاً: -
فأبصرت بدرًا لا يرى البدر مثله
…
وخاطبت بحرًا لا يرى العبر عائمه
عجبت له لما رأيت صفاته
…
بلا واصف والشعر تهذي طماطمه
وكنت إذا يممت أرضًا بعيدة
…
سريت فكنت السر والليل كاتمه
لقد سل سيف الدولة المجد معلمًا
…
فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه
على عاتق الملك الأغر نجاده
…
وفي يد جبار السماوات قائمه
وشعر أبي الطيب الجيد في سيف الدولة خاصة كثير مشهور. ولعل أميرة القصائد السيفيات كلهن، وليست بأطولهن، ميميته العتابية:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
…
ومن لجسمي وحالي عنده سقم
وهي خطابية جهيرة. غير أن شكلها لمن تأمله أقدم معدنا وجوهرًا من خطابيات أبي تمام وبشار. إذ أبو الطيب كما يغرف من بحر التجارب وكما يحتوي محاسن حبيب والوليد وابن الرومي وينتهب منها ومن غيرهم من مفلقي المحدثين، يتجاوز هؤلاء على أخذه منهم وانتهابه، إلى شعراء الجاهلية، بنظر شديد يجمع فيه بين الأصالة المبدعة والحذو البارع المفتن.
في هذه الميمية العكاظية- قالوا إنه أنشدها في محفل من العرب، وقال أبو منصور ما معناه أن أكثرها على جودتها يدخل في باب إساءة الأدب بالأدب- حذو ما على شكل التخصير القديم. أي الشكل الذي يفصل الشاعر بين أول قسم منه وآخر قسم بالحكمة أو ما يجري مجراها. وقد ضربنا أمثلة من تصرف الشعراء في هذا البا. منهن لامية كعب ابن زهير. وحذو هذه اللامية في الشكل وفي معدن الوزن حذا أبو الطيب. ولا غرو فهي اعتذار ضمنه التماس يتبرأ به كأنما هو عتاب رقيق:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
…
أذنب وإن كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقامًا لو يقوم به
…
أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له
…
من الرسول بإذن الله تنويل
حتى وضعت يميني لا أنازعها
…
في كف ذي نقمات قيله القيل
فلهو أهيب عندي إذ أكلمه
…
وقيل إنك منسوب ومسئول
من ضيغم بضراء الأرض مسكنه
…
من بطن عثر غيل دونه غيل
يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما
…
لحم من القوم معقور خراديل
هل أراد بقوله «عيشهما» ههنا «خبزهما» ؟ في بعض اللغات السامية أن اللحم هو الخبز؟
إذا يساور قرنًا لا يحل له
…
أن يترك القرن إلا وهو مجدول
منه تظل سباع الجو خائفة
…
ولا تمشي بواديه الأراجيل
ولا يزال بواديه أخو ثقة
…
مطرح البز والدرسان (1) مأكول
حذا أبو الطيب على: «بانت سعاد» . وإنك لتحس عنده أنفاس إيقاعها وصدى من روح صياغتها. قال كعب:
(1) هو السلاح والدرسان: النياب.
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
…
أذنب وإن كثرت في الأقاويل
صدى من هذا في قول أبي الطيب:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
…
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
وقال كعب:
لقد أقوم مقامًا لو يقوم به
…
يرى ويسمع ما لو أسمع الفيل
لظل يرعد .....
فأصداء من هذا وأنفاس من روحه في قول أبي الطيب:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم
صحبت في الفلوات الوحش ....
ثم أليس ثم صدى من قول كعب في بانت سعاد:
حتى وضعت يميني ما أنازعها ....
في قول أبي الطيب: -
قد رزته وسيوف الهند مغمدة ....
وقد ذكر أبو الطيب الهيبة في قوله: «واصطنعت لك المهابة إلخ» وذكر نيوب الليث وهوله في قوله: «إذا رأيت نيوب الليث بارزة» وأشار بل صور ضغمه حيث قال: «حتى أتته يد فراسة وفم» . وفي «بانت سعاد» نعت الهيبة وتصوير الضيغم الذي يغدو:
فيلحم ضرغاين عيشها
…
لحم من القوم ....
«بانت سعاد» كما ذكرنا من قبل مخصرة، حذيت على نهج «إن الخليط أجد البين فانفرقا» وأصل جميع ذلك «قفا نبك» «وهل ما علمت وما استودعت» وما أشبه من كلام القدماء قبل زهير. ومثل بانت سعاد ميمية أبي الطيب هذه، هي أيضًا مخصرة.
قسمها الأول أقام فيه الممدوح مقام المحبوب، فهو نسيبي السنخ. وقد نبه أبو منصور على حسن هذا المذهب من أبي الطيب ومحبوب أبي الطيب، الذي هو ممدوحه، جعل له من صفات سعاد كعب مشابه. أليس كعب يقول:
أكرم بها خلة لو أنها صدقت
…
موعودها أو لو أن النصح مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها
…
فجع وولع وإخلاف وتبديل
فما تدوم على حال تكون بها
…
كما تلون في أثوابها الغول
ولا تمسك بالوعد الذي زعمت
…
إلا كما يمسك الماء الغرابيل
وقد قال أبو الطيب:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
…
ومن لحالي وجسمي عنده سقم
«سعاد» كعب قد بانت فهو يروم اللحاق بها وهي رمز السعادة والنجاة التي طلبها في نصر أمر الجاهلية، فخانه ذلك الطلب، فهو الآن يرومها عند الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومحبوب أبي الطيب لم يبن. وكأن قد اقترب بينه. قلب كعب متبول متيم مرهون مكبول ولكن قلب أبي الطيب وحاله معًا سقيمان.
مالي أكتم حبًا قد برى جسدي ....
فهو حب صادق
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
والدعاوى فيها الكذب. محبو سيف الدولة غير أبي الطيب فيهم فجع سعاد وولعها وإخلافها وتبديلها- وهب ما يدعونه حبًا:
إن كان يجمعنا حب لغرته
…
فليت أنا بقدر الحب نقتسم
الحب المدعي دعوى. والحب الذي قد برى الجسد وأسقم القلب والحال. هذه القسمة الضيزى فجع وولع. فقد لبس محبوب أبي الطيب من صفات محبوبة كعب هاهنا.
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
…
وقد نظرت إليه والسيوف دم
فكان أحسن خلق الله كلهم
…
وكان أحسن ما في الأحسن الشيم
هذا مدح. والنسيب فيه ذكر الوجد وفيه التغزل بذكر المحاسن. وهكذا صنع كعب. إلا أن كعبًا بعد المطلع قدم ذكر المحاسن:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
…
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
…
لا يشتكي قصر منها ولا طول
ثم بعد أن وصف ثغرها وشبهه بالراح
شجت بذي شبم من ماء محنية
…
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
صار إلى شكوى الوجد والإخلاف والتبديل.
وعكس أبو الطيب هذا الترتيب. وأبت «شبم» إلا أن تجيء في صدر المطلع منبئة بوحي خفي عن أخفى نظر أبي الطيب إلى «بانت سعاد» وتأثره بها عفوًا أو عن عمد. وعند من يكون كأبي الطيب- ويحسن ههنا الاستشهاد بقوله:
كفاتك ودخول الكاف منقصة
…
كالشمس قلت وما للشمس أمثال
عند من يكون كأبي الطيب مما يجتمع التأثر العفوي مع العمد. إذ هو رحمه الله قد كان من الشاعرية في الذروة، التي يذوب فيها قطر الصنعة ومعادنها في حديد الطبع فينشأ من ذلك فولاذ واحد عزيز عديم النظير.
ومضى أبو الطيب شوطًا حسنًا من المدح:
فوت العدو الذي يممته ظفر
…
في طيه أسف في طيه نعم
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت
…
لك المهابة ما لا تصنع البهم
وفصل أبو الطيب معنى المهابة كما ترى
ألزمت نفسك شيئًا ليس يلزمها
…
أن لا يواريهم أرض ولا علم
أكلما رمت جيشًا فانثنى هربًا
…
تصرفت بك في آثاره الهمم
عليك هزمهم في كل معترك
…
وما عليك بهم عار إذا انهزموا
أما ترى ظفرًا حلوا سوى ظفر
…
تصافحت فيه بيض الهند واللمم
أي سوى الظفر الذي تحوزه السيوف الهندية، يأيها السيف الصارم المجرب الذي لا ينبو.
كان أبو الطيب قد لمح تلميحًا بشكواه التي أورده مورد شكوى النسيب ثم صار منها إلى مدح مطرب كغزل النسيب، فلما بلغ به أوجه، رمى بأول أسهم العتاب:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
…
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
هذا البيت الثاني عشر هو أول تخصير القصيدة.
وقد يذكر القارئ الكريم موضع التخصير في «قفا نبك» أنه وصف الليل وشكواه وشكوى الزمان.
ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وأنه في ميمية علقمة حيث أبيات الحكمة التي في طيها أسف شديد:
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا
…
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
وهنا هذه البطولة الفكرية التي جهر بها الشاعر جسور القلب لا يبالي، وسماها أبو منصور إساءة الأدب بالأدب (1). ومع ذلك نص على هذه القصيدة أنها من المختار.
