الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا عنى به نفسه وقوله في كشحه هضم يقوى تفسيرنا قوله هضم أنه جمع لهضيم الكشح، فهذا الرجل الضامر صدى من ذلك الفحل العيثوم الذي في ميمية علقمة:
والإشارة إلى مأثور القول وتضمينه والإيماء إليه كل ذلك مما يدخل في باب الربط ويكون مع تسلسل الكلام وتدرجه كما يكون مع تداعي المعاني- قول بشامة بن الغدير: «جلا جليلا» دعا فكرة «ثوب بن بيض» وهو إشارة وضرب مثل وقول زهير في المعلقة:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
…
رجال بنوه من قريش وجرهم
دعا قوله من بعد:
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة
…
وذبيان هل أقسمتم كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
…
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
أي يكتم من الله سبحانه وتعالى.
رابعا: المقابلة
وقد تكون فرعا من تداعي المعاني، كما قد تكون مقدمة له، ومن المقابلة ما دلالته التباين، فالمباين يقابل مباينه، ومنها ما يدل على تشابه، فيكون من باب إلحاق الأمر بما يشبهه ويكون من هذه الجهة موازنا له.
فمن باب إلحاق الأمر بما يشبه أبيات حصين بن ضمضم في معلقة زهير، فإنه لما قال:
«هل أقسمتم كل مقسم فلا تكتمن الله إلخ» ألحق بهذا كتمان حصين ما عزم عليه من الخروج
وقول عنترة:
وكأنما التفت بجيد جداية
…
رشأ من الغزلان حر أرثم
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي
…
والكفر مخبثة لنفس المنعم
فها هنا تداعي معان، إذ وجد عند الغانية التي يصف إسماحا ومنالة فهو لذلك شاكر. ولكن عمرا جاحد. عمرو هذا إما أبوه وإما عمه وإما صديق، وهو هنا يذكر منه نكرانا وجحودا، ويحذر من عواقب ذلك.
وألحق بعمرو هذا حنقه في آخر القصيدة على ابني ضمضم. والراجح انهما كانا ذوي شر عارم، فقد ترى ذكر زهير حصينا منهما، وقد يكون حصين هذا نفسه هو الذي شتم عنترة، فنكره عنترة بذكر أخيه معه، وكأن عنترة يقول أما عمرو فبكرة نعمتي قد خبث نفسي، وأما ابنا ضمضم حصين وأخوه فقد قتلت أباهما وكمثل مصرعه مخبوء لهما عندي لو يجسران فألقاهما.
المقابلة التي تساوق تداعي المعاني وينبعث منها وتنبعث منه مع الموازنة، وحذو الشيء بعد الشيء على مماثل ذي مماثلة ما له من قبله أو من بعده، هي أكبر ما عليه الربط والوحدة في معلقة طرفة. وقد نبهنا إلى أن حركة الحدوج المهتزة اهتزازا شديدا- رمز انفعال الشاعر ذي الحيوية الشديدة- تنتظم الكلمة من عند «يجور بها الملاح طورا ويهتدي» إلى «تناول أطراف البرير وترتدي» - ينفض المرد- أتلع نهاض- اروع نباض- جس النادمى- سامي واسط الكور رأسها وعامت بضبعيها- كرأس الحية المتوقد- كسيد الغضا- رجعت في صوتها- خب آل الأمعز
كهاة ذات خيف جلالة
…
عقلية شيخ كالوبيل يلندد
. ذلول بأجماع الرجال ملهد ....
وما أشبه من تتابع الصفات ومن ضروب التقسيم
صهابية العثنون مؤجدة القرا
…
بعيدة وخد الرجل موارة اليد
هذا
…
وعينية أبي ذؤيب صار فيها بعد الدمعة الحارة، من حيث ذكروا عن عمر رضي الله عنه قوله عنه إنه سلا إلى درجات من طلب العزاء وكل صورة فيها مقابلة وموازنة ومشابه مما قبلها.
أول شيء صورة الحمار الوحشي وآتنه وهؤلاء يصيبهن القدر بسهامه عند الورود في لحظة مأساة حاسمة:
فأبدهن حتوفهن فهارب
…
بذمائه أو بارك متجعجع
والصورة على جودتها تنظر إلى قول علقمة:
رغا فوقهم سقب السماء فداحض
…
بشكته لم يستلب وسليب
فالداحض هو هذا البارك المتجعجع
ثم صور أبو ذؤيب صراعا أشد- الثور والكلاب والصائد ذا الأسهم:
فبدا له رب الكلاب بكفه
…
بيض رهاب ريشهن مقزع
فرمى لينقذ فرها فهوى له
…
سهم فأنفذ طرتيه المنزع
فكبا كما يكبو فنيق تارز
…
بالخبث إلا أنه هو أبرع
وهذه الصورة الجيدة، هي أيضا من قول علقمة: فداحض بشكته إلخ
ثم خاتمة القصيدة صراع فارسين مدججين بالسلاح- وهذه كما ترى درجة أعلى وأعنف
من درجات القتال. والقدر في جميع ذلك بالمرصاد. وفي الحمار والثور كما في الفارسين كليهما من الحمية والثقة وحسن البلاء
متحاميين المجد كل واثق
…
ببلائه واليوم يوم أشنع
ومن عجيب الشعر ميمية المرقش الأكبر. والمرقش جاهلي قديم.
