الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرت بنا بين سربيها فقلت لها
…
من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى
…
ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا
فهذا احتيال احتال به أبو الطيب فخرج إلى مدح المغيث.
وقال بشر إنها رأت رأسي لا شعر به أملس كأفحوص القطاة، وليس ذلك لأن منعما من على فجز ناصيتي إني من معشر أولى قتال.
أجبنا بني سعد بن ضبة إذ دعوا
…
ولله مولى دعوة لا يجيبها
فهذا اقتضاب مع الخروج الذي صار به الشاعر إليه. إذ الغزل ونشوته قد وطأت إلى ذكر القتال وتحدي الشاعر لبني سعد بن ضبة.
ولو رجعت إلى قول حسان بن ثابت:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني
…
فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
…
ونجا برأس طمرة ولجام
فههنا مع احتياله بالخروج الذي خرجه نوع «من اقتضاب» هيأ له الغزل قبله، إذ هو خصومة وقتال.
وعلى هذا الوجه يصح زعم ابن رشيق أن العرب الأولين لم يكن شعراؤهم يستعملون الخروج كاستعمال أبي الطيب وأبي تمام والمحدثين له، لأن هؤلاء كانوا يخرجون به كل الخروج، أما ما جاء منه في كلام القدماء كما عند حسان فله اتصال معنوي ما، على النحو الذي ذكرناه منه. أو على تضمين خطاب للمحبوبة بما سيأتي كما صنع الحادرة بقوله «فسمي» ولبيد بقوله:«بل أنت لا تدرين» وما أشبه. ومن أوضح هذا مثالًا قول عبد المسيح بن عسلة العبدي:
ألا يا اسلمي على الحوادث فأطما
…
فإن تسأليني تسألي بي عالمًا
غدونا إليهم والسيوف عصينا
…
بأيماننا نلي بهن الجماجما
لعمري لأشبعنا ضباع عنيزة
…
إلى الحول منها والنسور القشاعما
الاقتضاب عند المحدثين:
الذي سماه ابن رشيق خروجًا أكثر ما يقال له في شعر المحدثين التخلص ومما مدح به أبو الطيب حسن التخلص كبيت المغيث وكقوله:
حال متى علم ابن منصور بها
…
جاء الزمان إلى منها تائبًا
وكقول حبيب:
يجاهد الشوق حينًا ثم ترجعه
…
مجاهدات القوافي في أبي دلفا
وقوله:
وعاذل هاج لي باللوم مأربة
…
باتت عليها هموم النفس تصطخب
لما أطال ارتجال العذل قلت له
…
الحزم يثني خطوب الدهر لا الخطب
ولا ريب أن القارئ أصلحه الله قد فطن إلى جناس خطوب وخطب والي مناسبة الخطب لقوله قبل لـ «لما أطال ارتجال العذل»
لم يجتمع قط في مصر ولا طرف
…
محمد بن أبي مروان والنوب
لي من أبي جعفر آخية سبب
…
أن تبق يطلب ال معروفي السبب
على أن في تخلص حبيب هذا أنفاسًا من روح اتصال المعاني الذي نجده عند القدماء ومذهب القدماء عنده كثير كقوله:
لست من العيس أو أكلفها
…
وخدا يداوي المريض من وصبه
إلى المصفى مجدًا أبي الحسن انصعـ
…
ـن انصياع الكدري في قربه
فهذا كما ترى من باب الرحلة بعد النسيب وبكاء الديار وأول هذه القصيدة:
إن بكاء في الدار من أربه
…
فشايعا مغرمًا على طربه
والخطاب لعينيه وتخلص إلى وصف المزن وكان به كلفًا:
وكقوله:
إليك جزعنا مغرب الملك كلما
…
هبطنا ملا صلت عليك سباسبه
فهذا كقول علقمة: إلى الحارث الوهاب أعملت اقتي
وكقوله:
وركب يساقون الركاب زجاجة
…
من السير لم تقصد لها كف قاطب
إلى أن قال بعد وصف جده في السير:
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد
…
تقطع ما بيني وبين النوائب
ويقابل التخلص الاقتضاب، وهو الخروج فجأة من النسيب إلى المدح بلا تقديم وهو الذي ذكر ابن رشيق أن من اسمائه البتر والكسع والقطع وضرب له مثلًا عند القدماء دع ذا وعد عن ذا واستشهد له من كلام المحدثين بقول البحتري:
لولا الرجاء لمت من ألم الهوى
…
لكن قلبي بالرجاء موكل
إن الرعية لم تزل في سيرة