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
…
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
…
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
…
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
هم الظلم وأنا الأنوار- ومهدت هذه المقابلة لقوله من بعد «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي» .
ولا يخفى أن قوله: «يا أعدل الناس إلا في معاملتي» بعد ما كان أطرب سيف الدولة به من المدح في قوله: «أما ترى ظفرًا حلوًا سوى ظفر» فيه المقابلة التي هي قريب مما سماه أرسطو طاليس بالتحول: (Peripety) في حديثه عن المسرح.
ويستوقفني هنا، لو يذكره القارئ الكريم، مقال شارلس ليال الذي أوردناه في أول هذا الجزء، حيث قال في بعض ما قاله عن شكل الشعر العربي القديم:«وأبعد من ذلك أن يقال مسرحي لأن الشخص الوحيد والمقياس الوحيد المعروفين للمتكلم هما نفسه ومثله الأعلى الذي يعتقده» أ. هـ. ليت شعري هل أحس «ليال» بوجود عنصر مسرحي في شعر العرب الذي اطلع عليه ثم أعياه أمر هذا العنصر إذ لم يجد فيه لا تعدد الشخصيات ولا محاكاة طبيعة أعمال الناس وأقوالهم على الحد الذي حده أرسطو في مسرحيات يونان وسير عليه من بعد في آداب الروم والفرنجة؟
يخطئ من يحسب أن «ليال» أراد بقوله هذا أن يصف شعر العرب بأنه غنائي بالمعنى الاصطلاحي عندهم، أي ذاتي محدود بذلك أن تكون له أبعاد تتخطى الذات إلى ما وراءها من آفاق الفكر والخيال. فقد احترس من أن يفهم عنه هذا الفهم بقوله «هما نفسه ومثله الأعلى» فجعل المثل الأعلى رديفًا وصنوًا وقرينًا للنفس. في المسرحية يصير المثل الأعلى بطلاً أو أبطالاً وشخصيات بينهن حوار من أقوال وأفعال. وعند الشاعر العربي تبطل هذه المحاكاة ويصير الشاعر بخياله وانفعاله هو البطل والأبطال
(1) انظر كتابنا مع أبي الطيب طبع الخرطوم 1968 م ومقالنا شاعرية المتنبي المناهل العدد 13.
والشخصيات جميع أولئك معًا. وبطلان المحاكاة لا يجعل الشاعر غنائيًا بالمعنى الاصطلاحي الآنف الذكر أي ذاتيًا محدود المدى بالذات، فقد أخرجه تقمصه المثل الأعلى وما يحف به من حدود ضيق الذات. ومن أجل ذلك ما زعمت العرب أن للشاعر رئيًا وقرينًا. ومن أجل ذلك ما زعم أبو عمرو بن العلاء أن شعراء العرب في العرب بمنزلة أنبياء بني إسرائيل في بني إسرائيل. ومن أجل ذلك ما قال عمر رضي الله عنه إن الشعر كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه.
وقفنا هذه الوقفة التي كأنما هي استطراد وليست به، لنقرر معنى ما قدمناه من تشبيه نحو المقابلة التي في قول أبي الطيب «يا أعدل الناس إلخ» بعد مقاله «أما ترى ظفرًا حلوا سوى ظفر» بالتحول المسرحي. ولا نزعم بعد أن ها هنا عنصرًا مسرحيًا إلا على سبيل التقريب والمجاز، على نحو ما يكون قد سبق منا من القول من قبل. ولكن الذي نقطع به أن العنصر البياني الذي اشتق منه النوع المسرحي، موجود في هذا الشعر وفي كثير من جياد القصائد عند القدماء والمحدثين الذين جاءوا بعدهم من شعراء بني العباس والعصور التي تلتهم. وليس قولنا العنصر البياني الذي اشتق منه النوع المسرحي بأمر من المغالطة اللفظية. فقد كفانا توضيح هذا الجانب من حيث معدنه ومعناه، الفيلسوف أرسطو طاليس إذ ذكر أن كلا المسرحية والملحمة محاكاة للطبيعة- تعتمد الملحمية على القصص وتعتمد المسرحية على محاكاة الأفعال ومواجهة الناس بها.
المواجهة مع ما يكون معها من ضروب التأثير بالحكمة والحماسة والفكاهة وحلو الكلام ومره، ذلك هو العنصر البياني الأصل. والتعبير المسرحي فرع، وقد عابه أفلاطون لما فيه من الاستتار والتمويه. وهذا بعد باب آخر.
وعند الشاعر العربي عنصر المواجهة صلتا، وقد فصلنا القول من قبل في أمر ما يجعله الشاعر درعًا لمقاتل نفسه حين يجهر بالقول من عدوان الناس.
ولقد نعلم أن تلك الدرع على سبوغها كثيرًا ما كانت تهتك أو تنتهك عن المقاتل. وحسبك شاهدًا في الأولين طرفة. وفي الآخرين أبو الطيب. هذا الذي نحن في معرض الحديث عنه. وقد كادت هذه الميمية تقتله. ولعل شيئًا من صداها لم يخل من مشاركة في مقتله. ولقد زعموا أن غلامًا له قال له لما أراد الفرار ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
قالوا فقال له ما معناه قتلتني قتلك الله وكر راجعًا فقتل. فهذا الخبر أصح أم لم يصح فيه نوع من الدلالة على ما قدمنا.
ثم يقول أبو الطيب، وههنا عنصر البطولة ومقاربة روح النبوءة الذي جر عليه مقتله من بعد، والله تعالى أعلم:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم
مناسبة هذا المعنى لقوله «الأنوار والظلم» من قبل لا تخفى
أنام ملء جفوني عن شواردها
…
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وجاهل مده في جهله ضحكي
…
حتى أتته يد فراسة وفم
إذا نظرت نيوب الليث بارزة
…
فلا تظنن أن الليث يبتسم
ومهجة مهجتي من هم صاحبها
…
أدركتها بجواد ظهرة حرم
رجلاه في الركض رجل واليدان يد
…
وفعله ما تريد الكف والقدم
هذا البيت صدره من قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
وكأنه تفسير لقول امرئ القيس:
وللساق ألهوب وللسوط درة
…
وللزجر منه وقع أخرج مهذب
وهذا الذي عابته أم جندب، وكانت هي المحكمة ولها حكمها مسمطًا. وقد ذهب أبو الطيب إلى استجادة كلام امرئ القيس. وكأنه في البائية «أغالب فيك الشوق» صغا شيئًًا إلى مذهب علقمة. ولو قد كانت أم جندب حكيمة لقالت أنتما كركبتي البعير. وأبى الناس إلا أن يحطوا مع امرئ القيس أنها صبت إلى علقمة، فزعموا أن امرئ القيس كام مفركًا، وأن أم جندب قالت له إنك سريع الإراقة بطيء الإفاقة. وهذا مع ظاهر طعنه في امرئ القيس كأنما هو فرع من مذمة النساء وجرى على مذهب من قال:
لا تركنن إلى النسا
…
ء ولا تثق بعهودهنه
فرضاؤهن وسخطهن
…
معلق بفروجهنه
وهذا القول ليس بمنصف إذ لو قطعنا بصدقه على جميع الناس لزم أيضًا أن نقطع بصدقه على جميع الرجال.
هذا وفي قول أبي الطيب من بعد:
ومرهف سرت بين الجحفلين به
…
حتى ضربت وموج الموت يلتطم
أخذ من خبر أبي دجانة رضي الله عنه إذ تبختر بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان رضي الله عنه من الأبطال وأبلى البلاء الحسن.
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
والحق أن فروسية أبي الطيب كلها إنما كانت فروسية القرطاس والقلم. وينبغي أن يحمل كثير مما يفتخر به فارسًا على هذا الوجه. وقد بسطنا جوانب من هذا المعنى في كلمتنا «شاعرية المتنبي» .
صحبت في الفلوات الوحش منفردًا
…
حتى تعجب مني القور والأكم
وهذا معنى يدور كثيرًا في شعر أبي الطيب، وقد غرفه من بحر تجربته إلا أن النقاد أبو إلا إن يتهموه بالأخذ من الصعاليك ومحاكاتهم، في مثل قوله:
ومهمه جبته على قدمي
…
تعجز عنه العرامس الذلل
ومثل قوله:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا
…
بالسوط يوم الرهان أجهدها
ولا ريب قد حذا على نحو:
وقنة كسنان الرمح بارزة
…
ضحيانة في شهور الصيف محراق
بادرت قنتها صحبى وما كسلوا
…
حتى نميت إليها بعد إشراق
بشرثة خلق يوقى البنان بها
…
شددت فيها سريحًا بعد إطراق
ونحو:
ويوم من الشعرى يذوب لوابه
…
أفاعيه في رمضائه تتململ
نصبت له وجهي ولا كن دونه
…
ولا سترإلا الأتحمي المرعبل
وفي ترجمة أبي منصور له ما يفيد أنه قضى فترة من عمر شبابه صعلوكًا أو كالصعلوك، فقرًا، وتجشم أسفار، وتوقع مكاره. وهو بعد القائل:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم
…
فتسكن نفسي أم مهان فمسلم
ورائي وقدامي عداة كثيرة
…
أحاذر من لص ومنك ومنهم
فهل لك في حلفى على ما أريده
…
فإني بأسباب المعيشة أعلم
إذًا لأتاك الخير من كل وجهة
…
وأثريت مما تغنمين وأغنم
فقد سمع زئير أسد الفراديس وأحست نفسه الخوف منها، ولكنه لما صار إلى قول الشعر مزج تجربته هذه بالأخذ من كلام القتال الكلابي حيث قال في صحبته النمر ما
قال- من ذلك:
فأغلبه في صنعة الزاد إنني
…
أميط الأذى عنه وما إن يهلل
فقول أبي الطيب «فإني بأسباب المعيشة أعلم» من هاهنا.