وكأن الرواة لم يظفروا بكل أبيات هذه القصيدة. ولم يوفها الشراح حقها من الشرح.
وروى عن أبي عكرمة بعض خبر هذه القصيدة أنها رثي بها الشاعر ابن عمه ثعلبة بن عوف بن مالك ثم قال في شرح البيت:
ثعلب ضراب القوانس بالسيف وهادي القوم إذ أظلم
ثعلب اسم رجل ولم يرد ثعلبه. فتأمل هذا الاختلاف.
وقال الأستاذان أحمد محمد شاكر رحمه الله والأستاذ عبد السلام محمد هارون في تحقيقهما المختصر من تحقيق المستشرق ليال لشرح ابن الانباري الكبير وهي من نادر الشعر الذي بدئ فيه الرثاء بالغزل. قلت ومن تأمل القصيدة وجد أنها فيها الرثاء وغير الرثاء، وليست هي حقا بمرثية وإنما الذي ذكر في البدء خبر من خبرها. وقد رأيت اضطراب الشارح في ثعلبة وثعلب ولولا رواية رواها ما وقع هذا الاضطراب إذ أمر الترخيم أول ما يتبارد إليك في مثل هذا الموضع. وقال في شرح البيت:
إن يغضبوا يغضب لذاك كما
…
ينسل من خرشائه الأرقم
الخرشاء جلد الحية والأرقم الحية قال أبو جعفر. يغضب يعني الرئيس الممدوح غيره قشر كل شيء خرشاؤه. قال وكل منتفخ أجوف فيه خروق فهو خرشاء.
قلت فعلى هذا التفسير الثاني: كما ينسل من خرشائه الأرقم أي كما ينسل الأرقم- والمراد بالتشبيه غير واضح إلا أن يقال هو كالأرقم عنده السم والنكاية إذا غضب فسار ولكن سورة الحية وانسلاله ليس أمرا واحدا.
وقال الأستاذ أحمد محمد شاكر رحمه الله والأستاذ عبد السلام محمد هارون يغضب يعني الممدوح. وهذا كما ترى مخالف لما تقدم من أن القصيدة مرثية.
ومن تأمل سياق أبيات القصيدة إلى قوله:
والوالدات يستفدن غنى
…
ثم على المقدار من يعقم
وهو البيت السابع عشر، وجد أن الكلام محكم الترابط، وإن تك الأبيات الستة الأوائل نسيبا، والثلاثة التاليات رثاء، وسائر ما بقي حكمة وعزاء.
وقف الشاعر بمكان قفر. دار كانت دار أحباء فأقفرت منهم.
هل بالديار أن تجيب صمم
…
لو كان رسم ناطقا كلم
الدار قفر والرسوم كما
…
رقش في ظهر الأديم قلم
ديار أسماء التي تبلت
…
قلمي فعيني ماؤها يسجم
أضحت خلاء نبتها ثئد
…
نور فيها زهوه واعتم
ثئد أى ند وهذا أدل على خلائه إذ لو كان به أهل ونعم وشاء لكان قد بدا ذلك فيه.
صورة النبات والزهر هنا خبر عن أمر واقع، لا وقفة مع سحر الطبيعة. إلا أن الطبيعة أبت إلا أن تفرض على الشاعر الإحساس بجمالها
نور فيها زهوه واعتم
وفطن أبو تمام، وكان على الشعر مطلعا وبه خبيرا، أن هاهنا تأملة للجمال فقال بيته الجيد:
حتى تعمم صلع هامات الربا
…
من نوره وتأزر الأهضام
ثم انتقل المرقش إلى التذكر، فتذكر الحبيبة والظعائن اللاتي كن معها وحزن لذلك:
بل هل شجتك الظعن باكرة
…
كأنهن النخل من ملهم
النشر مسك والوجوه دنا
…
نير وأطراف الأكف عنم
وصدق ابن المعتز أن البديع لم يبدأ ببشار ومسلم. ولو أصاب صاحب المقامات هذا البيت لعدمه مغنما.
قوله هل شجتك، هو المشعر بالحزن
قد كرره في قوله:
لم يشج قلبي ملحوادث إلا صاحبي المتروك في تغلم
أي كأن قال شجتني الحبيبة والظعائن عند هذا المكان المعتم بالنوار المقفر من الأحباب.
لا بل شجتني ذكرى أمض وأوجع- صاحبي المتروك في تغلم قتيلا، ولعله إنما وقف بتغلم.
وأتبع ذكر ثعلب بيتا واحدا ينعته به كما من قبل أتبع ذكر الظعائن بيتا واحدا ينعتها به:
ثعلب ضراب القوانس بالسيف وهادى القوم إذ أظلم
فمكان النشر، لأن الغانيات إنما هن تراء وعبير، اسم ثعلب علم واضح يدل على شخص رجل شهم واضح. ومكان «أطراف الأكف عنم» قوله:«ضراب القوانس بالسيف.» وجعل مكان «الوجه دنانير» باشراقها وحسنها: «هادى القوم إذ أظلم»
إذ الهداية نور. فهنا مقابلة وموازنة كما ترى.
