الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للغناء والترنم. وهو كما قال الفارابي رئيس الهيئة الموسيقية. من أجل ذلك الشعر موزون. والقافية عندنا من الوزن طرف.
والإيقاع والبيان وضروب الأشكال كل ذلك مذاهب وأداء والله أعلم وهو الموفق للصواب.
أسلوب المقالة: تمهيد: أولاً:
-
نبه الدكتور طه حسين رحمه الله في «من حديث الشعر والنثر» إلى أثر الشعراء على الكتاب. كما قد نبه على أثر أساليب الشعراء من قبل على أساليب الكتاب، حتى صارت كثير من الأغراض التي إنما كانت للشعر يتناولها الكتاب. وقد عرضنا لجوانب من هذا كله في معرض الحديث عن الرومي.
وقد ذكرنا أن ابن الرومي قد اتبع في الذي صنعه مذاهب أبي تمام كما اتبع أساليب أهل ضروب البيان من كتاب وخطباء من قبل. وقد ذكروا أن بشارًا أبا المحدثين قد كان خطيبًا متكلمًا كما قد كان شاعرًا وراجزًا.
والقارئ أصلحه الله يذكر ما قلنا عن أطوار قصيدة المدح وما أشبهها كيف لما كسدت أخذ الشعراء في مسالك من النظم كالمقامات والألغاز والأوصاف البديعية الزخارف، حتى نهضت قصيدة المدح النبوي فكانت هي سيدة مجال الشعر- إلى أن أحدقت بنا غوائل العصر الحديث من تفوق أوربا الحربي واستعمارها.
ثم جاء رواد النهضة فانعرجوا بما أفادوه من أوزان المدائح النبوية إلى نظم جديد نظروا فيه إلى أحوال دنياهم، وجعلوا له نماذج من الشعر القديم يجرونها على أساليب بلاغته وبيانه. وكان أبو الطيب المتنبي رأس ما حذوا عليه أولاً ذلك ظاهر في شعر الطهطاوي. ثم صير من بعد إلى الحذو على غيره: أبي تمام، وأبي عبادة والقدماء من إسلاميين وجاهليين:
كانت المعلقات حينًا من الدهر لا تدرس ولا تحفظ لأنها شعر يحرك القلوب ولكن لأنها من متون العلوم، شأنها في ذلك شأن ألفية ابن مالك من حيث رفعة المنزلة العلمية. وقد ألحقت البرد والهمزية وبانت سعاد بهذا الضرب من الرفعة أيضًا. إلا أن ثلاثتهن كان لهن مع ذلك حظ تغني المداح بهن والذاكرين، فكن بهذا في باب ما يراد له الشعر من تحريك القلوب أدخل.
كانت ديباجة الشعراء الذين انحرفوا بالفصيح الموزون المقفي من طريقه في المدحة النبوية إلى طريق دنيوي، أول الأمر ضعيفة، ثم جعلت تداخلها المتانة. وكان من أسباب ذلك النظر المتذوق للشعر القديم. وقد سبق أن ذكرنا ما كان للشناقيط العلماء
خاصة من تأثير في هذا الباب.
ثم جاء محمود سامي البارودي.
ولا ريب أنه أصاب ملكة الإيقاع والوزن من المديح النبوي. ولكنه عكف على الشعر القديم عكوف محب. وأتيح له من درس أساليب الجزالة ومن مختار بلاغات العربية حظ عظيم. ومختاراته تشهد بسعة اطلاعه وجودة نقده الشعر وتذوقه له. وقصيدة البارودي شكلها وديباجتها كل ذلك عربي نقي أصيل.
بردة البارودي التي جاري بها البوصيري ليست من جياده. ومن عجب الأمر لم تكن للبوصيري، وهو في الشعر قمة، جياد في ما نظمه للدنيا. فأنظر كيف دار تاريخ الأدب دورة كان ناطقها عهد انتصار الإسلام على الصليبين من لا يجيد حقًا إلا في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام والدفاع عن الإسلام، وكان ناطقها عهد تغلب خلفاء الصليبيين على أبناء المسلمين من لا يجيد حقًا في هذا الباب، ولكن في القريض الذي يجيش من قلب كقلب أبي الطيب ولسان من معادن النابغة وزهير وأمرئ القيس.
البارودي سيد «الرومانسية الحديثة» في الشعر العربي. الرومانسية اصطلاح أدبي عصري أخذناه من الإفرنج. ومعناه الوجدانية أو وجدانية الأسلوب. وصدق «برتراندرسل» إذ زعم أن كل الشعر الجيد لا بد فيه من «الرومانسية» إذ كل الشعر الجيد قلبي الجوهر وجدانيه. غير أن الوجدانية الاصطلاحية -التي هي الرومانسية- يدخل فيها مع الوجدان نوع من التكلف له والغلو فيه والتواجد به. البارودي من كل ذلك برئ.
قال الدكتور محمد صبري السوربوني رحمه الله في كتاب له اسمه «نشأ البارودي في بيت مجد مؤثل، هو ابن حسن بك حسني الذي كان من أمراء المدفعية ثم صار مديرًا لدنقلة وبربر على عهد محمد علي باشا، ابن عبد الله بك الجركسي ينتهي نسبه إلى المقام السيفي نوروز الأتابكي أخي برسباي قرأ المحمدي. والترك والجركس هم آخر طبقة من الغرباء وفدوا إلى مصر واتخذوها وطنًا وتوالدوا فيها فأصبحوا «مولدين» - روى صاحب الهلال أن البارودي كان شديد الحرص على معرفة نسبه وأنه
بذل نحو 3000 جنيه في سبيل البحث عنه في أنحاء القطر ومراجعة النصوص وغير ذلك. ولد صاحب الترجمة بسراي باب الخلق لثلاث بقين من رجب سنة 1255 هجرية وفي سنة 1262. توفي والده بناحية دنقلة وكان عمره إذ ذاك سبع سنين وفي ذلك يقول لما ناهز العشرين:
لا فارس اليوم يحمي السرح بالوادي
…
طاح الردى بشهاب الحرب والنادي
مات الذي ترهب الأقران صولته
…
ويتقي بأسه الضرغامة العادي
مضى وخلفني في سن سابعة
…
لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي
فإن أكن عشت فردًا بين آصرتي
…
فهأنا اليوم فرد بين أنداد
هذا الشعر كما تراه متين محكم النسج نظمه في سن صغيرة، فما سر هذه القوة التي تجلت قبل الأوان في عصر مقفر من الشعر الجيد؟ أهو في تربيته القومية أم في طبعه واستعداده.
شرح محمود سامي في سن الثامنة يتلقى مبادئ العلم على أساتذة كانت تحضر في منزله ودخل سنة 1267 هـ أي في سن الثانية عشرة مدارس الحربية وتخرج منها برتبة باشجاويش سنة 1271 في أوائل تولية سعيد باشا، وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة ويقال إنه كان يتعاطى صناعة الشعر في أثناء دراسته. أما تربيته الأدبية فإليك ما قاله عنه الشيخ حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية وكان من أعرف الناس به:«محمود سامي الباردوي» لم يقرأ كتابًا في فن من فنون العربية غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد في طبعه ميلاً إلى قراءة الشعر وعمله فكان يستمع بعض من له دراسة وهو يقرأ بعض الدواوين أو يقرأ وهو بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية فصار يقرأ ولا يكاد يلحن
…
ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء.» أ. هـ قال أبو العلاء المعري في رسالة الغفران بمعرض الحديث عن بيت لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
…
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
على لسان ابن القارح يسأل لبيدا: «هل أردت ببعض معنى كل؟ فيقول لبيد: كلا إنما أردت نفسي. وهذا كما تقول للرجل إذا ذهب مالك أعطاك بعض الناس مالاً وأنت تعني نفسي في الحقيقة وظاهر الكلام واقع على كل إنسان وعلى كل فرقة تكون
بعضًا من الناس.» (ص 216 من تحقيق ابنه الشاطئ، مصر، دار المعارف 1952 م).
مقال المرصفي الذي نقله السوربوني (1) رحمهما الله فيه «بعض من له دراسة» وما أرى المرصفي أراد غير نفسه. ولنعم كان حظه من التوجيه إن كان صاحب الوسيلة قد تولى جانبًا من ذلك من أمره.
قال السوربوني (ص 22 من أدب وتاريخ): لم يكن عصره يساعد على تكوين ملكة البلاغة لأن حامل لواء الشعر إذ ذاك محمود صفوت الساعاتي الذي أعقب الدرويش، حدثني المرحوم حفني بك ناصف مرة أن أجود قصيدة نظمت في عهد محمد علي هي القصيدة التي مطلعها:
يا آل طه عليكم حملتي حسبت
…
إن الضعيف على الأجواد محمول
والتي ما زال إلى اليوم بعض سكان الريف يحفظونها، وكان الليثي والنجاري والأبياري والنديم ورفاعة وأبو النصر وغيرهم من معاصري الساعاتي مولعين بالبديع محتذين مثل البهاء زهير وابن خفاجة وغيرهما من المتأخرين الذين ليسوا من حلبة هذا الميدان. أما فيما يتعلق بالوراثة فقد قال الباردوي:
أنا في الشعر عريق
…
لم أرثه عن كلالة
كان إبراهيم خالي
…
فيه مشهور المقالة
وسما جدي علي
…
يطلب النجم فناله
لا أظن أن خال البارودي كان شاعرًا يمتاز عن أهل عصره، ولكن لعل البارودي وجد فيه مشجعًا على قول الشعر كما وجد في المعالي التي يفخر بها، وفي معاهد العز والشباب التي درج فيها. ولكن هذا لا يكفي لأن يبرز شاعر غض الإهاب على معاصريه ثم يجري على غاربه حتى يلحق بفحول المتقدمين قبل أن يطوي برد الشباب. إذن كان سر قوة هذا الشاعر في طبعه، وكانت في قرارة نفسه عين كامنة ما
(1) ليست «السوربوني» في نص نسبة الكتاب إلى مؤلفه ولكن بعد اسمه «الحائز لدكتوراه الدولة في الآداب مع الشرف من السوربون، أستاذ التاريخ الحديث بدار العلوم «أ. هـ» . قلت لقيته رحمه الله بإسكندرية في مؤتمر ذكرى حافظ إبراهيم سنة 1957 في شهر يوليه وتحدثت إليه رحمه الله كثيرًا وكان مما يقال له السوربوني.
ورأيتها في بعض ما كتب أظنه الشوامخ وخبرني الدكتور مكي شبيكة رحمه الله وكان له معاصرًا أن هذه النسبة كانت تعجبه كما كان يقال لأهل العلم الأزهري مثلاً ولقد كان رحمه الله، عظيم الحيوية، طيب الحديث حق مفيد به. ولقد كان لقائية كسبًا ومن نعم الله التي لا تكفر. رحمه الله الرحمة الواسعة.
لبثت إن وجدت منفذًا ضئيلاً فتفجرت بالسحر الحلال ولم ينضب، روى الأستاذ خليل مطران في فصل رائع:«لقد تسامحت يومًا بدالة الود فسألته أية حال من أحوال حياتك كنت فيها أميل إلى الشعر وأكثر استغالاً به، فأجابني أن خطرات الشعر صحبتني في أيامي كلها ولم تفارقني إلا في أقلها.» .أ. هـ.
قلت، ليت شعري هل حسب مطران البارودي صناعًا مثله؟ وإذن لكان أجابه، آخذًا من كلام ابن قتيبة، يوم شرب الدواء، ويوم المنفى. وصدق مطران لقد تسامح بأيما دالة حين سأله. وصدق البارودي في الجواب، وكان صدوقًا.