وما خلا أبو الطيب، في ذكر الفروسية والفخر بها، من أخذه من عنترة وعنترة بيانه من الأصل البياني الأول، الذي أسلوب الملاحم فرع منه، وذلك أنه لا يقص علينا سيرة بطل آخر يحاكي أفعاله بقول يزينه، ولكنه يقص سيرة نفسه علينا، يمزج بين الغرف من بحر تجربتها ومن المثل الأعلى، الذي هو حينًا من لبه- كما قال:
ذلل ركابي حيث كنت مشايعي
…
لبي وأحفزه بأمر مبرم
وحينًا من وصاة عمه- كما قال:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى
…
إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
وفي معنى عمه بعض الدلالة على ابنة عمه. وكأن العم كناية عن الحسب والشرف وابنة العم كناية عن المحبوبة- فالعم كما ترى هو الولي الذي يغار عليها ويشترط الشروط على من يلتمس الصهر عنده.
هذا وبعد أن قال أبو الطيب «صحبت في الفلوات الوحش مغتربًا» أعلن عزمه على الرحلة والفراق:
يا من يعز علينا أن نفارقهم
…
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
هذا هو البيت الرابع والعشرون. وبيت «القور والأكم» قبله هو آخر تخصير القصيدة، وهذا البيت أول قسمها الثالث. غير أننا نلفت نظر القارئ الكريم إلى تصرف تصرفه أبو الطيب في التخصير، هو من سنخ تخلصه في سائر أجزاء القصيدة. وذلك أنه وشح التخصير أو قل نطقه بأبيات كأنها خروج منه إلى القسم الثالث، ولكنها ليست بخروج، فطال بذلك التخصير بعض الطول للوصل الذي بينه وبين القسم الثالث وهو من عند قوله:
ومهجة مهجتي من هم صاحبها
…
أدركتها بجواد ظهره حرم
إلى قوله:
صحبت في الفلوات الوحش
…
وإنما زعمنا أن هذا نطاق لقوة الشبه بينه وبين ما يقع بحسب عادة الشعراء في القسم الثالث من الذكرى نحو: «وقد أغتدى والطير» في «قفا نبك» ونحو «قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم» في «هل ما علمت» . ولكنه ليس حقًا مبدأ قسم ثالث، إذ مبدأ القسم الثالث من عند «يا من يعز علينا». وفيه عودة إلى ما بدأ به التخصير وهو قوله «يا أعدل الناس إلا في معاملتي» وقد فصل هنا ما أجمله هناك:
يا من يعز علينا أن نفارقهم
…
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
فهذا إنذار طيه غضب. وقوله وجداننا إلخ يفهم منه أيضًا معنى:
«وجدانكم كل شيء بعدنا عدم» والبيت التالي قوي للدلالة على ذلك:
ما كان أخلقنا منك بتكرمة
…
لو أن أمركم من أمرنا أمم
قيل رماه سيف الدولة بدواة لما قال هذا فقال:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
…
فما لرجح إذا أرضاكم ألم
وهذا عين الألم. والبيت يحمل في نفسه طابع أنه جيء به على البديهة لاتصال البيت بعده بالبيت الذي سبقه، وهو كالمعترض، فلذلك حسن موقعه:
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة
…
إن المعارف في أهل النهى ذمم
ثم احتد أبو الطيب مرة أخرى. إذ مما أثار ذلك ذكر الذمم، وإخفارها مما يغضب له ويثار
كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم
…
ويكره الله ما تأتون والكرم
العتب هنا شديد مر. وأحسب أن هذا ما عناه أبو منصور إذ نعته بأنه داخل في باب إساءة الأدب بالأدب (الأدب الأولى من قولك أديب شاعر ناثر رواية هلم جرا والأدب الثانية أي حسن السلوك والتهذيب أو العكس) وقد يعتذر لأبي الطيب أن هذا موضع التفات، فيكون قوله «كم تطلبون لنا عيبًا» أراد به عيابيه عند الأمير. ويقوي هذا الوجه بيت الافتخار الذي يتلوه، إذ يحسن موقعه أنه أراد به مواجهة أعدائه لا سيف الدولة. وقد ذكروا أن ابن خالويه رماه بمفتاح فشجه. فنتساءل: هل التفت أبو الطيب التفات تعريض به أو أشار أو جاء بوحي في إنشاده بشيء من ذلك؟
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي
…
أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ليت الغمام الذي عندي صواعقه
…
يزيلهن إلى من عنده الديم
فالغمام سيف الدولة. ومن عنده الديم ابن خالويه وأبو فراس ولفهم. وليت تفيد محض التمني الأماني ضلال. فلم يبق لأبي الطيب إلا أن ينجو ويفارق:
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة
…
لا تستقل بها الوخادة الرسم
لئن تركن ضميرًا عن ميامننا
…
ليحدثن لمن ودعتهم ندم
قالوا وكان صاغه أولاً: «ليحدثن لسيف الدولة الندم» والكناية في هذا الموضع أجود من التصريح. ثم في «من ودعتهم» عموم يدخل فيه مع سيف الدولة من عسى أن لو شاء انتصر له.
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
…
ألا تفارقهم فالراحلون هم
إذ هذا يكون رحيل فراق القلوب. وقد كشف هذا المعنى من بعد إذ قال:
شر البلاد مكان لا صديق به
…
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
كأن يبقى للكسب بحيث لا ود ولا صديق. وما أسرع حينئذ ما يكون أعداؤه إلى الطعن فيه والحط من قدره. فتمكنهم مقاتله من حيث لا يحتسب ولا يقدر على جنة أو انتصار.
ثم يجيء الغضب، أنفًا من هذا الشر، ومن كسب يصم:
وشر ما قنصته راحتي قنص
…
شهب البزاة سواء فيه والرخم
هذا قريب من قوله «أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم» لأن في ألوان الرخمات. وإنما صيدهن الرمم.
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة
…
تجوز عندك لا عرب ولا عجم
فقد سلم أبو الطيب هنا بأن للعجم شعرًا. وما أرى دعاه إلى هذا التسليم إلا قصده إلى أن يجرد أعداءه من كل فضيلة يمت بها إلى بيان الشعر، ما عرفته العرب وارتضته وهو الشعر، وما زعمت أمم العجم له من ضروب بيانها أنه شعر. وقد كان كان أبو نصر الفارابي عالمًا بفلسفة يونان وشعرها، يدل على ذلك ما بسطه من قول عن القافية في الموسيقا الكبير. ولا يستبعد أن يكون أبو الطيب قد لقيه وأفاد منه علمًا. وقد ذكروا أنه كان كثير النظر في كتب الفلسفة: وهو بعد القائل:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
…
شاهدت رسطًا ليس والإسكندرا
ورأيت جالينوس دارس كتبه
…
متفلسفا متبديا متحضرا
وزعم الحاتمي أنه أخذ كل حكمه من أرسطو طاليس. وهذا باطل. فقد كان أخذ أبي الطيب من شعراء العرب قدمائهم ومحدثيهم على رأس هؤلاء المحدثين أبو تمام ثم ابن الرومي والبحتري وأبو نواس ومسلم وبشار ثم سائر المحدثين من بعد. وكان أبو الطيب بدقائق أسرار الشعر عالمًا.
ثم ختم القصيدة بقوله:
هذا عتابك إلا أنه مقة
…
قد ضمن الدر إلا أنه كلم
قوله مقة لا ريب يشير به إلى قوله في شعر له في سيف الدولة من قبل إذا ألمت به علة:
وقد يؤذي من المقة الحبيب
أي إن كرهت بعضه فاذكر آنه إنما دعاني به إليه حبك. وقوله: «قد ضمن الدر» جعله في مقابلة «بأي لفظ تقول الشعر» - أي هذا الذي أجيء أنا به هو الدر. أما هؤلاء فليس لهم من لفظ الشعر إلا الآجر والبعر وما أشبه. وبيت الختام فيه عودة إلى المعنى الذي استهل به. كما أن فيه إدلالة انتصار.