ثم كرر معنى الحزن:
فاذهب فدى لك ابن عمك لا يخلد إلا شابة وأدم
قالوا هما جبلان. ثم أخذ في باب من الحكمة والتعزى:
لو كان حى ناجيا لنجا
…
من يومه المزلم الأعصم
في باذخات من عماية أو
…
يرفعه دون السماء خيم
خيم اسم جبل بعينه
من دونه بيض الأنوق وفو
…
قه طويل المنكبين أشم
الأنوق الرخمة قالوا لا تبيض إلا في أبعد ما تقدر علهي من الأمكنة- أي هذا الجبل بعيد العلو. وإنما ضرب المزلم الأعصم وهو الولع الذي مسكنه في الجبل البعيد مثلا لصاحبه المتروك في تغلم، أنه كان مثل ذلك الوعل في الامتناع ومأمولا له طول البقاء
يرقاه حيث شاء منه وأما تنسه منية يهرم
أي إن أنسأته المنايا فلم تعاجله، عمر العمر الطويل، ولكنها مما تعاجله أحيانا كما عاجلت هذا الصاحب المتروك قتيلا في ذلك المكان الموحش.
فغاله ريب الحوادث حتى زل عن أرياده فحطم
أي حتى زل عن ارياد الجبل فتحطم
ثم ختم التعزى بقوله:
ليس على طول الحياة ندم
هذا متصل بقوله: «وإما تنسه منية يهرم» فقصارى طول العيش الهرم، وإذن فلا ينبغي أن يندم المرء على فوت طول الحياة- إذ وراء المرء هذا الضعف الذي مع طول العمر ثم الموت.
ليس على طول الحياة ندم
…
ومن وراء المرء ما يعلم
يهلك والد ويخلف مو
…
لود وكل ذي أب ييتم
والوالدات يستفدن غنى
…
ثم على المقدار من يعقم
أي يجدن ما يسد حاجتهن إلى الولد إذ يلدن، هذا غناهن، إذ ليس يلزم أن يكون مع الولد غنى المال، ويصحح ما نذهب إليه رواية من روى يستفدن غناء بفتح الغين، ثم من النساء من لا يلدن، بقدر مما قضى عليهن
بعد هذا يأخذ الشاعر في قرى آخر. ولو كان قوله:
ما ذنبنا في أن غزا ملك
…
من آل جفنة حازم مرغم
من قصيدة أخرى، لصح القول بأن الأبيات السبعة عشر الأولى قصيدة رثاء. وهل يصح أن يقال هما قصيدتان منفصلتان ضمهما الرواة معا لمجرد تشابه الروي والوزن؟
ولقد قطع ابن قتيبة بأن هذه الميمية ليست بأهل أن تختار. واختيار الأشياخ قبل زمانه لها عمن اختاروها من أشياخهم يدفع ما ذهب إليه كل مدفع.
وآخر القيدة فيه أنفاس الحزن والتفكر والحكمة كأولها وذلك قوله:
لسنا كأقوام مطاعمهم
…
كسب الخنا ونهكة المحرم
مع كون هذا فخرا فإنه مداخلته أنفاس حزينة تتأسف على كسب الخنا هذا وتتأسف على نهكة المحرم
إن يخصبوا يعيوا بخصبهم
…
أو يجدبوا فهم به ألأم
وها هنا مرارة وهجاء. ولا ريب أنه عنى بني تغلب. والمشعر لنا بالحزن أن هاهنا خطيئة وندما
عام ترى الطير دواخل في
…
بيوت قوم معهم ترتم
هل أكلوا الرمم أو أكلوا من لحم ميت؟
ويخرج الدخان من خلل الستر كلون الكودن الأصحم
الكودن ردئ من الخيل فجعل الدخان يتسرب بطيئا كمشية هذا الكودن الذي ليس بعربي
حتى إذا ما الأرض زينها النبت وجن روضها وأكم
فهذه هي الصورة التي وصفها حين وجد الديار خلت من أهلها مع عموم الخضرة والنوار لها- فهذا الجزء من القصيدة مرتبط بالذي تقدم.
ذاقوا ندامة فلو أكلوا الخطبان لم يوجد له علقم
فهم قد بغوا فأوحشت الديار وذهبت النعمة وقتل الفتيان وجاءت الثارات مكان عيش الائتلاف. والراجح أنه يشير هنا إلى ما كان من إسراف المهلهل وتجاوزه مقدار ما يوجبه القصاص
لكننا قوم أهاب بنا
…
في قومنا عفافة وكرم
أموالنا نقى النفوس بها
…
من كل ما يدني إليه الذم
هذا في الفداء. ولكنا نقاتل إذا لزم الحفاظ. ولكن الشاعر يتذكر عهد القتال هنا بمثل
تذكره للظعائن ولصاحبه المتروك في تغلم
لا يبعد الله التلبب والغارات إذ قال الخميس نعم
والخميس هنا جيش الملك الممدوح
والعدو بين المجلسين إذا
…
ولى العشى وتنادى العم
قوله بين المجلسين أي بين مجلس ومجلس وذلك في المشاهد العامة وعند حلول الأضياف في أمر جامع والشباب هم الذين يخدمون ويعدون بين المجلسين-
يأتي الشباب الأقورين ولا
…
تغبط أخاك أن يقال حكم
أي تحل الدواهي، دواهي الشيب والضعف بين الشباب ومن قيل له كن حكما فإنما يقال له ذلك بعد ذهاب شبابه، فلا تغبط أخاك أن يصير حكما فقد فقد الشباب الذي هو أغلى وأجل قدرا.
