المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم جاء ببيت الختام يرتاح به كما صنع علقمة: ها إن - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٥

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌أطوار المدحة النبوية وبعض أمرها:

- ‌أما طور الدعوة فقد كانت قصيدة المدح النبوي فيه جزءًا لا يتجزأ من الشعر العرب

- ‌طور السياسةهذا هو الطور الثاني من أطوار المدحة النبوية

- ‌الطور الثالثوهو طور التعبد الممهد

- ‌طور النضج:

- ‌الصرصري والبرعي والبوصيري:

- ‌وأعلم أيها القارئ الكريم أن من علامات نفس الشاعر ودلائله أشياء نذكر منها فيما يلي إن شاء الله:

- ‌أولًا: التسلسل:

- ‌ثانيًا: التدرج

- ‌ثالثا: تداعي المعاني

- ‌رابعا: المقابلة

- ‌خامسًا: التخلص:

- ‌سادسًا: المخاطبة:

- ‌سابعًا: الاقتضاب:

- ‌الاقتضاب عند المحدثين:

- ‌فصل فيما يقع من تشابه أشكال القصائد

- ‌فصل ملحق بما يقع من تشابه أشكال القصائد

- ‌أسلوب المقالة: تمهيد: أولاً:

- ‌أسلوب المقالة: أوائله، ثانيًا

- ‌المقالة والقصيدة عند شوقي وحافظ ومن بعد قليلاً

- ‌الضرب الأول:«رومنسية» الدفاع عن القديم

- ‌الضرب الثاني:الرومنسية المسيحية العربية

- ‌الضرب الثالث:«رومنسية» الافندي

- ‌الضرب الرابع وهو رومنسية الفقير المفقود

الفصل: ثم جاء ببيت الختام يرتاح به كما صنع علقمة: ها إن

ثم جاء ببيت الختام يرتاح به كما صنع علقمة:

ها إن تا عذرة إن لا تكن نفعت

فإن صاحبها قد تاه في البلد

وهو يعلم أنه لم يته ولكن بلغ النعمان وأبلغه

وحسبنا هنا هذان الشاهدان في التسلسل على حسب سياق عادة الشعراء في القصائد ذوات الطول.

وقولنا عادة الشعراء مأخوذ من عبارة الجاحظ إذ أشار إلى أن الشعراء تجعل الكلاب تقتل الثور في الرثاء ما أشبه وتجعل الثور يقتلها في المدح وما أشبه، وقد سبقت الإشارة إلى هذا القول من قبل، وعن الجاحظ أخذه ابن رشيق وهدك من ناقد.

ونحيل القارئ بعد على قصائد أخر فيها مثل هذا التسلسل أو قريب منه، منهن مثلا لامية عبدة بن الطبيب:

هل حبل خولة بعد الهجر موصول

على ما في آخرها من مشابهة ميمية علقمة.

وقصيدتا بشر الميمية الوافرية وأختها الرائية وكلتاهما مفضلية وقد اختصر الأجزاء في الميمية حتى كأن قد وثب من جزء والتسلسل مع ذلك لا يخفى، وقد اكتفى بحركة الحرب في الأنباء عن الرحلة في الرائية، وأطال شيئًا في مقدمة النسيب، ومذهب بشر في كلتا القصيدتين يشبهه كثيرًا مذهب أصحاب النقائض ومذهب جرير والفرزدق من بعد.

ودالية ربيعة بن مقروم المادحة الطنانة:

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا

من ذوات التسلسل وقد مر عنها الحديث

وليقس ما لم يقل.

‌ثانيًا: التدرج

التدرج ضرب من التسلسل إلا أن الانحدار درجة درجة أو الإصعاد درجة درجة أظهر فيه من اتصال آخر حلقة من الكلام بما يليها. ونعيد ما قلناه مرارًا قبل من أن الشعر تتداخل أصنافه، وكما قد رأيت من تداخل صنفي التسلسل، كذلك يدخل فيهما التدرج إن عن لشاعر إيراد ما يقوله عليه عفوًا أو عن تعمد.

والتدرج منه محض ومنه ما يساق على طريقة عادة الشعراء فمن أمثلة التدرج المحض كلمة سلامة بن جندل:

ص: 254

أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب

أودى وذلك شأو غير مطلوب

واعتمادنا على رواية المفضل. وروى بعضهم لها مقدمة نسيب، وما كان أغناه عن ذلك، وأدخل بعضهم بعد ثالث أبياتها هذه الأبيات.

وللشباب إذا دامت بشاشته

ود القلوب من البيض الخراعيب

إنا إذا غربت شمس أو ارتفعت

وفي مباركها بزل المصاعيب

قد يسعد الجار والضيف الغريب بنا

والسائلون ونغلي ميسر النيب

وعندنا قينة بيضاء ناعمة

مثل المهاة من الحور الخراعيب

تجري السواك على غر مفلجة

لم يغرها دنس تحت الجلابيب

دع ذا وقل لبني سعد لفضلهم

مدحًا يسير به غادي الأراكيب

وفي هذه الأبيات الستة قواف خمس على وزن المفاعيل وما بمجراها وزنًا من صيغة منتهى الجموع والمتأمل لرواية المفضل التي رواها القاسم بن محمد بن بشار غير واجد فيها ما يشبه هذه الكثرة من هذه الصيغة. وقد تكررت الخراعيب كما ترى، وإن يك ذلك في نفسه ليس بعيب كبير، إذ كان الإيطاء مما يرد عند القدماء إذا كان المعنى الجيد يقتضيه مع تجويد النغم.

والأبيات الستة بعد قلقة الموضع في هذه البائية الجيدة تتابع الإيقاع واتساق المعاني. وغير بعيد أن يكون المغنون أدخلوا هذه الأبيات. وهي لشاعر آخر.

تدرج هذه البائية على هذا النحو:

بدأ ببكاء الشباب:

أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب

أودى وذلك شأو غير مطلوب

لاحظ أنه استعار قوله «شأو غير مطلوب» من أمر الخيل والسباق، ولذلك في القصيدة من بعد مكان ظاهر، وهذا وحده عندي مما يبطل رواية من صدر هذه القصيدة بنسيب سوى هذا الذي بكى به سلامة الشباب- ثم مضى في تصوير هذا الشأو الذي لا يطلب ولا يدرك:

ولي حثيثا وهذا الشيب يطلبه

لو كان يدركه ركض اليعاقيب

أي لو كان يدركه ركض اليعاقيب لحاولنا أن ندركه. قالوا اليعاقيب أي الطير، واليعقوب ذكر الحجل، والوجه عندي والله أعلم ما قاله عمارة، أحسبه عمارة بن

ص: 255

عقيل بن بلال بن جرير الشاعر، إن اليعاقيب هنا الخيل ذوات العقب بفتح فكسر، وهو الجري بعد الجري، ذلك بأن الركض إنما يقال للخيل لا للطير إلا أن يسمى اندفاع الطير ركضا على التشبيه. ولك في الركض أن ترفع وأن تنصب والنصب رواية أبي عمرو أحسبه الشيباني، أي لركضنا ركض اليعاقيب.

أودي الشباب الذي مجد عواقبه

فيه نلذ لذات للشيب

ههنا درجة- أن الذي يجيء بعد الشباب الجاه والمال والتجارب وهذا الذي سماه المجد مما يشمل الجاه والمال والتجارب وقد يزيد ولكن لا لذات هناك، وما طعم العيش بلا لذاذة. ولك في لذات في تائها الكسر والفتح، وأحسب أن أبا الطيب قد نظر إلى هذا البيت إذ قال:

ليت الحوادث باعتني الذي أخذت

منى بحلمي الذي أعطت وتجريبي

فما الحداثة من حلم بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

وقد ركب نفس البحر والروي

ثم يقول:

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب

أي المجد الذي هو عواقب الشباب، هو هذا- جد المجالس وجد التشمير للحرب والحرب إنما كانت يحشها الشباب، ولكن الشيوخ مدبروها ورؤساؤها باعثهم إليها الحزم والجد والعرف والواجب. وقد يجد الشباب في عنفها لذة- ثم معها الغنيمة والسبي.

ولكن سلامة ههنا يؤكد معنى الجد ويلح عليه:

ويوم سير الأعداء تأويب

التنبيه ههنا على قوله تأويب وفيه دلالة على اتصال السير إذ التأويب سير يوم إلى الليل، ثم يكون في الليل السري

هذا في طلب الأعداء. ثم بعد الغزوة الرجوع، وقد أخذ الكلال وما تصنع الحرب من الخيل والرواحل والرجال مأخذها.

وكرنا خيلنا أدراجها رجعا

كس السنابك من بدء وتعقيب

ص: 256

وههنا درجة-

انتقل من بكاء الشباب إلى صفة حال المجد

وانتقل من السير إلى العود بالخيل وقد تثملت سنابكها- وتأمل الكافات والسين والراء والجيم وانظر أي مبلغ يبلغه الافتنان في بيان هذه اللغة ورنات إيقاعها

والعاديات أسابي الدماء بها

كأن أعناقها أنصاب ترجيب

من كل حت إذا ما ابتل ملبده

صافي الأديم أسيل الخد يعبوب

فانتقل كما ترى إلى نعت الخيل، وحبه لها بين، وكذلك حبه لهذه الأنصاب التي تعظم وتنحر لها وتذبح الضحيات. وجعل بعضهم سلامة من شعراء النصرانية وهذا من قوله يكذبه، وقد فطن إلى ذلك المستشرق البارع ليال ونبه عليه كما ذكرنا لك من قبل، الحت السريع واليعبوب الجواد الواسع الجري كأنه عباب وكأنه بحر وأسابي الدماء طرائقه الواحد إسباءة وقالوا الأسابي ألوان الدم وقريب منها الأساهي بهاء بعدها ياء مشددة وهذه لا واحد لها وجاء بها سلامة في كلمته هذه وقريب منهما الأساوي بلا تشديد، منقوص وهي الدفعات وكأنها جمع لإسوة وجاء بها سلامة أيضًا.

ثم أخذ سلامة في نعت الخيل وكان بها عالما، جعل ذكر الجد ثم ذكر السير ثم ذكر الرجوع والعاديات كل ذلك درجات إلى نعتها- وقد مر بك قوله أنها رجعت أدراجها فكأن زعمنا أنه تدرج فيه بعض النظر إلى هذا اللفظ-

ليس بأسفي ولا أقني ولا سغل

يعطي دواء قفي السكن مربوب

في كل قائمة منه إذا اندفعت

منه أساو كفرع الدلو أثعوب

كأنه يرفئي نام عن غنم

مستنفر في سواد الليل مذؤوب

يرقى الدسيع إلى هادله بتع في جؤجؤ كمداك الطيب مخضوب

جعله العنق كمداك العروس وقد وصفه من قبل كأنه أحد الأنصاب المرجبة، ولم ينس ذلك لمكان الخضاب في هذا البيت يقوي معنى ما قدمناه من أن هذا مقال عربي مشرك تقربه الأنصاب إلى ربه زلفى لا مقال نصراني- وكان العرب- حتى في جاهليتهم لا يخلون من نظر نافر عن النصرانية وبعض ازدراء يدلك على ذلك قول جابر بن حني:

وقد زعمت بهراء أن رماحنا

رماح نصارى لا تخوض إلى الدم

وما كنت لتقوله بهراء وحدها.

ص: 257

وقد مر شرح الأبيات المتقدمة إذ قد استشهدنا بها في باب الأوصاف من الأغراض عند ذكر الخيل

تظاهر الني فيه فهو محتفل

يعطي أساهي من جري وتقريب

وقد انتقد الأصمعي قول أبي ذؤيب:

قصر الصبوح لها فشرج لحمها

بالنى فهي تثوخ فيها الإصبع

وما ذكروا أنه عاب هذا البيت من قول سلامة. وما أشبه أن يكون سبب ذلك أن سلامة لما ذكر الني أي الشحم ذكر معه الرياضة والتضمير الذي يذهب به وهو قوله:

يعطي أساهي من جري وتقريب

ولم يذكر أبو ذؤيب شيئا من ذلك وقال زهير:

غزت سمانا فآبت ضمرا خدجا

من بعد ما جنبوها بدنا عققا

فذكر مع السمن التضمير

من أجل هذا ما زعم الأصمعي أن أبا ذؤيب لم يكن له علم بالخيل، وربما تحامل عليه إذ له فيما قال زهير وسلامة عاذر وإن لم يحترس كما احترسا. وأخطأ ليال إذ أخذ على سلامة قوله «تظاهر النى» وإنما أتى من مقال أبي سعيد في أبي ذؤيب والأمران لا سواء.

ثم يقول سلامة:

كم من فقير بإذن الله قد جبرت

وذي غنى بوأته دار محروب

فهذه درجة صار منها إلى خبر الحرب ووصفها ثم إلى الفخر، «وبإذن الله» ليس مما يقوله النصارى. وكانت العرب قبل الإسلام تقول إذ كانوا مع الشرك أهل توحيد، وخاصة عند الشدة، والحرب شدة، وقد استفتح أبو جهل يوم بدر فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وقد جاء وصف الحرب من بعد فقال سلامة يذكر الخيل فهذا متصل بما قبله ثم يذكر الحرب فهذا درجة لما بعده:

مما تقدم في الهيجا إذا كرهت

عند الطعان وتنجى كل مكروب

وفي هذا أيضا كالرجعة إلى قوله:

والعاديات أسابي الدماء بها

ثم أخذ في الفخر، فهذا زعمنا أنه تدرج

همت معد بناهما فنهنهها

عنا طعان وضرب غير تذبيب

بالمشرفي ومصقول أسنتها

صم العوامل صدقات الأنابيب

يجلو أسنتها فتيان عادية

لا مقرفين ولا سود جعابيب

ص: 258

وقوله «عادية» فيه رجع من صوت «والعاديات» - وقوله «فتيان عادية» فيه معنى الشباب إذ الفتوة مع الشباب. وكما الآن هو محارب «قديم» [كما يقال الآن في زماننا هذا] لقد كان من قبل محاربا فتى، فهو يحرك قلوب الفتيان بما يقص عليهم من نبأ أيامه اللاتي مضين.

ولعمري ما أنصف إذ قال:

ولا لذات للشيب

والجاحظ أدق منه إذ ذكر أن الحديث من لذات أهل السن أو لا لذة لهم سواه، وهذا الذي أقبل عليه سلامة من حر القول ومنخوله أيما لذة-

تأمل تجاوب أصوات الألفاظ وألوان التكرار- الطعان وهاءات نهنهها- همت- هما- صم- صدقات- مصقول- وتكراره أسنتها في مصقول أسنتها وفي يجول أسنتها وهي بقريب من معناها.

ثم انظر إلى قوله: لا مقرفين ولا سود جعابيب

وكان حرص العرب على الأنساب كالجنون بأمرها، وكان السود فيهم غير قليل، وذلك أن عنصرا من السود لهم أصل في جزيرة العرب، وصلة الحبشة باليمن قديمة.

وقال كعب:

إذا عرد السود التنابيل

وقال النابغة:

ليست من السود أعقابا

وقال الأخطل: -

فإن نرض عن حمران بكر بن وائل

فليس لنا سودانها بصديق

فلم يرض لا عن الحمران ولا عن السودان كما ترى

وقال جرير: أراب سواد لونكم أرابا

وقال عقيل بن علفة:

رددت صحيفة القرشى لما

أبت أعراقه إلا احمرارا

وقال الفرزدق يهجو إبراهيم بن عربي وإلى اليمامة وكان أسود يلبس ثيابا بيضا

ترى منبر العبد اللئيم كأنه

ثلاثة غربان عليه وقوع

يعني وجهه وكفيه. ونحو من هذا هجي به المغيرة بن شعبة، قال الشاعر فيه:

فقل جعل يستن في لبن محض

ص: 259

وقال أبو عرار يعتذر عن سواد ابنه:

وإن عرارا إن يكن غير واضح

فإني أحب الجون ذا المنكب العمم

وقال الفضل بن العباس اللهبي:

وأنا الأخضر من يعرفني

أخضر الجلدة من لون العرب

ففر من السواد وجعله خضرة

ولشدة عصبية العرب من كان منهم أسود عد عروبة نسبه بياضا، وعلى ذلك قول عنترة:

إني امرؤ من خير عبس منصبا

شطري وأحمي سائري بالمنصل

وقال عبد الرحمن بن عوف وهو من المبشرين ومن أهل الشورى لبلال وهو من المهاجرين السابقين الأولين رضى الله عنهم أجمعين في يوم بدر يا ابن السوداء، وما قال ذلك إلا عن مودة له بلا ريب، وذلك حين رغبة أمية بن خلف في الفداء، وكان من صناديد أهل الكفر، فأبى الله أن ينجو- وكان بنو جمح رهط أمية خضرا- أصل سوادهم من عرق هندي كما في لامية أبي طالب:

بنو أمة محبوبة هندكية

بنو جمح عبيد قيس بن عاقل

وقد نسبهم أبو طالب هنا إلى سفاح من أصل رق.

ولعصبية العرب في الأنساب والألوان وكثرة مطاعنها بعضهم في بعض حذرهم الدين من أمر الجاهلية ونهاهم عن دعواها وقال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} .

وما قطع كتاب من كتب الحكمة والدين منزل من السماء أو من عمل الفلاسفة فيما بين افلاطن واكويناس وروسو وماركي بمثل ما قطع به القرآن في هذه الآية من الحجرات وفي آية فاطر {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} - فالنبات والحيوان والجماد والناس أصلهم كلهم هذه الأرض وهم سواسية في الأصول سواسية فيما يتفرع منهن من الألوان.

هذا وقول سلامة بن جندل:

لا مقرفين ولا سود جعابيب

كأنه يعيب بالأول ربيعة لمداناتهم الفرس والروم وبالثاني أهل اليمن وتهامة لمداناتهم بلاد السودان.

ص: 260

ثم استمر في تكرار السين وأسنة والسن

سوى الثقاف قناها فهي محكمة

قليلة الزيغ في سن وتركيب

زرقا أسنتها حمرا مثقفة

أطرافهن مقيل لليعاسيب

اختلفوا في تأويل اليعاسيب والظاهر أنهم يقتلون بها الرؤساء ويرفعون رؤوسهم ويعسوب القوم سيدهم، ولا يغب عنا الإلغاز الخفي بين اليعاسيب وبين الرماح العواسل أي التي تعسل أي تهتز

وتأمل القاف: قناها- الثقاف- قليلة- زرقا- مثقفة- مقيل

كأنها بأكف القوم إذ لحقوا

مواتح بير أو أشطان مطلوب

قوله «أشطان مطلوب» تخصيص بعد تعميم أي كأنهن حبال الآبار- لا بل حبال هذه البئر التي تعلم

كلا الفريقين أعلاهم وأسلفهم

يشقى بأرماحنا غير التكاذيب

بعد أن أمتع بصفة الخيل، أمتعنا بصفة القتال، وبعد أن كان الكلام عاما:«يجلو أسنتها فتيان عادية» جعله أخص فدلنا على أنه هو الذي ثقف القناة بين آخرين مثله من قومهم ثقفوا قناهم ثم أشرعوه إذ قاتلوها به ثم لحقوا العدو وقتلوا الرؤساء وكأن أرماحهم أشطان مطلوب

ونستفيد التخصيص من قوله في آخر الصفة

كلا الفريقين أعلاهم وأسفلهم

يشقى بأرماحنا غير التكاذيب

فهذه نون الجمع المتكلم وهو منهم بل هو شاعرهم الناطق بلسان حالهم، ثم نعلم أنه كان مشاركا في القتال ومجده كل المشاركة بقوله:

إني وجدت بني سعد يفضلهم

كل شهاب على الأعداء مشبوب

وإنما وجد ذلك عن تجربة. وكشف عن أن الذين تحدث بلسانهم هو بنو سعد فأنت ترى كيف هذا التدرج الذي تدرج به هذا الفارس المحارب «القديم» من بكاء الشباب في قوله: «أودى الشباب» وادعاء «أن لا لذات للشيب» إلى قصة خبر بلائه أيام شبابه وتلذذه بذلك وطربه إلى مآثر قومه ومجدهم الذي هو من بناته، ثم لما أقر هذا المعنى عند سامعيه، خلص إلى الفخر ببني تميم ثم ببني سعد قومه ثم جعل الفجر بضمير المتكلم الجمعي، كنا وكنا ونحن الآن كذا كذا

إني وجدت بني سعد يفضلهم

كل شهاب على الأعداء مشبوب

إلى تميم حماة العز نسبتهم

وكل ذي حسب في الناس منسوب

أي كل ذي حسب منسوب في بني تميم وهم الناس كل الناس

ص: 261

قوم إذا صرحت كحل بيوتهم

عز الذليل ومأوي كل قرضوب

القرضوب الفقير

ينجيهم من دواهي الشر إن أزمت

صبر عليها وقبص غير محسوب

القصب بكسر القاف العدد الكثير الدثر. غير محسوب أي لا يعد من كثرته

كنا نحل إذا هبت شآمية

بكل واد حطيب الجوف مجدوب

مجدوب أي مذموم، يخافه الناس لخصبه إذ لا يكثر فيه الحطب إلا وهو خصيب، وهذا كما لا يخفي من اللعب اللفظي أن يكون حطيبا مجدوبا والجدب لا يكون معه خصب من حطب أو مرعى. وإنما تعمدوا مكان الحطب لكثرتهم يوقدون ويطبخون ويقاتلون بشوكتهم عما حازوه فمنعوه

وتأمل كيف تدرج إلى قوله كنا بعد أن كان الكلام إخبارا عن قوم هم عز الذليل ومأوى الفقير ففسر العز بالقوة على منع أنفسهم. وفسر الإيواء بما في الحطيب من الدلالة على الطعام والطبخ والكرم.

ثم أعطانا صورة هذا الوادي الحطيب الجوف بعد أن أقاموا به يحمونه ويكرمون نزيلهم باغي قرى الضيف عندهم فيه

شيب المبارك مدروس مدافعه

هابي المراغ قليل الودق موظوب

أي بعد أن أقام به الناس يحتطبون ويرعون ويقاتلون خلا من كل نبات فمباركه غبر شيب موظوبات تتابع عليهن الوطء والدياس. وفسر بعضهم شيب المبارك بالثلج والتفسير قول أبي عمرو أحسبه الشيباني أنه ليس بما كلأ فهي بيض، قال أغبر لبعد أهله، لا من الصقيع لأن الصقيع معه بلل فلا يكون جدبا.

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظنابيب

وهذا كما هو فخر، هو أيضا تنبيه على فضيلة النجدة وحث عليها، «الفارس الماجد القديم» بذلك جدير. قرع الظنابيب أي التمشير والظنبوب عظم الساق

وشد كور على وجناء ناجية

وشد سرج على جرداء سرحوب

هذه حال نهوض إلى الحرب، يمتطون الإبل ويجنبون الخيل، ثم في الكلام رجعة إلى اصداء من صوت الوصف والتفصيل والنشوة إلى ذلك مما مر من حديثه من قبل- ولاحظ تتابع الجيم- وجناء- ناجية- سرج- جرداء- ثم تجيء السين والحاء من بعد ولا ينسى الكاف ولا الخاء ولا الظاء والصاد للسين أخت:

يقال محبسها أدنى لمرتعها

وإن تعادي ببكء كل محلوب

حتى تركنا وما تثني ظعائننا

يأخذن بين سواد الخط فاللوب

ما يخشين من أحد. هكذا كنا فمثلنا فكونوا.

ومما تدرج فيه على سياق عادة الشعراء نونية العبدي

أفاطم قبل بينك متعيني

ومنعك ما سألت كأن تبيني

وقد مر عنها الحديث ولكن ننبه هاهنا على هذا الجانب من إحكامها ووحدتها وربطها- وذلك أن الشاعر جعل النسيب ثلاث درجات أخراهن خروج إلى الرحلة وجعل الرحلة ثلاث درجات أخراهن خروج إلى عمرو، وجعل خاتمة الكلام ثلاث درجات أخراهن الحكمة وهي التي من أجلها قال ما قال، وقد كان المثقب حكيما، وكانت في عبد القيس على بعدها

ص: 262

ومقاربتها فارس والهند والنبط فصاحة، ومن الله عليهم أنهم لم يكونوا من أهل الردة. لفضيلة الجارود العبدي رضي الله عنه وحزمه. وهو الذي قال الشاعر في أحد الذين من ذريته:

يا حكم بن المنذر بن الجارود

سرادق المجد عليك مدود

والشطر الأول من شواهد الكتاب في باب ما يكون الاسم والصفة فيه بمنزلة اسم واحد ينضم فيه قبل الحرف المرفوع حرف وينكسر فيه الحرف المجرور الذي ينضم قبل المرفوع وينفتح فيه قبل المنصوب ذلك الحرف وهو ابنم وامرؤ- قلت وهذا من بارع تمثيل صاحب الكتاب وأستاذه الخليل إذ هذا مذهبه قالوا إن الراجز من بني الحرماز أحسب أن قائل ذلك أبو عمر الجرمي رحمه الله.

أما درجات النسيب الثلاث فأن منع فاطمة كبينها فقد بانت فهي ظعينة فهذه درجة ثم وصف الظعينة في الظعائن معها مع ما يخالط ذلك من غزل، فهذه درجة. ثم التنبيه على أن الذي بأن ليس هو فاطمة بمنعها ما منعت ولكن هو الشاعر بكبريائه وصدوده عمن صد عنه وعزمه رحلة التسلي:

فقلت لبعضهن وشد رحلي

لهاجرة نصبت لها جيني

فهذا خروج إلى الرحلة كما ترى

ص: 263

ثم يقول في البيت التاسع عشر

فسل الهم عنك بذات لوث

عذافرة كمطرقة القيون

هذه ناقته- وأقبل على صفة حركتها الهوجاء المستمرة الشديدة الإيجاف وهي ما زالت في أوائل نشاطها وهذه أولي مراحل سيره، وقد بدأه عند الهاجرة لا نخراطه وجده ووصل التأويب بالسرى.

بصادقة الوجيف كأن هرا

يباريها ويأخذ بالوضين

كساها تامكا قردا عليها

سوادي الرضيخ مع اللجين

إذا قلقت أشد لها سنافا

أمام الزور من قلق الوضين

لاحظ تكرار الوضين وهو هنا ترنم مقصود. وإنما قلق الوضين لاستمرار هذا الضرب من السير أياما، فضمرت فاحتاج هو إلى أن يشد الوضين بأكثر مما شده من قبل ومن ضمن وصف هذا السير الشديد وصف استراحات التعريس القصار

كأن مواقع الثفنات منها

معرس باكرات الورد جون

أي مواقع القطا البواكر لورود الماء، وكلما رحلها بعد هذه الاستراحة القصيرة تنفست الصعداء، نفسا حارا يكاد يقطع الحزام- ثم مضت وبها نشاطها

تصك الحالبين بمشفتر

له صوت أبح من الرنين

المشفتر المتفرق يعني ما يتطاير من الحصى، تطيره أخفافها

كأن نفي ما تنفي يداها

قذاف غريبة بيدي معين

تسد بدائم الخطران جثل

خواية فرج مقلات دهين

المقلات التي لا يعيش لها ولد، فأنبأنا بطول السير، وأنها ألقت جنينا بالصحراء. والدهين التي لا لبن لها

وتسمع للذباب إذا تغنى

كتغريد الحمام على الوكون

قالوا الذباب هنا حد نابها إذا صرفت بأنيابها أي صوتت- فهذا نهاية الدرجة الأولى من الرحلة

ثم الدرجة التي تلي صفة استراحة الناقة بعد هذا الكد، وقد عاد بخياله يصف حالها قبل الرحلة وهي فارهة كأنها سفينة:

ص: 264

فألقيت الزمام لها فنامت

كعادتها من السدف المبين

فهذا يدلنا على أنه قد استراح من قبل مرات عند هذا السدف المبين، وإنما عني آخر الليل عندما يبدو أول ضوء الفجر

كأن مناخها ملقى لجام

على معزائها وعلى الوجين

وملقى اللجام ضيق منبيء عن حال ضمور والمعزاء الأرض ذات الحصى والوجين الأرض الغليظة

كأن الكور والأنساع منها

على قرواء ماهرة دهين

هذه صفتها في أول الرحلة، إذ لا يمكنه التعريس بأكثر من إن يلقي لها الزمام، وما زالت بها قوة، فهذه الصفة تتضمن معنى الإعجاب والرضا

يشق الماء جؤجؤها ويعلو

غوارب كل ذي حدب بطين

هذه صفة السفينة التي شبه بها ناقته

غدت قوداء منشقا نساها

تجاسر بالنخاع وبالوتين

هذا يدلنا عن أن في الوصف رجعة إلى حالها قبل الضمور. وكأنه إذ قال: «غدت قوداء منشقا الخ» قد قال: «كانت قوداء سمينة منشقا نساها أي منفلقة لحمتا فخذيها فيبدو النساء بينهما من سمنهما»

ثم تجيء الدرجة الثالثة، وفيها رجعة إلى تفسير ما ذكره من قبل من تنفس ناقته الصعداء.

- وقد خلص هنا إلى مناجاة الناقة وجعل حاله وحالها شيئا واحدا:

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوه آهة الرجل الحزين

تقول إذا درأت لها وضيني

أهذا دينه أبدا وديني

أكل الدهر حل وارتحال

أما يبقى على أما يقيني

فأبقى باطلي والجد منها

كدكان الدرابنة المطين

أي كدكة البوابين، وذلك أنها تكون قد تأكلت من جوانبها، وهذه الصفة تدلنا على أن قوله من قبل:

كأن الكور والأنساع منها

على قرواء ما هرة دهين

إنما هو رجعة بخياله إلى حالها الأولى. والدهين هنا من صفة السفينة أنها مدهونة بالقار وهي تجاوب قوله من قبل: «خواية فرج مقلات دهين»

ص: 265

وكأن عنترة قد أخذ من قول المثقب هذا حيث قال:

وشكا إلى بعبرة وتحمحم

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلمي

وقد زاد في المعنى كما ترى

فهذه درجات الرحلة الثلاث- ثم يقول:

فرحت بها تعارض مسبطرا

على صحصاحه وعلى المتون

إلى عمرو ومن عمرو أتتنى

أخي النجدات والحلم الرصين

فهذه درجة- وهي تجاوب ما تقدم من نشاط ناقته أول ما وصفها، ثم الدرجة الثانية تقابل مناجاته الناقة ومناجاة الناقة له، كما فيها أصداء حديثه لفاطمة:

فإما أن تكون أخي بحق

فأعرف منك غثى أو سمينى

وإلا فاطرحني واتخذني

عدوا أتقيك وتتقيني

فهذا كقوله: فإني لو تخالفني شمالي إلخ

ثم الدرجة الثالثة، وهي كما قدمنا ذكره من قبل ذروة القصيدة وغاية مقاصدها من الحكمة

- عندما قال لفاطمة «كذلك أجتوى من يجتويني» وعندما قال لها:

لعلك إن صرمت الحبل بعدي

كذاك أكون مصحبتي قروني

كان له مفر إلى الناقة وبها إلى عمرو

وقد ملت الناقة وبرمت، وإنما الناقة هي نفس الشاعر، (بسكون الفاء هنا) وذلك أن من تهلك ناقته بالصحراء يهلك هو أيضا.

وقد تغير عمرو عن حاله أو يخشى هو أن يكون قد تغير وإذن فماذا يصنع:

وما أدرى إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

من تأمل هذا علم أن الشر لابد بالغ ما يبتغيه، والخير إنما هو أعاليل، والمرء يفر، يطلب الخير- ثم إن أسباب المنايا، إنهن لبالمرصاد، هذه مأساة الحياة

هذا والقارئ الكريم واجد بعد في الشعر أمثلة كثيرة مما سيق على منهج النسيب فالرحلة ومما لم يسق على ذلك والشاعر يتدرج به تدرجا من معنى إلى معنى- نضرب أمثلة على ذلك مشيرين إليها من غير تفصيل لامية العرب، فإن الشاعر يورد المعاني بها درجة بعد درجة وخطوة بعد خطوة على أن فيها مواضع مما تتعقد فيه عناصر الربط

ص: 266

من تداعي المعاني إلى المقابلة- غير أن الذي ذكرنا أظهر. ولامية تأبط شرا:

إن بالشعب الذي دون سلع

لقتيلا دمه ما يطل

جيدة الترتيب. بدأ بذكر القتيل. ثم صفة ابن الأخت، يعني نفسه الذي سيطلب الثأر. ثم وقع خبر مقتل خاله عليه. ثم صفة هذا الخال القتيل. ثم صفة العدو والقتال. ثم غضبات الثائر وإدراك الثأر وشراب الخمر

صليت مني هذيل بخرق

لا يمل الشر حتى يملوا

ينهل الصعدة حتى إذا ما

نهلت كان لها منه عل

حلت الخمر وكانت حرما

وبلأى ما ألمت تحل

فاسقنيها يا سواد بن عمرو

إن جسمي بعد خالي لخل

ثم استراحة الخاتمة:

تضحك الضبع لقتلى هذيل

وترى الذئب لها يستهل

وعتاق الطير تغدو بطانا

تتخطاهم فما تستقل

كلتا اللاميتين- لامية العرب ولامية الثأر مشكوك في صحتهما، أنهما صنعهما الرواة. ولا ريب أنهما مع ذلك جيدتان. ولا يصح أن يقال إنهما صنعهما خلف الأحمر، فعلى جودة شعره، لا يبلغ جودة هاتين اللاميتين. ولئن صحت مقالة من قال بانتحالهما وهي على الأرجح صحيحة لتواترها عن لامية تأبط شرا ولأن الشك في لامية العرب منقول عن القالى وهو حجة وثقة، فينبغي أن يكون المنتحل أو المنتحلون من رواة العرب وقصاصهم أهل البلاغة والبراعة والخيال- ثم ينبغي أن يكون لما انتحلوه أصل من رواية صحيحة.

ومن الكلام المتصل المتدرج ميمية المخبل:

ذكر الرباب وذكرها سقم

فصبا وليس لمن صبا حلم

ذكر الخيال والدار ومعالمها والمحبوبة إذ كانت بها وهي كالبردية ووجهها كالصحيفة النقية وهي كالدرة- وأخذ الشاعر في شيء من صفة الغوص والغواص

ولقد تحل بها الرباب لها

سلف يفل عدوها فخم

بردية سبق النعيم بها

أقرانها وغلابها عظم

ويروى «وغلا بها جسم» وهو قريب منه في المعنى إلا أن «غلا بها عظم» أجود لما فيه من الدلالة على حسن التغذية بسبب ما ذكره من أن تنعمها في الصغر جعلها تسبق أقرانها في النماء

ص: 267

وتريك وجها كالصحيفة لا

ظمآن مختلج ولا جهم

والتشبيه بالصحيفة منتزع من عهد العرب بالتجارة التي كانت بلادهم معبرا لها، إلى ديار الفرس والروم ومصر والهند والحبشة

كعقيلة الدر استضاء بها

محراب عرش عزيزها العجم

وهذا من باب المعرفة بأحوال الأمم وأخبارها

أغلى بها ثمنا وجاء بها

شخت العظام كأنه سهم

وهذه الصفة غير التي ذكر المسيب حيث جعله كما قال:

فانصب أسقف رأسه لبد

كسرت رباعيتاه للصبر

هذا طويل كما ترى

بلبانه زيت وأخرجها

من ذي غوارب وسطه اللخم

واللخم بضم اللام ضرب من دواب البحر ولعله كان يأكل الناس أو يؤذيهم ثم أعطى الرباب صفة أخرى فجعلها كبيضة الدعص وإلى صفته الظليم نظر عبد بن الحسحاس في أبياته اليائية «وما بيضة بات الظليم يحفها إلخ» قال المخبل وهي أبيات جياد:

أو بيضة الدعص التي وضعت

في الأرض ليس لمسها حجم

أي ملساء

سبقت قرائنها وأدفأها

قرد الجناح كأنه هدم

أي هذه الحسناء سبقت قرائنها بالنماء وحسن الغذاء واكتمال البهجة والرواء- يكرر ما قدمه حين جعلها بردية سبق النعيم بها أقرانها- ويعنى أيضا أن البيضة سبقت قرائنها أنها بكر، قال الشارح والشعراء تصف ذلك وأورد بيت امرئ القيس كبكر المقاناة إلخ- وأحب إلى أن يكون سبقت قرائنها يعود على الفتاة وأدفأها يعود إلى البيضة، وإلى هذا الوجه ذهب أحمد بن عبيد بن ناصح

ويضمها دون الجناح ودفه

وتحفهن قوادم قتم

لم تعتذر منها مدافع ذي

ضال ولا عقب ولا الزخم

قرد الجناح أي كثيفه ريشه متراكم والهدم الثوب أي كأن جناحيه ثوب. قتم أي فيهن غبرة وهو من ألوان ريش النعام. وقوله لم تعتذر منها أي لم تقل ما تعتذر به عن معرفة

ص: 268

عهدها فما زالت آثارها باقية بمدافع ذي ضال وبذي عقب وبالزخم موضع بالزاي المعجمة المضمومة أو بالراء المهملة المفتوحة وما أشبه أن يكون اسما على مواضع إن كان بالزاي المضمومة لما في ذلك من رائحة الجمع

وذكر ريش النعام دعا إلى ذكر شعر الفتاة وهذا من باب تداعي المعاني:

وتضل مدراها المواشط في

جعد اغم كأنه كرم

فأفادنا هذا الشاعر في ميميته هذه معرفة بالصحيفة والدرة وبمحراب عرش العجم وبالكرم وهو بدوي جاهل كما يظن بعض الجهلاء فتأمل.

ثم انتقل الشاعر إلى التسلي بالرحلة ووصف الناقة والطريق وجعل لذلك نحوا من ثلاثة عشر بيتا وليس ذلك بالعدد القليل، فمن أنكر على طرفة إطالته فإن داليته أكثر من ضعف ميمية المخبل في عدد أبياتها، فلا ينبغي أن ينكر عليه أن يجيء بضعف عدد أبيات المخبل في صفة الناقة أو يزيد

ثم بعد صفة الناقة والطريق يقول المخبل:

وتقول عاذلتي وليس لها

بغد ولا ما بعده علم

إن الثراء هو الخلود وإن

المرء يكرب يومه العدم

وهذه في التدرج وثبة

وكون الشاعر قد ذكر الرباب وهي لم تعف أثارها وهو مسافر ذو دأب يفيد أنه بسبيل جد وكسب- وأن عذل المرأة له أن ماله قليل من بعض ما دفعه إلى هذا السفر وإذن فالرباب هي العاذلة أو ذلك رمز لها-

ثم يصير الشاعر إلى الحكمة وهي الدرجة العليا والغاية التي بلغتها به هذه الوثبة

إني وجدك ما تخلدني

مائة يطير عفاؤها أدم

والمائة من الإبل مال دثر وقد تعلم أن الزكاة من الإبل نفسها تجب في خمس وعشرين فالمائة أربعة أمثال ذلك

ولئن بنيت لي المشقر في

هضب تقصر دونه العصم

وكان من سادتهم من كذلك يبنون

ص: 269

لتنقبن عني المنية إن

الله ليس كحكمه حكم

إني وجدت الأمر أرشده

تقوى الإله وشره الإثم

لأعدم المال يأيتها الرباب

ومن أجل عذل الرباب وما تكلفه من الكلف التي هي على خلاف ما يرى من الحكمة كان قوله

أولا:

ذكر الرباب وذكرها سقم

وصبا وليس لمن صبا حلم

وتشبه هذه الميمية في مساوقتها أول الأمر لعادة الشعراء ثم وثبتها إلى أمر من الحكمة ثم ذلك قوى ارتباط المعنى والرمز بها كان استهل بها لامية بشامة بن الغدير خال زهير وهي من المفضليات العاشرة، وقد مر عنها بعض الحديث ولا بأس برجعة وبعض تفصيل

هجرت أمامه هجرا طويلا

وحملك النأي عبئا ثقيلا

وحملت منها على نأيها

خيالا يوافى ونيلا قليلا

ونظرة ذي شجن وامق

إما الركائب جاوزن ميلا

من هذه البداية تحس أن ههنا عاطفة ذات عقد ألوان- هجر ونأي ومقة وذكرى- شوب من كبر المغاضب وأسف المحب وشكه في صواب ما يعزم عليه ويتكلفه من «واقع» أمر الحياة وقوله «هجرت أمامة هجرا طويلا» يلفت، إذ المألوف أن تكون المحبوبة هي الهاجرة.

ونسيب هذه القصيدة من أرق النسيب وأدقه

وتأمل بعد كيف تدرج من ذكر الخيال إلى ذكر لقاء لم يكن بخيال- قصة مما كان من أمره وأمرها- ثم أعاد الخيال ذلك كما يعيده أو يسبق به

أتتنا تسائل ما بثنا

فقلنا لها قد عزمنا الرحيلا

هذا تفسير للهجر الطويل كما ترى- بدأ الشاعر من حيث انتهى علقمة وغيره من الشعراء حيث يئسوا وقالوا دعها.

ص: 270

هو قد وصل مرحلة اليأس فهي التي يبدأ بها. ثم كما يفعل بعض أصحاب القصص الآن إذ يرجعون بك إلى أشياء مضت من منطلق هو الآن، رجع بنا بشامة إلى ما كان من المقدمات والأحوال التي صارت به إلى اليأس- أتتنا تسائل عن أمرنا ما بثنا؟ فماذا كما كان يقول الدكتور زكي مبارك رحمه الله، ولا أعلم من أهل العصر من الجيل السابق من كان يتناول الشعر بسحر بيان بعد الدكتور طه حسين كمثل سحر بيانه- أتتنا:

فقلنا لها قد عزمنا الرحيلا

وقلت لها ......

تأمل صيرورته إلى قلت بضمير المتكلم الواحد بعد أن كان جمعا، وفي هذا من الخصوصية والمناجاة

وقلت لها كنت قد تعلمين مذ ثوى الركب عنا غفولا

فهذا من أسباب اليأس كما ترى.

قال أحد الشيرزايين أحسبه سعدي الشيرازي ما معناه إنك إذا رأيت صديقك يجلس عند عدوك فاعلم أن وداده قد انتهى واهجره

وما كان لها من عذر غير الدموع:

فبادرتاها بمستعجل

من الدمع ينضح خدا أسيلا

مسكين الشاعر، لا يملك إلا أن يتصباه- يتصبى جانبا من قلبه هذا الخد الأسيل ينضحه دمع الطرف الكحيل- دمع اعتذار ليس بعاذرها حقا وليس بمرضيه حقا

وما كان أكثر ما نولت

من القول إلا صفاحا وقيلا

وعذرتها أن كل امرئ

معدله كل يوم شكولا

فدموعها إذن دموع عزم على وداع، وتقبل افتراق

كأن النوى لم تكن أصقبت

ولم تأت قوم أديم حلولا

أي كأننا لم نكن خليلين وكانت لنا حال وآل وبيننا ود ووصال. قال أحمد بن عبيد بن ناصح قوم أديم أي مجتمعين، أمرهم، واحد مجتمع فيهم أديم واحد، فعزمهم الدهر. قلت أي غلبهم الدهر.

وإذن فهذه هي المأساة، قد تبدلت به آخر- هي إذن الهاجرة، ولابد له إذن من هجرها الهجر الطويل، إذ ليس إلى غير ذلك من سبيل

فقربت للرحل عيرانة

عذافرة عنتر يسا ذمولا

ينبغي أن تكون هكذا وأن تكثر صفات قوتها لكي يتسلى من هذه المأساة

مداخلة الخلق مضبورة

إذا أخذ الخافقات المقيلا

وهكذا مضى في نعت الناقة، وصف سنامها كيف اكتنز وما كان من مراعاها وخنزوانتها إذ تسير إذ ما عودت غير الإكرام

لها قرد تامك نيه

تزل الولية عنه زليلا

يعنى السنام والولية شيء يجعل تحت الرحل يقى ظهر الدابة من مباشرة الخشب

تطرد أطراف عام خصيب

ولم يشل عبد إليها فصيلا

ص: 271

لم يشل لم يناد ولم يدع فصيلا ليرضع منها صونا لها

توقر شازرة طرفها

إذا ما ثنيت إليها الجديلا

فهذه خنزوانتها.

وما خلصت صفة هذه القلوص من كبرياء صاحبته التي أحدرت دموعها ثم لم تهبه إلا إعراضا ومقالا كإعراض

.. إلا صفاحا وقيلا

ص: 272

ثم وصف عينها- وفيها أيضا من حال تلك التي بكت ثم أعرضت لأنها عين تمتحن وتراقب كعين من يفيض قداح الميسر

بعين كعين مفيض القداح

إذا ما أراغ يريد الحويلا

أراغ أراد، الحويل، الاحتيال

ثم وصف الأذن والصد ثم مرت، وصار بعد إلى الإشعار بالجد والتشمير

وحادرة كنفيها المسيح

تنضح أو بر شثأ عليلا

هذه أذنها يسيل منها العرق على وبرها- والصورة منتزعة من مبادرة الدموع التي مرت.

والأوبر هنا في مقابلة الخد الأسيل، فيا لذلك، كما ترى، من بديل:

وصدر لها مهيع كالخليف

تخال بأن عليه شليلا

زعم الأصمعي أن بشامة أخطأ. قال الشارح قال الأصمعي: قد أخطأ في هذه الصفة لأن من صفة النجائب قلة الوبر والانجراد، وإنما توصف بكثرة الوبر الإبل السائمة ولا توصف بالوبر نجيبة عتيقة كريمة.

قلت أصاب الجاحظ إذ أخذ على اللغويين ما أخذ. وللأصمعي من هذه مشابه، إذ قد مر عليك مثلا ما أخذه على المرار حيث قال في صفة النخل:

كأن فروعها في كل ريح

جوار بالذوائب ينتصينا

ولولا أن الأوائل تعقبوا أبا سعيد للزمنا أن نتهيب مكانه، قال الشارح قال أحمد: غير الأصمعي يقول لم يخطئ الشاعر الوصف لأنه لم يرد الوبر وإنما أراد أن جلد صدرها يموج من سعته، فلذلك قال شليلا، وهو كساء أملس ولم يرد الشاعر الوبر، إنما أراد سعة الصدر ولو أراد الوبر لقال: تخال بأن عليه خميلا، فالشاعر قد أجاد والمتأول عليه أنه أخطأ الوصف هو أخطأ وهذا مستحب في وصف الإبل والخيل، حتى كأن عليه شليلا أي كساء يضطرب من سعته. وقال غيره المهيع الواسع الإبط والخليف طريق في المنحني. قال كاتب هذه الأسطر غيره هنا لا يعني غير أحمد أو غير الأصمعي ولكن يرد ذلك إلى قوله في أول الشرح المهيع الواسع والخليف الطريق- (وانظر الشرح الكبير ص 84)

ص: 273

وما أجود ما قال أحمد بن عبيد بن ناصح. وغير الأصمعي حيث قاله لا أحسبه ما عنى به إلا نفسه.

ثم لم يزل الشاعر يقرو بتصويره الناقة أثر ما صور به أمامة التي هجرته وهجرها هجرا طويلا كما زعم- وهذا الصدر المتموج كأن عليه شليلا هو صدرها إذ تنخج ببكاء الوداع الهاجر. وهذه الأماكن التي مر هو عليها ومرت ناقته عليها هي أيضا مواضع مرور الظعينة إذ كما هو هاجر هي هاجرة وكما هو مودع هي مودعة.

فمرت على كشب غدوة

وحاذت بجنب أريك أصيلا

توطأ أغلظ حزانه

كوطء القوي العزيز الذليلا

وهذا التشبيه يوقف عنده.

الصفة للناقة ولأمامة أيضا. وهي العزيز وهو المسكين الذليل. ولا معنى لوصف وطء الناقة هذه الصفة إن لم يرم الشاعر إلى الرمز والإيحاء وأن يضمن هذه الصفة معنى هذا الهجر الطويل والصفاح والقيل.

ثم استمر يصف سير الناقة بعد أن فصل ما فصله في صفة أعضاء منها:

إذا أقبلت قلت مذعورة

من الرمد تلحق هيقا ذمولا

من الرمد أي من النعام- وهذا مع أنه من صفة إقبال سير الناقة مردود من جهة تجاوب أصداء المعاني على قوله آنفا:

أتتنا تسائل ما بثنا

فقلنا لها قد عزمنا الرحيلا

وقلت لها كنت قد تعلميـ

ـن منذ ثوى الركب عنا غفولا

فهذا فيه معنى المذعورة الجفول

وإن أدبرت قلت مشحونة

أطاع لها الريح قلعا جفولا

فقد جاء بالجفول من صفة النعامة وهو هنا يشبه الناقة بالسفينة- وهكذا كان إدبار أمامة إذ أدبرت عنه وإذ أعرضت إعراضا.

وإن أعرضت راء فيها البصير مالا يكلفه أن يفيلا

أي مالا يخطئ معه أنه إعراض.

وإعراض الناقة هنا أن تريك جانبها. والبصير إذا أرته جانيها فنظر علم نجابتها،

ص: 274

فهذا ظاهر المعنى، وهو مردود أيضا على ما تقدم من قوله:

صفاحا وقيلا

إذا الشعر ذو خفايا وألوان- ثم فصل النجابة وهي أيضا من شواهد الإعراض

يدا سرحا مائرا ضبعها

تسوم وتقدم رجلا زجولا

أي رجلا تضرح الحصى

وعوجا تناطحن تحت المطا

وتهدي بهن مشاشا كهولا

العوج الأضلاع. تناطحن دخل بعضهن في بعض. مشاشا عنى بها رؤوس العظام المركبة فيها الضلوع. كهولا. من قولهم اكتهل النبات، أي رؤوس عظام فيهن قوة وارتفاع ومن تأمل هذه الصفة وجد فيها عودا قوله:

وصدر لها مهيع كالخليف

تخال بأن عليه شليلا

والتناطح فيه حركة أشبه بحركة الشليل الأملس المتموج منها بمحض التداخل إلا أن يكون في هذا التداخل معنى التموج كما يدخل الموج بعضه في بعض وكذلك حركة الضلوع في الصدر القوي الجيد.

وصفة المرأة التي ذكرها من هذا غير بعيد.

ثم استمر في صفة مشى هذه الناقة، وتشبيهاته لا تنى تحمل معاني من الرمز:

تعز المطى جماع الطريق

إذ أدلج القوم ليلا طويلا

أي تغلب الإبل الأخرى وتسبقها على الطريق. وهنا رجعه إلى قوله من قبل:

توطأ أغلظ حزانه

كوطء القوي العزيز الذليلا

ولو نستعير ورقة من كتاب جون كيري John Carey صاحب كتاب النقد المعاصر عن الشاعر جون دون John Donne لذكرنا القارئ أن الوطء والجماع كلاهما يجيء بمعنى المباضعة. والجماع الطريق هنا أي معظمة.

كأن يديها إذا أرقلت

وقد جرن ثم اهتدين السبيلا

أي الإبل وأشربهن معنى النساء بهذا الإضمار

ص: 275

يدا عائم خر في غمرة

قد ادركه الموت إلا قليلا

تلقى حركة الهمزة على الدال.

هنا وصف جيد بارع من حيث حاق تصوير الحركة، إذ الشاعر إنما التقط حركة اليدين والرجلين وفيهما عند إسراع الناقة اضطراب، فتشبيه ذلك بحركة العائم المجد وقد كاد يغلبه موج أو تيار فبدا من ضرب يديه ورجليه إلحاح منازعة ذات إسراع مفرط مذعور، تشبيه دقيق. على أن حال الناقة حين تجد وتندفع أبعد شيء عن حال الغريق. وما خلا الشاعر من تضمين وصفه إيحاء بما كان قاله من قبل من معنى الفراق على كراهة ذلك وعلى يأس من صلاح الحال، ومن معنى سيقوله من بعد قومه والذين كانوا لهم جيران وحلفاء من قبل والمشعر بالإيحاء قوله:

قد أدركه الموت إلا قليلا

إذ قوله «يدا عائم خر في غمرة» واف بالصفة المرادة، ولكن هذه الزيادة مع توكيدها وتقويتها لمراده من التشبيه أدل على مكنون من الإيحاء.

ثم في الغمرة شبه من معنى العبرة، وذلك حيث قال:

فبادرتاها بمستعجل

من الدمع ينضح خدا أسيلا

ثم من هذه الغمرة تجئ وثبة الشاعر إلى معاني الحكمة التي ختم بها قصيدته والتي هي أربه وضالته التي ينشد.

ومع الوثبة شيء من تداعي المعاني وقوة دلالة الرمز.

وقد يذكر القارئ الحكيم أن الشاعر إنما رأى في أول القصيدة من أمامة بعد هجره إياها الطويل خيالا.

وحملت منها على نأيها

خيالا يوافي ونيلا قليلا

حتى هذا الخيال لا يزوده ما يزعم الشعراء أنهم يتزودونه. قال عمرو بن قميئة

نأتك أمامة إلا سؤالا

وإلا خيالا يوافي خيالا

خيال يخيل لي نيلها

ولو قدرت لم تخيل خيالا

ولكأن بشامة تعمد إلى أن يشير إلى مقال ابن قميئة هذا حيث قال:

هجرت أمامة هجرا طويلا

ص: 276

فأمامة كما ترى هي نفس العلم الذي جاء به عمرو بن قميئة من قبل، وكان من أصحاب امرئ القيس، مشهورا من شعراء العرب.

وعند عمرو بن قميئة هي الهاجرة.

وذكر الشعراء تنويل الخيال كثير ومن أشهره قول ابن الخطيم:

ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه

في النوم غير مصرد محسوب

وأخذ هذا المعرى فقال:

تسئ بنا يقظى فأما إذا سرت

رقادا فإحسان إلينا وإجمال

وقال أبو الطيب، فجعل نفسه ذا عفاف حتى مع الخيال، وكأنه ينظر إلى قول اليشكري «من حبيب خفر فيه قدع» فقال:

يرد يدا عن ثوبها وهو قادر

ويعصي الهوي في طيفها وهو راقد

والمبالغة في هذا القول. وهو بعد جيد بالغ.

وحول الخيال بشامة في تذكرة النظرة حيث قال:

ونظرة ذي شجن وامق

إذا ما الركائب جاوزن ميلا

ثم جعل الأمر قصة بعض ما كان.

ثم هاهنا رجع فجعل القصة طيف خيال كما بدأت. وعدل من الرمز وهو أمامة إلى معان من الرموز له. وهذا يناسب عودته فجعله القصة أحلاما وللأحلام تأويل. هاهنا الوثبة. والذي يدلك على أنه جعل ما كان قصة ورمزا، مرة أخرى خيالا وأول ذلك الخيال قوله.

وخبرت قومي ولم ألقهم

أجدوا على ذي شويس حلولا

فإما هلكت ولم آتهم

فأبلغ أمائل سهم رسولا

بأن قومكم خيروا خصلتين

كلتاهما جعلوها عدولا

خزي الحياة وحرب الصديق

وكلا أراه طعاما وبيلا

فإن لم يكن غير أحداهما

فسيروا إلى الموت سيرا جميلا

ولا تقعدوا وبكم منة

كفى بالحوادث للمرء غولا

ص: 277

وحشوا الحروب إذا أوقدت

رماحا طوالا وخيلا فحولا

ومن نسج داود موضونة

ترى للقواضب فيها صليلا

فإنكم وعطاء الرهان

إذا جرت الحرب جلا جليلا

كثوب ابن بيض وقاهم به

فسد على السالكين السبيلا

وهو الجزء الختامي وذروة مقاصد الشاعر.

قوله ولم ألقهم ولم آتهم يقوى مزعمنا أن هاهنا رجعة إلى الطيف، لأن القصة التي قصها من قبل يقول فيها «أتتنا تسائل ما بثنا» فهذا إن يكن طيفا، وهو كذلك، فإنه لا إتيان ولا لقاء، ولكن حلم، وقوله:«أجدوا على ذي شويس حلولا» فيه أنفاس من قوله:

فقلت لها كنت قد تعلمين منذ ثوى الركب عنا غفولا

فلم يكن لها اعتذار إلا الدموع، وقوله:«أتتنا تسائل ما بثنا» يشبه «وخبرت قومي ولم آتهم البيت» لأنه في هذا الذي جعله خيالا قال: «قد عزمنا الرحيلا» فهؤلاء الذين قال بلسانهم «قد عزمنا» هم قومه. وذو شويس موضع بعينه، جبل في ديار بني مرة، قال ذلك البكري في معجم ما استعجم وضبطه بشين معجمة بعدها واو مفتوحه، فياء ساكنة فسين مهملة على صيغة التصغير كأنه تصغير شأس خففت همزته والشاس الخشن، وضبطه ياقوت بفتح فكسر بوزن كريم وظريف، ويجوز أن بعضهم كان ينطقه هكذا، أو أن ذلك كان النطق على زمانه. وفي ذكر شويس كناية عن الصلابة والخشونة وعن الاعتصام والمأوى معا إذ هو جبل، ويجوز أن يكون في ذلك شيء من الإيهاء إلى الحصين بن الحمام من سادات بني مرة، لما استوثق بينه وبين قوم بشامة من حلف. وقوله «فأبلغ أماثل سهم رسولا» كقوله «أتتنا تسائل ما بثنا» - الشبه في إرسال الرسول فإنه في معنى إتيانها تسائل كما أ، من معنى ما بثنا أي شيء بثثناه إن شئت، وأي شيء حالنا. وقوله:«قد عزمنا الرحيلا» فقد أرسل إلى قومه وعزم أن يلحق بهم وذلك قوله: «فإما هلكت ولم آتهم» فما يمنعه من الإتيان إلا أن يهلك.

وقوله: «خزي الحياة وحرب الصديق» في معنى ما بث أمامة وبثته إذ قال لها كنت «عنا غفولا» فبكت ولم تصنع إليه كبير شيء فلم يجد بدا من الهجر.

وقوله: «فسيروا إلى الموت سيرا جميلا»

تأويل ما تقدم من قوله: «هجرت أمامة هجرا طويلا»

وقوله: «وكل أراه طعاما وبيلا» وإن شئت وكلا بالنصب تأويل ما تقدم من قوله:

وحملت منها على نأيها

خيالا يوافي وعبئا ثقيلا

ونظرة ذي شجن وامق

إذا ما الركائب جاوزن ميلا

ص: 278

فهذا مع الحرمان طعام وبيل، والهجر طعام وبيل، فإن لم يكن بد من إحدى الخطتين فالهجر منه ومنها:

وما كان أكثر ما زودت

من النيل إلا صفاحا وقيلا

إي إعراضا وكلاما- مغالطة أو نحو ذلك.

وإذن فهي الحرب. ولابد لذلك من عدته، رماحا طوالا، وخيلا جيادا ودروعا وسيوفا. ومن أكمل عدته وأبدى الحزم هيب جانبه- ثم نصحهم أن يلزموا جانب العدل حتى لا يجر البغي عليهم وبالا، وهذا متضمن في زعمه أن الخطتين اللتين خيروا؛

كلتاهما جعلوها عدولا

أي جوار وعدولا عن الحق. فأنتم يا قوم فلا تعدلوا عن الحق فالبغي مرتعه وخيم.

هذا الروح هو نفسه الذي نجده عند ابن أخته:

فلا تكمن الله ما في نفوسكم

ليخفي ومهما يكتم الله يعلم

فهذا قولنا من قبل إن بشامة أستاذ زهير، وذلك أقرب من أن نقول إن زهيرا من المدرسة الأوسية، وإن يك أوس تزوج أمه وهو قد روى منه، ذلك بأن أصل أخذه وتلمذته هو بشامة وعلى هذا قول الرواة

وقوله:

فأنكم وعطاء الرهان

إذا جرت الحرب جلا جليلا

كثوب ابن بيض وقاهم به

فسد على السالكين السبيلا

تقوية لما تقدم من معنى الاستعداد ولزوم جانب الجد والحزم مع تجنب البغي والجل كساء الجواد، فجعل مد الحرب غبارها وشرها جلا جليلا، فإذا حدث هذا فإن الحلف الذي عقدتموه مع الحصين بن الحمام المري والرهان الذي أعطاكموه، قالوا رهنهم ابنه، عدة لكم جسيمة لمكان الحصين ومكان بني مرة في غطفان، فهذا كثوب ابن بيض الذي جعله وقاية له من شر لقمان. وضرب بشامة ذلك مثلا. وزهير كخاله مما يضرب الأمثال.

وهذا اختتام حسن.

ص: 279