إن تك ميمية أبي الطيب هذه من أصل البيان الذي البيان المسرحي فرع منه، وقد بينا مرادنا من هذا القول، فإن بائية حبيب من أصل البيان الذي البيان الملحمي فرع منه. ولا نقول بمفاضلة بين الأصول بنحو مما يقول به نقاد الإفرنج من المفاضلة بين ما هو عندنا فروع من هذه الأصول. على أن نقاد الإفرنج قد قرنوا هو ميروس بالمسرحيين وربما فضلوه عليهم. وإلى نحو هذا القول ذهب نقاد الطليان في دانتي بحسب ما ذكرته الموسوعة البريطانية في الباب الذي عقدته للشعر.
هذا ومن جياد أبي الطيب التي شكلها من ذوات التخصير:
حتام نحن نساري النجم في الظلم
…
وما سراه على خف ولا قدم
وهي من فرائده وقلائده، كما كان يقول أبو منصور فيما يروم مدحه من إحسانه. وليست هذه القصيدة من حيث أغراضها حقًا في رثاء فاتك ولكنها في التأمل والحكمة ورثاء فاتك جيء به على وجه العظة والاعتبار. كما أن هجاء كافور جيء به في العينية التي رثى بها أبو الطيب فاتكًا لا لأن هجاءه من غرضها، ولكن لزيادة شعور التفجع
رثى بها أبو الطيب فاتكًا لا لأن هجاءه من غرضها، ولكن لزيادة شعور التفجع من طريق المقابلة، وذلك قوله:
قبحًا لوجهك يا زمان فإنه
…
وجه له من كل قبح برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
…
ويعيش حاسده الخصي الأوكع
أيد مقطعة حوالي رأسه
…
وقفا يصيح بها إلا من يصفع
أبقيت أكذب كاذب أبقيته
…
وأخذت أصدق من يقول ويسمع
وتركت أنتن ريحة مذمومة
…
وسلبت أطيب ريحة تتضرع
ثم رجع إلى الرثاء
هذا، والقسم الأول من القصيدة من قوله:«حتام نحن نساري النجم في الظلم» إلى قوله:
مكعومة بسياط القوم نضربها
…
عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
وقد زعم ابن رشيق أن أبا الطيب كان يعمد إلى التهيب بذكر الخيل ويؤثرها على الإبل.
وهذه القصيدة، والمقصورة
ألا كل ماشية الخيزلي
وغيرهما مما يشهد بأنه كما كان صاحب خيل كان أيضًا كثير الرحلة بالإبل وصافًا لها في شعره عارفًا بأصناف جيادها، من ذلك ذكره إبل البجاة الصهب وهي من أسرع الإبل وهو قوله:
وكل نجاة بجاوية
…
خنوف ومابي حسن المشي
ولكنهن حبال النجاة
…
وكيد العداة وميط الأذى
أستهل أبو الطيب بذكر السرى. فليله ليس كليل النابغة في:
كليني لهم يا أميمة ناصب
…
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وفي قوله:
كتمتك ليلاً بالجمومين ساهرًا
…
وهمين هما مستكنًا وظاهرًا
وليس كليل الراعي إذ قال:
ما بال دفك بالفراش مذيلا
…
أقذى بعينك أم أردت رحيلا
على أنه قد أخذ من النابغة قصة مراعاة النجم، ومنه ومن الراعي ومن غيرهما كالأسود ابن يعفر في:
نام الخلي وما أحس رقادي
شكوى السهر وفقد الرقاد.
بداية أبي الطيب المضمرة نسيب، وأحبابه هؤلاء الملوك الذين هم شر فجعًا وولعًا من سعاد كعب بن زهير وأكثر إخلافًا وتبديلاً.
وهو بعد القائل:
فراق ومن فارقت غير مذمم
…
وأم ومن يممت خير ميمم
هذا يقوله بلسان الجراء. ولكن هذه الميمية مخالطها الغضب والحزن وصرف الرجاء عمن كان ظنه موضعًا للرجاء.
لذلك كانت بدايته المظهرة بالسرى والرحلة والدأب، فرارًا من هذا الحب الكاسد الفاسد. بدايته كأنها بعد دموع كدموع علقمة ولكنها ليست بدموع شوق، ولكن دموع ملامة لنفسه على الذي سبق منه من الشوق. وبرحلة على عكس ما تمناه علقمة إذ قال:
هل تلحقني بأخرى الحي إذ شحطوا
…
جلذية كأتان الضحل علكوم
إذ هي رحلة فراق وفرار
حتام نحن نساري النجم في الظلم
…
وما سراه على خف ولا قدم
ولا يحس بأجفان يحس بها
…
فقد الرقاد غريب بات لم ينم
هذا المعنى نابغي مردود على بداية النسيب المضمرة، إذ ههنا هو بمصر ساهر يراعي النجم الذي في المطلع هو مرتحل يساريه. ولقائل إن يزعم أنه في البيت الأول بمصر
ومساراته فكرية مجازية وهذا الوجه يضعفه قوله من بعد:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا
…
ولا تسود بيض العذر واللمم
فهذا منبئ عن السفر. وقد شكا أبو الطيب وخط الشيب وجهه شكوى خفية حيث قال:
ومن هوى الصدق في نفسي وعادته
…
رغبت من شعر في الوجه مكذوب
لم يخل أبو الطيب من عقدة كافورية في هذا البيت وفي قوله من بعد:
وكان حالهما في الحكم واحدة
…
لو احكتمتا من الدنيا إلى حكم
ثم أخذ في السير. وبدأ ذلك بنوع من رثاء النفس. كأنه قد أحس ملالاً من طول الدأب الذي لا نهاية له. وكأنه قد جعل الماء رمزًا لهذا المعنى، وكأنه يرثي للماء من طول رحلته، آنا هو سائر في السحاب. وآنا آخر هو سائر في القرب على ظهور الإبل
ونترك الماء لا ينفك من سفر
…
ما سار في الغيم منه سار في الأدم
مكان الرمز في قوله (ونترك الماء لا ينفك من سفر) أي لولانا لكان قد استقر حيث يجد من الأرض قرارًا.
ثم أحس أبو الطيب أنفاس النجاة والحرية المخالطة لهذا السير، فوجد لذلك هزة طرب أريحي ونشوة من انتصار:
لا أبغض العيس لكني وقيت بها
…
قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
طردت من مصر أيديها بأرجلها
…
حتى مرقن بنا من جوش والعلم
تبرى لهن نعام الدو مسرجة
…
تعارض الجدل المرخاة باللجم
ههنا نفس من علقمة، إذ علكومه التي تمنى بها النجاة
كأنها خاضب زعر قوادمه
…
أجني له باللوى شري وتنوم
يظل في الحنظل الخطبان ينفقه
…
وما استطف من التنوم مخذوم
فوه كشق العصا لأيا تبينه
…
أسك ما يسمع الأصوات مصلوم
حتى تذكره بيضات وهيجه
…
يوم رذاذ عليه الريح مغيوم
ومن هذه الأبيات أصداء في قول أبي الطيب «ما سار في الغيم منه» وفي قوله «تبرى لهن نعام الدو» عنى بها الإبل وقد قرنها بالخيل من غير ما تفضيل للخيل عليها كما زعم له ابن رشيق وذلك في قوله «تعارض الجدل المرخاة باللجم» - وقوله من بعد «تخدى الركاب» وسنعود إن شاء الله إليه بالتنبيه في موضعه فيه أصداء من «يظل في الحنظل الخطبان إلخ» وقوله من بعد:
في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
…
بما لقين رضا الأيسار بالزلم
تبدو لنا كلما ألقوا عمائهم
…
عمائم خلقت سودًا بلا لثم
يعني لمات الشباب الغدافي
بيض العوارض طعانون من لحقوا
…
من الفوارس شلالون للنعم
قد بلغوا بقناهم فوق طاقته
…
وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
قوله في «غلمة» يحمل أنفاسًا من قول علقمة
وقد أصاحب فتيانًا طعامهم
…
خضر المزاد ولحم فيه تنشيم
يدلك دلالة قوية على أبا أن أبا الطيب لم يغب عنه قول علقمة إذ جعله نموذجًا آيات بينة منها قوله «رضا الأيسار بالزلم» وقبل بيت علقمة هذا قوله «لو ييسرون بخيل قد يسرت بها البيت» وقد قال علقمة بعد هذا البيت
وقد علوت قتود الرحل يسفعني
…
يوم تجيء به الجوزاء مسموم
حام كأن أوار النار شامله
…
دون الثياب ورأس المرء معموم
فقد ذكر أبو الطيب تسويد الشمس «بيض أوجهنا» المعنى الذي فيه العقدة الكافورية التي أشرنا إليهم آنفًا. ثم ذكر العمائم في قوله «تبدو لنا كلما ألقوا عمائهم» فدل على أنهم سافروا يقون أنفسهم بذلك من أوار الشمس كما قد صنع أصحاب علقمة.