هل صار المرقش حكما وهل يبكي شبابه هنا-
هذا أدنى ما يستفاد من قوله:
لا يبعد الله التلبب والـ
…
ـغارات إذ قال الخميس نعم
والعدو بين المجلسين إذا
…
ولى العشى وتنادى العم
يأتي الشباب الأقورين ولا
…
تغبط أخاك أن يقال حكم
وبقيت الأبيات من قوله:
ما ذنبنا في أن غزا ملك
…
من آل جفنة حازم مرغم
إلى قوله: لسنا كأقوام مطاعمهم
…
كسب الخنا ونهكة المحرم
ولا أشك أنه ههنا يشير إلى ما أشار إليه الحارث من بعد-[إذ قصة الحارث وعمرو بن هند وعمر بن كلثوم كل ذلك كان بعد زمان المرقش وإن كانت بعض قصص الرواة وأخبارهم تكاد تجعل من هؤلاء أبطالا ابديين لما تداخلهم من عناصر الأساطير] حيث قال:
كتكاليف قومنا إذ غزا المنذر هل نحن لابن هند رعاء
ما أصابوا من تغلبي فمطلول عليه إذا أصيب العفاء
فهذا يكذب الجاحظ أن الحارض لم ينتصف من تغلب أم قال لم يكد:
إذ أحل العلياء قبة ميسون فأدنى ديارها العوصاء
تأمل كيف جاء بعنصر مما يقع في النسيب ههنا وذلك قوله فأدنى ديارها العوصاء- وما يخلو قوله العوصاء من كنين معنى
فتأوت له قراضبة من
…
كل حي كأنهم ألقاء
كأنهم عقبان
فهدا هم بالأسودين وأمر الـ
…
ـله بلغ تشقى به الأشقياء
فقوله «فتأوت له قراضبة» هو عينه قول المرقش حيث قال:
وهذا الغازي من ملوك جفنة فعل الأفاعيل فلم يكن من تغلب لملوك الحيرة من نصر، ولكن نصرتهم بنو يشكر وبنو بكر رهط المرقش ورهط الحارث- وانظر بعد الأبيات وشرح الشراح لكلامي الشاعرين. قال المرقش: -
ما ذنبنا في أن غزا ملك
…
من آل جفنة حازم مرغم
مقابل بين العواتك والغـ
…
ـف لا نكس ولا توءم
العواتك من الأزد والغلف من كندة قالوا عني غلفاء وسلمة عمي امرئ القيس فالغلف بتشديد اللام وفتحها من ولداه والعواتك جمع عاتكة من أسماء النساء اللاتي ولدنه وبنو جفنة فرع من الأزد
حارب واستعوى قراضبة
…
ليس لهم مما يحاز نعم
فيحوزون ما ينهبون
بيض مصاليت وجوههم
…
ليست مياه بحارهم بعمم
أي هذه صفتهم بيض منجردون كالصقور وجوههم حديدة صلته غير أنهم سباريت مجدبون ليست لهم بحار ذوات مياه تعم كملوك الحيرة وما يجندون من جنود، فمظهرهم انصلات ومخبرهم جوع وشراسة وشر وشره- وروى بعضهم بغمم بالغين المعجمة وضمتين أو ضم وفتح فمن روى بالمعجمة وضمة وفتحة فهو جمع غمة وهو من الكثرة وهو في معنى من روى بالمهملة وضمتين قال الشارح ومن رواه بالعين فقد هجاهم. يعني بالعين المهملة.
ومن روى بالمعجمة وضمتين فهو جمع غميم قال الشارح «يقال ماء غميم إذا لم يكن ظاهرا» . ا. هـ وهذا ينبغي أن يكون مدحا ولا يعقل أن يمدح الشاعر القضاربة السباريت أن وجوههم مشرقة إلا على وجه بعيد أن يكون أراد التأكيد والمبالغة في معنى انصلاتهم وشجاعتهم وتوقد قلوبهم ووجوههم للحرب كقول الهذلي في تأبط شرا:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
…
برقت كبرق العارض المتهلل
ويجوز أن يكون عنى به على هذا الوجه مدح ملك الحيرة ومن معه.
وأقرب إلى الصواب رواية العين المهملة وأن ذلك هجاء، ثم أتبعه صفة ملك الحيرة، أن
هؤلاء جاءوا بيضا مصاليت أهل شر، عقبان نهب وقتال، فانقض عليهم ملك الحيرة ومعه جيشه الكثيف وناصره من رهط المرقش
فانقض مثل الصقر يقدمه
…
جيش كغلان الشريف لهم
أي ضخم كثير
إن يغضبوا يغضب لذاك كما
…
ينسل من خرشائه الأرقم
ويجوز أن يكون هذا في وصف ملك جفنة الغازي ومعه جيش قراضيبه الذي هداهم بالأسودين أي التمر والماء ليكونوا أحرص على الحرب والنهب وقيل في الأسودين غير هذا.