قولهم البارودي نسبة إلى محله بمصر يقال لها إيتاي البارود «إحدى بلاد مديرية البحيرة، ذلك أن أحد أجداده الأمير مرادًا البارودي بن يوسف شاويش كان ملتزمًا لها، وكان كل ملتزم ينسب في ذلك العهد إلى التزامه» - كما في مقدمة ديوانه بقلم محمد حسين هيكل باشا (طبعة دار المعارف 1391 هـ-1971 م ص 6).
بلغني أن كتابًا صدر رسالة في إحدى جامعات مصر، عن نشأة البارودي فلعله يضئ لنا بعض السبيل عن أوائل تعليمه، فإن في النفس شيئًا من أن يكون بدأ التعلم بعد موت أبيه كما هو أول ما يتبادر من ظاهر ترجمة السوربوني رحمه الله له. وكما في مقدمة الديوان (ص 6) حيث قال:«مات أبوه بدنقلة وهو في السابعة من عمره فكفله بعض أهله وضموه إليهم وقد تلقى في بيتهم دراسته الأولى من الثامنة إلى الثانية عشرة من عمره ثم التحق بالمدرسة الحربية أ. هـ» - قلت بعيد جدًا أن يكون أبوه وهو مدير دنقلة وبربر ومن بيت فضل وسراوة عريق أن يغفل عن قرآن ابنه في السن التي يؤخذ فيها الصغار بذلك. لعلهم حين يبلغون السابعة -وذلك حين يؤمرون بالصلاة ويضربون عليها- يكونون قد حفظوا من المفصل قدرًا صالحًا. وقد كانت في دنقلة وبربر خلاوي (أي كتاتيب) قرآن.
وكان في بربر فقهاء على المذهب الشافعي وهو مذهب أهل مصر الغالب، وقرأة لهم علم بالتجويد من طريق الشاطبية وغيرها. فما يبعد أن يكون أبوه وقد كان حاكمًا قادرًا على ذلك، يستقدم منهم إلى داره، أو يبعث بابنه إلى بعضهم في الخلوة مع خادم
يحرسه. وهذا الوجه أقرب وأشبه ببداوة أحوال تلك البلاد وذلك الزمان. مهما يكن من الأمر، فإنه بعيد كل البعد أن يكون أبواه أهملاه لا يقرأ ولا يكتب حتى السابعة.
ورواية السوربوني التي روى عن حفني ناصف رحمة الله عليهما تفيد مثل ما قدمناه من غلبة المديح النبوي على الشعر إذ واضح أن:
يا آل طه عليكم حملتي حسبت
…
إن الضعيف على الأجواد محمول
مدحة نبوية على روي بانت سعاد وبحرها.
ومجاراة البارودي للبردة منبئة بسماعه لها، ويكون ذلك منذ أيام الصبا إذ كانت هي المدحة الكبرى المعروفة في جميع آفاق الإسلام.
وبردته كما قدمنا دون شعره. وله جيمية نبوية يشوب نصوع الديباجة فيها شوائب تكدره شيئًا من أساليب الشعر التي لا تلائم روحانية التعبد والتوسل. وهذا ما حذرت منه الباعونية رحمها الله. ونظم البارودي المديح النبوي منبئ عن تأثره به في زمان باكر.
أول الجيمية التي أشرنا إليها:
يا صارم اللحظ من أغراك بالمهج
…
حتى فتكت بها ظلمًا بلا حرج
ومما قال في نسيبها:
أبيت أرعى نجوم الليل في ظلم
…
يخشى الضلالة فيها كل مدلج
كأن أنجمه والجو معتكر
…
غيدا بأخبية ينظرن من فرج
وهذا مما يقع تحت طائلة نقد الباعونية.
ثم هذا كأن قد ابتعد كل البعد عن القصد بمقدمته إلى المديح النبوي إذ أخذ في بعض مسلك هيام صناعة الشعراء:
ليل غياهبه حيرى وأنجمه
…
حسرى وساعاته في الطول كالحجج
كأنما الصبح خاف الليل حين أرى
…
ظلماءه ذات أسداد فلم يلج
وهذا يذكر ببعض أضرب تعب المتنبي- وما أشبه أن يكون نظر في قوله كأنما الصبح إلخ إلى قول أبي الطيب كأن الصبح يطردها وليس مما تعب أبو الطيب فيه- ولكن من أمثلة تعبه رحمه الله.
فليت من لامني لانت شكيمته
…
فكف عني فضول المنطق السمج
ما أحسب البارودي كان يقدم على استعمال «السمج» لولا ما آنسه بها أبو تمام في قوله: «سماجة غنيت البيت» ونحو ذلك.
يظن بي سفها أني على سرف
…
ولا يكاد يرى ما فيه من عوج
فاعدل عن اللوم إن كنت امرأ فطنًا
…
فاللوم في الحب معدود من الهوج
في قوله «الهوج» عناء ما. وقد اتبع سبيل النواسي حيث قال:
لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجًا
…
فإن حظركه بالدين إزراء
ثم صار إلى خروج المدح النبوي
هيهات يسلك لوم العاذلين إلى
…
قلب بحب رسول الله ممتزج
هو النبي الذي لولا هدايته
…
لكان أعلم من في الأرض كالهمج
وهذا مأخوذ من قول البوصيري ومحذو عليه، أعنى قوله:
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
…
لكل هول من الأهوال مقتحم
ولا يعجبني قوله «كالهمج» ههنا على استقامة معناه- ولا عجز البيت بأسره. تأمله:
لكان أعلم من في الأرض كالهمج
تجده منخفض الدرجة عن الديباجة العالية. وأتى البارودي من متابعة بيت البوصيري المتقدم، وعجز ذلك قوي الارتباط بصدره. وعجز بيت البارودي كأنه تعليق منفصم. وهذا يجعل نفسًا من أنفسا الكلام العامي يوشك أن يخالطه. فذلك مما يكون قد قصر به. ثم يقول رحمه الله:
أنا الذي بت من وجد بروضته
…
أحن شوقًا كطير البانة الهزج
قوله «أنا الذي» من أبي الطيب، وهو ظاهر. وقوله كطير البانة الهزج هل عنى به أنه كان يتغنى وهو ينظم من هذه الجيمية وينشد كإنشاد مدائح الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وياليت شعري إذ يشتاق البارودي إلى الروضة الشريفة ها هنا ويحن، هل كان في صباه الأول ابن ست سمع بدنقلا أو ببربر أو بسواكن إذ يصحب أباه فقراء تلك البلاد ينشدون المدائح مما كان قد ازدهر ازدهارًا وخاصة في هذه الأقاليم التي ذكرنا هل سمع مثلاً:
لقد طال شوقي يا أميني لطيبة
…
أشخصها طورًا وطورًا أناظر
تذكرت يا خلي ليالي مبيتنا
…
بمسجدها والقوم باك وذاكر
تهيج شوقي قبة النور وهي في
…
ضياء له العافون شاموا وسامر
وإن لها نورًا إلى العرش ساطعًا
…
تشاهده أبصارنا والبصائر
صاحب هذه القصيدة توفى قبل مولد البارودي بسبع سنين أو نحوها وكان صيته قد طبق الآفاق ومدائحه تنشد في الأقاليم التي ذكرنا وكثير غيرها، وكان قد صنع للبجاة بناحية سواكن مدائح بالعربية السهلة على أنغامها في صيد السمك فكانوا ينشدونها، وأخذت عنهم فكانت بلا ريب تنشد في نواحي بربر. والله تعالى أعلم.
كان البارودي مثقفًا بثقافة الضباط، وكانت من أعلى ضروب الثقافة الحديثة التي يحصل عليها في ذلك الزمان. ومع الثقافة الحربية كانت الممارسة وأنه من طبقة الجاه والرياسة. ثم مع ذلك سعة الاطلاع والعلم بالعربية القليل النظير. ثم ما من الله عليه من تفتح آفاق النفس بتجارب السفر- فرأى مع بلاد الإسلام بلاد الكفر أيضًا وقد صحب اسمعيل باشا الخديوي الطموح وزار اصطمبول وفرنسة وانجلترا وخاض غمار السياسة وتولى أعباء الوزارة. ثم مع هذا كله وفوقه كان شاعرًا. شاعرًا فارسًا كربيعة بن مكدم وكعنترة بن شداد وكعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب وامرئ القيس وطفيل الغنوي وعمرو بن كلثوم جميعًا، أم ليس هو القائل:
ولقد هبطت الغيث يلمع نوره
…
في كل وضاح الأسرة أغيد
تجري به الآرام بين مناهل
…
طابت مواردها وظل أبرد
بمضمر أرن كأن سراته
…
بعد الحميم سبيكة من عسجد
هذا من قول طفيل:
وكمتا مدماة كأن متونها
…
جزى فوقها واستشعرت لون مذهب
وأحسبه قد مر مع الكلمة التي هو منها في باب الأوصاف
خلصت له اليمنى وعم ثلاثة
…
منه البياض إلى وظيفة أجرد
وكأنما انتزع الأصيل رداءه
…
سلبًا وخاض من الضحى في مورد
هذا كقول الكلحبة ويروى بعضه لسلمة بن الخرشب وكلاهما مفضلي:
تسائلني بنو جشم بن بكر
…
أغراء العرادة أم بهيم
هي الفرس التي كرت عليهم
…
عليها الشيخ كالأسد الكليم
أي هو الكليم أو نعت رد على الشيخ ولا إقواء
إذا تمضيهم عادت عليهم
…
وقيدها الرماح فما تريم
تعادى من قوائمها ثلاث
…
بتحجيل وقائمة بهيم
كميت غير محلفة ولكن
…
كلون الصرف على به الأديم
وقد تصرف البارودي فجعل الأصيل ومورد الضحى مكان «غير محلفة إلخ» ونظر من طرف خفي إلى قول أبي الطيب «كأنه من الليل باق إلخ بيت البائية»
زجل يردد في اللهاة صهيله
…
رفعًا كزمزمة الحبي المرعد
هذا عجزه من بيت كعب:
من سره ضرب يمعمع بعضه
…
بعضًا كمعمعة الآباء المحرق
وما خلا أوله من وحي من بيت طفيل: «وإن يلق كلب بين لحييه يذهب» وقد ترى ذكره اللهاة، فما بدت لهاته إلا لشحوه فاه، فهذا قول طفيل.
متلفتا عن جانبيه يهزه
…
مرح الصبا كالشارب المتغرد
فإذا ثنيت له العنان وجدته
…
يمطو كسيد الردهة المتورد
يشير إلى قول طرفة وليس هذا بأخذ ولا توليد ولا سرقة ولكن تلذذ وترنم.
وإذا أطعت له العنان رأيته
…
يطوى المهامه فدفدا في فدفد
يكفيك منه إذا أحس بنبأة
…
شد كمعمعة الأباء الموقد
يشير إلى بيت كعب والأخذ في الحذو الذي أشرنا إليه من قبل لا هنا.
صلب السنابك لا يمر بجلمد
…
في الشد إلا رض فيه بجلمد
نعم العتاد إذا الشفاه تقلصت
…
يوم الكهريهة في العجاج الأربد
هذا يشير به إلى قول عنترة «إذ تقلص الشفتان البيت»
ولقد شربت الخمر بين غطارف .. شم المعاطس كالغصون الميد
هنا نغم عنترة وإيقاعه وإشارة إليه. رنة هذا البيت مثل رنة بيت عنترة:
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها
…
بسليم أوظفة القوائم هيكل
وأوله كأول قوله «ولقد شربت من المدامة البيت» - وفي أبيات البارودي من قبل «ولقد شهدت الحرب في إبانها» . وسائر البيت من قول حسان: «شم الأنوف من الطراز الأول» .