ثم بما كان في نفسه من هوى الصدق وعادته نجد أبا الطيب ينبهنا أنه إما اقتدى بعلقمة تلميحًا كالتصريح وذلك قوله بعد هذا البيت «قد بلغوا بقناهم إلخ» :
في الجاهلية إلا أن أنفسهم
…
من طببهن به في الأشهر الحرم
قوله «في الجاهلية» تنبيه وإشارة إلى وصف شعراء الجاهلية الموامي والمياه الأواجن وصحبة القفار. وما ذكره هو خاصة في هذه القصيدة يومئ بإصبع إلى ميمية علقمة
ناشوا الرماح وكانت غير ناطقة
…
فعلموها صياح الطير في البهم
ناشوا هذه قرآنية من قوله تعالى {وأنى لهم التناوش} بهمز الواو وترك الهمز. وقال الراجز: -
باتت تنوش الحوض نوشًا من علا
…
نوشا به تقطع أجواز الفلا
وقوله فعلموها صياح الطير ينبئ عن تجربة وهو في قوله:
وملمومة سيفية ربعية
…
يصيح الحصى فيها صياح اللقالق
واللقالق ضرب من الطير. وأصل المعنى من عنترة: «تمكو فريصته كشدق الأعلم والمكاء صفير وصلة الصفير بالطير لا تخفى» .
تخذي الركاب بنا بيضًا مشافرها
…
خضرًا فراسنها في الرغل والينم
مكعومة بسياط القوم نضربها
…
عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
هذان البيتان نجد فيهما صدى من خطبان علقمة وتنومه الذي ينقف الظليم ما استطف منه وأبي سوط علقمة الذي ذكره في قوله: «تلاحظ السوط شزرًا وهي ضامرة، وهذا قبل بيت الظليم ونعته، إلا أن يكون له صدى منبئ عن أصل مكان الأخذ الذي أخذه أبو الطيب- وهو قوله «مكعومة بسياط القوم» وسائر البيت من قول حبيب:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا
…
فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ثم يأتي بعد ذلك القسم الأوسط من القصيدة. وقد صنع فيه صنعًا قريبًا مما صنع في «واحر قلباه ممن قلبه شبم» وذلك أنه جاء بالتخصير المحض ثم وشحه قبل أن يصير إلى القسم الثالث من القصيدة الذي هو نهايتها وأوله «توهم القوم» .
أول التخضير «وأين منتبه» . وأنزل رثاء فاتك منزلة العظة والاعتبار والحكمة:
وأين منبته من بعد منبته
…
أبي شجاع قريع العرب والعجم
لا فاتك آخر في مصر نقصده
…
ولا له خلف في الناس كلهم
من لا تشابهه الأحياء في شيم
…
أمسى تشابهه الأموات في الرمم
عدمته وكأني سرت أطلبه
…
فما تزيدني الدنيا على العدم
هاهنا مرارة بالغة كأن قد عاد بها عودًا قاتمًا إلى قوله من قبل:
ونترك الماء لا ينفك من سفر
…
ما سار في الغيم منه سار في الأدم
إلى مه وإلى من هذا السير وقد عدم فاتكًا. وما أمامه إلا العدم وكأنما هو سائر بآماله إليه هل عند الدنيا زيادة على هذا العدم يبتغي أن تزيده إياها؟ فيم هذا العناء وإلام هذا السير؟
ومتصل بالسير ذكر الإبل. وفيه أنفاس من ذكريات الماضي ومن هاهنا مبدأ التوشيح والتنطيق:
ما زلت أضحك إبلي كلما نظرت
…
إلى من اختضبت أخفافها بدم
أسيرها بين أصنام أشاهدها
…
ولا أشاهد فيها عفة الصنم
جاء ذكر الأصنام وتفسير رمزها أوضح في المقصورة حيث قال:
وقد ضل قوم بأصنامهم
…
وأما بزق رياح فلا
ومراده بالأصنام هنا كافور وكثير غيره ممن قصدهم ولم يجدهم عندهم إلا قليلاً مما كان يأمله كأنه لا شيء. ولعله لا يخرج سيف الدولة كل الإخراج من نفحة هذا الذم. إلا أن قصده إلى كافور أوضح، لأن عهده به كان أقرب، وأمله فيه كان أضخم لما كان يعتقده في نفسه من نقص فيه ربما ييسر له سبيل ذلك. فكانت خيبة ذلك الأمل شديدة مرارة الوقع.
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
…
المجد للسيف ليس المجد للقلم
وما كان مجد كافور بالسيف ولكن بالدهاء مع الذكاء
اكتب بنا أبدًا بعد الكتاب به
…
فإنما نحن للأسياف كالخدم
أسمعتني ودوائي ما أشرت به
…
فإن غفلت فدائي قلة الفهم
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
…
أجاب كل سؤال عن عل بلم
فهذا آخر التخصير وماله من وشاح
وآخر القصيدة ذكريات وحكمة وعزاء وأسى واعتذار عن هذا الدأب الذي إنما هو عناء وضياع وقت في غير ما طائل:
توهم القوم أن العجز قربنا
…
وفي التقرب ما يدعو إلى التهم
القوم هم كافور وسائر الملوك ولعل القصد إلى سيف الدولة هنا أظهر لأن دلالة ما يلي من الأبيات عليه أقوى:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
…
بين الرجال وإن كانوا ذوي الرحم
هنا إشارة إلى بيت طرفة
فلا زيارة إلا أن تزورهم
…
أيد نشأن مع المصقولة الخذم
من كل قاضية بالموت شفرته
…
ما بين منتقم منه ومنتقم
صنا قوائمها عنهم فما وقعت
…
مواقع اللؤم في الأيدي ولا الكزم
فسروا هذا البيت بأن المراد أنهم لم يسلبونا سيوفنا، فقد نجونا منهم وهي بأيدينا التي لا هي ذوات قصر ولا بذوات لؤم. والكزم قصر اليد. ومعناه هنا الجبن لأن الشجاع يمضي قدمًا كما قال قيس بن الخطيم:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
…
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وفي القاموس: «وككتف الرجل الهيبان» أي الهيوب والكزم بالتحريك البخل وقصر في الأنف والأصابع. وفي قول أبي الطيب معنى القصر والبخل والجبن جميعًا. وعندي أن قوله صنا قوائمها كأن قد قال صناها عنهم ثم اعتذر بأن ذلك لم يكن بسبب أن قوائمها وقعت من أيدينا موقع لؤم وجبن. وأضرب أبو الطيب عن ذكر السبب الذي من أجله صان سيوفه عن تضريب أعناق هؤلاء الملوك. وقد كان قال من قبل:
وجنبني قرب السلاطين مقتها
…
وما يقتضيني من جماجمها النسر
وقال:
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى
…
لك الهبوات السود والعسكر المجر
وكأن أبا الطيب بقوله: «صنا قوائمها عنهم» يتندم على تركه قتالهم واستبداله ذلك بالتقرب منهم فحسبوه عجزًا «وفي التقرب ما يدعو إلى التهم» وكأنه يعتذر مع ذلك بأن ما ترك من قتلهم أو قتالهم إنما كان صيانة لهذه السيوف. فإلى متى هذه الصيانة؟ لا عجب إذن أن بادر أعداؤه فقتلوه مرجعه من عضد الدولة. فقد جمع من المال وبعد السمعة ما كان عسى أن يهيئ له سبيل الوثوب- على أني أرجح أن هوس طلب السلطان الذي اتهمه به أبو منصور ما كان إلا أحلام شاعر وأن معاركه التي خاضها أو كان ينبغي بعد أن يخوضها ما كانت إلا معارك هذا القريض. وصدق الله عز وجل: {يقولون ما لا يفعلون} .
هون على بصر ما شق منظره
…
فإنما يقظات العين كالحلم
برفع منظره أي ما بدا شاقًا كريهًا فليهن أمره عندك إذ هذه الدنيا ما هي إلا حلم، ومن نصب منظره عمم المعنى، أي كل ما تراه فليهن عليك إذ حقائق هذه الدنيا كباطل الأحلام
ولا تشك إلى خلق فتشمته
…
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ذكر الغربان مفردها وجمعها كثير عند أبي الطيب. وهنا لا يخلو من أن يكون فيه صدى من غربان علقمة التي هي طير في أول الميمية (عقلاً ورقمًا تظل الطير تخطفه) وهي غربان سافرة في آخرها حيث قال: (ومن تعرض للغربان يزجرها البيت)
وكن على حذر للناس تستره
…
ولا يغرك منهم ثغر مبتسم
هذا المعنى يتكرر عند أبي الطيب «إذا رأيت نيوب الليث» «ولما صار ود الناس خبا»
ولا تشك إلى خلق فتشمته
…
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
وكن على حذر للناس تستره
…
ولا يغرك منهم ثغر مبتسم
غاض الوفاء فما تلقاه في عدة
…
وأعوز الصدق في الأخبار والقسم
ثم تبلغ الحكمة ذروتها في قول بعد، ويخالط ذلك نفس المأساة والغناء الحزين: -
سبحان خالق نفسي كيف لذتها
…
فيما النفوس تراه غاية الألم
الدهر يعجب من حملي نوائبه
…
وصبر نفسي على أحداثه الحطم
يقول شكسبير في كلمته المشهورة على لسان هامليت: (3 - 1 - س 56 - 90)
To be or not to be: That is the question
البقاء أم اللابقاء- ذلك هو السؤال
في السطر (76)
…
... who would fardels bear،
من كان يحتمل هذه الأعباء (1)
…
هل اطلع شكسبير على قول أبي الطيب: «الدهر يعجب من حملي نوائبه؟ » أليست في حكمته في هذه القطعة من مشهور قوله أنفاس من أصداء حكمة أبي الطيب:
وقت يضيع وعمر ليت مدته
…
في غير أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته
…
فسرهم وأتيناه على الهرم
فيزعم بعض البلاغيين أنا ها هنا إيجازًا بالحذف أي فساءنا والمعنى يفسد بهذا التفسير، والصواب أن نأخذه كما أعطاه الشاعر، ومن أتبعه «فساءنا» تفسيرًا له فقد حد من سعة آفاقه.