وعلى الوجهين فالقصيدة خطاب مديح للملك ضمنه الشاعر أسى على ذهاب الشباب وتذكرا لابن عمه القتيل وللثارات والإحنة بين قومه والمهلهل. وألحق الحكمة بمعنى الحزن والتأمل في ما صارت إليه حال ابني وائل بعد أن بغى بعضهم على بعض. وكأن قد وقف بالذي قاله عند الملك موقف الحكم، فهذا قوله:
يأتي الشباب الأقورين ولا
…
تغبط أخاك أن يقال حكم
والأقورين ملحق بجمع المذكر السالم أي الدواهي
وتأمله في ميمية المرقش هذه ترينا أن جوهر موضوعها يدور حول خصومات حرب البسوس وما كانت تلجئ إليه ملابساتها من التهادن والاحتكام والغدر والتربص وما إلى ذلك من حين إلى حين
ومما يشعر بمعنى الأسى والأسف على فوت الشباب قوله:
لا يبعد الله التلبب والغارات إذ قال الخميس نعم
نعم أي إبل نغير عليها ونسوقها
والعدو بين المجلسين إذا
…
ولى العشى وتنادى العم
وقد نظر زهير بن أبي سلمى في معلقته:
أمن أم أوفي دمنة لم تكلم
وقد قابل بين صفة الظعائن التي في أول القصيدة، وبين ذكره الحرب الذي جاء به بعد قسمه. وقد أضمر ذكر الرحلة إذ وقوفه حيث وقف دلنا على أنه مرتحل، وهو المذهب، يدلك مثلا قول عنترة.
فوقفت فيها ناقتي وكأنها
…
فدن لأقضى حاجة المتلوم
ثم قسمه بالبيت يدل على أن رحلته كانت إلى البيت، وكانت عهود الصلح وما أشبه تعقد عند الموسم.
وقوله:
فلما وردن زرقا جمامه
…
وضعن عصي الحاضر المتخيم
وهذا مشعر بالأمن والرفه، يوازنه ويناسبه ما قاله من بعد:
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا
…
بمال ومعروف من القول نسلم
وقوله:
رعوا ظمأهم حتى إذا تم أوردوا
…
غمارا تفرى بالسلاح وبالدم
فهذه غير قوله: «وردن الماء زرقت جمامه»
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا
…
إلى كلأ مستوبل متوخم
وقد جمع زهير في طريقة ربطه بين ضروب من التدرج وتداعي المعاني والمقابلات وغير ذلك، لقوته في منهج القريض وافتنانه ومن نظره إلى المرقش، تفكره في أمر المنايا- قال المرقش
يرقاه حيث شاء منه وإما تنسه منية يهرم
فهذا قول زهير من بعد
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
…
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وفي زهير أسف كنين على هؤلاء الذين أصيبوا في تلك الحروب. وهو ممن أنسأته الأيام فهرم وسئم ووقف موقف من يقال له حكم ويغبط ولو فطن الفاطن لوجب ألا يغبط:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
…
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وحذا زهير أمر حصين على غزوة الملك الذي غزا في ميمية المرقش وذلك حيث قال:
لعمري لنعم الحي جر عليهم
…
بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
ولم يستغو حصين أحدا ولكنه قال أن سيفعل ذلك:
فشد ولم يفزع بيوتا كثيرة
…
لدي حيث ألأقت رحلها أم قشعم
وقال: سأقضي حاجتي ثم أتقي
…
عدوي بألف من ورائي ملجم
وقوله «أم قشعم» فيه معنى الصقر، لأن القشعم من نعوت النسور وهو في ميمية
عنترة.
وقد تعلم قول المرقش
فانقض مثل الصقر يقدمه
…
جيش كغلان الشريف لهم
لهم بكسر اللام وفتح الهاء وميم مشددة أي يلتهم ما أمامه من كثافته.
هذا ومن عجيب أمثلة المقابلة آخر لامية عبدة بن الطبيب التي في المفضليات (السادسة والعشرون) فقد نسب ووصف السير وافتن في صفة قتال الثور والكلاب.
ولي وصرعن في حيث التبسن به
…
مضجرات بأجراح ومقتول
كأنه بعدما جد النجاء به
…
سيف جلا متنه الأصناع مصقول
مستقبل الريح يهفو وهو مبترك
…
لسانه عن شمال الشدق معدول
ثم انتقل إلى شريج من صفة القنيص وفتوة زمان الجاهلية وصفة السير إلى القادسية أما صفة القنيص فقوله:
لما وردنا رفعنا ظل أردية
…
وفار باللحم للقوم المراجيل
ثمت قمنا إلى جرد مسومة
…
أعرافهن لأيدينا مناديل
فهذا كقول امرئ القيس:
تمش بأعراف الجياد أكفنا
…
إذ نحن قمنا من شواء مضهب
مضهب أي مشوي على عجل لم ينضج كل النضج وفي بائية امرئ القيس صفة الاستظلال حيث طنبوا لثيابهم وجعلوا الدروع الماذية أوتادا.
وفي صفة السير إلى القادسية ذكره المراجيل، فهذه كثيرة، أكثر مما يكون مع أهل القنيص. وصفة اللحم حيث قال:
وردا وأشقر لم ينهئه طابخه
…
ما غير الغلي منه فهو مأكول
فهذا ليس بثواء مضهب ولكن لحم في قدور كثيرة. والاكتفاء بتغيير الغلي اللحم يدل على صناعة مع إغذاذ في السير لا يمكن مثله من أناه تجويد إنها الطهاة طهيهم. وفي خبر القادسية فيما ذكره الطبري أن جند سعد رضي الله عنه كانت أزوادهم من الحبوب وافرة ولكنهم قرموا إلى اللحم فاستاقوا من ماشية السواد. فهذا يناسب صفة الطبخ الذي لم ينهئه طابخه والمراجيل كما ههنا.
وقوله:
ومنهل آجن في جمه بعر
…
مما تسوق إليه الريح مجلول
كأنه في دلاء القوم إذ نهزوا
…
حم على ودك في القدر مجمول
أي مذاب. فهذا من نعوت الفتوة وليس من نعت السير إلى القادسية إذ لا ينبئ عن تمام الاستعداد للحرب، وإنما جازف خالد حيث اجتاز بادية الشأم ففاجأ الروم على غير توقع منهم لمقدمه. وسيذكر عبدة في صفة سير الجيش أنهم كان معهم الماء وذلك قوله:
ثم ارتحلنا .....
وقوله ثم منبئ عن تراخي الزمان، أي هذا غير ذلك الارتحال إلى الماء الآجن الذي في جمه بعر:
ثم ارتحلنا على عيس مخدمة
…
يزجي رواكعها مرن وتنعيل
يدلحن بالماء في وفر مخربة
…
منها حقائب ركبان ومعدول
فهذه صفة جمع كبير
نرجو فواضل رب سيبه حسن
…
وكل خير لديه فهو مقبول
رب حبانا بأموال مخولة
…
وكل شيء حباه الله تخويل
والمرء ساع لأمر ليس يدركه
…
والعيش شح وإشفاق وتأميل
وحق هذا أن يكون خاتمة، إلا أن في كلام الشاعر بقية، وقد أشعر بذلك عند البداية حيث قال
هل حبل خولة بعد الهجر موصول
…
أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
حلت خويلة في دار مجاورة
…
أهل المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رؤوس العجم ضاحية
…
منهم فوارس لا عزل ولا ميل
فهؤلاء جند سعد وجيش عمر رضي الله عنهما
ومقدمة القصيدة فيها خلط بين ذلك وبين شيء من سابق أمر عبدة فيه فتك وجاهلية. وكأن خولة كما هي حبيبة هي أيضا رمز عن جميع ما تولى من الشباب وجنونه وبقلبه إلى بعض ذلك حنين وهذا من ازدواجية دلالة الرمز شبيه بسعاد كعب. سعاد كعب رمز لضلال اتباع قريش، فيها فجع وولع- وكأن المطلع «بانت سعاد»
ينظر إلى مطلع النابغة وصاحبته «إحدى بلى» التي أرادت غوايته وهو حاج، ورمز أيضا للنجاة بالوفود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونيل عفوه ورضاه وكأن المطلع «بانت سعاد» ينظر إلى مطلع ربيعة بن مقروم «بانت سعاد فأمسى القلب معمودا» وهذه القصيدة كالمجاراة لكعب في الوزن. والروي:
فخامر القلب من ترجيع ذكرتها
…
رس لطيف ورهن منك مكبول
رس كرس أخي الحمى إذا غبرت
…
يوما تأوبه منها عقابيل
وللأحبة أيام تذكرها
…
وللنوى قبل يوم البين تأويل
هذا قريب في المعنى من مقال بشامة
أتتنا تسائل ما بثنا
…
فقلنا لها قد عزمنا الرحيلا
وقلنا لها كنت قد تعلميـ
…
ـن منذ ثوى الركب عنا غفولا
الأبيات .... ثم يقول عبدة: -
إن التي ضربت بيتا مهاجرة
…
بكوفة الجند غالت ودها غول
فخويلة بالمدائن يقارع قومها العجم وخولة بكوفة الجند. فهل خويلة كناية عن الشاعر نفسه على مذهب عمرو بن قميئة حيث قال:
قد سألتني بنت عمرو عن الـ
…
أرض التي تنكر أعلامها
وأراد نفسه بقوله بنت عمرو كما سبق ذكر ذلك؟
وخولة التي بكوفة الجند كل ما كان من شباب وعرام وهوى
…
فعد عنها ولا تشغلك عن عمل
…
إن الصبابة بعد الشيب تضليل
وصدق، لو يصح عزم امرئ على ذلك
ثم مضى ما شاء في صفة جد السير وضروب استطراد الوصف المتفرع عنه- ثم صرنا إلى حيث قال:
والمرء ساع لأمر ليس يدركه
…
والعيش شح وإشفاق وتأميل
فزعمنا أنه خاتمة لولا ما يشوش عليه من ظلال المقدمة- زعم الفيروز آبادي أن شوش وتشوش لحن ولحن الجوهري حيث ذكر ذلك في مادة «شيش» وفي اللسان ما يفيد أن أصل هذا القول من الأزهري، والإجماع منعقد على صحة ما نقله الجوهري وفوق كل ذي علم عليم-
من أجل تشويش المقدمة والرس الذي كرس أخي الحمى:
.. إذا غبرت
…
يومًا تأوبه منها عقابيل
عاد الشاعر إلى ذكر بعض ما كان على عهد السفه والشباب- وناسب قوله تأوبه أن يقول كما قال:
وقد غدوت وقرن الشمس منفتق
…
ودوبه من سواد الليل تجليل
إلى التجار فأعداني بلذته
…
رخو الإزار كصدر السيف مشمول
ثم وصف مجلس الخمر- وقد حال دون ذلك الإسلام والتحريم وعمر بن الخطاب- إلا أن يكون أصاب بعض اللمم فأسنده إلى زمان مضى، وذلك ما يتبادر إلى الوهم من قوله:
حتى اتكأنا على فرش يزينها
…
من جيد الرقم أزواج تهاويل
فيها الدجاج وفيها الأسد مخدرة
…
من كل شيء يرى فيها تماثيل
في كعبة شادها بان وزينها
…
فيها ذبال يضيء الليل مفتول
لنا أصيص كجذم الحوض هدمه
…
وطء العراك لدديه الزق مغلول
والكوب أزهر معصوب بقلته
…
فوق السياع من الريحان إكليل
وهذا من صفة علقمة بن عبدة التي في آخر ميميتة (1).
مبرد بمزاج الماء بينهما
…
حب كجوز حمار الوحش مبزول
والكوب ملآن طاف فوقه زبد
…
وطابق الكبش في السفود مخلول
وما زادت لذاذات ترف العصر على هذا- أعني عصرنا هذا الذي يوسم باسم حضارة أوروبا.
يسعى به منصف عجلان منتطق
…
فوق الخوان وفي الصاع التوابيل
ثم اصطبحت كميتا قرقفا أنفًا
…
من طيب الراح واللذات تعليل
صرفًا مزاجًا وأحيانًا يعللنا
…
شعر كمذهبة السمان محمول
تذري حواشيه جيداء آنسة
…
في صوتها لسماع الشرب ترتيل
تغدو علينا تلهينا ونصفدها
…
تلقى البرود عليها والسرابيل
ونبئت أنهم لا يزالون يصنعون كهذا الصنيع ببلاد المكسيك، فذلك يكون من عقابيل
(1) علقمة بن عبدة بفتح الباء وعبدة بن الطبيب بسكونها.
رس الجاهلية مما حمله العرب إلى الأندلس ولا يخفى أن الشاعر عند قوله:
تغدو علينا تلهينا ونصفدها
…
تلقى البرود عليها والسرابيل
قد وفي الكلام حقه وهذه خاتمة حق خاتمة.
وقولنا إن الظن أن الشاعر أصاب لما مما يوقعه ذكره الفرش وذكره الدجاج وقد سبق قوله:
أخل المدائن فيها الديك والفيل
غير أن هذه أشياء من نعمة الحواضر، ولا سيمًا حواضر العجم، كان يتلذذ بذكرها أهل الجاهلية ويزعمون أنهم شربوا من خمر العجم والروم الغالية.
وهل ألحق عبدة هذه الأبيات بلاميته وكان قالها في الجاهلية؟ عسى ذلك. غير أنني أميل إلى ما قدمت ذكره أن القصيدة اللامية هذه كل واحد وأن هذه الخاتمة أوجبها عليه أول كلامه.
ومن المقابلة ما يخالطه نوع من المفاجأة. هذه المفاجأة بما تدخله من تحول من المباين إلى ما يباينه تكون هي في ذاتها علاقة ربط قوي. ومن أقوى أمثلة هذا الضرب صنيع الشنفري في التائية، وذلك حيث وصف المرأة ذات الحياء.
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه
…
على أمها وإن تكلمك تبلت
ثم بعد أبياته الروائع المفعمات بالعاطفة، وقد فصلنا عنها حديثًا في الجزء الثالث من هذا الكتاب، قال:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت
…
فلو جن إنسان من الحسن جنت
فبتنا كأن البيت حجر فوقنا
…
بريحانة ريحت عشاء وطلت
بريحانة من بطن حلية نورت
…
لها أرج ما حولها غير مسنت
المسنت المجدب، والأرج المسنت لا يكون إلا أرج الرمم مما يقتله الجوع والعطش وتحلق فوقه الطير.
بعد هذا
وبا ضعة حمر القسي بعثتها
…
ومن يغز يغنم مرة ويشمت
ثم وصف الغزوة ومشيه إليها
خرجنا من الوادي الذي بين مشعل
…
وبين الجبا هيهات أنشأت سربتي
أمشي على أين الغزاة وبعدها
…
يقربني منها رواحي وغدوتي
أمشي على الأرض التي لن تضرني
…
لأنكي قومًا أو أصادف حمتي
كل هذا شتان ما بينه وبين الريحان وأرج الحبيبة الذي حجر به البيت.
هذا الانتقال المفاجئ شبيه بما سماه أرسطو طاليس في حديثه عن المأساة في شعر اليونان بالتحول Peri Peteia. ولا ريب أن الشنفري تحول وحولنا معه من حال نعمة ولذة إلى حال شدة شرسة. وقد صنع هذا لا متشتت الفكر، منساقًا مع نظم الأبيات المفردة كما يظن من لا يتعمق فهم الشعر العربي ولا يتذوقه، ولكن متعمدًا إلحاق أمر بأمر، وربط لاحق بسابق، وإحداث عنصر من الموازنة والمقابلة بين متباينين جمعتهما تجربته وبيانه وكوصفه للفتاة ذات الخفر وتبلت إن تكلمك وصف أم العيال، وهي صاحبة تأبط شرًا، فخلع عليه من صفات الفتوة، ما جعله بإزاء ما ذكره وفصله من صفات الفتاة وفضائل أنثاها.
أم العيال: إذا أطعمتهم أوتحت وأقلت
وأميمة: [وازن بين أم العيال مكبرًا وأميمة مصغرًا]
تبيت بعيد النوم تهدى غبوقها
…
لجارته إذا الهدية قلت
قال «قلت» عن أمية «وأقلت» عن أم العيال- في «أقلت» هذه الثانية صدى ومجاوبة لقلت تلك الأولى المنبئة عن الجود حتى عندما تقل الهدية.
أم العيال: مصعلكة لا يقصر الستر دونها
وأميمة: لا سقوطا قناعها
أم العيال: تجول كعير العانة المتلفت
أميمة: ولا بذات تلفت
أم العيال: ولا ترتجي للبيت إن لم تبيت
أي من البيات وهو الغزو ليلًا
أميمة: تبيت بعيد النوم ....
تحل بمنجاة من اللوم بيتها
…
)
إذا هو أمسى (أي بعلها) آب قرة عينه
أي آب مآبا سعيدًا أو إلى قرة عينه فنزع الخافض.
وقد جمع بين التجربتين معًا في خاتمة القصيدة عند حديثه عن نفسه- حديث سلوى عن نعمة العيش التي زلت كما قال في أول القصيدة:
فواكبدا على أميمة بعدما
…
طمعت فهبها نعمة العيش زلت
لوالي السلوان سبيل
ألا لا تعدني إن تشكيت خلتي
…
شفاني بأعلى ذي البريقين عدوتي
وإني لحلو إن أريدت حلاوتي
…
ومر إذا نفس العزوف استمرت
أبي لما آبى سريع مباءتي
…
إلى كل نفس تنتحى في مسرتي
ولكن النفس التي تنتحى في مسرته وهي أميمة، قد بانت، فأبدل منها نفسًا أخرى يعزها إعزازًا ولكنها لا تنتحى في مسرته كل الانتحاء
تخاف علينا العيل إن هي أكثرت
…
ونحن جياع أي آل تألت
وأعلم أصلحك الله أيها القارئ الكريم أنه من باب هذا التحول ما مر بك من نحو قول علقمة بن عبدة
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا
وقوله:
قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم
بل غير بعيد من هذا الباب قولهم دع ذا، ودعها، وعد عن كذا وكذا والإقبال على الجد بعد النسيب، ولكنا كما تقدم نبهنا إلى عناصر أخرى من الربط في جميع ذلك من تدرج وتداعي معاني وتفرع لاحق عن سابق ومفارقة أمر ثم الرجوع إليه كما نبه إلى ذلك ابن رشيق في حديثه عن التخلص وقد ممر في أول هذا الجزء.
وقولنا إن عنصر المفاجأة عند الشنفري وما أشبهه من الشعر مثل التحول الذي قاله أرسطو طاليس ليس ببعيد. وجواهر مذاهب البشرية تتقارب بل هي أمر واحد وسابحة في فلك واحد. وإنما يقع الاختلاف في الأشكال. والمثال ضربه أرسطو طاليس للتحول منه خبر أوديب. ومما يحسن ذكره في هذا الباب أن أوديب استنزل اللعنة على من قتل أباه وغشي أنه وقضى بعذاب أليم. فما كان ذلك الملعون المعذب آخر الأمر إلا إياه هو نفسه ولعمرك إن قول النابغة:
ما جئت من سيئ مما رميت به
…
إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي
إذن فعاقبني ربي معاقبة
…
قرت بها عين من يأتيك بالفند
من قبيل استنزال اللعنات الذي صنعه أوديب. فقط كان النابغة بريئًا. وكان أوديب غير برئ، وغير جلد الفؤاد على الإثم.
ومما يذكر في هذا المعراض أن قتل الأب وغشيان الأم مما يسمونه عقدة أوديب ليس ذلك بأمر انفردت به آداب اليونان، فمثله دائر في خرافات الأمم.
مما نختم به هذا الفصل مما يجري مجرى المقابلة قول أبي كبير الهذلي
أزهير هل عن شيبة من معدل
…
أم لا سبيل إلى الشباب الأول
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
…
أشهى إلى من الرحيق السلسل
فقد أسف على فوات الشباب هنا. ثم تمثل هذا الذي أسف عليه في هذا الفتي الذي رغب أن يتزوج أمه ثم خافه وأحس فيه قوة الشباب المباين كل المباينة لما كان فيه هو من إقبال على ضعف المشيب وانهيار قواه وذلك قوله:
ولقد سريت على الظلام بمغشم
…
جلد من الفتيان غير مثقل
ممن حملن به وهن عواقد
…
حبك النطاق فشب غير مهبل
ومبرا من كل غبر حيضة
…
وفساد مرضعة وداء مغيل
حملت به في ليلة مزءودة
…
كرهًا وعقد نطاقها لم يحلل
هذه أمنية مناها أبو كبير من أم تأبط شرًا التي لم يستطع إليها سبيلًا
فأتت به حوش الفؤاد مبطنًا
…
سهدًا إذا ما نام ليل الهوجل
فإذا نبذت له العصاة رأيته
…
ينزو لوقعتها طمور الأخيل
وإذا يهب من المنام رأيته
…
كرتوب كعب الساق ليس بزمل
أي ليس بضعيف ولكن إذا نهض من المنام نهض قائمًا
ما إن يمس الأرض إلا منكب
…
منه وحرف الساق طي المحمل
أي هو مطوي طيًا لضموره وقوة جسمه وذلك لاكتمال شبابه
وإذا رميت به الفجاج رأيته
…
يهوي مخارمها هوي الأجدل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
…
برقت كبرق العارض المتهلل