يتلاعبون على الكئوس إذا جرت
…
لعبا يروح الجد فيه ويغتدى
لا ينطقون بغير ما أمر الهوى
…
فكلامهم كالروض مصقول ندى
من كل وضاح الجبين كأنه
…
قمر توسط جنح ليل أسود
هنا شريحان من أدب كئوس ضباط الحربية العصرية الأوروبية بعض السمت، ومن أدب «وإذا شربت» و «إذا صحوت» «وفتية كسيوف الهند» ذلك قد يستفاد من قوله:«يروح الجد فيه ويغتدى» . وفي قوله، «لا ينطقون» رنة من إيقاع «لا يستفيقون منها وهي راهنة». وقوله:«ما أمر الهوى» يوقف عنده شيئًا: أكان في المجلس نساء أم هي أنفاس نواسية أم معاذ الله- بل لا يعدو أن يكون أراد الغناء من عود ونحوه، فهذا الذي يأمر به الهوى في مثل هذا المجلس. وقوله «من كل وضاح» بحتري الصياغة والرنة- قال أبو عبادة:
وتراه في ظلم الوغى فتخاله
…
قمرًا يغير على الرجال بكوكب
ثم صار بعد مجلس الشراب إلى ذكر مغامرة الغرام. والقصيدة شبه مخصرة. بدأها بخلط ذكر الهم بالرحيل من الأحباب وشكوى الصبابة وهو قوله:
ظن الظنون فبات غير موسد
…
حيران يكلأ مستنير الفرقد
تلوي به الذكرات حتى إنه
…
ليظل ملقى بين أيدى العود
طورًا يهم بأن يزل بنفسه
…
سرفًا وتارات يميل على اليد
وكأنما افترست بطائر حلمه
…
مشمولة أو ساغ سم الأسود
قالوا غدًا يوم الرحيل ومن لهم
…
خوف التفرق أن أعيش إلى غد
هي بهجة ذهب الهوى بشغافها
…
معمودة إن لم تمت فكأن قد
هنا تروض الملكة القوية سبيل فض مكنون قلب الشاعر إلى ما يرومه من اغراض البيان الجهير على نمط القصيدة العربية الأصيلة- هنا النابغة، تحس صدى إيقاعه في «غير موسد» «أيدى العود» «يميل على اليد» «غدًا يوم الرحيل» - وتحس عنترة في «طورًا يهم» [تذكر طورًا يجرد للطعان]- وتحس نغم الحماسي في «وكأنما افترست» ذلك قول سلمى بن ربيعة.
وكأن في العينين حب قرنفل
…
أو سنبلا كحلت به فانهلت
وقوله: «وكأن قد» ، نابغي. والمطلع كله بعضه نابغي وبعضه كالأسود بن يعفر ثم إذ مهد سبيل النسيب صار إليه:
يأهل ذا البيت الرفيع مناره
…
أدعوكم يا قوم دعوة مقصد
إني فقدت اليوم بين بيوتكم
…
عقلي فردوه علي لأهتدي
أو فاستقيدوني ببعض قيانكم
…
حتى ترد إلي نفسي أو تدي
قول البارودي «يأهل ذا البيت» بشعرنا أنه بإزاء الوداع. ولا سبيل إليه إلا بحديث العيون: -
بل يا أخا السيف الطويل نجاده
…
إن أنت لم تحم النزيل فأغمد
جعل نفسه ضيفًا على حي المحبوبة ولكن فارس الحي لا يستطيع حمايته من فتك عيون حسانه، وها هم هؤلاء قد أجمعوا أمرهم للرحيل وارتهنوا فؤاده عندهن.
هذى لحاظ الغيد بين شعابكم
…
فتكت بنا خلسا بغير مهند
من كل ناعمة الصبا بدوية
…
ريا الشباب سليمة المتجرد
ما أرى إلا أن ها هنا خطأ في الطبع أو قراءة من قرأ من خط البارودي، وما أشبه أن يكون عجز البيت «ريا الشباب سلبية المتجرد» أي لو قد سلب متجردها لألفيت ريا الشباب. أما سليمة المتجرد فضعيفة لا تشبه أسر القصيدة ونغم جزالتها. فإن تكن هي الصواب، فلرب كبوة من جواد. وإن تكن هي التي قالها البارودي فما جرتها إليه إلا إشعاره بأنه حضري حيث جعلها بدوية، ثم أتبع ذلك ما عند الحضر من توهم سلامة الجسم وصحته في البادية- والمعنى على هذا التأويل يسوغ ولكنه يفقد رنة قوة أسرة. إذ البدوي حقًا هو شاعرنا لا هذه التي زعمها بدوية. وسلبية بالباء الموحدة التحتية يستقيم بها المعنى -وباؤها أشد ملاءمة لما من قبل من الباءات- والله أعلم.
هيفاء إن خطرت سبت وإذا رنت
…
سلبت فؤاد العابد المتشدد
سلبت ها هنا ما زعمنا من «سلبية» قبل وتكون حالاً منصوبة.
ثم يجئ شيء كالتحضير، أوله نظر في أمر النساء فيه مشابه من مقال علقمة حيث قال: «فإن تسألوني بالنساء
…
»، ثم بعد ذلك تنويه بفروسيته ويكون ذلك كالنطاق وكالتوشيح يصل به إلى تذكر الخيل والشراب والمغامرة الغرامية. وفي هذه الدالية بعد، لبدئها بالليل، ثم جعل بداية الذكريات اغتداء بالفرس، كالحذر على
نموذج من دالية الأسود بن يعفر «نام الخلي وما أحس رقادي» وقد بينا من قبل أن هذه الدالية تساير المعلقة من عند ذكر الليل إلى نهايتها أو قريب من ذلك. -قال البارودي-:
يخفضن من أبصارهن تختلا
…
للنفس فعل القانتات العبد
«فعل القانتات العبد» يشير إلى قوله تعالى: {وقل للمؤمنات} وقوله: {يغضضن من أبصارهن} في صياغة ورنة إيقاعه نظر إلى قول الأسود: «ينطقن معروفًا وهن نواعم البيت» ينطقن مخفوض الحديث تهامسًا»
فإذا أصبن أخا الشباب سلبنه
…
ورمين مهجته بطرف أصيد
وإذا لمحن أخا المشيب قلينه
…
وسترن ضاحية المحاسن باليد
فهذا ما زعمنا من اتباعه مقال علقمة- ثم يجئ حديثه عن نفسه:
فلئن غدوت دريئة لعيونها
…
فلقد أفل زعارة المتمرد
الدريئة الهدف وأشار إلى قول قطري:
فلقد أراني للرماح دريئة
…
من عن يميني مرة وأمامي
وهذه الإشارة صارت به إلى ذكر الحرب:
ولقد شهدت الحرب في إيانها
…
ولبئس راعي الحي إن لم أشهد
وقد ذكرنا من قبل أخذ البارودي هنا من إيقاع عنترة وحذا على حذوه حيث قال:
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها
…
بسليم أوظفة القوائم هيكل
فدعوا نزال فكنت أول نازل
…
وعلام أركبه إذا لم أنزل
هذا العجز من بيت عنترة صداه في قول شاعرنا «ولبئس راعي الحق» وفي روى البارودي وبحره وبعض صياغته أصداء من كلمة عامر بن الطفيل
ولتسألن أسماء وهي حفية
…
نصحاءها أطردت أم لم أطرد
وأظهر ما في دالية البارودي من أصداء هذه الكلمة العامرين بعد الروي والقافية رنة المضارع المنفي بلم- لم أطرد- لم يسند- لم يقصد- لم توقد. وجاء به البارودي مرتين
في القافية -لم أشهد- لم ينفد وقارب في قوله: إن لم تحم النزيل فأغمد». وفي لو لم ينقض» (1).
تتقصف المران في حجراتها
…
ويعود فيها السيف مثل الأرد
أي ذا فلول
عصفت بها ريح الردى فتدفقت
…
بدم الفوارس كالآتي المزبد
ما زلت أطعن بينها حتى انثنت
…
عن مثل حاشية الرداء المجسد
قوله ما زالت ينظر إلى قول عنترة: «ما زلت أرميهم بثغرة نحره البيت- وهذا آخر ما شبهناه بتخصير المتنبي والقدماء من قبل. ومن بعده ما ذكرنا من أبيات الذكرى، وختم بمغامرة الغرام وبأبيات الحكمة على النحو الذي ختمت به دالية الأسود في رواية من روى:
فإذا وذلك لا مهاه لذكره
…
والدهر يعقب صالحًا بفساد
واستهل أبيات المغامرة بنمط جاهلي ثم مضى فيه:
بل رب غانية طرقت خباءها
…
والنجم يطرف عن لواحظ أرمد
قالت وقد نظرت إلى فضحتني
…
فأرجع لشأنك فالرجال بمرصد
فخلبتها بالقول حتى رضتها
…
وطويتها طي الجبيرة باليد
أي كما تطوي الثياب الناعمة بيد طاويها- أخذ هذا من قول جرير:
» طي التجار بحضر موت برودًا»
هذا من حيث ظاهر اللفظ وفي المعنى أنفسا امرئ القيس:
(1) جعل موقع الضاد حيث وقعت ضربًا من التقفية وفي كلام الأخفش ما يسوغ مثل هذا ثم تشبع الضاد للروى على طريقة ما يقع في القوافي.
هصرت بفودي رأسها فتمايلت
…
على هضيم الكشح ريا المخلخل
والمرأة الشابة الجميلة كالمهرة الضامر- «طي التجارب بحضرموت برودًا»
وفي المعنى أيضًا أنفاس سحيم عبد بني الحسحاس:
» افرجها فرج القباء
…
»
قاتله الله
…
زعموا أن عمر قال له إنك مقتول
…
ولعله ما قتله إلا الأساطير
ما زلت أمنعها المنام غواية
…
حتى لقد بتنا بليل الأنقد
يقال بات بليل أنقد وبليل الأنقد أي ساهرًا وأنقد كأحمد (علم غير منون مطلق على الجنس) وقد تدخله اللام، هو القنفذ وما أشبه عندي أن يكون الشاعر قد قال «بليلة أنقد» كقول الأعشى «ألم تغمض عيناك ليلة ارمدا» لذكره السهر في قوله «امنعها المنام» - بالإشارة إلى قول الأعشى موجودة على كل حال، «إلا إن ليلة انقدا» أشد شبهًا وما بلغنا جيد قوي فلا ينبغي أن نعدل عنه «وغواية» تنظر إلى قول امرئ القيس «وما أن أرى عنك الغواية تنجلي» وما زلت منها في صياغة حذو على «ما زلت أرميهم»
…
بيت عنترة.
روعاء تفزع من عصافير الضحى
…
ترفا وتجزع من صياح الهدهد
فترفها على هذا أنها عذراء إذ قد زعم أنها بدوية من قبل
حتى إذا نم الصبا وتتابعت
…
زيم الكواكب كالمها المتبدد
الصبا يجوز إنها ريح الصبا وهذا من قوله تعالى: {والصبح إذا تنفس} .. وما استبعد أن يكون أراد الصباح فحذف على مذهب الفصحاء كقول علقمة: «بسبا الكتان» وقول لبيد: «درس المنا بمتالع فأبان» زيم الكواكب، أي متفرقاتها والتشبيه بقطيع المها المتبدد من امرئ القيس:
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
…
بجيد على معم في العشيرة مخول
اللاتي أدبرن هن بقر الوحش. وفي اللامية قوله: «إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح» وهو وشاح التي في جيدها هذا الطوق. والمعاني تتداعى فمن هنا جاء البارودي بتشبيهه. وقد كان قلب البارودي وخياله مفعمًا بصور بيان الشعراء، وما أجاب به سؤال مطران يدل على ذلك.
قالت دخلت وما إخالك بارحًا
…
إلا وقد أبقيت عار المسند
أي عار الدهر فهذا يدل على أنها عذراء- كعذراء امرئ القيس وسحيم.