ما أشد تقلب قلوب البش ولا سيما الشعراء. قد قال أبو الطيب في مقطوعة له نونية نظمها بمصر قبل نظمه هذه الميمية:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
…
وعناهم من شأنه ما عنانا
تولوا بغصة كلهم منـ
…
ـه وإن سر بعضهم أحيانا
فهل أراد بقوله: «أتى الزمان بنوه في شبيبته فسرهم» تفسير قوله من قبل «وغن سر بعضهم أحيانا» فهؤلاء البعض، إنما كان سرورهم على زمان شبابه وهو المرموز له بقوله «أحيانا» ، أو رجع أبو الطيب عن ذلك القول بنسبة العناء والشر إلى زمانه هو؟ ها هنا تقلب قلب الشاعر. وذلك أن روح الميمية روح حزن وغضب وهجاء.
وقد صار من بكاء فاتك وهجاء حاسده الخصي الأوكع إلى الأسف على نفسه والعبرة بموت فاتك وهجاء الناس كلهم، فكلهم خصي أوكع ودهرهم هرم برم.
وما خلا أبو الطيب في اختتامه هذه الميمية الرائعة بالزمان الهرم من تأثر بأواخر أبيات ميمية علقمة حيث ذكر النوق الحسان ومعها صغارها تتزعم ووراءها فحل أكلف مختبر كثير اللحم.
(1) وأن ينوء بأعباء الحياة لولا خوفه ما بعد الموت إلى آخر ما قاله. وقد أدخل فيه من معنى قول أبي الطيب «فإن لثالث الحلين معنى» . انظر ما يلي.
فحل علقمة فتي قوي ضخم كالفيل أسود كالليل الظليل ليس بأسيود رهل خصي رخو مداهن ككافور وأشباه كافور ممن ليسوا بسود ولا خصيان ولكنهم - أو كما قال:
كأن الأسود اللابي فيهم
…
غراب حوله رخم وبوم
رحم الله أبا الطيب. إنما كان شارعًا عظيم الخيال ضعيف المحال.
وقد كان ناقدًا ذواقة مبينا عالما بمكان نفسه من ذلك كله عالما أيضًا بأنه غير مصيب على ما يحسنه من جزاء مكافئء له. وقد أحسن إذ يقول لسيف الدولة:
ومالي ثناء لا أراك مكانه
…
فهل لك نعمى لا تراني مكانها
وفي هذه النونية أبيات جياد في نعت بعض ما كان من زخارف وتصاوير على ما أهدى له سيف الدولة من ثياب الدياج.
ترينا صناع الروم فيها ملوكها
…
وتجلو علينا نفسها وقيانها
ولم يكفها تصويرها الخيل وحدها
…
فصورت الأشياء إلا زمانها
وهذا من عجيب القول وبعيد أغواره إذ الزمان هنا عنده بعد من الأبعاد عجز الرسام أن يقيده أو يرمز له بقيد كما قد فعل بالبعاد المكانية.
وما ادخرتها قدرة من مصور
…
سوى أنها ما أنطفت حيوانها
فهذا ينقل معني حيوية ما صورته من حيوان إذ لم تدخر قدرة تصويرية إلا أتت بها إلا أن ينطق الحيوان. وما خلا أبو الطيب هنا من أخذ دقيق من قول أبي عبادة
يغتلى فيهم ارتيابي حتى
…
تتقراهم يداي بلمس
هذا
ومن أعجب شعر أبي الطيب ميميته:
ملومكما يجل عن الملام
…
ووقع فعاله فوق الكلام
وهي قصيدة عتابية، عاتب بها كافورا كما عاتب سيف الدولة «بواحر قلباه» من قبل، غير أنه رام فيها أن يكون ألأبق، وأبعد عن تهمة إساءة الأدب بالأدب، فلم يكافح كافورا بخطاب. كلا ولم يقارب أن يكافحه بتلميح. ومع هذا فقد روى عنه أنه
قال «كنت إذا دخلت على كافور أنشده، يضحك إلى ويبش في وجهي حتى أنشدته هذين البيتين يعني:
فلما صار ود الناس خبا
…
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن اصطفيه
…
لعلمي أنه بعض الأنام
فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا. فعجبت من فطنته وذكائه». قلت إن صحت هذه الرواية فإنها لا تدل على ذكاء كافور ولكن على غفلة أبي الطيب، إذ البيتان واضحا الدلالة على إرادته كافروا إن صح ما ذكره عنه أنه كان يضحك إليه ويبش في وجهه وبعيد عن أبي الطيب أن يكون في مثل هذا الموضع صاحب غفلة.
وفي هذه القصيدة أشياء تعمد بها التعريض بالفراق. وأشياء أفلتت منه فيها تعريض بالهجاء. وينبه ها هنا على أن أبا الطيب لم يضمن شيئًا من الهجاء في كلماته اللواتي أرادهن مدحًا لكافور. ومن زعم ذلك له، ونسب في ذلك رواية عنه، فإن ذلك يناقض ما في هذا الخبر من إقراره بذكاء كافور. اللهم إلا أن يزعم زاعم أن أبا الطيب قد ضمن مدح كافور هجاء في طيه له، ولم يكن يخطر بباله أن كافورا من أجل سواده وانه مع ذلك خصي له من الذكاء ما يفطن به إلى ذلك، فلما تبين له أنه قد فطن له، عجب لذلك. فإقراره الذي أره بالعجب لا باعتقاد وجود الذكاء.
هذه القصيدة محكمة اتصال المعاني والأبيات. وهي مع ذلك من الضرب المخصر. شأنها فيه شأن: «واحر قلباه» و» حتام نحن نسارى النجم في الظلم». وقد قدمنا أن أصل نظره في ذلك إلى «بانت سعاد» في «واحر قلباه» ثم سواها من الشعر القديم ونظره في «حتام نحن نسارى النجم» إلى ميمية علقمة أشد. ولعلنا لا نباعد إن زعمنا أن من بواعث تأثر أبي الطيب لامية كعب، سابقة تأثره بالتصوف. وفي بعض مدائح صباه ما هو من سنخ كلام المتصوفة كقوله:
يأيها الملك المصفى جوهرا
…
من ذات ذي الملكوت أسمى من سمى
نور تظاهر فيك لاهوتية
…
فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
ويهم فيك إذا نطقت فصاحة
…
من كل عضو منك أن يتكلما
أي النور اللاهوتي
أنا مبصر وأظن أني نائم
…
من كان يحلم بالإله فأحلما
كبر العيان على حتى إنه
…
صار العيان من العيان توهما
ومن سنخ المدائح النبوية قوله:
لقد حسنت بك الأوقات حتى
…
كأنك في فم الدهر ابتسام
وأعطيت الذي لم يعط خلق
…
عليك صلاة ربك والسلام
وإنما لم يعط خلق ما اعطيه هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبو الطيب يعلم حديث الشفاعة- وفي القصيدة قبل هذين البيتين مما معدنه ديني قوله:
تحايده كأنك سامري
…
تصافحه يد فيها جذام
والضمير في تحايده يعود على المال. والجذام مبالغة لأن السامري أمره أن يقول لا مساس نافرًا من كل الناس.
إذا ما العالمون عروك قالوا
…
أفدنا أيها الحبر الإمام
فلما جعله حبرًا وإماما، قارب به النبوة فزعم أنه أعطى ما لم يعطه الله خلقا غيره.
ويجوز لمن يعتذر لأبي الطيب أن يزعم أنه لم يرد ممدوحه العجلى بهذا ولكنه التفت إلى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام وجعل ذلك ختام مسك. وهو جواز ذو بعد.
وقول أبي الطيب: «أنا مبصر وأظن أني نائم» يستوقفني منه كسماع أصداء منه في قول شكسبير.
Is this adagger I see before me
…
..
أهذا الذي أراه أمامي أخنجر هو ....
(انظر الفصل الثاني -المنظر الأول ص 33 - 40 من ماكبيث)
الكلمة التي يزعم بها أنه يرى شبح الخنجر الذي يريد أن يرتكب به جريمة الغدر» بدنكان» الملك. وهو بعد باب من البحث لا يتسع له مجال هذه الفصول.