…
عمرية مذ ساسها المتوكل
وقد استشهدنا له من قبل بقوله:
إني وإن جانبت بعض بطالتي
…
وتوهم الواشون أني مقصر
ليروقني سحر العيون المجتلى
…
ويشوقني ورد الخدود الأحمر
الله مكن للخليفة جعفر
…
ملكًا يحسنه الخليفة جعفر
وقد حاكى البحتري في هذا من مذهبه وهو عنده كثير أستاذه أبا تمام إذ له منه قصائد، كقوله:
أذكت عليك شهاب نار في الحشا
…
بالعذل وهنا أخت آل شهاب
عذلًا شبيهًا بالجنون كأنما
…
قرأت به الورهاء صدر كتاب
أومأ رأت بردى من نسج الصبا
…
ورأت خضاب الله وهو خضابي
لا جود في الأقوام يعلم ما عدا
…
جودا حليفًا في بني عتاب
متدفقًا صقلوا به أحسابهم
…
إن السماحة صيقل الأحساب
وكقوله يخاطب الشيب في نسيب قصيدة له في أبي سعيد التغري:
كل داء يرجى الدواء له إلا
…
الفظيعين ميتة ومشيبًا
يا نسيب الثغام ذنبك أبقى
…
حسناتي عند الحسان ذنوبًا
ولئن عبن ما رأين لقد أنـ
…
ـكرن مستنكرًا وعبن معيبًا
أو تصدعن عن قلى لكفى بالشـ
…
ـيب بيني وبينهم حسيبًا
لو رأى الله أن للشيب فضلًا
…
جاورته الأبرار في الخلد شيبًا
كل يوم تبدى صروف الليالي
…
خلقًا من أبي سعيد رغيبًا
غير أن أبا تمام لم يشتهر بالاقتضاب شهرة أبي عبادة على كثرته عنده وجودته وأنفاس الصلابة فيه العربية في أسره. وأحسب أن من أسباب ذلك جودة احتيالات خروجه- أو كما قلنا قبل- حسن تخلصه كالأمثلة التي أوردنا وكقوله:
لقد أنست مساوئ كل دهر
…
محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وإن كان قد سبق هذا ما هو كالاقتضاب في قوله:
وأعين ربرب كحلت بسحر
…
وأجساد تضمخ بالجساد
بزهر والحذاق وآل برد
…
ورت في كل صالحة زنادي
ثم مدح هؤلاء وتخلص إلى ابن أبي دؤاد.
وكأن أبا الطيب نظر إلى هذا المذهب حين مدح بني عمران بعد ذكره الخيل ثم تخلص إلى أبي أيوب فقال:
سقيت منابتها التي سقت الورى
…
بندى أبي أيوب خير نباتها
إلا أنه سلك سبيل التخلص في الموضعين.
وليس أصل اقتضاب البحتري من اقتضاب الأوائل في قصائد المدح، وإن يك استاذه فيه أبو تمام مما ينظر إلى هؤلاء، وكأن أكثر اقتضابه إضراب عن ذكر الرحلة. ولس كذلك صنيع البحتري الذي إنما هو من النسيب وثب مفاجئ.
مثلًا، قول أبي تمام في أول البائية
لو أن دهرًا رد رجع جواب
…
أو كف من شأويه طول عتاب
لعذلته في دمنتين بأمرة
…
ممحوتين لزينب ورباب
فدل هذا على أنه وقف عند الدمنتين وهو في طريقه إلى الممدوح، ثم قد ذكر عذل امرأته التي جعل «أخت آل شهاب» كنية لها، ثم قال:
لا جود في الأقوام يعلم ما خلا
…
جودا حليفًا في بني عتاب
فهذا كالرد على العاذلة.
وشبيه بهذا قوله وأشعر فيه أنه مرتحل:
لله ليلتنا وكانت ليلة
…
ذخرت لنا بين اللوى والشربب
قالت وقد أعلقت كفي كفها
…
حلا وما كل الحلال بطيب
فسره التبريزي بقوله قد جمعت هذا الذي أحلت لي من نفسها أنه حلال وأنه طيب مستلذ، وهو وجه غير أنه ضعيف. والظاهر من المعنى أنها قالت له تحلل مما عزمت عليه من الرحلة. فقولها هذا ما كان أطيبه، وفي هامش طبعة الديوان قال ابن المستوفي فأما إذ لم يقل حلًا طيبًا أوهم أن ما بذلته من الحلال غير طيب. ولا نعلم أما بذلت له حلال هو أم غير حلال، وإنما هي إلمامه ليلة ألمها بهذه الحسناء، ويجوز أن ذلك كان متعة استحلها ثم أخذ في سبيل الرحلة، وكلا كلامي أبي زكريا وابن المستوفي غير واف
فنعمت من شمس إذا حجبت بدت
…
من نورها فكأنها لم تحجب
وإذا رنت خلت الظباء ولدنها
…
ربعية واسترضعت في الربرب
قالوا إذا رنت الغزالة نصت جيدها والربرب بقر الوحش وعيونهن واسعات فجمع لها جيد الظبية وحلاوتها وعيون ألمها.
إنسية إن حصلت أنسابها
…
جنية الأبوين ما لم تنسب
أي جمالها خارق وهذا ولده من قول الشنفري:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت
…
فلو جن إنسان من الحسن جنت
ثم أشعر بارتحاله ومروره على مدينة الزباء الخربة، على شاطئ الفرات، وقالوا إنها من بقايا مدينة الزباء صاحبة الخبر.
قال أبو تمام:
قد قلت للزباء لما أصبحت
…
في حد ناب للزمان ومخلب
لمدينة عجماء قد أمسى البلى
…
فيها خطيبًا باللسان المعرب
فكأنها سكن الفناء عراصها
…
أو صال فيها الدهر صولة مغضب
لكن بنو طوق وطوق قبلهم
…
شادوا المعالي بالثناء الأغلب
فهذا اقتضاب، وله صلة بما قبله. وقد فسر أبو تمام الزباء فقال لمدينة عجماء ثم أبى إلا طباقًا فجاء باللسان المعرب وهو بلا ريب لسانه هو وإن كان الظاهر يفيد لسان حال البلى أنه مبين فكأنه معرب- غير أن قوله باللسان المعرب أدل على لسان معرب بعينه وهو لسانه الذي ترجم به عن لسان حال البلى.
اقتضاب البحتري محض مفاجئ كل المفاجأة مبتور منقطع الصلة- إلا النغم وإيحاءاته- بما قبلهن كقوله المتقدم الذي استشهدنا بهن وكقوله:
وربت ليلة قد بت أسقى
…
بعينيها وكفيها المداما
قضينا الليل لثمًا واعتناقًا
…
وأفنيناه ضما والتزامًا
خلافة جعفر عدل وأمن
…
وحلم لم يزل يسع الأناما
مقدمة البحتري قبل اقتضابه إنما هي ترنم يتهيأ به لاندفاع إلى المديح. وهذا من صنيعه شبيه بصنيع جرير في الهجاء- مثلًا:
بان الخليط غداة الجناب
…
ولم تقض نفسك أوطارها
فلا تكثروا طول شك الخلاج
…
وشدوا على العيس أكوارها
سأرمي بها قاتمات الفجاج
…
ونهجر هندا وزوارها
ألا قبح الله يوم الزبير
…
بلاء القيون وأخبارها
تركتم لسعد زمام الزبير
…
وعقر الفتاة وتجرارها
أحسبه «رمام الزبير» بالمهملة لأن ابن جرموز قاتله من بني سعد رهط الأحنف والفتاة جعثن أخت الفرزدق.
ومثال آخر وهو أشهر: -
يا أم ناجية السلام عليكم
…
قبل الرواح وقبل لوم العذل
وإذا غدوت فلازمتك تحية
…
سبقت سروح الشاحجات الحجل
أي سبقت كل شؤم فغدوت على أيمن طائر والشاحجات هي الغربان وحجلانها مشيتها التي قيل أراد الغراب بها محاكاة الطاووس فلم يستطع ولا عاد إلى ما كان عليه من مشية الطير.
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم
…
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
أو كنت أرهب وشك بين عاجل
…
لقنعت أو لسألت ما لم أسأل
أعددت للشعراء سما ناقعًا
…
فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
…
وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
ومثال ثالث:
فسقاك حيث حللت غير فقيدة
…
هزج الرواح وديمة لا تقلع
فلقد يطاع بنا الشفيع لديكمو
…
ونطيع فيك مودة من يشفع
هل تذكرين زماننا بعنيزة
…
والأبرقين وذاك ما لا يرجع
إن الأعادي قد لقوا لي هضبة
…
تنبى معاولهم إذا ما تقرع
ما كنت أقذف من عشرة ظالم
…
إلا تركت صفاهم يتصدع
أعددت للشعراء كأسًا مرة
…
عندي مخالطها السمام المنقع
هلا نهاهم تسعة قتلتهم
…
أو أربعون حدوتهم فاستجمعوا
وكأن هذا على اقتضابه جرى فيه جرير على مذهب المخاطبة الذي في عينية الحادرة وجعل بلاءه في الهجاء من باب بلاء الفرسان في الحروب ومثال رابع:
وقد أقصرت عن طلب الغواني
…
وقد آذن حبلي بانصرام
إذا حدثتهن هزئن مني
…
ولا يغشين رحلي في المنام
لقد نزل الفرزدق دار سعد
…
ليالي لا يعف ولا يحامي
وهذا خبر جعثن والاقتضاب هنا وثبة ظاهرة.
ومثال خامس:
لقد نادى أميرك بابتكار
…
ولم يلووا عليك ولم تزاري
وقد رفه الظعائن يوم رهبي
…
بروح من فؤادك مستطار
رفع الظعائن أي مضين مسرعات في سيرهن مفارقات وقد ذهبن بقلبك في هوادجهن
ذكرتك بالجموم ويوم مروا
…
على مران راجعني ادكاري
وتيم يفخرون وضرب تيم
…
كضرب الزيف بار على التجار
ومضى في الهجاء
ومن عجيب أمر البحتري أنه فيما ذكروا كان يميل إلى تقديم الفرزدق. وربما يكون قد تأثر بفرط ثناء الجاحظ الحسن عليه- قال الجاحظ في الجزء الثالث من الحيوان: «وإن أحببت أن تروي من قصار القصائد شعرًا لم يسمع بمثله فالتمس ذلك في قصار قصائد الفرزدق فإنك لم تجد شاعرًا قط يجمع بين التجويد في القصار والطوال غيره، وقد قيل للكميت إن الناس يزعمون أنك لا تقدر على القصار قال من قال الطوال فهو على القصار أقدر. هذا الكلام يخرج في ظاهر الرأي والظن ولم نجد ذلك عند التحصيل على ما قال» . أ. هـ[ص 98].
وذكروا أن أبا نواس هم بأن يكتني بأبي فراس وهي كنية الفرزدق. وما يخلو الأمر من تعصب أهل البصرة لشاعرهم.
على أن بشارًا قد كان بصريًا وكان ميله إلى جرير وكذلك كان ميل مروان بن أبي حفصة، وهذا بعد باب واسع والخلاف فيه قديم وكان البحتري في أسلوبه أدنى إلى جرير. وفي هذا الاقتضاب هو آخذ منه بلا ريب. وسوغ الاقتضاب لجرير أن له مشابه في شعر الأيام والخصومات في أشعار القدماء. ثم قد كان هو صاحب نقائض وما كان أمر مهاجاته من يهاجيه ولا مهاجاتهم له كل ذلك بذي خفاء. فكان تغنيه بالغزل بين يدي هجائه وترنمه بذكر الديار والنسيب من ضرب الحماسة على النحو الذي هو معروف من مذهب العرب من الارتجاز وذكر النساء قبل المناجزة وبإزائها.
وقد ارتجزوا في جهاد الفتوح بمثل قولهم:
يا ليتني ألقاك في الطراد
…
عند التحام الجحفل الوراد
تمشين في حليتك الوراد
وقال المختار الثقفي:
قد علمت بيضاء صفراء الطلل
…
أني غداة الروع مقدام بطل
فزعموا أنه سأله أحد من كان يقاتل معه أين الملائكة يا أبا إسحاق أو «ما هذا معناه» فقال له قاتل عن حسبك أو ما هذا معناه، وكأن السائل أنكر على المختار ذكر النساء كما يفعل غيره من العرب ممن ليست لهم مثل دعواه الملائكة كانوا يعينونه.
ومن قديم ما رووا من رجز الأبطال قول ربيعة:
جررن أطراف الذيول واربعن
فعل حييات كأن لم تفزعن
إن تمنع اليوم نساء تمنعن
حتى الخوارج وهم ما هم في التشدد قد تغنوا بالغزل في جد حروبهم التي إنما كانت جهاد للكفرة على ما كانوا يعتقدونه- قال قطري بن الفجاءة:
فواكبدا من غير جوع ولا ظمأ
…
وواكبدا من حب أم حكيم
ولو شهدتني يود دولاب أبصرت
…
طعان فتى في الحرب غير ذميم
غداة طفت علماء بكر بن وائل
…
وعجنا صدور الخيل نحو تميم
مقدمات البحتري أشبه بالتقاسيم الموسيقية التي تسبق لحن المغني وعمود غنائه. وفيها ما ذكرنا من أنها تهيئة كان يهيئ بها نفسه لاندفاع المديح. وقد كان البحتري نديمًا.
فالذي صنع بأدب المنادمة أشبه وفيه أدخل.
ومن أمثلة اقتضابه مما هو عميق في هذا المجال كلمته المشهورة:
لي حبيب قد لج في الهجر جدا
…
وأعاد الصدود منه وأبدى
ذو فنون يريك في كل يوم
…
خلقًا من جفائه مستجدًا
يتأبى منعًا وينعم إسعا
…
فا ويدنو وصلًا ويبعد صدًت
أغتدي راضيًا وقد بت غضبا
…
ن وأمسى مولى وأصبح عبدًا
وبنفسي أفدى على كل حال
…
شادنا لو يمس بالحسن أعدى
مر بي خاليًا فأطمع في الوصـ ..... ـل وعرضت بالسلام فردًا
وثنى خده إلى على خو
…
ف فقبلت جلنارًا ووردًا
سيدي أنت ما تعرضت ظلمًا
…
فأجازى به ولا خنت عهدًا
رق لي من مدامع ليس ترقًا
…
وارث لي من جوانح ليس تهدا
حاش لله أنت أفتن ألفا
…
ظا وأحلى شكلًا وأحسن قدا
خلق الله جعفرًا قيم الديـ
…
ـن سدادًا وقيم الدين رشدًا
فهنا الوثبة المديحية كما ترى
أكرم الناس شيمة وأتم النـ
…
ـاس خلقًا وأكثر الناس رفدًا
ملك حصنت عزيمته الملـ
…
ـك فأضحت له مغاثًا وردًا
وهلم جرا
وقال في الضادية التي من الخفيف وإياها كما ذكرنا من قبل جاري شوقي في بضية أنس الوجود:
أيها العاتب الذي ليس يرضى .... نم هنيئًا فلست أطعم غمضًا
إن لي من هواك وجدًا قد استهـ
…
ـلك نومي ومضجعًا قد أقضا
فجفوني في عبرة ليس ترقا
…
وفؤادي في لوعة ما تقضى
يا قليل الإنصاف كم أقتضي عنـ
…
ـدك وعدًا إنجازه ليس يقضى
فأجزني بالوصل إن كان أجرًا
…
وأثبني بالحب إن كان قرضًا
بأبي شادن تعلق قلبي
…
بجفون فواتر اللحظ مرضي
غرني حبه فأصبحت أبدي
…
منه بعضًا وأكتم الناس بعضًا
لست أنساه باديًا من قريب
…
يتثنى تثني الغصن غضا
واعتذاري إليه حتى تجافي
…
لي عن بعض ما أتيت وأغضى
واعتلاقي تفاح خديه تقبيـ
…
ـلًا ولثما طورًا وشما وعضا
ثم جاءت الوثبة وغير خاف أن هذا لها موضع:
أيها الراغب الذي طلب الجو .... د فأبلى كوم المطايا وأنضى
رد حياض الإمام تلق نوالًا
…
يسع الراغبين طولًا وعرضًا
فهناك العطاء جزلًا لمزرا
…
م جزيل العطاء والجود محضا
ومع الوثبة هنا شيء من تداعي المعاني لاحق بأدب المنادمة، وهو صلة ما بين جود الحبيب من الود وجود الإمام مما به ينال الجاه والمعاش والسعادة.
ومن أمثله اقتضابه الحسنة قوله في صفة البركة:
قد أطرق الغادة البيضاء مقتدرًا
…
على الشباب فتصبيني وأصبيها
في ليلة ما ينال الصبح آخرها
…
علقت بالراح أسقاها وأسقيها
عاطيتها غضة الأطراف مرهفة
…
شربت من يدها خمرًا ومن فيها
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها
…
والآنسات إذا لاحت مغانيها
وقد جاء بوثبة الاقتضاب هنا بعد ذكره التقبيل- واحتفظ بشي من معاني الغزل:
يحسبها أنها في فضل رتبتها
…
تعد واحدة والبحر ثانيها
ما بال دجلة كالغيري تنافسها
…
في الحسن طورًا وأطوارًا تباهيها
وقد يرى قارئ هذا الشعر وسامعه والمتغني به اتصال بيت «يا من رأى البركة الحسناء» بالبيت تاليه فهذا مدان للتضمين وليس به وفيه رد مفحم لمن قال مكابرًا باستقلال مفردات الأبيات في قصيد العرب.
وقال البحتري في كلمته التي أولها:
أكنت معنفي يوم الرحيل
…
وقد جدت دموعي في الهمول
عشية لا الفراق أفاء عزمي
…
إلي ولا اللقاء شفى غليلي
ثم يقول:
طربت بذي الأراك وشوقتني
…
طوالع من سنا برق كليل
وذكرينك والذكرى عناء
…
مشابه فيك بينة الشكول
نسيم الروض في ريح شمال
…
وصوب المزن في راح شمول
عذيري من عذول فيك يلحى
…
على ألا عذير من عذول
تجرمت السنون ولا سبيل
…
إليك وأنت واضحة السبيل
وقد حاولت أن تخد المطايا
…
إلى حي على حلب حلول
ولو أني ملكت إليك عزمي
…
وصلت النص منها بالذميل
فأولى للمهارى من فلاة
…
عريض جوزها وسرى طويل
فهذا في المحبوبة وسير اللحاق بها- ثم وثب إلى مديح الفتح وكأنه اقتدى شيئًا في هذا بكعب بن زهير، إذ المحبوبة كالرمز عند كعب وهي هنا كذلك:
زكت بالفتح أحدان المساعي
…
وأوضح دارس الكرم المحيل
ووضوح السبيل علاقة كما ترى.
ومما هو اقتضاب محض قوله:
لا تكذبن فما الصبا بمخلف
…
فينا ولا زمن الصبا بمعاد
وأرى الشباب على غضارة حسنه
…
وجماله عددًا من الأعداد
إن الخلافة أحمدت من أحمد
…
شيمًا ينيف بها على الإحماد
ملك تحييه الملوك ودونه
…
سيمًا التقى وتحية الزهاد
وفي إحدى متوكلياته وفيهن تجويد منادمته:
أصبابه برسوم رامة بعدما
…
عرفت معالمها الصبا والشمأل
وسألت من لا يستجيب فكنت في اسـ
…
ـتخباره كمجيب من لا يسأل
اليوم أطلع للخلافة سعدها
…
وأضاء فيها بدرها المتهلل
لبست جلالة جعفر فكأنها
…
سحر يجلله النهار المقبل
هذا من قصيدته التي أولها «لولا تعنفني لقلت المنزل» - وأبيات السيرة العمرية في اللامية الأخرى: «قل للسحاب إذا حدته الشمأل» وهي أجود. والبيت الذي رواه ابن رشيق ليس في الديوان المطبوع (دار صادر) وابن رشيق أوثق إن شاء الله
وللبحتري مذهب الرحلة ومذاهب من المقابلة والرجوع إلى ما تقدم وقد يكون منه الخروج-[حسن التخلص]- الحسن أحيانًا كقوله:
حنت ركابي بالعراق وشاقها
…
في ناجر برد الشآم وريفه
ومدافع الساجور حيث تقابلت
…
في ضفتيه تلاعه وكهوفه
ويهيجني أن لا يزال يزورني
…
منها خيال ما يغب مطيفه
وشفاء ما تحت الضلوع من الجوي
…
سير يشق على الهدان وجيفه
إن لم يريثنا الجواز عن التي
…
نهوى ويمنعنا النفوذ رفيفه
أو نائل الفتح بن خاقان الذي
…
للمكرمات تليده وطريفة
وأحسب أن هذا على استقامته دون جودة مفاجأة اقتضابه ومما أحسبه لم يستقم له قوله في كلمته العذبة النسيب التي أولها:
كم بالكثيب من اعتراض كثيب
قال:
فلربما لبيت داعية الصبا
…
وعصيت من عذل ومن تأنيب
يعشى عن المجد الغبي ولن ترى
…
في سؤود أربا لغير أريب
والأرض تخرج في الوهاد وفي الربا
…
عمم النبات وجل ذلك يوبي
نظم هذا البيت نظمًا فبعضه من أبي تمام من قوله «حتى تعمم صلع هامات الربى» وبعضه من الحديث: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم» - ثم جاء بحسن التخلص الذي ليس بحسن.
وإذا أبو الفضل استعار سجية
…
للمكرمات فمن أبي يعقوب
ولعل القافية استهواه شيطانها، إذ مثلها عند مسلم بن الوليد إذ يقول:
يأيها الرجل المثمر ماله
…
وهو المسلب عرضه المسلوب
خل المكارم قد كفاك مراسها
…
سعدانها وسليله يعقوب
وللبحتري مما لم يذهب فيه مذهب الاقتضاب ولكن مذهب التخلص الرشيقي كما في عينيه النابغة وداليته «يا دار مية بالعلياء فالسند» كلمات جياد. ولا يخفى أن النابغة في أدب المنامة زعيم، فلا غرو أن أقتدى به البحتري وهو نديم مثله. فمن هذه الكلمات عينيته في المتوكل الفخمة النفس والروى:
منى النفس من أسماء لو يستطيعها
ومن تلك قافيته في الفتح:
حلفت لها بالله يوم التفرق
…
وبالوجد من قلبي بها المتعلق
وبالعهد ما البذل القليل بضائع
…
لدي ولا العهد القديم بمخلق
أي ببال
وأبثثتها شكوى أبانت عن الجوى
…
ودمعًا متى يشهد ببث يصدق
وإني لأخشاها علي إذا نأت
…
وأخشى عليها الكاشحين وأتقى
وإني وإن ضنت على بودها
…
... لأرتاح منها للخيال المؤرق
(أحسبه بوعدها)
…
يعز على الواشين لو يعلمونها
…
ليال لنا تزدان فيها وتلتقي
هذا يقوى ما ذهبنا إليه أن الصواب بوعدها، إذ هذا البيت الذي يذكر لقاءها وازديانها شاهد ود.
ثم يقول في الطيف:
فكم غلة للشوق أطفأت حرها
…
بطيف متى يطرق دجى الليل يطرق
الأولى رباعية من إسبال الليل أستاره وهيمنته كأنه مطرق والثانية ثلاثية من طروق الطارق. وهذا الطيف يطرقه إذا أطرق الليل.
أضم عليه جفن عيني تعلقا
…
به عند إجلاء النعاس المرنق
هذا البيت جيد في وصف أول الإفاقة من النوم.
ثم يقول:
إذا شئت ألا تعذل الدهر عاشقًا
…
على كمد من لوعة الحب فاعشق
وكنت متى أبعد عن الخل اكتئب
…
له ومتى أظعن عن الدار اشتق
فهذا فيه رجعة إلى التفرقة الذي بدأ بذكره
تلفت من عليا دمشق ودوننا
…
للبنان هضب كالغمام المعلق
إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما
…
ذممت مقامي بين بصري وجلق
وهذه دياره ولكن ثم جاهه وسادته ومنادمته ونداماه
إلى معقلي عزي وداري إقامتي
…
وقصد التفاتي بالهوى وتشوقي
فرجع إلى معنى الهوى كما ترى
مقاصير ملك أقبلت بوجوهها
…
على منظر من عرض دجلة مونق
كأن الرياض الحويكسين حولها
…
أفانين من أفواف وشى ملفق
هذه الكافات والفاءات نمط نابغي
إذا الريح هزت نورهن تضوعت
…
روائحه من فار مسك مفتق
ثم جاء دور القاف في نغم الجرس النابغي
كأن القباب البيض والشمس طلقة
…
تضاحكها أنصاف بيض مفلق
ومع القاف الضاد والفاء وصدى من الكاف التي مرت من قبل وفي هذا البيت على كونه في نعت قصور بغداد أطياف من مناظر ثلج لبنان، الذي قال من قبل إنه كالغمام المعلق.
ومن شرفات في السماء كأنها
…
قوادم بيضان الحمام المحلق
رباع من الفتح بن خاقان لم تزل
…
غنى لعديم أو فكاكًا لمرهق
فلا العائذ اللاجي إليها بمسلم
…
ولا الطالب المحتاج منها بمخفق
وقريب من طريق هذه القافية في التسلسل وجودة أخذ الكلام بعضه برقاب بعض مع احتفاظ كنين بعناصر الوثب التي في الاقتضاب وأشياء من عادة الشعراء لاميته: -
عهد لعلوة باللوى قد أشكلا
…
ما كان أحسن مبتداه وأجملا
قال في انتقاله من النسيب إلى الخمر إلى صفة القصر: -
بتنا ولى قمران وجه مساعدي
…
والبدر إذ وافى التمام وأكملا
لاحت تباشير الخريف وأعرضت
…
قطع الغمام وشارفت أن تهطلا
فترو من شعبان إن وراءه
…
شهرًا يمانعنا الرحيق السلسلا
أحسن بدجلة منظرا ومخيمًا
…
والغرد في أكناف دجلة منزلا
ثم وصفه واتلأب به القول من بعد إلى مدح المتوكل
بدع لبدع في السماحة ما ترى
…
من أمره إلا عجيبًا مجذلا
ونختم هذا الفصل بالإشارة إلى ميميته:
ألا هل أتاها بالمغيب سلامى
…
وهل خبرت وجدى بها وغرامي
وهل علمت أني ضنيت وأنها
…
شفائي من داء الضنى وسقامي
فقد تخلص فيها من شكوى الحب ورقة النسيب إلى بعض التفتي يجعله وسيلة إلى ذكر الكأس
فليس الذي حللته بمحلل
…
وليس الذي حرمته بحرام
وإني لأباء على كل لائم
…
عليك وعصاء لكل ملام
وكنت إذا حدثت نفسي بسلوة
…
خلعت عذاري أو فضضت لجامي
وأسبلت أثوابي لكل عظيمة
…
وشمرت عن أخرى لكل غرام
فهذا تفت منه، أي عمل بالفتوة وخلص منه إلى ذكر المنادمة ومجلس الأنس واللذات والصيد
هل العيش إلا ماء كرم مصفق
…
يرقرقه في الكأس ماء غمام
وعود بنان حين ساعد شدوه
…
على نغم الألحان ناي زنام
أبي يومنا بالزو إلا تحسنًا
…
لنا بسماع طيب ومدام
الزو اسم سفينة عملها المتوكل للنزهة. وشبهها البحتري بالجبل ومن العجب لصانعي هوامش طبعة الديوان أنهم فسروا الزو (هامش 3 ص 16 من ج 1 - طبعة دار صادر ببيروت) بأنه جبل ولو رجعوا إلى القاموس لوجدوا أنه سفينة وقد ذكر بيت البحتري والجبل لا يقاد بزمام كما سيأتي ولكن تقاد السفينة.
ثم تجيء أبيات من بديع ما جاء في صفة الصيد بالبزاة -جمع البازي- وذلك من لهو الملوك ونداماهم ومن يجري هذا المجرى من أهل الثراء والأمراء:
غنينا على قصر يسير بفتية
…
قعود على أرجائه وقيام
فهذا القصر السائر هو الزو والفتية القعود فيه والقيام هم النوتيون والخدم الآلي فيه
تظل البزاة البيض تخطف حولنا
…
جئاجئ طير في السماء سوامى
تحذر بالدراج من كل شاهق
…
مخضبة أظفارهن دوامي
مخضبة مرفوعة، صفة لموصوف محذوف معلوم هو البزاة، جعلها كأن عليها خضابًا ثم فسر هذا الخضاب بأنه الدم الذي على أظفارها من صيدها الدراج وهو من الطير الجيد أكله. وأخذ البحتري صفة بزاته المخضوبة من قول أبي زبيد «طيرا عكوفًا كزور العرس» لأن زور العرس عليهن الخضاب، وقد مر البيت الذي منه هذه القطعة في باب القوافي
في أوائل الجزء الأول من هذا الكتاب.
فلم أر كالقاطول يحمل ماؤه
…
تدفق بحر بالسماحة طام
فالماء ماء القاطول عند دجلة وهو الذي ذكره في المرثية «محل على القاطول أخلق دائره» . والبحر المتدفق بالسماحة الطامي بها هو الخليفة المتوكل.
ولا جبلاً كالزو يوقف تارة
…
وينقاد إما قدته بزمام
فهذه صفة سفينة والسفينة تشبه بالجبل، قال تعالى:{وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} أي كالجبال والجواري السفائن.
لقد جمع الله المحاسن كلها
…
لأبيض من آل النبي همام
يطيف بطلق الوجه لا متجهم
…
علينا ولا نزر العطاء جهام
يحببه عند الرعية أنه
…
يذبب عن أطرافها ويحامى
وأن له عطفًا عليها ورقة
…
وفضل أياد بالعطاء جسام
ثم يمضي في المدح بأسلوب النديم البلاطي المحب لسيده المخلص له السعيد (على حد ما ذكره ابن خلدون من بعد) بملقه وخدمته:
لقد لجأ الإسلام من سيف جعفر
…
إلى صارم في النائبات حسام
يسد به الثغر المخوف انثلامه
…
وإن رامه الأعداء كل مرام
إليك أمين الله مالت قلوبنا
…
بإخلاص نزاع إليك هيام
قوله «أمين الله» مراده منه أمير المؤمنين وأمينه بذلك فيهم. ومع هذا أصداء «من أبي نواس، وقد كان البحتري شديد المحاكاة له والنظر إليه في أدب المنادمة، كما أنهما كليهما كانا شديدي التأثر لشيخ الندماء نابغة بني ذبيان وكبيرهم على مر الزمان، إذ ليس منهم من عريت له امرأة سيده المفتون بها حتى يصفها متجردة فتأمل. وإكثار أبي نواس من صفات الخمر يحث على قرنه بالأعشى، وقد فطن الناقد اللبناني مارون عبود إلى تأثر الأعشى بالنابغة إلا أنه غلا في ذلك إذ جعله مجترًا وقد عرضنا لهذه المسألة من قبل.
إليك أمين الله مالت قلوبنا
…
بإخلاص نزاع إليك هيام
نصلي وإتمام الصلاة اعتقادنا
…
بأنك عند الله خير إمام