وما عدا البارودي رحمه الله أن أضفي لونًا جاهليًا على مغامرة مما أتيح على التوهم أو حقًا في بعض دار الحرب أو السلم، وكأن قوله:«متلثما والسيف يلمع في يدي» كناية ورمز:
فمسحتها حتى اطمأن فؤادها
…
فنفيت روعتها برأي محصد
وخرجت اخترق الصفوف إلى العدا
…
مثلثما والسيف يلمع في يدي
فلنعم ذاك العيش لو لم ينقضي
…
ولنعم هذا العيش لو لم ينفذ
برأي محصد تنظر إلى قول عنترة «وأحفزه بأمر مبرم» . وقوله «وخرجت إلخ» يخالف ما قال ابن ربيعة ويؤثر مذهب جميل:
إذا ما رأوني طالعًا من ثنية
…
يقولون من هذا وقد عرفوني
وقوله «لو لم ينقضي» فيه إشباع كسرة الضاد لشبه التصريع أو هو تصريع على مذهب من قال:
رأى من رفيقية جفاء وبيعه
…
إذا قام يبتاع القلاص ذميم
خليلي حلا واتركا الرحل إنني
…
بمهلكة والعاقبات تدور
فبيناه يشري رحله قال قائل
…
لمن جمل رخو الملاط نجيب
ذكره الأخفش [القوافي لأبي الحسن الأخفش دمشق 1390 هـ س 47] أو أشبه بقول الآخر [نفسه 52]:
إذا نزلت فاجعلاني وسطًا
إني شيخ لا أطيق العندا
لقرب تشابه الحروف. ولعل البارودي لم يقل «لو لم ينقض» ولكن: «لولا ينقضي» وهو أشبه بأسلوبه، وقد يسبق قلم أو يقع من طابع خطأ في مثل هذه الأشياء. والله أعلم.
يرجو الفتى في الدهر طول حياته
…
ونعيمه والمرء غير مخلد
هذا كما تقدم محذو على قول الأسود بن يعفر، في رواية من رواه له: -
فإذا وذلك لا مهاه لذكره
…
والدهر يعقب صالحًا بفساد
وفي أوله نظر إلى كلمة النمر بن تولب:
يود الفتى طول السلامة والبقا
…
فكيف ترى طول السلامة يفعل
جمع البارودي في هذه الدالية بين الضابط الحربي ابن الطبقة العالية على زمان افندينا الخديوي وبين الشاب المثقف المتحرر المتحمس المفعم بروح الثورة والقومية وحرارتهما وبين الفارس الأمير المصري الجركسي وبين البطل العربي الأسطوري المثالي، عنترة بن شداد وربيعة بن مكدم وعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب.
شخصية البارودي من فوق صهوة جواده: جواد ضباط السواري العزيز الطموح وجواد الأسود بن يعفر، جواد الجاهلية ذات الحمية:
بمضمر أرن عتيد شده
…
قيد السوابق والرهان جواد
وجواد امرئ القيس، جواد الفتوة والملك الضليل والأحلام العراض:
على الذبل جياش كأن اهتزامه
…
إذا جاش فيه حميه غلي مرجل
شخصية فذة نادرة، يتجسد فيها كل ما كانت توهمه الرومانسية في ريعان إبانها من المثل العليا الشامخات. شخصية هي جوهر الرومانسية التي يروم الانتماء إلى نموذجها «المترمنسون»: فهذا تأويل قولنا آنفًا إن البارودي هو سيد «الرومانسية» الحديثة في الشعر العربي وهذا لا يدخله في نطاق ما نطلق عليه الآن اسم «الرومانسية» في الشعر العربي ولكن يخرجه من ذلك إخراجًا.
رثى برتراند رسل في فصله عن الرومنسية في كتابه عن تاريخ الفلسفة الغربية الأوائل شبان الشعراء الرومنسيين الألمانيين من مات منهم صغيرًا ومن عمر من بعد.
إذا الضرب الأول قد اختضر قبل استوائه ونضجه والضرب الثاني قد زعم إن الذين اختضروا أسعد منهم لأنهم، أي الضرب الذي عمر، قد ماتوا موتًا أكبر باعتناقهم الكثلكة على فرط «ترمنمس» . وقسا في ترجمته لفيلسوف الرومنسية الكبير جان جاك روسو وليس ذلك لعمري بضائره. وقد كان جسيم الفكر شجاعة على لين وشذوذ في الطباع، وفي اعترافاته ما يدل على اطلاع على بعض ما في إحياء علوم الدين لأبي حامد. ومما يذكر في هذا الصدد أنه مرت عليه فترة وهو ضيف أو صديق لدافيد هيوم DAVID HUME الفيلسوف الأسكتلندي صاحب إنكار السببية وأصول فلسفته هذه في تهافت أبي حامد. كما أن أصولا من النسبية في تهافت أبي حامد أيضًا. ودل برتراند رسل أما على جهل أو تجاهل عن تعصب في الفصل القصير له عنه وعن فلسفة المسلمين وناقض نفسه في كتابته عن روجر بيكون إذ مدحه بمعرفته علوم المسلمين
وقل عالم أوربي يسلم من روح التعصب العنصري والديني والانطلاق من نقطة دعوى تسليم الناس له بالتفوق، كالذي مر من قول نيكلسون بحسب مقاييس الذوق الأوروبي بمعرض حديثه عن أبي الطيب وعند القوم أمثالها.
هذا ومن أوائل الشعراء الرومانسيين الإفرنج وردزورث Wordsworth، وكان أقرب إلى نموذج الجنتلمان الإنجليزي، وتأثر بروسو في حبه الطبيعة ودعواه التصوف بها، وله كلمات حسان، وربما أدركه الفتور. وشعره من الضرب الغنائي الذي يصوغه ذا موضوع وفكرة كالمقالة الإنشائية، ويضمنه إحساسه الذاتي، ومن أشهر كلماته في هذا المعنى كلمة له عما تشعر به النفس من معاني الخلود تستمده من ذكريات الطفولة الأولى.
ODE ON INTIMATIONS OF IMMORTALITY FROM RECLLECTIONS OF EARLY CHILDHOOD)
وأحسبها كان لها على بعض أوائل الرومانسيين العرب أثر كبير إذ كانت من مقررات المدارس في مختارات الأدب الإنجليزي. واشترك وردزورث في أول أمره مع «صموئيل تيلور كلردج» في إصدار الأغاني الشعبية، ديون شعر دافعًا فيه بما أنشأ وما قدما عن قضية التجديد وكلردج أقوى اندفاعًا وأحر أنفاسًا من ورد زورث إلا أنه قد ابتلى بتخدير الأفيون، فذهب ذلك بملكة شعره، واشتغل بالفلسفة والدين، وله الترجمة الأدبية التي تعد من أهم من أمهات كتب النقد الحديث. ومن أشهر شعره قصة الملاح العجوز، وفيها نغم جيد وأضغاث أوهام. وقطعة عنوانها «قبلاى خان» قيل نظمها دفعة واحدة ثم طرق عليه الباب فانقطع عنه نفس القطعة عند الموضع الذي اتفق مع بلوغه إياه طرق ذلك الطارق. وقيل نظمها تحت تأثير وآخرها كأنه مستعار من ساحرات شكسبير الثلاث في مسرحيته ماكبيث. ومن كبار شعراء الإنجليز الرومانسيين بعد هذين:
ثلاثة متقاربو السن، اللوردبيرون (1788 - 1824 م) وكان من سفهاء الطبقة العالية متوسط الشعر في نظر النقاد الإنجليز وشيلى (1792 - 1824) وكان حاد الذكاء ملحدًا في شعره اندفاع، واشتهرت له خاصة بين العرب كلمتاه عن الطائر وعن الريح الغربية، وتحمسه ومده بيديه يعطو ولا ينال من خصائص أسلوبه التي انتقل بعض طابعها إلى مقلديه. وأصغر الثلاثة سنا ولعله أشعرهم «جون كتيس» (1795 - 1821) وقتله السل وكان طبيبًا. وجميع الرومانسيين لآداب الشرق والعربية خاصة أثر بين في ما نظموه. وذلك في «كيتس» أشد ظهورًا وقد استهل كلمته عن البلبل بمطلع نسيبي الروح وذكر فيه الخمر وتعتيقها مع تخير دقيق متذوق لحلاوة الألفاظ، وتعجبني كلمة
له أسطورية الطابع عندي أن بعض أصلها من ألف ليلة وليلة، من طريق مباشر أو غير مباشر وهي التي عنوانها فرنسي.
La Belle DAME SANS MERCI
أي «المرأة الحسناء بلا رحمة» . وقد بين ماريو براز أن لها أصولاً قديمة كثيرة.
وأضع ترجمتها التقريبية بين يدي القارئ الكريم، لا لأنها ترجمة حسنة، فالشعر مما تعسر ترجمته وقد نبه الجاحظ لذلك. [وأذكر إذ قال الأستاذ غرى GURRY بمعهد التربية بجامعة لندن سنة 1946 لأحد الطلبة إذ زعم أنه يستحسن تقديم قطع مبسطة من الشعر الجيد ليتذوق جودتها الصغار:«ولكنك لن تستطيع تبسيط الشعر، هل تستطيع ذلك؟ » .
But you can't simplify poetry، can you?
فهذا في التبسيط فكيف بالترجمة؟ }. ولكني أضع هذه الترجمة لما تنم به هذه الكلمة خاصة من معاني «الترمنس» . ولصاحب كتاب «احتضار الرومانسية» The Romantic Agony «ماريوبراز» MARIO PRAZ فصل كامل هو الرابع من كتابه قدم للفصل بأبيات منها وعنونه بعنوانها وبنى تحليل جوانب من زعمه احتضار الرومانسية على معان منها وأصل الكتاب باللغة الطليانية، وترجمة منها إلى الإنجليزية بالعنوان الإنجليزي الذي ذكرناه «انغس دافدسن» ANGUS DA VIDSON» (الطبعة الثانية من طبعة أكسفورد، لندن ونيويورك 1970 ص 200 - 300).
فآمل أن يقع مرادي موقعًا من بعض ما عسى أن يفيد:
يأيها الفارس في الدرع، ما
…
تألم فذا في شحوب تسير
قد صوح النبت الذي في الغدير
والطير لا يلفى له من هدير
يأيها الفارس في الدرع ما
…
تألم مهمومًا كئيب الفؤاد
قد ملأ الغرفة بالغلة السـ
…
ـنجاب وإنجاب أوان الحصاد
أرى على حاجبكم زنبقا
…
به ندى الحمى وطل الشجن
وقد أرى في خدكم وردة
…
حالت فما أسرع ما تذبلن
رأيت في الروضة إنسانية
…
كاملة الحسن ومن نسل جن
طويلة الشعر ووحشية الـ
…
ـعينين والخطو خفيفًا وزن
ألبستها إكليل غار وسو
…
ـورت بأزهار ومنطقتها
ونظرت لي نظرات الهوى
…
ثمت أنت حلوة صوتها
حملتها فوق جوادى بنا
…
يخطو لا شيئًا سواها أرى
طوال يومي حين مالت إلى
…
جنبي وتشدو اللحن من عبقرا
ووجدت لي من عروق شهيـ
…
ـات وحلوات لدى المأكل
والعسل البري جاءت به
…
والمن يغشاه ندى السلسل
ثمت قالت بلسان غريـ
…
ـب إنني أهواك يا ويح لي
ثمت صارت بي إلى كهفها الـ
…
ـمسحور صارت بي إلى كهفها
وحدقت ثم ومقروحة الـ
…
ـفؤاد بالآهة من جوفها
عندئذ قبلتها أربعا
…
أغلقن جفن الوحش من طرفها
ووسدتني ساعديها وغنـ
…
ـت لي إلى أن نمت في حجرها
حلمت في نومي ويا حسرة النـ
…
ـفس على ما كان من أمرها
آخر حلم كان لي ذاك في
…
جانب سفح الجبل البارد
آخر حلم أبصرت مقلتي
…
من بعد ذاك السكر الخالد
ثم ملوكًا شاحبي أوجه
…
رأيتهم وأمرًا مثلهم
وبشحوب كشحوب الردي
…
فرسان حرب أخذوا قبلهم
جميعهم قالوا معًا إنها الـ
…
ـحسنا بلا قلب رحيم سبتك
والغادة الحسنا بلا رحمة
…
يا ويح ما نفسك قد أحرزتك
رأيت في ضوء المكان الضعيف
…
شفاههم فالقلب مني أسيف
ضورها الجوع ويفغرن تلـ
…
ـقائي فغرا بنذير مخيف
صحوت والآن أنا واجدي
…
بجنب هذا الجبل البارد
من أجل هذا وفؤادي كسير
…
وحدي ألفى في شحوب أسير
من بعد ما جف نبات الغدير
…
والطير لا يلفى له من هدير
وإليك النص الإنجليزي لتصحح به ما قد يكون مما اضطريت به الترجمة:
What can ail thee knight - at - arms،
Alone and palely loitering?