وما أشك أن أخذ شكسبير من أبي الطيب خاصة ومن أبي تمام وشعراء آخرين كثير وينبغي أن يدرس ويكشف عنه.
مثلا قال أبو الطيب:
كريم نفضت الناس لما رأيته
…
كأنهم جف من زاد قادم
قال شكسبير
Time hath، my lord، awallet at his back
Wherein he puts alms for oblivion
(الفصل 3 انظر س 145 - نزويلس وكوسيدا)
«الدهر على ظهره خريطة، يضع فيها أزواد الصدقة لتنسى» .
ومما يشعر من بالأخذ هنا أن المكدي الذي يشبه شكسبير الزمان به هاهنا يضع ما يعطاه من صدقات (وإنما ذلك الخبر الجاف ونحوه) للنسيان. والسائل لا ينسى ما تصدق به عليه ولا يدعه للنسيان. إنما الذي يطرح زاده من حقيبته وينفض ذلك نفضا هو القادم الواجد القرى والضيافة. وفي القطعة الشكسبيرية ما ينم بمعنى الضيافة، إذ شبه الزمن فيما بعد بصاحب الخان وهذا كما تقدم باب مجال القول فيه سوى هذا الموضع.
القسم الأول من القصيدة فيه، في أول بيت وهو المطلع:
ملومكما يجل عن الملام
…
ووقع فعاله فوق الكلام
نفس نهاية للنسيب. واللائمان هما صاحبا المرئ القيس اللذان صارا صحبا كثيرين في قوله:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
وهما صاحبا بشار اللذان قال لهما:
واسقياني من ريق بيضاء ورد
وهما صاحبا أبي نواس:
أيها الرائحان باللوم لوما
وهما الشاعر نفسه جرد من نفسه آخر فصارا اثنين وثلاثة، يلومونه إذ وقف على الطلل ثم بعد أن بكى واستبكي لم يجد شفاء إلا أن ينخرط في السير. وحبوب أبي الطيب الذي وقف على طلله هو الأمل الذي خاب عند كافور كما خاب عند كثيرين ممن حسن الظن فيهم وعقد الرجاء عليهم من قبل:
ذراني والفلاة بلا دليل
…
ووجهي والهجير بلا لئام
فإني أستريح بذي وهذا
…
وأتعب بالإناخة والمقام
عيون رواحلى إن حرت عيني
…
وكل بغام رازحة بغامي
جعل نفسه ورواحله شيئًا واحدًا. وهذا المعنى الذي في شعر الجاهلين جاء به أبو الطيب ها هنا بارزا مكشوفا. وقوله «إن حرت عيني» أي هن يهتدين لأنهن يشممن الماء ويعرفن موارده فإذا حرت فتكفيني هداية عيونهن.
وقوله: «وكل بغام رازحة» إنما أردا به الإشارة على قول العبدي!
إذا ما قمت أرحلها بليل
…
تأوه آهة الرجل الحزين
فآهتها بغامها وهو الرجل الحزين. وأما قول التبريزي: «وصوتها إذا احتجت إلى أن أصوت ليسمع الحي يقوم مقام صوتي، وإنما قال بغامي على الاستعارة» (شرح البرقوقي 4/ 273 - تصوير بيروت) - فوجه واضح والتبريزي أقرب إلى زمان أبي الطيب منا، وليس الذي قاله بمبعد معنى الإشارة الذي ذكرناه، وقد سبق منا القول إن أبا الطيب كان يخفي إشاراته ولا يظهرها إظهار أبي تام إلا ما قل من ذلك.
فقد أرد المياه بغير هاد
…
سوى عدى لها برق الغمام
يذم لمهجتي ربي وسيفي
…
إذا احتاج الوحيد إلى الذمام
ولا أمسى لأهل البخل ضيفا
…
وليس قري سوى مخ النعام
يعني وليس من قرى يلفى إذ النعام لا مخ له. ومن روى مح النعام بالحاء يعني بيض النعام ويعرفون كيف يهتدون إليه فيكره من يطاردهم اتباعهم. والمح «صفار» البيض وأطلقه على البيض كله، وكذلك يقال في ناحية «بحر أبيض» (أي النيل الأبيض) عندنا للبيض إذ يباع «المح المح» إلا أنهم يكسرون الميم.
وهذا البيت فيه مواجهة لكافور وتعريض به بالبخل، وقد كشف هذا المعنى في هجائه الصريح له من بعد. ثم يقول:
ولما صار ود الناس خبا
…
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
…
لعلمي أنه بعض الأنام
يحب العاقلون على التصافي
…
وحب الجاهلين على الوسام
أي أنت لست بحسن الوسام من أجل ذلك، ولكني إنما أحببتك رجاء التصافي بيننا، هذا هو المعنى المستكين، وتعمده أبو الطيب، وأراد به عتاب كافور فقارب توبيخه، على شدة ما احترس.
ثم جاء بالدواهي، وكأن قد تعمد ذلك إذ قال من بعد: -
وآنف من أخي لأبي وأمي
…
إذ لم أجده من الكرام
ولم يكن له أخ من أب وأم. وإنما كان أقرب الناس إليه جدته التي فيها قوله:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
…
لكان أباك الضخم كونك لي أما
وما يخلو قوله من معنى فكيف بم أيها العبد الزنيم
أرى الأجداد تغلبها كثيرا
…
على الأولاد أخلاق اللئام
أي إذا لؤمت أخلاق الأولاد، وهذا كثير، غلب لؤمها شرف أنساب أجدادهم. هذا ظاهر المعنى. ولكن خطاب كافور به قد تشتم منه رائحة تفريع قول قائل، فكيف بالأمر إذ ساءت أخلق الأولاد مع النسب الدنئ المجهول؟
ولست نقانع من كل فضل
…
بأن أعزي إلى جد همام
فأنا لا أهتم بالنسب ولا أفتخر به. وإنما لا نسب لك. وأنا قد اخترتك فاشكر لي هذا الاختيار
قد اخترتك الأملاك فاختر لهم بنا
…
حديثا وقد حكمت رأيك فاحكم
فأحسن وجه في الورى وجه محسن
…
وأيمن كف فيهم كف منعم
وأشرفهم من كان أشرف همة
…
وأكبر إقداما على كل معظم
ثم يعود أبو الطيب بعد هذه الحكمة التي طيها ما ترى من هفوات إلى التعريض بالفراق:
عجبت لمن له قد وحد
…
ويبنو نبوة القضم الكهام
هذا سيف الدولة، لذكر القد ولم يكن لكافور من قد، ولذكره الحد والحد للسيف الماضي. والقضم الكهام هو السيف الرديء، به تقليل من رداءة حديده، وكهام أي غير قاطع.
ومن يجد الطريق إلى المعالي
…
فلا يذر المطي بلا سنام
هذا عنى به نفسه، إذ هو صاحب الأسفار. وفي هذا من قوله ما زعمنا من التعريض بالفراق والتهديد.
ولم أر في عيوب الناس شيئًا
…
كنقص القادرين على التمام
هذا عنى به كافورا، والدليل على ذلك قوله «في عيوب الناس» ومن قبل قد قال:«ولما صار ود الناس خبا» والرواية التي رووا سواء أصحت أملم تصح تشهد بأن المعنى بالناس ثم هو كافور، فذلك ينساق على معناها أيضًا في هذا البيت. ودليل آخر ما كان يتوهمه أبو الطيب في كافور من القدرة على أنيهبه ضيعة أو ولاية وأن يجعله
سيدا على مصر ثم على الناس جميعا - أليس يقول له:
لك الحيوان الراكب الخيل كله
…
وان كان بالنيران غير موسم
وهذا الذي يرى فرسان كافور وأجناده وعظماء دولته جميعا هو الحيوان الراكب الخيل، ماذا عسى أن يكون رأيه في كافور نفسه؟
هذا آخر القسم الأول.
ويبدأ القسم الثاني من عند قوله: «أقمت بأرض مصر» . وهو من عزيز الحكمة جاء فيه بوصفه الباهر التأمل للمحى:
أقمت بأرض مصر فلا ورائي
…
تخب بي الركاب ولا أمامي
كافور عن التمام أنه خام دون الثقة به وتبليغه ما كان يؤمله منه أو بعضه من تنويل ضيعة أو ولاية. والذي سأله أبو الطيب ليس ببدع أن يعطاه شاعر فقد ولى أبو تمام بريد الموصل. فكأن أبا الطيب بهذه الوثبة يلفتنا إلى ما آلت إليه حاله من السقم بعد ما كان له من تأميل عند قادر مستطيع تحقيقه، ولكنه عجر عن ذلك- وهذا يا للأسف من عيوب طبيعة البشر.
ولعلك أيها القارئ الكريم قد ترى كيف صار ما كان أوجزه أبو الطيب في معاتبته سيف الدولة إذ قال:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
…
ومن لجسمي وحالي عنده سقم
ههنا مفصلا مشروحا.
ضعف أبي الطيب وحسرته عند كافور، ذلك الذي أحوجه إلى شرحه سقم جسمه وحاله، شرحا مفصلا يستدر به عطف هذه القلوب القاسية.
