المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الضرب الثالث:«رومنسية» الافندي - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٥

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌أطوار المدحة النبوية وبعض أمرها:

- ‌أما طور الدعوة فقد كانت قصيدة المدح النبوي فيه جزءًا لا يتجزأ من الشعر العرب

- ‌طور السياسةهذا هو الطور الثاني من أطوار المدحة النبوية

- ‌الطور الثالثوهو طور التعبد الممهد

- ‌طور النضج:

- ‌الصرصري والبرعي والبوصيري:

- ‌وأعلم أيها القارئ الكريم أن من علامات نفس الشاعر ودلائله أشياء نذكر منها فيما يلي إن شاء الله:

- ‌أولًا: التسلسل:

- ‌ثانيًا: التدرج

- ‌ثالثا: تداعي المعاني

- ‌رابعا: المقابلة

- ‌خامسًا: التخلص:

- ‌سادسًا: المخاطبة:

- ‌سابعًا: الاقتضاب:

- ‌الاقتضاب عند المحدثين:

- ‌فصل فيما يقع من تشابه أشكال القصائد

- ‌فصل ملحق بما يقع من تشابه أشكال القصائد

- ‌أسلوب المقالة: تمهيد: أولاً:

- ‌أسلوب المقالة: أوائله، ثانيًا

- ‌المقالة والقصيدة عند شوقي وحافظ ومن بعد قليلاً

- ‌الضرب الأول:«رومنسية» الدفاع عن القديم

- ‌الضرب الثاني:الرومنسية المسيحية العربية

- ‌الضرب الثالث:«رومنسية» الافندي

- ‌الضرب الرابع وهو رومنسية الفقير المفقود

الفصل: ‌الضرب الثالث:«رومنسية» الافندي

لكنه مهما سلا

هيهات يسلو الموطنا

والمعنى هنا خطابي قومي، شبيه بما كان يصنعه حافظ، وفي القصيدة بعد مواضع إحسان لا تخفى وعندي أن هذه النونية أنطق بشاعرية إيليا أبي ماضي من كلمته الرائجة «الطلاسم» .

جئت لا أعلم من أين ولكن أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت

وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت

كيف جئت، كيف أبصرت طريقي: -

لست أدري

أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود

هل أنا حر طليق أم أسير في قيود

هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود

أتمنى أنني أدري ولكن

لست أدري

وهكذا وهلم جرا

نغم لين فيه عذوبة الترنم ووضوح الوزن وحسن اختيار للكلمات- ولكن جملة البيان لا تصل بالقلب حقًا إلى كبير شيء. محاولة نزعة معرية الإلحاد خياميته [نسبة إلى رباعيات الخيام التي ترجمها فتزجر الد فأحدث ذلك لها شهرة]- ثم المعاني فقاقيع، مما هو دائر في باب طلب التعمق الفلسفي وليس بعميق.- مع هذا إيليا أبو ماضي من كبار شعراء عصر التجديد وقد حاول بجهد صادق أن ينفي عن دولة الشعر التجديدي كثيرًا مما احتشد فيها من الجند الدخيل الرهيب.

‌الضرب الثالث:

«رومنسية» الافندي

أصل معنى كلمة الأفندي فيما بلغنا السيد، وكانت تطلق على السلطان وعلى خديوي مصر فيقال أفندينا ويقال لجيش الخديوي «عسكر أفندينا» ، ثم صارت الكلمة لقبا للسيد الجديد من المثقفين الذين تسنموا كبار الوظائف، وانعكس في بهائهم بهاء «أفندينا» بهاء «الميري» (أي السلطان وكأنها الأميري بتخفيف الهمزة) وجاهه.

ص: 536

كان لواء القيادة الفكرية بيد المشايخ والفقهاء. ثم انتقل من هؤلاء إلى كبار الأفندية، علي مبارك، إسمعيل صبري، أحمد شوقي، وهلم جرا- وجاء التعليم النظامي الخالي من أساس القرآن وعلوم الدين والنحو القديمات. القرآن واللغة الآن جزء من برنامج المدرسة مع اللغات الإفرنجية والحساب والجغرافية. وحظ هؤلاء من الاهتمام بهن أكبر إذ تمهيدهن للوظائف ذات الجاه أشد وأوكد. وهكذا أخذت المدارس النظامية تخرج أجيالاً من الأفندية لا يلبسون زي الشيوخ الذي كان يتزيا به العلماء ولكن السترة والبنطلون والكرفتة- الزي الأفرنجي المظهر، لا يميزه في كثير من بلاد المسلمين عن زي الأفرنج إلا الطربوش على الرأس. وقد ترك هذا من بعد، في أكثر البلاد.

كان حظ الأفندي الجديد من علم العربية أول الأمر لا بأس به، إذ كان لدروس تطبيق النحو والإنشاء فيه مكان. ولكن التنافس على الوظائف من بعد وزيادة عدد المتسابقين عليها جرت إلى ما قدمنا ذكره من تدهور العناية بالعربية وموادها وعلوم الدين ودرس القرآن.

وتصدى الأفندية المثقفون بثقافة الإفرنج من أجل الوظائف لحمل ألوية القيادة الفكرية التي صارت إليهم من جيل أوائل النهضة. وعلى رأسها الأدب والشعر إن لم يكن أهم أبوابه فإن أهميته ما زالت بالغة.

وقد كان للعلماء العارفين باللغة نحوها وصرفها ميراث من سلطانهم القديم. إلا أنه الآن قد زعزعه أمران- حملة أوائل دعاة التجديد المتطرفين على شوقي وأصحابه الذين انتزعوا لواء دولة الشعر من المشايخ، ثم ما جعل يغلب من جهل دقائق اللغة، جهلاً جعل يزين لكثير من جيل الأفندية الجديد التنكر لقديمها والثورة على قواعدها. جيل الأفندية الجديد، ولا سيما طبقته التي تغلغلت فيما ظنته في صميم حضارة أوروبا من طريق المهن الكبرى كالطب والهندسة والقانون والتخصصات العالية المستوى في الإدارة والجيش والتدريس العصري، جعل يعد نفسه طليعة التقدم، والطرف اللاحق بأوروبا من هذا العالم الذي انتماؤه، حق انتمائه، إليه، ولكنه متخلف يا للأسف.

ومن عند ههنا أجاز لنفسه من جسارة التعدي على أساليب الفصاحة ما لم يكن يجيزه جيل من اقتدوا بشوقي وحافظ- أجاز ذلك باسم الثورة على القديم، والتجديد

ص: 537

الذي يرمي إلى استعمال اللغة العامية السهلة، لغة الصحافة، لغة تفاهم المثقفين- لغة ثورة الرومنسيين التي عبر عنها «ورد زورث» وعبر عنها «الديوان» حين ثار على جمود شوقي، وعبر عنها «ميخائيل نعيمة» في «الغربال» ، وعبر عنها المهجر، - لغة القلب والوجدان.

أما أحمد زكي أبو شادي، صاحب أبولو، وقائد العير إلى دار الجهاد، فكان امرأ شديد الطموح، ضعيف الحظ من تذوق ديباجة الشعر العربي، ضعيف الإحساس برنة نغمات أوزانه القوية ما كان منها جزلاً أو ذا رقة، ذا حظ من الأفكار «الرومنسية» كبير، ومن الأفكار التي قد تدور بها بعض خواطر مثقفي العلم الحديث، ولكنه كان ذا حظ قليل من حاق وجدان القلوب الذي يكون في الشعر. واعلم أن وجدان القلوب الذي يكون في الشعر ليس ضربة لازم هو وجدان القلوب الذي يكون عند الانفعال الذي نحسه ساعة الغضب أو الحزن أو الفرح الطارئ وما أشبه. وقد مر من أمثلة نظم أحمد زكي أبي شادي شيء ذكرناه في أوائل الجزء الأول وهو قوله:

أهلاً أبو قردان

يا منقذ الفلاح

كلاكما قد هان

واستمرأ الأفراح

فنحيل القارئ الكريم إلى ما علقنا به عليه هناك.

وطبيب آخر، ضعيف الحظ من العربية، عظيم الحظ من وجدان القلوب الذي يكون في الشعر، لو تعهده بما يتعهد به الشاعر الحق فنه، لكان بلا ريب سيجيد- لو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. رحم الله الدكتور إبراهيم ناجي (1) ورحم الدكتور طه حسين إذ قال فيه «إنه من هؤلاء الشعراء الذين يحسن أن تستمتع بما في شعرهم من الجمال كما تستمع بجمال الوردة الرقيقة النضرة دون أن تشتط عليها بالتقليب والتعذيب. هو شاعر هين لين رقيق حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، قوي الجناح. شعره أشبه بما يسميه الفرنجة موسيقًا الغرفة منه بهذه الموسيقا الكبرى التي تذهب بك كل مذهب وتقيم بك فيما تعرف وما لا تعرف من الأجواء.» -

ولا ريب أن الوردة التي كره طه رحمه الله تقليبها وتعذيبها قد قطفت- فهي ضعيفة «بالقوة» كل الضعف.

وهاك مثالاً من تغنيه الذي هو موسيقا غرفة، ووردة ستذبل مع التقليب.

(1) ولد بمصر في 31 ديسمبر 1898 وتوفي 23 مارس 1953.

ص: 538

يا غلة المتلهف الصادي

يا ايتي وقصيدتي الكبرى

ماذا تركت لدي من زاد

إلا استعادة هذه الذكرى

***

يا للمساء العبقري وما

أبقى على الأيام في خلدي

شفتاك شفا لوعة وظمأ

وجمالك الجبار طوع يدي

نمشي وقد طال الطريق بنا

ونود لو نمشي إلى الأبد

ونود لو خلت الحياة لنا

كطريقنا وغدت بلا أحد

***

نبني على أنقاض ماضينا

قصرًا من الأوهام عملاقًا

ونظل ننسج من أمانينا

وشيا من الأحلام براقا

وأظل أسقيها وتملأ لي

من مورد خلف الظنون خفي

حتى إذا سكرت من الأمل

وترنحت مالت على كتفي

***

حلفت بأني مغتد معها

حيث اغتدت وهواي في دمها

فمسحت بالقبلات أدمعها

وطبعت ميثاقي على فمها

لولا ما نهى عنه الدكتور طه من التقليب والتعذيب لوقفنا عند مسائل من الصياغة في هذه الأبيات -مثلاً شفتاك شفا- وأحسب أن البيت الثاني قد كان:

زادي لقاؤك عز من زاد

يحيا الورى ويعيش بالذكرى

ثم راجعها الشاعر ولعل الوضع الأول كان أجود.

ولا بد بعد من التنبيه على أخذ ناجي من حسناء كيتس من قوله وأظل أسقيها وقوله مالت على كتفي إلى آخر هذا التسميط قال كيتس:

I set her on my pacing steed

And nothing elso saw I all day long

For sidelong would she bend and sing

A fairy song 8

She found me roots of relish sweet

And honey wild and manna-dew،

And sure in languuage she said

I love the true

She took me to her elfin grot

And there she wept and sigh'd full sore

And there I shut her wild wild eyes

With kisses four

ص: 539

(هذا النص نقلناه من Palgrave's Golden Treasury وفيه اختلاف أحرف يسير عن النص الذي أوردناه قبل نقلاً عن كتاب الشعر الرومنسي كما بيناه في موضعه).

وقد مرت الترجمة وهي (لتيسير الموازنة): -

حملتها فوق جوادي بنا

يخطو ولا شيئًا سواها أرى

طوال يومي حين مالت إلى

جنبي وتشدو اللحن من عبقرا

ووجدت لي من عروق شهيـ

ـات وحلوات لدى المأكل

والعسل البري جاءت به

والمن يغشاه ندى السلسل

ثمت قالت بلسان غريـ

ـب إنني أهواك يا ويح لي

ثمت صارت بي إلى كهفها الـ

ـمسحور صارت بي إلى كهفها

وحدقت ثم ومقروحة الـ

ـفؤاد بالآهة من جوفها

عندئذ قبلتها أربعًا

أغلقن جفن الوحش من طرفها

ولإبراهيم ناجي كلمة دون الممسطة التي مرت في سلامة الرصف ونغم القريض، وفيها معنى حسناء كيتس ومعان من فتاة أدولف (بنيامين كنستنس) وغادة الكامليا معًا.

وها هي ذي، عنوانها الحياة مع كلمات بين قوسين كالتقديم (استعراض للحياة في شارع)[ديوان إبراهيم ناجي، دار العودة، بيروت، ص 36].

جلست يومًا حين حل المساء

وقد مضى يومي بلا مؤنس

أريح أقدامًا وهت من عياء

وأرقب العالم في مجلسي

أرقبه يا كد هذا الرقيب

في طيب الكون وفي باطله

وما يبالي ذا الخضم العجيب

بناظر يرقب في ساحله

(أحسبه أخذ هذا من حيث لا يشعر من قول أخي تغلب:

ما ضر تغلب وائل أهجوتها

أم بلت حيث تناطح البحران

وقال الآخر:

ما يضر البحر أضحى مزبدًا

أن رمى فيه غلام بحجر)

والمعنى كثير. وأحسب القارئ لم يغب عنه بعض أسلوب ناجي ها هنا

سيان ما أجهل أو أعلم

من غامض الليل ولغز النهار

«أو» بمعنى الواو هنا ضرورة

ص: 540

سيستمر المسرح الأعظم

رواية طالت وأين الستار

هذا يشير به عمدًا أو عن غير عمد إلى All the world is a stage أي كل الدنيا كخشبة المسرح أو خشبة مسرح.

عييت بالدنيا وأسرارها

وما احتيالي وصموت الرمال

أنشد في رائع أنوارها

رشدًا فما أغنم إلا الضلال

المعنى غير واضح. هل أراد أن الناس لا يهتمون بشعره.

أغمضت عيني دونها خائفًا

مبتغيًا لي رحمة في الظلام

فصاح بي صائحها هاتفًا

كأنما يوقظني من منام

أنت امرؤ ترزح تحت الضني

لم يبق منا الدهر إلا عناد

وكل ما تبصره من سنا

يهزأ بالجذوة خلف الرماد

وكل ما تبصره من قوى

تدوي دوي الريح عند الهبوب

يسخر من مبتئس قد ثوى

يرنو إلى الدنيا بعين الغروب

هذا البيت وهو في الحقيقة آخر هذه المنظومة وبعده اثنتا عشرة رباعية، كلهن زيادة لا طائل فيها، وكاد يخرج بها ناجي عن موضوعه، إذ أخذ في مواعظ من القول من الضرب الباهت المغسول وختم الكلمة بقوله:

يا رب غفرانك إنا صغار

ندب في الدنيا دبيب الغرور

نسحب في الأرض ذيول الصغار

والشيب تأديب لنا والقبور

والخاتمة التي سبقت، لو قد اكتفى بها أجود

وفي الأبيات بعد أطياف «الحسناء بلا رحمة» . وأطيافها في شعر ناجي كثيرة، مثلاً في كلمته التي أولها مشهور:

هذه الكعبة كنا طائفيها

والمصلين صباحًا ومساء

كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها

كيف بالله رجعنا غرباء

وفي الأبيات: «أغمضت عيني دونها إلخ» شيء من رؤية الفارس الأشباح ومن استيقاظه ومن بعد «كئيبًا يسير» وليرجع القارئ الكريم إلى ما ترجمناه عن نص كيتس أو إلى النص نفسه. وفارس الحسناء بلا رحمة جذوته بلا رماد، وعناد لا ريب فيه، إذ هو

ص: 541

يسير بسفح الجبل الكئيب. بعد أن جف نبات الغدير والطير لا يلفى له من هدير -ورنو كل شيء في الدنيا بعين الغروب أسى على الكون الفاني- أليس ذلك هو عين الكآبة؟

واقرأ كلمته الخريف- ولكيتس كلمة مفعمة بتأمل الطبيعة وتلمظ طعمها بهذا العنوان:

To Autumn (1)

Season of mists and mellow fruit fulness،

Close bosom- friend of the maturing sun

Conspiring with him how to load and bless

With fruit the vines that round the thatch- eves run;

To bend with apples the moss'd cottage trees،

And fill all fruit with ripeness to the core،

To swell the gourd، and plump the hazel shells

with a sweet kemel; to set budding more،

And still more، later flowers for the bees،

Until they think warm days will never cease

For summer has o'er brimm'd their clammy cells.

- كلمة ناجي ليس فيها هذا التلمظ للطبيعة المؤذنة ازدهارة ألوانها بقرب الشتاء- فيها من صدى صور كيتس قوله:

رب كرم مده الليل لنا

فتواثبنا له نبغي اقتطافه

وعلى خيمته أسوده

عربي الجود شرقي الضيافة

هذا الشطر أسرقه من على محمود طه أم سرقه على محمود طه منه [ليالي كليو بطرة]؟

وجد العرس على بهجته

وسناه دون ورد فأضافه

ثم وارت يده جنية

وطوته في أساطير الخرافة

وقوله

أرج يعبق في أنحائه

حملته نحو عرشينا الرياح

لعله في قول كيتس:

(1) انظر

The Penguin Book of Romantic Verse- D. wright- (1982)-282 - 3

يقول كيتس ما معناه: يا فصل الضباب والينع والإثمار، - والخليل المقرب من الشمس المكتهلة- تتواطأ معها على أن تثقل بالثمر والبركة، - دوالي الكرم التي تمتد على حافة سقف الثمام، - وأن تحنو بالتفاح أغصان أشجار البيت الصغير، - وكل ثمرة تملأها بالنضج إلى الصميم، - وتنفخ الدباءة وتفعم قشر البندقة، - بلباب حلو وتشرع في إخراج مزيد، - بعد مزيد من الأزهار المتأخرة الموسم من أجل النحل، حتى يخيل إليهن أن أيام الدفء لن تنتهي، - لأن الصيف قد اترع خلاياهن الندية اتراعا.

ص: 542

وفي بعض أبيات «الخريف» على خفة وزن، شيء من حلاوة روح إبراهيم ناجي وحرارة أنفاس وجدانه- سبب هذه الحرارة مواجهته لنا بخطاب العاطفة، فيشعر القارئ أن له صدقًا وإقدامًا على القول والإفصاح به من غير تكلف تقية أو رياء:

أي سر فيك إني لست أدري

كل ما فيك من الأسرار يغري

خطر ينساب من مفتر ثغر

فتنة تعصف من لفتة نحر

قدر ينسج من خصلة شعر

زورق يسبح في موجة عطر

في عباب غامض التيار يجري

وأصلاً ما بين عينيك وعمري

****

ذات ليل والدجى يغمرنا

أترى تذكر إذ جزنا المدينة

كلما روعت من نار شج

حر ما يصلي تلمست جبينه

بيد شفافة مثل الندى الرطـ

ـب تعيد النار بردًا وسكينة

أيها الآسي لناري هذه .. ما الذي تصنع بالنار الدفينة

من تأمل كثيرًا من شعر نزار قباني وجده يستعين بمثل هذا من كلام الدكتور ناجي رحمه الله ويتوكأ عليه. خطابة ناجي عاطفية فيها من روح أسى انفطار «الأوبيرا» - هذا جانبها «الرومانسي» ، أما نزار فقد انصرف من الخطابة بالذكرى

Thy hair soft- lifted by the winnowing wind (1)

الوجدانية، إلى نوع من مماشاة الشباب ومغايظة حسانه بغزل مشاغب. ههنا أيضًا «رومنسية» . «رومنسية» تعمد الخروج عن المألوف. ولكنها «رومنسية» لا تخلو من رخص روح الشارع الذي تجتهد أن ترتفع به إلى مستوى الفن. الحق أنه شارع الصحافة اليومية التي لا يراد لها أن تعيش إلى الغد، ولكن قد تبقى عند من يحرص على ذلك في الأضابير:

يا شعرها على يدي

شلال ضوء أسود

المه سنابلا

سنابلا لم تحصد

لا تربطيه واجعلي

على المساء مقعدي

من عمرنا على مخـ

دات الشذى لم ترقد

وحررته من شريـ

ـط أصفر مغرد

واستغرقت أصابعي

في ملعب حر ندى

إلى آخر ما قاله، وقد كتبت في الديوان أشطارًا، وهي من مجزوء الرجز كما ترى.

هذا وعلى محمود طه كأنه أسلم متن أسلوب من إبراهيم ناجي غير أن أنفاسه أبرد. ذلك بأنه يبالغ في الرقة ويهندس عباراته بفرط صقل لها. وعلى أنه سمى ديوانًا له بالملاح التائه، نجد حسناء كيتس التي أثرت على إبراهيم ناجي، أثرت أيضًا على المهندس. وينبغي أن ننتبه بعد إلى أن كلاً هذين الرومنسيين العربيين لا يريد لنفسه موت الحب الأعوج الذي عند La Belle Dame Sans Merci وعند Christabet الجنية المساحقة مصاصة الدم- يريد فقط موتًا مجازيًا (2):

(1) شعرك يرفعه برفق مر ذور الرياح- الضمير على الخريف وجعله الشاعر إنسانة.

(2)

ديوان ناجي: (13).

ص: 543

يا حبيب الروح يا روح الأماني

لست تدري عطش الروح اليكا

وحنيني في أنين غير فاني

للردى أشربه من مقلتيكا

أيها الماضي الذي أودعته

حفرة قد خيم الموت بها (1)

أيها الشعر الذي كفنته

مقسمًا لا قلت شعرًا بعدها

أيها القلب الذي مزقته

صارخًا عهدك يا قلب انتهى

فمن تأثيرها، هذه الجنية العاشقة القاتلة (ذكر أبو العلاء في غفرانه عشق المردة البنات وقتلهن بذلك، قريب النسخ من بعض ما يقرأونه في صحف الجرائم الآن، اقرأ مثلاً في خبر جني المعري قوله دخلت مرة دار أناس أريد أن أصرع فتاة لهم إلخ ص 293 وقوله ص 294.

وكنت آلف من أتراب قرطبة

خودا وبالصين أخرى بنت يغبورا

أزور تلك وهذي غير مكترث

في ليلة قبل أن استوضح النورا

وفي ألف ليلة وليلة منه كثير): -

لا تفزعي يا أرض لا تفرقي

من شبح تحت الدجي عابر

ما هو إلا آدمي شقي

سموه بين الناس بالشاعر

هنا نبأة من أول حسناء كيتس:

O،what can ail thee knight-at-arms?

وكذلك في قوله:

حتى إذا ضاقت عليه السبل

وعز في الأرض عليه المقام

أوى إلى كهف بسفح الجبل

عساه يقضي ليله في سلام

ما كان إلا حلمًا كاذبًا

أفاق منه مستطار الجنان

البحر يرغي تحته صاخبًا

والشهب نار والدجي من دخان

(1) نفسه 482.

ص: 544

البحر والدجي من فكرة الملاح التائه التي تستعين ملاح كلردج القديم العجوز. ولكن الكهف والجبل والإقامة كل ذلك من صورة الفارس الكئيب- هذه الأبيات من كلمة علي محمود طه «الله والشاعر (1)» [وما بينه الله عز وجل في الشاعر وللشاعر كما يعلم القارئ الكريم هو قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون (224)}. آيات آخر سورة الشعراء، فالذي صنع المهندس رحمه الله جهد رومنسي أو مترمنس ضائع]: -

أما ترى منفرجات الشفاه

عن آخر الصيحات من رعبها

ما زال فيها من معاني الحياة

إيماءة الشكوى إلى ربها تشكو من Belle Dame بلا رحمة، بلا ريب.

ملاح علي محمود طه، طورًا هو أحد هؤلاء الكادحين بقواربهم ومجاذيفهم على نهر النيل لطلاب النزهة، وطورًا هو الشاعر نفسه، نسى أنه استأجر قاربًا وصادر من بعد هو الملاح والقارب معًا، وابتعد النيل، وصار بحر النيل بحرًا آخر- البحر الملح الكبير هو بحر بلاد تعريف واضح، بعيد الشاطئ -أو الساحل- يتيه فيه الملاح: - تأمل قوله (2):

أيها الملاح قم واطو الشراعا

لم نطوي لجة الليل سراعًا

ولا أحسب أنه يوجد في الدنيا ملاح عاقل يطوي الشراع حين تكون الريح طائعة رهوًا رخاء ويأخذ بالمجذاف- ولكن «الرومنسية» مما تكون أبعد شيء عن حكمة العقل:

جدف الآن بنا في هينة

وجهة الشاطئ سيرًا واتباعًا

وإنما الهينة واللينة مع الشراع

فغدا يا صاحبي تأخذنا

موجة الأيام قذفًا واندفاعًا

عبثًا تقفو خطأ الماضي الذي

خلت أن البحر واراه ابتلاعًا

لم يكن غير أويقات هوى

وقفت عن دورة الدهر انقطاعًا

فتمهل تسعد الروح بما

وهمت أو تطرب النفس سماعًا

هل صار الملاح هنا هو الحبيبة- ثم يقول، ولا يخرج في ذلك عن وصف نزهة واستمتاع -وربما- عن لقاء حبيب:

(1) ديوانه الملاح التائه- طبع دار العودة بيروت ص 87 إلى ص 114.

(2)

نفسه- 34 - 37.

ص: 545

أيها الأحياء غنوا واطربوا

وانهبوا من غفلات الدهر ساعا

آه ما أروعها من ليلة

فاض في أرجائها السحر وشاعا

نفخ الحب بها من روحه

ورمى عن سرها الخافي القناعا

وجلا من صور الحسن لنا

عبقريا لبق الفن صناعا

ثم إذا بمعنى آخر يجيء- الهاجر والهجران والملاح التائه:

أيها الهاجر غز الملتقى

وأذبت القلب صدا وامتناعًا

أدرك التائه في بحر الهوى

قبل أن يقتله الموج صراعًا

البحر هنا مجازي لفظي وبحر كلردج أيضًا مجازي إلا أنه ليس منحصر المجازية في اللفظ.

وارع في الدنيا طريدًا شاردًا

عنه ضاقت رقعة الأرض اتساعًا

فقد صار البحر أرضًا، وقد يعتذر معتذر عن هذا بأن البحر في كوكب اسمه الأرض، والشاعر مهندس علمي عقله- يذكر القارئ الكريم أصلحه الله قول أبي الطيب:

عربي لسانه فلسفي

رأيه فارسية أعياده

نعم الأرض ها هنا هي الكوكب الجغرافي لا أرض الشعراء التراب

ضل في الأرض سراه ومضى

لا يرى في أفق منه شعاعًا

يجتوى اللافح من حرقته

وعذاب يشعل الروح التياعا

والأسى الخالد من ماض عفا

والهوى الثائر في قلب تداعى

فاجعل البحر أمانًا حوله

واملأ السهل سلامًا واليفاعا

وامسح الآن على آلامه

بيد الرفق التي تمحو الدماعا

وقد الفلك إلى بر الرضى

وانشر الحب على الفلك شراعًا

صار البحر غير مجازي وله بر كما ترى- وصار ملاح المهندس التائه يترنم بأصداء همزية

أمير الشعراء:

رب إن شئت فالفضاء مضيق

وإذا شئت فالمضيق فضاء

فاجعل البحر عصمة وابعث الرحـ

ـمة فيها الرياح والأنواء

وهل العصمة والرحمة هنا لهما لون انجيلي مسيحي؟ وهل في كلم المهندس شيء من نظر إلى القسيس المعدوم فلم تجد روح ملاح كلردج من يصلي لها وهي في غرغرة النزاع؟

ص: 546

يقول المهندس في «الله والشاعر» : -

وهذه الأعين نهب العفاء

في رقدة الموت كأن لم تنم

محدقات في نواحي السماء

تشهدها هذا الأسى والألم

وهذه الأيدي تحوط الصدور

كأنها في موقف للصلاة

لم تنس في نزع الحياة الغرور

ضراعة ترسمها للإله

ها هنا شيء من ملاح كلردج وأشباحه.

أشباح كلردج سباع شرسات، وأعين المهندس التي يذكرهن وينعتهن محدقات ها هنا، إنما هن أعين سنانير أوالف، أدركهن ما يدرك سنانير الدور من هذا الموت- خذ مثلاً قول كلردج:(الفصل الرابع)(1):

I fear thee ancient mariner!

I fear thy skinny hand!

And thou art long، and lank and brown،

As is the ribbed sea - sand.

I fear thee and thy glittering eye،

And thy skinny hand so brown.

Fear not fear not thou wedding guest

This body dropt not down.

Alone، alone، all، all alone،

Alone on a wide wide sea!

And never a saint took pity on

My soul in agony.

The many men so beautiful

And they all dead did lie،

And a thousand thousand slimy things

Lived on and so did I.

I looked upon the rotting sea،

And drew my eyes away;

I looked upon the rotting deck،

And there the dead men lay،

(1) ص 162 - 163 من كتاب English Romamtic.

ص: 547

I looked to heaven and tried to pray

But or ever a pray had gusht،

A wicked whisper came، and made

My heart as dry as dust

ترجم زميلي الفاضل الأستاذ عمران العاقب منظومة الملاح التائه كلها، وأكتب وليس من ذلك بيدي شيء فأستشهد منه في هذا الموضع فحسب القارئ الكريم لهذه الأسطر اللاتي مضين هذا التقريب، وإنما هو لتوضيح ما يمكن توضيحه من اتجاه معاني كلردج:

أنا خائف منك أيها الملاح القديم

أنا خائف من يدك المعروقة

وأنت طويل نحيل أسمر

مثل رمل البحر المضلع

أنا خائف منك ومن عينك ذات البريق

ومن يدك المعروقة الشديدة السمرة

لا تخف ولا تخف يا ضيف العرس

هذا الجسم لم يسقط (1)

وحدي وحدي لا أحد معي في انفرادي

وحدي في بحر واسع المدى عريض

ولم يرق قلب ولو من قديس واحد

على روحي التي في ألم النزاع

الرجال الكثيرون ما كان أجملهم

جميعهم راقدون أموات

وألف ألف شيء لزج

ما زال حيًا، وكذلك أنا

(1) يشير إلى قوله من قبل أن أصحابه سقطوا واحدًا بعد الآخر هالكين.

ص: 548

نظرت إلى البحر المتأسن

ثم صرفت نظري عنه بعيدًا

ونظرت إلى سطح السفينة المتعفن

وثم الرجال موتى رقودا

نظرت إلى السماء وحاولت أصلي

ولكن لم تكد تنبعث صلاة واحدة

حتى أتى هاجس شرير وجعل

قلبي يابسًا مثل التراب

I closed my lids and kept them close،

And the balls like pulses beat،

For the sky and the sea، and the sea and the sky

Lay like a load on my weary eye،

And the dead were at my feet.

The cold sweat melted from their limbs،

Nor rot nor reek did they:

The look with which they looked on me

Had never passed away.

أغمضت أجفاني وأبقيتها مغمضة

وجعلت الحدقات تدق مثل النبض

لأن السماء والبحر والبحر والسماء

جثما كالعبء على طرفي المضني

وعند قدمي جنائز الموتى

وقد ذاب العرق البارد من أعضائهم

ولكنهم لا تعفنوا ولا فاحوا

والنظرة التي كانوا ينظرون بها إلي

لم تفارقهم قط

هذا وقد ضربت الرومنسية التي من هذا الضرب بجران في أكثر البلاد العربية وينبغي أن ننبه إلى موضع اليمن والمغرب والسودان في جميع هذا وليس ههنا موضع

ص: 549

الاستقصاء والتفصيل. وقد سبقت الإشارة إلى شيء من شعر يوسف مصطفى التني (1) رحمه الله قلنا إنه نظر فيه إلى بعض ما قاله الرافعي رحمه الله في أوراق الورد، وهو قوله:

اعبسي لي ففي العبوس ابتسام

لجمال منوع القسمات

والكلمة من ديوانه الصدى الأول:

اعبسي لي ففي العبوس ابتسام

لجمال منوع القسمات

وادفعيني ففي الصدود اقتراب

من معاني جمالك الأشتات

أيه وادعي علي دون حنان

فدعاء علي منك يواتي

أعزوفا عن الجنان لأني

لا أنال الجنان دون تقاة

أغناء عن الخلود أكيدا

إن يكن مهيعي إليه مماتي

أأعاف النعيم لو يتبدى

في لبوس النحوس والحسرات

قد عهدت الجمال أنفذ سحرًا

وهو سر عنه الشفوف تشف

شوق الناس للبدور غياب

وغمام على الضياء يرف

والورود الورود مطمح نفسي

وهي بالشائك الأليم تحف

مرحبًا بالعبوس فهو ضياء

قد جلا من محاسن القسمات

مرحبًا بالدعا تشابه به

أنه العود رنة الكلمات

أنا أعطي لكي أنال كثيرًا

وأصفي من الأسى فرحاتي

فأعبسي لي ففي العبوس ابتسام

لجمال منوع القسمات

وادفعيني ففي الصدود اقتراب

من معاني جمالك الأشتات

أيه وادعي علي دون حنان

فدعاء علي منك يواتي

والتني كما تأثر بالرافعي تأثر أيضًا بالعقاد- ثم بسائر روح زمانه «الرومنسي» من شواهد الرومنسية الواضحة هنا هذا الإعجاب بالنفور والعبوس والغضب. هذا اللون

(1) ولد رحمه الله سنة 1909، وتخرج من كلية غردون، ثم التحق بالجيش ثم تركه فعمل في الصحافة وشارك في الحركة الوطنية وعمل في السياسة وصار سفيرًا للسودان في يوغسلافيا وتوفي رحمه الله 1968 م.

ص: 550

النمري، [نسبة إلى النمر]. وقد لاحظ بر تراند رسل «أن» الرومنسيين يعجبهم الجمال الشرس كجمال النمر الذي أعجب وليم بليك، ولا يفطنون للجمال النافع كجمال حقل القمح. وفي متن هذه الأبيات التي أوردنا بعض الوهي. وشعر التني رحمه الله في جملته لا بأس به وله في المدائح هو آخر ما نظمه، خرج فيه من الرومنسية التي من هذا الضرب إلى نوع من التدين قريب معدنه من الضرب الأول. وأكثر نشأة رجال الفكر في بلادنا كانت في أوساط دينية- وقديما قال الشاعر:

كل امرئ راجع يوما لشيمته

ولو تخلق أخلاقنا إلى حين

رحمه الله ووكفت على جدثه شآبيب الغفران.

ما صنعه الأستاذ محمد المهدي مجذوب رحمه الله في كلمته «صل يا رب (1) على المدثر» مختلف عن هذا الذي صنعه التني رحمه الله إذ هو لم يرجع لتقيده قريش بأحساب الكرام وتميم. الإشارة هنا إلى قوله (2):

فليتني في الزنوج ولي رباب

تميل به خطاي وتستقيم

طليق لا تقيدني

بأحساب الكرام ولا تميم

فقوله فليتني بان القيد مازال معه. فليتأمل جوانب منه. وليفصح عن محافظته وثورة وجدانه وافتنانه، افتنان المصور الدقيق عن كل ذلك معا، وليظل بعد ذلك جامعًا بين الرومنسية الثالثة وروح النهضة ثم متجاوزًا من بعد إلى ضروب من النهج الجديد.

ولا يخفي أن جانب النهضة يصحبه كما تقدم وصفنا له تجويد في متن النظم وحرص على نقاء الديباجة ومذهب الجزالة وأن ذلك قل إن يتفق مثله في الرومنسيتين الثانية والثالثة.

واعلم أيها القارئ الكريم اصلحك الله أن شأن الموجة التجديدية تخرج من بلاد العرب التي سبقت بالنهضة في مصر على الأخص إذ كانت حقا هي القائد في هذا الباب، تتأثر بها بلاد العربية الأخرى، وسرعان ما تلحق بها موجة تالية من

(1) من ديوانه نار المجاذيب، طبع الخرطوم 1969.

(2)

من قصيدته «لزيم الجور من أسفي لزيم» في ديوانه نار الجاذيب.

هذا شعر المغرب العربي الأقصى وبلاد شنقيط وشعر الجزيرة العربية بأسرها نجدها وحجازها وعروضها وتهامتها ويمنها وأحقافها وعدنها وخليجها وعمانها.

ص: 551

التجديد فيكون من هم مازالوا غمرة الموجة الأولى، قد بلغهم فجعل يغمرهم دفاع الموجة الثانية وربما لحق بذلك ألسنة رشاش أو غمر كامل من موجة ثالثة وهلم جرا. فيلفى شاعر نهضي من أوائل المتأثرين بالنهضة قد أصابه رشاش من رومنسية الضرب الثالثة كالشيخ البنا والشيخ عبد الله عبد الرحمن رحمه الله. ويلفي شاعر من الجيل الذي كان تحرر التعليم الحديث قوي الأثر فيه، نهضيًا بحكم ما درس من العربية وما كان فيه مجتمع بلاده من طور التأثر بشعراء النهضة وإيثار الجزالة ولا بد له من موقف إزاء الرومنسية وما جاء بعدها من أطوار بحكم ملابسة المعاصرة وتعذر الانفصام عن المشاركة فيها بسلب أو إيجاب.

محمد المهدي مجذوب جمع بنهضيته بين المتانة والسلاسة ومذهب الجزالة ثم مع رومسيته أخذ بوجوه من التجديد الحديث. محمد عبده غانم حرص من رومنسيته على الصحة والتجويد النهضي وآثر أن يعيب مسائل من مستحدثات الهمس والرمز والخروج عن الوزن، أو كما قال في كلمة له قالها في مهرجان شوقي وحافظ:

ما أن عهدنا الهمس من خاطب

أكسبه بكرًا ولا ثيبًا

ما للجماهير وللشعر إن

لم تفهم النجوى ولا المطلبا

فتارة يهمس في أذنها

كأنما قد هاب أن تغضبا

وتارة بالرمز ينتابها

والرمز للصفوة إن أعجبا

هامت به بين استعاراته

لا تنتشي إلا إذا أغربا

وقال ليل الفجر في أفقنا

أطبق والبوم به أطربا

وكأسنا في قاعها قطرة

ترفض أن تشرب أو تسكبا

ومن جيد شعر محمد المهدي، ونموذج من شدة أسره قوله: يصف امرأة تتدخن وهو ضرب من التزين، ومن الحمام الساخن، تقعد المرأة فوق مكان حفرة خاصة معد لتوقد فيه نار من خشب الطلح، ثم تشتمل المرأة وتستحم بدهان الطلح الخارج منها- قال والكلمة في ديوانه نار المجاذيب:

وحفرة بدخان الطلح فارغمة

تندي الروادف تلوينا وتعطيرًا

لمحت فيه وما أمعنت عارية

تخفي وتظهر مثل النجم مذعورًا

مدت بنانا به الحسناء يانعة

ترد ثوبا إلى النهدين محسورًا

قد لفها العطر لف الغيم منتشرًا

بدر الدجى وروى عن نورها نورًا

يزيد صغرتها لمها وجدتها

صقلاً وناهدها المشدود تدويرًا

ص: 552

وهجرها وبلاد السودان والأطراف اللاحقة به من أفريقية وبالعربية من بلاد باكستان والهند والشرق الأوسط والأقصى وداغستان وما وراء النهر وما امتد من ذلك بالهجرة إلى ما وراء البحر المحيط من هذه البلاد- وهذا سوى ما تقدم ذكره من هجرة مهجريي لبنان وسورية- كل ذلك مما مرت به وتمر في شعر العربية خاصة موجات النهضة والتجديد على دفعات متتالية. وكل ذلك مما ينبغي أن يتنبه له ويحرص على درسه، ولا يتسع المجال ها هنا للاستقصاء والتحليل- وهاك مثلا من ديوان الحرية لابن ثابت أورده الدكتور الطريسي أحمد غراب في رسالة للدكتوراه بعنوان الفن والشعر الحديث بالمغرب ومن ثم آخذيه:

لا تسلني كيف كان الأمر إني لست أعلم

كل ما أعلم أني بت في جوف جهنم

وقضيت الليل والليل سعير يتضرم

هائجا يارب ماذا قد جنيت الليل فارحم

تقفز الأحرف من فيه شرارات تكلم

قال لي ربك أدري بك يا صاح وأحلم

أنت منه قد طلبت النار يومًا أنت أظلم

أو لم تسمع إليها وتراها بك أكرم

فذق النار التي أبت إليها وتعلم

فلعل النار تهديك وهدى النار أقوم

أول هذه القطعة معجري متأثر بطلاسم إيليا أبي ماضي، ثم انتقل ابن ثابت، صاحب هذه الأبيان إلى الرمز وأسطورة برومثيوس. وهذا في معنى ما قدمناه من تداخل دفعات الأمواج. والأصل «رومنسي» ثالث لفق به غيره على نحو ما يقال له إكلكتكي- Eclcctic- أي يأخذ من المذاهب المختلفة ويترجمونها بتلفيقي ولا تعجبني إذ ليس التلفيق مذهوبًا فيه إلى أخذ متعمد باستحسان واختيار من مواضع شتى قد لا تتلاءم، ولكن هو ما لفق فيه شق من ثوب بشق آخر أومن ثوبين مختلفين مع حسن الملاءمة اللهم إلا أن نزعم أن الاكلكتكي إنما يريد الملاءمة الحسنة وفيه بعد. والله تعالى أعلم.

هذا وقد مثلنا أكثر ما مثلنا لأهذ على محمود طه وناجي من رومنسية كيتس وكلردج. وليس القصد إلى استقصاء في «الأدب المقارن» ، وإلا فغير محتاج إلى كبير دليل أن أخذهم قد تجاوز هذين وغيرهما من رومنسيي الإنجليز وخاصة شيلي، فقد ظل محبوبًا مقروءًا بين محبي الرومنسية من العرب ولا سيما منظومته Ode to the West

ص: 553