The sedge is wither'd from the lake،
And no birds sing
What can ail thee knight - at -arms،
So haggard and woe-begone?
The squirrel's granry is full.
And the harvest's done
I see a lily on they brow
With anguish moist and fever dew;
And on they cheek a fading rose
Fast withereth too.
I met a lady in the meads،
Full beautiful - afaery's child
Her hair was long، her foot was light،
And her eyes were wild
I made a garland for her head،
And bracelets too and fragrant zone
She look'd at me as she did love،
And made a sweet moan
I set her on my pacing steed،
And nothing else saw all day long،
For side ways would she lean، and sing
A faery's Song
She found me roots of relish sweet،
And honey wild، and mana dew;
And sure in language strange she said I love thee true
She took me in her elfin grot،
And there she gazed and sighed full sore،
And there I shut her wild wild eyes
With kisses four.
And there she lulled me asleep،
And there I dream'd-ah! woe betide!
The latest dream I ever dream'd
On the cold hill side.
I saw pale kings and princes too،
Pale warriors، death-pale were they all;
They cried - «la Belle Dame sans merci
Thee hath in thrall! »
I saw their starv'd lips in the gloam،
With horrid warning gaped wide،
And I awoke، and found me here،
On the cold hill side ..
And this is why I sojourn here،
Alone and palely loitering،
Though the sedge is wither'd from the lake
And no birds sing.
» الترمنس» الكنين في هذه القطعة هو هذا العش المسحور، وهذه الحسناء القتول التي تشرب دماء معشوقيها.
كانت «رومنسية» فرنسة الكبيرة هي ثورتها. وأبطالها المثاليون أولو الطموح والدموية المرعبة: ميرابو- دانتون- مارا- روبسبير- ثم نابليون، الذي أعاد ذكرى الإسكندر، وهنيبعل وقيصر وتيمورلنك، وفتح باب هول أوربا وحروب دمارها وتفوق استعمارها وهلم جرا فتحًا كما لم يتح له من قبل- وخاصة بتوجيهه الأنظار إلى مصر والشام كما عهدت أوربا أيام الحروب الصليبية. وقد كان من أوائل الرومنسية الأدبية في فرنسة، مدام دي شتايل وأبوها كان وزير لويس السادس عشر قتيل الثورة وكانت امرأة قوية الشخصية (1766 - 1817) دميمة ومع ذلك ذات فتنة. ومن مقالاتها:«إن النواوير ومجاري الأنهار كانت ذات كفاية للشعراء غير المسيحيين. أما قلوب المسيحيين فإن لا أبدية ولا نهائية أرواحها تقصر عن مدى التعبير عنها البحار التي لا ساحل لها والسماوات الملأي بالنجوم والغابات العظيمة الوحشة.» فتأمل هذه الأصل من مسيحية الرومنسية ووثنيتها معًا. وقالوا إن بنيامين كونستان B.Constant (1767 - 1830)، السويسري، صاحب قصة «أدلف» (1)، كان لها خليلاً. وقصته هذه تعد من أوائل «الترمنس» الفرنسي، وعليها حذا دوماس غادته التي مثلتها في زماننا نجمة السينما غريتا غاربو وصاحب غادة الكاميليا أجود عشقًا من أدولف، الذي كأنما رمز به المؤلف إلى نفسه إذ سلا حب مدام دي شتايل، وجعل صاحبه أدلف تموت من حبه، كما ماتت ليلى من حب قيس. وقد كانت الرومنسية الفرنسية في الأدب أحدث عهدًا، وأدخلها فتور ما بعد الثورة، وروح ثورات ما بعد الثورة- الثورة الصناعية مثلاً. ومن أشهر أدباء فرنسة وشعرائها الرومنسيين «الفريدي موسيه»
(1) أدولف هو فتى عشق امرأة أسن منه لا حبًا لها ولكن زهوًا منه ليزعم لنفسه أنه عاشق معشوق وقالوا إن القصة كأنها ترجمة ذاتية عرض فيها بغرامياته وضروب من ضعفه.
«ولا مرتين» . وقد تأثر أدباء النهضة وروادها الأولون بعد البارودي وقبله، في مصر والشام وغيرهما، أول شيء بالثقافة الفرنسية ثم من بعد بالإنجليزية وغيرها من آداب أوربا.
أما البارودي فقد كان صاحب سيف ورجل دولة ونضال. كان تأثره بأوروبا محصورًا في الجانب العلمي الحربي والسياسي. ولكن الجانب الأدبي لم يفتنه. كان له عنه شغل شاغل بما فتنه وملك عليه جوانب قلبه من أشعار العرب. حتى نثره المسجوع بالنسبة لبعض ما لا نقول به من بعض الأقاويل المعاصرة، ينبغي أن يكون هو ضربًا من الشعر. شخصيته التي نعتناها بأنها في الرومنسية ذروة، هي حقًا أصل في ذاتها، من نوع تلك البطولات المثالية التي كانت تعطو إليها رومنسية شعراء أوروبا الأولى وأدباءها، بأحلامها ونماذج صناعتها وإلهامها. البارودي بأنه أصل ومثل، لا فرع ضعيف ولا حذو على مثال، ذلك مخرجه من زمرة الرومنسية الحديثة إخراجًا.
قصيدة البارودي لا ملحمية ولا مسرحية ولا غنائية هي عربية صلته صوت مكافح جهير، كصوت زهير وجرير وأبي تمام وأبي الطيب. الدالية التي أوردناها منذ حين أغلب عليها روح المجاراة على مالها من معدن أصالة وقوة. وقد استقام للبارودي حين بلغ أشده في الشعر واستوى نهج القصيدة، كما استقام من قبل، لأبي تمام وأبي عبادة وأبي الطيب، ومن بعد هؤلاء للصرصري والبوصيري والبرعي وابن الخطيب والبقية الباقية من شعراء مدح الرسول صلى الله عليه وسلم في شتى بلاد العربية وآفاق الإسلام.
خذ قوله المشهور في موقفه من ثورة عرابي باشا:
نصحت قومي وقلت الحرب مفجعة
…
وربما تاح أمر غير مظنون
تأمل تاح هذه في زمان لا يكاد يعرف فيه هذا الفعل إلا رباعيًا مبنيًا للمجهول. المبني للمعلوم هنا هو المعبر الأصيل.
فخالفوني وشبوها مكابرة
…
وكان أولى بقومي لو أطاعوني
إذ كان هو الرئيس الأمير العالم الشاعر- ولكن التأثر العملي بأوروبا تخطى حنكته وتجاربه إلى مذهب من «الغوغاء» كان هو منه جد بعيد. وما أرى هيكيلاً على جودة رأيه إلا قد ظلمه حيث قال: «واندفع الضباط يفكرون في خلع توفيق. وقد نازعته نفسه يومئذ إلى مكان المجد وتحركت فيها أسباب الاعتداد بمكان أجداده المماليك الذين
حكموا مصر وقصيدته التي مطلعها:
قلدت جيد المعالي حلية الغزل
…
وقلت في الجد ما أغنى عن الهزل
لا تبرئه من هذا التفكير وإن ذكر في الديوان إنها قيلت في عهد إسماعيل «.أ. هـ. قلت ما قاله الديوان أصدق عند المتأمل من ظن هيكل الذي ظنه، رحمه الله، وذلك أن هذه اللامية على وضوح مجاراتها للامية الطغرائي -فارس آخر من معادن كمعادنه روحًا وأدبًا وشعرًا- فيها من حرارة الشباب وطيشه ما يشهد بصدق سبق تاريخ نظمها لزمان توفيق. وقال هيكل في موضع آخر: «ولكن اندفاعه في حركة الضباط من بداءتها حال بينه وبين التخلص منهم، فلم يكن له بد من أن يسير معهم وأن يربط حظه بحظهم» . لو اكتفى هيكل بقوله: «أن يسير معهم» لكان قد أصاب.
وصار إلى ما قاله البارودي في أبياته النونية ولكن قوله: «وأن يربط حظه بحظهم «مشعر بمعنى» الانتهازية» والدهاء الذي زعم من قبل. وشعر البارودي وسمت صدقه يشهد ببطلان هذه التهمة.
نصحت قومي وقلت الحرب مفجعة
…
وربما تاح أمر غير مظنون
فخالفوني وشبوها مكابرة
…
وكان أولى بقومي لو أطاعوني
تأتي الأمور على ما ليس في خلد
…
ويخطئ الظن في بعض الأحايين
كأنه يعاتب نفسه شيئًا ههنا.
حتى إذا لم يعد في الأمر منزعة
…
وأصبح الشر أمرًا غير مكنون
أجبت إذ هتفوا باسمي
…
هنا البطولة والمأساة معًا ....
ومن شيمي
…
صدق الولاء وتحقيق الأظانين
تأمل جودة المقابلة في اللفظ والمعنى بين قوله: «ويخطئ الظن إلخ» وقوله: «صدق الولاء وتحقيق الأظانين» - ومكنونة تحت ذلك مقابلة تحمل معنى الأسف الروحي وعتاب النفس، يكره أن يكون ندما على اتباع ما اتبع، ويقارب ذلك الندم، رحمه الله، وسقت قبره شأبيب المغفرة والرضوان.
من أحب شعره إلى وأجوده قوله بسرنديب:
لكل دمع جرى من مقلة سبب
…
وكيف يملك دمع العين مكتئب
المطلع بوصيري الروح. ولعله رحمه الله كان ينشد من البردة، يتبرك بها ويتوسل بروحانيتها في منفاه.- تأمل «دمع جرى من مقلة»: قال البوصيري:
أمن تذكر جيران بذي سلم
…
مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
والبحر بحر البردة. وقد رأيت مجاراة أبي الطيب باء «السيف أصدق» بميم «عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم» . وفي بائية البارودي هذه أيضًا نوع من المجاراة لميمية أبي الطيب:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
روح البحر ونظر روي الباء إلى الميم نسب بين هذه الكلمة وبردة المديح، ومجرى الضم مع ما تقدم نسب بينها وبين «واحر قلباه ممن قلبه شبم» - ثم للبارودي بعدما انفرد به من بث الشكوى والخطاب الصريح وأمل القومية والمجد والحفاظ الذي ضاع.
قال رحمه الله:
لكل دمع جرى من مقلة سبب
…
وكيف يملك دمع العين مكتئب
لولا مكابدة الأشواق ما دمعت
…
عين ولا بات قلب في الحشا يجب
فيا أخا العذل لا تعجل بلائمة
…
على فالحب سلطان له الغلب
ولو تبين ما في الغيب من حدث
…
لكان يعلم ما يأتي ويجتنب
لكنه غرض للدهر يرشقه
…
بأسهم ما لها ريش ولا عقب
فكيف أكتم أشواقي وبي كلف
…
تكاد من مسه الأحشاء تنشعب
أم كيف أسلو ولى قلب إذا التهبت
…
بالأفق لمعة برق كاد يلتهب
أصبحت في الحب مطويًا على حرق
…
يكاد أيسرها بالروح ينتشب
إذا تنفست فاضت زفرتي شررًا
…
كما استنار وراء القدحة اللهب
لم يبق لي غير نفسي ما أجود به
…
وقد فعلت فهل من رحمة تجب
لم يبق لي غير نفسي ما أجود به
…
وقد فعلت فهل من رحمة تجب
كأن قلبي وقد هاج الغرام به
…
بين الحشا طائر في الفخ يضطرب
صورة الطائر المضطرب تتردد عند البارودي. وله رائية قصيرة حسنة ذكر فيها الطائر الحذر:
يهفو به الغصن أحيانًا ويرفعه
…
دحو الصوالج في الديمومة الأكرا
ما باله وهو في أمن وعافية
…
لا يبعث الطرف إلا خائفًا حذرًا
وذكر طيف غانيه:
حوراء كالريم ألحاظا إذا نظرت
…
وصورة البدر إشراقًا إذا سفرا
وكأنما حذا ههنا على رائية أبي الحسن التهامي التي يقول فيها يذكر امرأة حسناء
ترمي الحجيج فتصميم ويرشقها
…
راميهم فيولي سهمه هذرًا (1)
ثم يقول البارودي
لا يترك الحب قلبي من لواعجه
…
كأنما بين قلبي والهوى نسب
فلا تلمني على دمع تحدر في
…
سفح العقيق فلى في سفحه أرب
منازل كلما لاحت مخايلها
…
في صفحة الفكر منى هاجني طرب
لي عند ساكنها عهد شقيت به
…
والعهد ما لم يصنه الود منقضب
وعاد ظني عليلاً بعد صحته
…
والظن يبعد أحيانًا ويقترب
(1) أشرنا إلى هذا في كتابنا التماسه عزاء بين الشعراء- طبع بيروت ص 196. وقد ذكرنا ثم أن أبا العلاء المعري، وذكروا أن التهامي أنشده شعره، كأنما يغمز التهامي في نعته هذه المرأة التي فتنت الحجاج فكاد يفسد حجهم، في قوله في اللزوميات:
أتت خنساء مكة كالثريا
…
وخلت بالعواصم فرقديها
ولو صلت بمنزلها وصامت
…
لكان البر أجمعه لديها
ولكن جاءت الجمرات ترمى
…
وأبصار الغواة إلى يديها.
وما ثريا عمر أراد، ولكن الغواة الذين قدم إليه أحدهم فأنشده. والله أعلم.
هذا آخر القسم الأول. وهو من مرحلتين، الأولى تأمل يخالطه شيء من أسى كالندم- ندم يروم التأسي بالعظة والعبرة والحكمة، والثانية إعلان للشوق والحب والصبابة. يهيمن على المرحلة الأولى طائف من روحانية البوصيري. يرفرف على المرحلة الثانية جناح من صوت أبي الطيب.
قد مرت الإشارة إلى «مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم» . وقوله «لولا مكابدة إلخ» فيه أنفاس:
لولا الهوى لم ترق دمعًا على طلل
…
ولا أرقت لذكر البان والعلم
وقوله: «يا أخا العذل» كقول البوصيري «يا لائمي أي يا عاذلي» أي يا أخا العذل: -
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
…
مني إليك ولو أنصفت لم تلم
لأن الهوى العذرى لا يتبغي أن يعذل عليه صاحبه. وقول البارودي: «فالحب سلطان له الغلب» يقابل قول البوصيري: «معذرة مني إليك» - وفي قول البوصيري جناس معنوي لفظي (العذرى
…
معذرة) وفي قول البارودي مجانسة معنوية «سلطان
…
له الغلب» وقول البارودي «لا تعجل علي»
…
يقابل قول البوصيري: «لو أنصفت لم تلم» قول البارودي من بعد «لو كان للمرء عقل إلخ» يحمل رنة من إيقاع صياغة البوصيري:
لو كنت أعلم أني ما أوقره
…
كتمت سرًا بدا لي منه بالكتم
وكتمان البوصيري هنا فيه نفحات من كتمان أبي الطيب:
مالي أكتم حبًا قد برى جسدي
…
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
وقد كرر البارودي نغم البوصيري حيث قال:
ولو تبين ما في الغيب من حدث
…
لكان يعلم ما يأتي ويجتنب
وكأن ههنا سريرة ندم- وكأن نفحة من قول الإمام شرف الدين: -
من لي برد جماح من غوايتها
…
كما يرد جماح الخيل باللجم
وفي قول الباوردي: «فخالفوني وشبوها مكابرة» معنى غواية مستكن. وفي قول البارودي «لكنه غرض للدهر إلخ» معنى التسليم للقدر. قوله «بأسهم مالها ريش ولا عقب» أخذ لفظه أخذ إشارة من بائية غيلان، والعقب هو العصب تشد به السهام عند أفواقها وحيث موضع النصل وفي الشرح (1) العقب بفتح العين والقاف العصب بفتحتين تعمل منه الأوتار والمراد الأوتار نفسها أ. هـ والمعنى أوضح من هذا لمتأمله أي بسهام القدر التي لا تعان بالريش ولا تشد بالعقب وهو العصب.
وإذ هو المسكين غرض الدهر، فقد رماه الدهر بالبعاد ولا يستطيع أن يكتم الشوق. ومن هنا تبدأ المرحلة الثانية- رفرفة صوت المتنبي في قوله:«فكيف أكتم أشواقي- أبو الطيب: «مالي أكتم حبًا» - البوصيري:
فكيف تنكر حبًا بعدما شهدت
…
به عليك عدول الدمع والسقم
ثم كرر البارودي نغم الإيقاع ومعنى الشوق في قوله: «أم كيف أسلو ولي قلب إلخ» - وهنا صدى من البوصيري:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من
…
لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
البيت الذي يعيبه بعض المتشددين يرون ذلك حنبلية في التشدد، ولعل ابن حنبل رضي الله عنه لو سمع هذا البيت ما عابه، وكيف وهو صاحب حديث الشفاعة وحديث عرباض رضي الله عنه؟
والشاهد تشابه النغم في: كيف تدعو .. كيف يسلو
…
وفي بيت البارودي بعد صورة تبدو كما يقول عصريو النقاد -مثلاً- تقليدية: وذلك قوله:
. إذا التهبت
…
بالأفق لمعة برق كاد يلتهب
وما أرى إلا أنها مغترفة من بحر تجربة الشاعر غرفًا- ومثلها قوله من بعد:
إذا تنفست فاضت زفرتي شررًا
…
كما استنار وراء القدحة اللهب
عجز البيت وصف دقيق لاستيقاد النار، ولقدحة عود الثقاب
(1) الديوان ص 111 هـ 6.
ولكن الصورة الكبيرة الكامنة التي زعمنا أنها مغترفة غرفًا من بحر التجربة هي صورة برق بلاد سرنديب. برق ركام السحب الاستوائية يتطاير شرره وتروع ألوانه منها ما يبتدئ بنفسجيًا ثم يبيض أبهر وأنصع من لهب «المغنيسيوم» ، ومنها ما يحمر ومنها ما يتطاير شررًا وجمرات- تشبيهات البارودي ها هنا مأخوذات من هذه التجارب. ومن براعته الفائقة أنه جعل جميع ذلك يبدو وكأنه «تقليدي» ، ما عدا فيه مذهب ما أمر به ابن قتيبة من نعت المياه الأواجن السدم واجتناب التفاح والإجاص! ! !
قول البارودي: «أصبحت في الحب مطويًا إلخ» - فيه نفس أبي الطيب:
مالي أكتم حبًا قد برى جسدي
…
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
وقوله: «لم يبق لي إلخ» - كقوله:
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
…
شيئًا تتيمه عين ولا جيد
وكأنه في قوله «لم يبق لي غير نفسي ما أجود به» أيضًا أنفاس من قول أبي الطيب
ولكني حسدت على حياتي
…
وما طعم الحياة بلا سرور
وقد كرر أبو الطيب هذا المعنى في دالية هجاء كافور
إذا أردت كميت اللون صافية
…
وجدتها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
…
أني بما أنا باك منه محسود
وجاء البارودي بنغمة «لم يترك الدهر إلخ» في قول «لا يترك الحب قلبي إلخ» - وقوله «فلا تلمني على دمع» فيه رجعة إلى نغم «يا لائمي في الهوى إلخ» - وفيه صدى غيلان الذي مر صداه في الريش والعقب، ولكأن غيلان فيه نوع رمز لأبي تمام. وفي قوله «فلي في سفحه أرب» إما سفح العقيق وإما سفح الدمع وكلاهما جيد وينظر إلى قول غيلان:
خليلي عوجا من صدور الرواحل
…
بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انهمال الدمع يعقب راحة
…
من الوجد أو يشفي نجي البلابل
وقول البارودي: «منازل كلما لاحت مخايلها» فيه رفرفة صوت أبي الطيب:
منازل لم يزل منها خيال
…
يتابعني إلى النوبنذجان
ورفرفة أبي الطيب ليست إيقاعية ولفظية فحسب، ولكنها مع ذلك فيها حذو
على المعاني والشكل وطريقة الخطاب، إذ قد جعل أبو الطيب حبه لسيف الدولة في القسم الأول مكان النسيب وحمله معنى لواعج الشوق. وكذلك قد جعل البارودي حبه لقومه وضمنه ما مر من تأمل شاك وأنفاس عتاب. وقوله:«وعاد ظني عليلاً بعد صحته» - فيه إيجاس دبيب من الندم واستشعار لأن القوم قد تناسوا عهده «والعهد ما لم يصنه الود منقضب» - «والظن يبعد أحيانًا ويقترب» ، هذا يذكرك بقوله من قبل:«ويخطئ الظن في بعض الأحايين» - بعد الظن، سعة الأمل، واقترابه مواجهته هذا الذي هو بإزائه من الواقع المر. وهنا موضع الصيحة. ويبدأ القسم الثاني من القصيدة: -
فيا سراة الحمى، ما بال نصرتكم
…
ضاقت علي وأنتم سادة نجب
أضعتموني وكانت لي بكم ثقة
…
متى خفرتم ذمام العهد يا عرب
أليس في الحق أن يلقى النزيل بكم
…
أمنا إذا خاف أن ينتابه العطب
فكيف تسلبني قلبي بلا ترة
…
فتاة خدر لها في الحي منتسب
مرت علينا تهادي في صواحبها
…
كالبدر في هالة حفت به الشهب
تهتز من فرعها الفينان في سرق
…
كسمهري له من سوسن عذب
كأن غرتها من تحت طرتها
…
فجر بجانبه الظلماء تحتجب
فهل إلى نظرة يحيا بها رمق
…
ذريعة تبتغيها النفس أو سبب
أبيت في غربة لا النفس راضية
…
بها ولا الملتقي من شيعتي كثب
فلا رفيق تسر النفس طلعته
…
ولا صديق يرى ما بي فيكتئب
هذا آخر القسم الثاني وهو الأوسط وهو خصر القصيدة. وإنما القصيدة غادة، كذلك قال أبو تمام:
بكر تورث في الحياة وتغتدى
…
في السلم وهي كثيرة الأسلاب
وقال أبو عبادة وجعل القصائد عذارى أبكارًا:
كالعذارى غدون في الحلل البيـ
…
ـض إذا رحن في الخطوط السود
وهذا ونظائره كثيرة.
وقد ترى هذا التخصير كأوله عند أبي الطيب في «واحر قلباه» حيث قال: «يا أعدل الناس إلا في معاملتي» - وهنا يقول البارودي: «فيا سراة الحمى- ما بال نصرتكم البيت» . وكأنه هنا خلط بين احتجاج أبي الطيب واحتجاج أبي فراس حيث قال:
وأبطأ عني والمنايا سريعة
…
وللموت ظفر قد أطل وناب
فإن لم يكن ود قريب نعده
…
ولا نسب بين الرجال قراب
فأحوط للإسلام أن لا يضيعني
…
ولي عنه فيه حوطة ومناب
وحيث قال
تنكر سيف الدين لما عتبته
…
وعرض بي تحت الكلام وقرعا
فقولا له من صادق الود إنني
…
جعلتك مما رابني منك مفزعًا
ولأبي فراس في هذا الباب كلمات من رومياته (1). وقد أخذ من أبي الطيب وحذا على نموذجه. إلا أن البارودي كما تأثر بأبي الطيب تأثر به أيضًا. وزاد من قوة تأثيره على البارودي، إنه كان أسيرًا ولم يخف سيف الدولة إلى نجدته، وكان البارودي بمنفاه في نوع من الأسر المر، ولم يخف السراة إلى نجدته ورعاية سابقته وقوله «أضعتموني» لا يخفى أنه من قول العرجي، وكان من فرسان بني أمية من ذرية أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم ملمة وسداد ثغر
وفي هذا القسم بعد رفرفة من أبي تمام ومن غيلان ومن أبي الطيب ومن غير هؤلاء من مأثور أساليب أهل الجزالة القدماء. فمن نفس أبي الطيب وأصدائه:
[مرت علينا تهادى في صواحبها]
فهو كقوله: «مرت بنا بين تربيها فقلت لها البيت» وقوله «في صواحبها» فيه شيء من ابن أبي ربيعة بلا ريب. قوله «كالبدر في هالة إلخ» كثير مثله في الشعر إلا أن الصياغة فيها نغم بوصيري: «كالزهر في ترف والبدر في شرف» - الشبه قوله: «البدر في» ثم جاء بقوله «حفت» وقوله «الشهب» ، أبت شين الشرف وفاؤه إلا أن تنما بأنفسها
(1) مثل قوله: دعوتك للجفن القريح المسهد لدى وللنوم القليل المشرد.
ومثل قوله
أسيف الهدى وقريع العرب
…
إلام الجفاء وفيم الغضب
فتأمل. وقوله: «تهتز من فرعها» لا يخفى أنه من قول حبيب.
كم أحرزت قضب الهندي مصلته
…
تهتز من قضب تهتز في كثب
الشبه في الصورة ونغم اللفظ معًا. قوله «في سرق» مكان قول حبيب «في كثب» عنى ثقل الكفل بإزاء لين القامة واستقامة رشاقتها. والسرق الحرير، واهتزاز الفرع الفينان فيه مشعر بالصدر والخصر والكفل، وأخذه من قول امرئ القيس:«إذا ما اسبكرت بين درع ومجول» من قول الآخر «أبت الروادف والثدي لقمصها البيت» - وفي جميع هذا لا يخفى أن أصل أخذه من بيت حبيب، وهذه المعاني والصور الأخريات وحي وإشارة. والسمهري الرمح، وجعله غصنا لما جعل له عذبات من الوسن، وذكر السوسن لا يخفى معه أن أصل المعنى مأخوذ من قول حبيب:«قضب الهندي» - «قضب تهتز في كثب» والقضب الأولى السيوف وجعل البارودي مكانها هنا السمهري والكثب مزدوجة المعنى، إذ القضب في الكثب هي الأغصان في الكثبان وهي القامات ذوات الأكفال، وسرق اللفظ والمعنى على بن العباس في نونيته:
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان
…
فيهن لونان تفاح ورمان
الشاهد قوله «أغصان وكثبان» فهو قضب حبيب وكثبه.
وقول البارودي: «كأن غرتها» هو من غيلان:
فغسلت وعمود الفجر منصدع
…
عنها وسائره بالليل محتجب
وليس بمخفيه قوله: فجر بجانحة الظلماء محتجب». ثم بقية التشبيه من قول غيلان المشهور:
كأن عمود الفجر جيد ولبة
…
وراء الدجى من حرة الوجه حاسر
وقد ذكرنا من قبل ما بين هذا وبين صورة جيوكندا لليوناردو دافنشى من قوة الشبه، وقوله:«كانت آية لنا في الحسن فاحتجبت إلخ» يحمل أنفاس قول أبي تمام وله نفس البحر والروي وإن كان أصل هذا مجاراته لبائية غيلان إذ أمرها في هذا الروى وهذا البحر أشهر:
أطاعها الحسن وانحط الشباب على
…
قوامها وجرت في وصفها النسب
بضمتين جمع النسيب
ألقت نقابًا على الخدين وانتسبت
…
للناظرين بقد ليس ينتسب
كانت لنا ملعبا نلهو بزخرفه
…
وقد ينفس عن جد الفتى اللعب
وهذا النغم نفسه في الميمنة التي على بحرها ورويها بردة المديح وفي نسج البوصيري ما يدل على نظر منه إليها وقد ألمنا بهذا المعنى في كتابنا «التماسة عزاء» (1): -
كانت لنا صنمًا نحنو عليه ولم
…
نسجد كما سجد الافشين للصنم
هل حقًا سجد الافشين للصنم، أم كان في سيوف بني العباس رهق؟
وقد افتن البارودي في هذا القسم إذ كنى فيه عن مصر بفتاة بارعة الجمال سلبت فؤاده ثم حجبت عنه. تفصيل الوصف الغزلي الذي فصله ذو مشابه من الذي صنعه كعب إذ قال: وما سعاد إلا أغن غراء فرعاء وما ذكره من أوصاف، غير أن سعاد كعب هي ذات الفجع والولع والإخلاف، وسعاد البارودي ليست ذلك، هي بدر حجبته عوادى الزمان كما يحتجب البدر بليل من الغمام ويالخسوف.
كانت لنا آية في الحسن فاحتجبت
…
عنا بليل النوى والبدر يحتجب
وهذا الغزل مع أنه في حب الوطن، يقع موقع الاستراحة والتخفيف من حدة انفعال لوعة الشوق والوجدان وشعوري العتاب والندم اللذين في القسم الأول.
وعلى وضوح الرمز والكناية بالفتاة الحسناء عن مصر، فسره البارودي تفسيرًا لا يدع محلاً للشك بقوله:
فهل إلى نظرة يحيا بها رمق
…
ذريعة تبتغيها النفس أو سبب
أبيت في غربة لا النفس راضية
…
بها ولا الملتقى من شيعتي كثب
فلا رفيق تسر النفس طلعته
…
ولا صديق يرى ما بي فيكتئب
وهذه الأبيات الثلاثة التي جاء بها بعد رمز الغزل تفسيرًا له، تقابل الأبيات الثلاثة التي افتتح بها هذا القسم صارحًا بالشكوى صائحًا:
فيا سراة الحمى ما بال نصرتكم
…
ضاقت علي وأنتم سادة نجب
أضعتموني وكانت لي بكم ثقة
…
متى خفرتم ذمام العهد يا عرب
أليس في الحق أن يلقى النزيل بكم
…
أمنا إذا خاف أن ينتابه العطب
(1) راجع التماسة عزاء ص 225 - 226.
ولكنها فيها عودة إلى روح اللوعة والانفعال.
ثم يجئ القسم الثالث، وهو في عادة الشعراء للذكرى، ويخالطها فخر ودفاع عن الماضي، يجعله الشاعر في مقابلة ما رمي به من نوائب الدهر- كقول امرئ القيس «وقد أغتدى والطير في وكناتها» وقول علقمة «قد أشهد الشرب فيهم مزهرة وقول الأسود بن يعفى «فلقد أروح على التجار» وهلم جرا. وقد جعله البارودي مجالاً لتبرير موافقة والاعتزاز بما كان من ماضي أمره:
ومن عجائب ما لاقيت من زمني
…
أني منيت بخطب أمره عجب
لم أقترف زلة تقضي على بما
…
أصبحت فيه فماذا الويل والحرب
قوله ومن عجائب إلخ مر تشبيهنا له بقول أبي الطيب «ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه» وفيه نفس من قول على بن العباس:
ومن عجائب ما تمنى الرجال به
…
مستضعفات لهم منهن أقران
ثم يجئ هذا النمط الحر النبيل الجزل:
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني
…
ذنب أدان به ظلمًا وأغترب
فلا يظن بي الحساد مندمة
…
فإنني صابر في الله محتسب
أثريت مجدًا فلم أعبأ بما سلبت
…
أيدي الحوادث منى فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفسًا وهي عالية
…
ولا يشيد بذكر الخامل النشب
ثم يجيء الفخر الصريح- كقول أبي الطيب «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي» وهو بعد فيه صادق، إذ قوله مخالطه الأسى لا الغضب، الأسى الذي هو أخو الغضب كما قال أبو الطيب:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب
وذلك قوله
إني امرؤ لا يرد الخوف بادرتي
…
ولا يحيف على أخلاقي الغضب
ملكت حلمي فلم أنطق بمندية
…
وصنت عرضي فلم تعلق بي الريب
وما أبالي ونفسي غير خاطئة
…
إذا تخرص أقوام وإن كذبوا
وإذا برر البارودي موقفه وجلى باعتذاره عن نفسه، له أن يقول، كالنابغة في آخر «يا دار مية»
ها إنها فرية قد كان باء بها
…
في ثوب يوسف من قبلي دم كذب
الإشارة إلى قول النابغة: «ها إن ذي عذرة إن لا تكن قبلت» وإلى سورة يوسف «وجاءوا على قميصه بدم كذب»
فإن يكن ساءني دهري وغادرني
…
في غربة ليس لي فيها أخ حدب
فسوف تصفو الليالي بعد كدرتها
…
وكل دور إذا ما تم ينقلب
وهكذا تنتهي هذا القصيدة الرائعة بنفس من الأمل الديني الصادر عن تسليم العبد إلى قضاء مولاه، وثقته بأن الموقف الذي وقفه لم يكن فيه عليه من مذمة أو عار:
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني
…
ذنب أدان به ظلما وأغترب
فكرة الدفاع عن الوطن مع الدفاع عن الدين معنى قديم عند العربي المسلم. ومع هذا، لا أحسب قوله «وعن وطني» هنا خاليًا من معنى روح الوطنية الحديثة التي إنما كانت ثورة عرابي باشا من بعض انفجاراتها وسائر الثورات التي جاءت من بعد.
في كتاب الدكتور محمد صبري السوربوني أدب وتاريخ في الفصل الذي جعله للبارودي، قال (ص 72 - 77): روى الكاتب (1): «ومر بقصر الجزيرة بعد عودته من سيلان فتذكر أيام إسماعيل ونظم معتبرًا ومذكرًا:
هل بالحمى عن سرير الملك من يزع
…
هيهات قد ذهب المتبوع والتبع
هذى الجزيرة فأنظر هل ترى أحدًا
…
ينأى به الخوف أو يدنو به الطمع
أضحت خلاء وكانت قبل منزلة
…
للملك منها لوفد العز مرتبع
فلا مجيب يرد القول عن نبأ
…
ولا سميع إذا ناديت يستمع
كانت منازل أملاك إذا صدعوا
…
بالأمر كادت قلوب الناس تنصدع
عاثوا بها حقبة حتى إذا نهضت
…
طير الحوادث في أوكارها وقعوا
لو أنهم علموا مقدار ما فغرت
…
به الحوادث ما شادوا ولا رفعوا
دارت عليهم رحى الأيام فانشعبوا
…
أيدي سبا وتخلت عنهم الشيع
كانت لهم عصب يستدفعون بها
…
كيد العدو فما ضروا وما نفعوا
(1) كاتب في عدد المنار 7 - 1 - 1905 يرجع السور بوني رحمه الله أنه السيد حسين رضا رحمه الله.
أين المعاقل بل أين الجحافل بل
…
أين المناصل والخطية الشرع
لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت
…
أحداثه أو يقي من شر ما يقع
زالوا فما بكت الدنيا لفرقتهم
…
ولا تعطلت الأعياد والجمع
والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر
…
وإنما صفوه بين الورى لمع
لو كان للمرء فكر في عواقبه
…
ما شأن أخلاقه حرص ولا طبع
وكيف يدرك ما في الغيب من حدث
…
من لم يزل بغرور العيش ينخدع
دهر يغر وآمال تسر وأعمـ
…
ـمار تمر وأيام لها خدع
يسعى الفتى لأمور قد تضربه
…
وليس يعلم ما يأتي وما يدع
يأيها السادر المزور من صلف
…
مهلاً فإنك بالأيام منخدع
دع ما يريب وخذ فيما خلقت له
…
ولعل قلبك بالإيمان ينتفع
إن الحياة لثوب أنت تخلعه
…
وكل ثوب إذا مارث ينخلع
وقد علق كاتب المنار على القصيدة قائلاً: فهذه القصيدة من آخر ما نظم وفيها من آيات النذر للمغرورين بكثرة المال والدائر (1) - تلك القصيدة من أجود شعر البارودي، وهي دمعة وفاء على أيام إسماعيل التي كانت أيام صباه، وهي من الشعر الحي الذي يستمد قوته من الذكرى وهي بكاء على الحال التي آلت إليها البلاد بعد عودته إليها، ورؤيته المحتل ضاربًا بجرانه في نواحيها، ولا ريب أن الألم الصامت كان في فؤاده كالجمرة تحت الرماد فلم يصرح عنه مقاله، وأشد الألم ما كان مكتومًا. وتدل قصيدته في الجزيرة على أن الرجل كان ثاقب الفكر لا تعوقه الظواهر عن رؤية أبعد البواطن، فلم تغره الرفاهية المادية التي غرت بعض العرابيين بعد رجوعهم من المنفى فتوهموا أن أغراضهم تحققت، ولم تغره مظاهر العدل المنظم في الظاهر، فأزاح الستار عن ذلك الظلم الأجنبي المنظم في الباطن الذي يضؤل بجانبه كل ظلم. من ذلك نفهم كيف كان الشاعر بالأمس يبكي من إسماعيل فأصبح يبكي عليه. وكأني بالشاعر أحس دنو الأجل فاستسلم للقضاء في هذه القصيدة، ولم تحفزه همته إلى الفخر ومغالبة الأقدار، ورثى نفسه فيمن رثى حين قال:
زالوا فما بكت الدنيا لفرقتهم
…
ولا تعطلت الأعياد والجمع
(1) إلى هنا انتهى كلام كاتب المنار ومن قوله تلك كلام السوربوني إلى حيث بينا نهايته.
فهذا البيت من خير ما قيل في وصف خروج الإنسان من هذه الحياة الدنيا دون أن يحس الكون بفقده مهما كان عظيمًا. قال فيكتور هوجر في المعنى بيتًا يشبه هذا البيت
Je m'en irai bientot au miliau de la fete
Sans que rien manque au monde immense et radieux (1)
وقد تكون هذه القصية في جملتها أثرًا من آثار التأمل الذي يعتري الإنسان عند تقلص الأيام وتقلب الدنيا ويدفعه إلى عرض الماضي في صفحة الفكر فإذا بكى عليه كان بكاؤه المر عصارة التجارب والألم. في فصل كتبه: «إن هذا الوزير الذي اقتدح زناد تلك الهمة، وشبت بعد استقالته تلك الفتنة المستطيرة لم يكن مع شجاعته وإقدامه اللذين بلغ بهما أقصى مبالغها في مواطن القتال إلا رجل سكينة ووداعة وحلم، إصابته بكريمتيه هي التي قلصت من كبده وأودت بجسده ثم إن العارف بحوادث حياته لا يكاد يصدق أنه هو الرجل الذي كان ديدنه في سنواته الأخيرة أن يجمع أطفاله وهم غلامان وأربع فتيات فيجعل لهم مكانًا خصيصًا من البيت لتلقي العلوم واللغات بضروبها على أساتذة يحضرون في مواعيد كأنهم في مدرسة قانونية فيرعى سيرهم كل يوم ثم يمتحنهم كل أسبوع مرة ثم يمتحنهم آخر كل شهر ويوزع عليهم المكافآت على أن هذا البر إنما كان إحدى شمائله وفضائله فإن أريد بعض التعداد فالجودة مع الجود والكياسة مع لطف الحس، والصفح مع المقدرة والإيناس مع علو النفس وشرف الطبع» - إلى هنا ينتهي نقل السوربوني من مطران وأعجب أنا من قوله ثم إن العارف بحوادث حياته لا يكاد يصدق، وأي غرابة في أن يهتم عالم أديب مثقف فطن مثله بتعليم ذريته بأجود ما يقدر عليه، ثم أية غرابة في أن يحافظ جندي وإداري مثله على المواعيد وعلى متابعة ما كلفهم بالامتحان والتفتيش والمكافأة وأما رقة القلب فشاهدها شعره وكذلك الشعراء الفرسان. وأما قول الدكتور محمد صبري السوربوني رحمه الله أنه رثى نفسه ببيت الأعياد والجمع، فما أرى إلا أنه رثى كل ذوي الإمارة الذين عصف بهم الدهر، وإسماعيل خاصة، إذ الناس مما يحسون مقدم الأمير في العيد والجمعة. وأحسب أن كلام فكتور هوجو الذي خيل به للسوربوني أن البارودي رام معنى كمعناه. وإنما رام البارودي رحمه الله جمع أبي الطيب في قوله:
مخلى له المرج منصوبًا بصارخة
…
له المنابر مشهودًا بها الجمع
(1) سأنصرف والعيد في عنفوانه ولن يحس فقدان أحد وسط الزحام الكثيف المنير.
والاعتبار بقول الله عز وجل: {كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قومًا آخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (29)} .
ثم يقول السوربوني مستمرًا من حيث انتهى نقله من مطران «نضيف إلى ذلك أن البارودي تمكن بفضل جده وكده من تجديد جزء عظيم من ثروته تركه لأهله وذويه، فكان طول حياته مثال الهمة العلياء، ولم يمنعه قول الشاعر من قيادة الجحافل، ورياسته الوزارة في أحرج الأوقات والعمل. وكل ما يعاب على الرجل أنه لم يوفق في حياته السياسية كما وفق في شعره، ومهما كان من الأمر فقد كانت حياة هذا الرجل صحيفة كبرى من التاريخ المصري تشهد له بحسن الطوية وصدق العزيمة وكراهية الظلم، والاعتدال، والروية والأناة وهو مؤسس دولة الشعر التي يحمل لواءها اليوم شوقي ومطران وحافظ وآخرون بعد أن غادرهم شيخ الشعراء بعده المرحوم صبري باشا الذي ننعاه اليوم إلى الشعر كما ننعى الجود إلى الجود. ولا أعرف رجلاً كافح الردى مثلما كافح البارودي، وطاعن خيلاً من فوارسها الدهر مثلما طاعنها وخاض وقائع الحياة مثلما خاضها، وقد كان خلق الرجل عظيمًا وذكاؤه عظيمًا وشعره عظيمًا فكان الثلاثة في مستوى واحد. وفي اعتقادي أن أكثر شعره ارتباطًا بحياته شعر المنفى، شعر العواطف شعر الوجدان، شعر الألم» - ثم يقول في أخريات الفصل: وقد لبى دعوة ربه في 6 شوال سنة 1322 (ديسمبر سنة 1904)(ص 78).أ. هـ نقلنا من السوربوني رحمه الله من كتابه أدب وتاريخ، في هذا الموضع قلت وحصر إبداع البارودي في شعر منفاه فيه بعض النقص من حقيقة قدره ولا يخلو من نوع تشبيه له بأبي فراس، وكان أبو فراس معاصرًا لأبي الطيب يجاريه ويحذو حذوه ويأخذ من لفظه وإيقاعه ومعانيه عن قرب زمان ومكان. وما كذلك كان أمر البارودي. كان البارودي شاعرًا فحلا صاحب نهج من حر القريض وأصيله من قبل المنفى ومن بعده واقرأ بائيته:
سواى بتحنان الأغاريد يطرب
وفيها يقول عن تجربة قلب وبيان:
وبحر من الهيجاء خضت عبابه
…
ولا عاصم إلا الصفيح المشطب
تظل به حمر المنايا وسودها
…
حواسر في ألوانها تتقلب
توسطته والخيل بالخيل تلتقي
…
وبيض الظبي في الهام تبدو وتغرب
فما زلت حتى بين الكر موقفي
…
لدى ساعة فيها العقول تغيب
لدن غدوة حتى أتى الليل والتقى
…
على غيهب من ساطع النقع غيهب
ولا ميته: «ردوا على سواد اللمة البالي» وفيها يقول: -
قلبي سليم ونفسي حرة ويدي
…
مأمونة ولساني غير ختال
لكنني في زمان عشت مغتربًا .... في أهله حيث قلت فيه أمثالي
بلوت دهري فما أحمدت سيرته
…
في سابق من لياليه ولا تالي
حلبت شطريه من يسر ومعسرة
…
وذقت طعميه من خصب وإمحال
فما أسفت لبؤس بعد مقدرة
…
ولا فرحت لوفر بعد إقلال
عفافة نزهت نفسي فما علقت
…
بلوثة من غبار الذم أذيالي
فاليوم لا رسنى طوع القياد ولا
…
قلبي إلى زهرة الدنيا بميال
لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه
…
إلا صحابة حر صادق الخال
وأين أدرك ما أبغيه من وطر
…
والصدق في الدهر أعيا كل محتال
لا في سرنديب لي إلف أجاذبه
…
فضل الحديث ولا خل فيرعى لي
أبيت منفردًا في ظل شاهقة
…
مثل القطامي فوق المربأ العالي (1)
إذا تلفت لم أبصر سوى صور
…
في الذهن يرسمها نقاش آمالي
تهفو بي الريح أحيانًا ويلحفني
…
برد الظلام ببرد منه أسمال (2)
ففي السماء غيوم ذات أروقة
…
وفي الفضاء سيول ذات أوشال
كأن قوس الغمام الغر قنطرة
…
معقودة فوق طامي الماء سيال
إذا الشعاع تراءى خلفها نشرت
…
بدائعها ذات ألوان وأشكال (3)
فلو تراني وبردي بالندى لثق
…
لخلتني فرخ طير بين أدغال
غال الردى أبويه فهو منقطع
…
في جوف غنياء لا راع ولا وال (4)
فذاك مثلي ولم أظلم وربتما
…
فضلته بجوى حزن وإعوال
شوق ونأي وتبريح ومعتبة
…
ياللمحبة من غدري وإهمالي
أصبحت لا أستطيع الثوب أسحبه
…
وقد أكون وضافي الدرع سربالي
ولا تكاد يدي تجري شبا قلمي
…
وكان طوع بناني كل عسال
فإن يكن جف عودي بعد نضرته
…
فالدهر مصدر إدبار وإقبال
علام أجزع والأيام تشهد لي
…
بصدق ما كان من وسمي وإغفالي
(1) القطامي الصقر المربأ العالي المكان من جبل نحوه يقف عليه الرابئ والصورة من شعر ذي الرمة وزهير من قبل وقد مرت في الأوصاف.
(2)
برد الأولى بفتح الباء والثانية بضمها وبرد أسمال أي ممزق.
(3)
هنا نظر إلى بحيرية البحتري.
(4)
غيناء بالغين المعجمة فياء مثناة تحتية ساكنة فنون موحدة فوقية فألف المد أي شجرة خضراء.