وملني الفراش وكان جنبي
…
يمل لقاءه في كلل عام
قليل عائدي .......
ولو كان أثير المكان عند دولة كافور لكان عوداه قد كثروا
. سقم فؤادي .....
هذا كأنه تكرار لقوله من قبل «واحر قلباه»
كثير حاسدي، صعب مراي
هنا انتفاضة مما سبق مما كأنه قد استكان به.
ولكن أبت الحمى إلا أن تضرعه:
عليل الجسم ممتنع القيام
…
شديد السكر من غير المدام
هذا يدل على أنه هذي. وقد كانت قلة العواد بهذا له رحمة، إذ لم يكن هذيان مثله ليسلم من معاني ما أخذ فيه بعد من مسالك الهجاء المقذع المر. قوله شديد السكر هو شاهد الهذيان، وحمى الورد -وهي التي يقال لها الآن الملاريا- مما يكون معها الهذيان.
وزائرتي كأن بها حياء
…
فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا
…
لعافتها وباتت في عظامي
وكذا تفعل حنى الورد
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
…
فتوسعه بأنواع السقام
من فتور وصداع وانقباض نفسي وصنوف أوجاع
إذا ما فارقتني غسلتني
…
كأنا عاكفان على حرام
انتقده بعضهم بأن الحرام ليس بأخص أن يغتسل منه من الحلال وأحسن ابن الشجري الدفاع عنه إذ قال وإنما خص الحرام لأنه جعلها زائرة غريبة ولم يجعلها زوجة ولا مملوكة. [انظر شرح البرقوقي 4 - 276/ 277 - الهامش] قلت أفسد ابن الشجري إحسانه شيئًا بذكره الزوجة والمملوكة. وقد أعلمنا أبو الطيب أن زائرته هي الحمى بقوله كأن بها حياء لها إذ ليست مما يوصف بذلك ولما صار على ذكر العرق وإنها غسلته به، رد ذلك إلى معنى الزائرة، ولا يكون الكلام إلا كما قال: كأنا عاكفان على حرام «ومفهوم» أنها زائرة مجازية ليست بعاكفة معه على شيء غير هذا السقم الذي هذه صفته. فذكر الزوجة والمملوكة هنا لا معنى له. ونقد من نقده بأن الحلال ليس بأخص من الحرام. تافه باطل.
كأن الصبح يطردها فتجري
…
مدامعها بأربعة سجام
وهذا تأكيد للمعنى التشبيهي المتقدم- لما جعلها غاسلة له، وذلك لامتناع قيامه، جعلها باكية لفراقه وذلك لشدة شغفها به، وقد تقدم قوله:«فعافتها وباتت في عظامي» . ولما جعل لها بكاء المحب الشديد الشغف ومن قبل قال: «كأنا عاكفان على حرام» صح أن يصف نفسه على وجه التشبيه، بحال المشتاق، وإن كان حقا ليس بمشتاق ولكن مترقب أمر محتوم ليس منه من مفر.
أراقب وقتها من غير شوق
…
مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصدق شر
…
إذا ألقاك في الكرب العظام
وكم ألقاه صدقه هو في الكرب العظام.
وقد ترى كيف مزج نعته الحمى بالحكم، بل نعته نفسه من الحكمة
وهذا آخر التخصير. ويبدأ القسم الثالث من بعد وأوله مخاطبة الحمى، مع التزام مذهب الأوائل في جعلهم بداية هذا القسم بالذكرى وإتباع ذلك ما يناسبها من أغراض البيان كما رأيت من قول علقمة.
قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم
…
والقوم تصرعهم صهباء خرط
وقول امرئ القيس:
وقد أغتدى والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وما أشبه ذلك.
قال أبو الطيب:
أبنت الدهر عندي كل بنت
…
فكيف وصلت أنت من الزحام
عندي كل بنت هو موضع الذكرى، وما جعله بمنزلة «وقد أشهد» «وقد أغتدى» وهلم جرا
جرحت مجرحا لم يبق فيه
…
مكان للسيوف وللسهام
وهنا موضع تمني الخلاص منها والشفاء والنجاة والانطلاق والحرية والفراق:
ألا ياليت شعر يدي أتمسي
…
تصرف في عنان أو زمام
فقد سوى بين الخيل والإبل كما ترى، ثم عول من بعد على الإبل، خلافا لما زعم ابن رشيق من إيثاره الخيل:
وهل أرمي هواى براقصات
…
محلاة المقاود باللغام
فربتما شفيت غليل صدري
…
بسير أو قناة أو حسام
وضاقت خطة فخلصت منها
…
خلاص الخمر من نسج الفدام
وفارقت الحبيب بلا وداع
…
وودعت البلاد بلا سلام
يجوز أن يكون مراده بالحبيب معنى ما درج عليه من الكناية عن الممدوح بالمجبوب، ويجوز -والله تعالى أعلم- أن يكون له حبيب بحلب فارقه بلا وداع. وقوله بلا سلام: أي خائفا محاربا.
هذا وفي البائية «أغالب فيك الشوق» ما يفيد أنه ترك وراءه أسرة وأهلا:
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم
…
وأين من المشتاق عنقاء مغرب
وأستبعد أن يكون يعني هؤلاء. فمن زعم أنه أحب امرأة بعينها بحلب من آل سيف الدولة فربما احتج بهذا البيت. وهذا أيضًا مما استبعده.
وعسى بعضه أن يكون مرده إلى روح «رومنسية» عصرنا الحديث.
يقول لي الطيب أكلت شيئًا
…
وداؤك في شرابك والطعام
عاد إلى معنى «بنت الدهر» التي خاطبها قبل
وما في طبه أني جواد
…
أضر بجسمه طول الجمام
ولعل أبا لطيب لو رأى عصرنا هذا الحديث أن يعجب لغلو الطب الآن في كراهية طول الجمام والنصح بالرياضة البدنية ولعجب من كثرة من يهرولون كل صباح من غير دواعي العجلة خوفا من أن يفاجئهم الموت إن لم يفعلوا ذلك.
وما في طبه أني جواد
…
أضر بجسمه طول الجمام
تعود أن يغبر في السرايا
…
ويدخل من قتام في قتام
فأمسك لا يطال له فيرعى
…
ولا هو في العليق ولا اللجام
لعل ابن رشيق أن يقول -لو أمكنه ذلك- إن مما يدل على إيثار أبي الطيب الخيل تشبيه نفسه بالجواد هاهنا ولم يشبهها ببكر أو فنيق. ويرد على مثل هذا أن التشبيه بالجواد في باب هذا المعنى الذي قصد إليه أصح.
وإذ قد وضحت لأبي الطيب أسباب علته وسقمه، فإن ذلك أول سبيل الشفاء:
فإن أمرض فما مرض اصطباري
…
وإن أحمم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن
…
سلمت من الحمام إلى الحمام
الأمل كل الأمل في البيت الأول. ومع الأمل انتفاضة العزم والتصميم. ولكن البيت الثاني فيه التأمل ومع التأمل الأسى واستشعار مأساة المصير -وقد صدق ما سلم من حمام الحمى إلا إلى حمام مقتله بدير العاقول:
تمتع من سهاد أو رقاد
…
ولا تأمل كرى تحت الرجام
ومعنى تشبيه الموت بالنوم في الشعر- ومقبال شكسبير على لسان هامليت (3 - س 1 - س 53 - 61)
To die: to sleep
No more; and by asleep، to say we end
The heart ache
…
«إنما الموت كالنوم ليس غير، أليس بالنوم تنتهي أوجاع القلب.»
لا يخلو من سهاد أو رقاد
…
ولا تأمل كرى تحت الرجام
أي القبر.
فإم الثالث الحلين معنى
…
سوى معنى انتباهك والمنام
وكونه مختلفا عن المنام هو ما أراده الشاعر الإنجليزي شكسبير بقوله: «3 - 1 - س 65»
To sleep: perchance to dream، ay. There's the rub
«منام وربما أحلام، أمر ما هنالك» .
ومع أن مثل هذه المعاني مشترك بين البشر، مع ذلك لا نشك في أن شكسبير بلغه من علم آداب العربية في شعرها ونثرها وفي شعر أبي الطيب خاصة ما ولد منه كثيرًا من محاسنه أو أخذه أخذا.
قول أبي الطيب «فإن لثالث الحالين معنى» ، ليس منشأه من فلسفة قلب زنديق أو نزعة إلحاد، لكنه من باب الفطنة والحكمة والتأمل والموعظة الحسنة مع ما يلابسه من حزن الشك العميق. فقل هذا من قبيل النزغ الذي نزل فيه قول الله تعالى:«وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم» .
وقد جاء أبو الطيب بهذا المعنى الوجز جدًا ههنا أكثر تفصيلا في قوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم
…
إلا على شجب والخلف في الشجب
أي الهلاك
فقيل تخلص نفس المرء سالمة
…
وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا وغايته
…
أقامه الفكر بين العجز والتعب
وهذه الخاتمة أنسب للرثاء. وقوله: