الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله:
إن يقض يعدل أو متى يسأل يهب
…
وإن يقل يصدق وأن يعد وفى
ما لي لا أضفي له المدح وقد
…
أضحى به الحق علينا قد ضفا
ومما فخر به في مقدمة القصيدة:
أنا الفتى لا يطبيني مطمع
…
فأبذل الوجه لنيل يرتجى
فهذا في معنى ما قدمناه من أن أصحاب الملكات الجيدة أحسوا كساد سوق التكسب بالمدح فانصرفت همم كثير ممن هدى الله منهم إلى التماس الأجر عند الله بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما حثهم وقوى عزمهم في هذا الباب داعي الجهاد الذي كان يدعوهم ليذودوا عن دار الإسلام بالمال والأنفس والسنان والبيان، إذ قد أحدق بها في المشرق والمغرب بأس أعدائها من الصليبيين وغيرهم من الكفرة، فكانت القصيدة النبوية مما تستثار به الهمم وتعزى به النفوس، وتنشرح لنشيده الصدور، وتعرف بوجوه بلاغته وجوه بلاغة الكتاب العزيز، وذلك من أهم ما حباه الله عز وجل من أسباب حفظه. {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} .
طور النضج:
وصلت القصيدة النبوية أوجها ونضجها على أيدي جماعة من مداح الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا شعراء مطبوعين لهم في الشعر باع طويل، ومع ذلك انصرفوا بقوى ملكاتهم كلها إلى تجويد المدح النبوي دون غيره من سائر أغراض الشعر يدفعهم إلى ذلك حب عميق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرة على الدين الحنيف إذ دعاهم داعي الجهاد وتيسير من الله سبحانه وتعالى وتوفيق (1).
الوتري والفازازي وابن جابر ومن سلك سبيلهم يمثلون جانب البديع واللزوميات من مداح الرسول عليه الصلاة والسلام. والزمخشري وأبو حيان والفيروزآبادي يمثلون جانب العلماء الغالب على منهجهم أسلوب العلماء من مداح الرسول عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء قد تصفو ديباجة أساليبهم حينًا ولكن الغالب عليهم نظم العلماء وقد مرت بك أمثلة ذلك في أبيات من لامية الفيروز آبادي وغيره وما لا بأس بالاستشهاد به في هذا المجرى دالية الحافظ ابن حجر التي أولها:
يا سعد لو كنت امرأً مسعودًا
…
ما كان صبري في النوى مفقودا
وسهرت أرتقب النجوم كأنني
…
في الأفق أطلب للحبيب عهودا
(1) ينبغي أن ننبه ههنا على مكان الوزير ابن أبي الخصال الأندلسي (465 - 540 هـ) بين كبار مداح الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نوقشت بآخرة رسالة عنه بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس تدل على أن بخزانة القرويين من شعره مجموعة صالحة.
فإنه خلص في آخرها إلى باب تعليمي محض حيث قال بعد ذكره الآل والصحابة رضي الله عنهم والإشارة إلى تابعيهم بإحسان:
من كل حبر تابع سنن الهدى
…
ولي على أثر الهداة حميدا
مثل البخاري ثم مسلم الذي
…
يتلوه في العليا أبو داودا
فاقت تصانيف الكبار بجمعه
…
الأحكام فيها يبذل المجهودا
قد كان أقوى ما رأى في بابه
…
يأتي به ويحرر التجويدا
فهذا فصل في علوم الحديث ونقدها كما ترى.
وقد نظم الوزير ابن الحكيم وابن زمرك تلميذ ابن الخطيب وعدوه الموقع به من بعد وابن خلدون صاحب التأريخ والجاه الديواني بالمشرق والمغرب ولسان الدين بن الخطيب وغيرهما من أهل الجاه ووزراء الملوك ومن بمنزلتهم في المدح النبوي تبركًا وتعبدًا وتقوى أو تزينًا بذلك وتقية كل من وجهته التي هو موليها بحسب النية التي كان ينويها. وقد كان ابن خلدون رحمه الله شاعرًا لطيف الديباجة والبائية التي أوردها له النبهاني من الكلام الحسن، مطلعها:
أسرفن في هجري وفي تعذيبي
…
وأطلن موقف عبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين وقفة ساعة
…
لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
وهي تسعة وثلاثون بيتًا أربعة عشر منها في مقدمة النسيب فيها وشى من بديع كقوله:
غربت ركائبهم ودمعي سافح
…
فشرقت بعدهم بماء غروبي
فهذا من قول البحتري «بالأمس تغرب من جوانب غرب» وأحسبه على بائية البحتري «كم بالكثيب من اعتراض كثيب» حذا قوله ههنا.
كقوله: يستعذب الصب الملام وإنني
…
ماء الملام لدي غير شريب
والقافية قلقة وأول الكلام يشير به إلى قول حبيب:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صب قد استعذبت ماء بكائي
وماء البكاء ذو ملوحة ونسج أبي تمام دقيق.
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى
…
لولا تذكر منزل وحبيب
يشير إلى «قفا نبك» -
ويقول في المدح:
يا سيد الرسل الكرام ضراعة
…
تقضي مني نفسي وتذهب حوبى
عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى
…
فيها تعللني بكل كذوب
هب لي شفاعتك التي أرجو بها
…
صفحًا جميلًا عن قبيح ذنوبي
إن النجاة وإن أتيحت لأمرئ
…
فبفضل جاهك ليس بالتشبيب
هل يعتذر بهذا عن تشبيبه في أول هذه القصيدة أو عن سائر ما اعتاده الشعراء من البدء بالتشبيب؟ أحسب هذا أشبه بما كان يغلب على ابن خلدون رحمه الله من التأمل الناقد، وقد بسط من ذلك في مقدمته ما بسط.
إني دعوتك واثقًا بإجابتي
…
يا خير مدعو وخير مجيب
قصرت في مدحي فإن يك طيبًا
…
فبما لذكرك من أريج الطيب
كان لسان الدين بن الخطيب (1) وابن خلدون متعاصرين، وكأن قد كان بينهما من أشياء الغيرة وهنواتها ما يكون بين المتنافسين غير أن ابن الخطيب كان أعمق بحرًا في فنون البلاغة والشعر، وهو صاحب الترشيح المشهور:
جادك الغيث إذا الغيث همي
…
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلمًا
…
في الكرى أو خلسة المختلس
وقد كان، مع كونه من أهل الوزارة والكتابة والتصنيف في مختلف العلوم والفنون، من أدخل هؤلاء في حاق زمرة جماعة مداح الرسول صلى الله عليه وسلم الذين خلصوا بذوات أنفسهم إليه، جيد المذهب فيه، ومن جياد مدائحه، وذكر النبهاني أنها لم
(1) توفي ابن الخطيب سنة 776 هـ وابن خلدون سنة 806 هـ وابن الحكيم الرندي كانت وفاته في أوائل القرن الثامن وزار المدينة سنة 684 هـ وكانت وفاته قتيلًا رحمه الله وقتل معه شاعره ابن خميس التلمساني رحمه الله.
يوردها صاحب نفح الطيب:
ترك العرارة والكثيب شمالًا
…
وحدا إلى ذات اليمين ومالا
ودعاه داعي العز فابتدر الفلا
…
سعيًا لدعوته وخاض الآلا
يتخير المرعى ويفترع الربى
…
ويجر أذيال الوشيج طوالا
حتى توسد أبرد الظل الذي
…
كنف العفاة وأحسب الآمالا
أي أعطاها كفايتها ثم يقول:
من مبلغ قومي على بعد المدى
…
والبين بينهم وبيني حالا
أني قطعت البحر للبحر الذي
…
أغنى وأقنى واجتبى وأنالا
فإذا نفضت جوانحي عن مطمع
…
لم ألف للطمع المخل مجالا
إلا رضا الله الذي هو غاية
…
لأولي النهى سبحانه وتعالى
ثم يقول في لوم النفس وروم سبيل الحج والزيارة:
كم مركب أنضيت في طلب الهوى
…
وظلام مسعى تهت فيه ضلالا
وقفت به قدمي على ندمي أسى
…
من رام غير الله رام محالا
إن سامحت بنعم ونعمى همتي
…
غارت بي الدنيا فقالت لا لا
همنا بشمطاء المفارق لم تزل
…
خرقاء تخلط بالنفار دلالا
عنى بالشمطاء الدنيا. وفي خرقاء نوع من إشارة إلى صاحبة ذي الرمة التي قال فيها:
تمام الحج أن تقف المطايا
…
على خرقاء واضعة اللثام
وقوله «تخلط بالنفار دلالا» دل به على أنها غير خرقاء في فتنة ذوي الألباب حتى تعزب بهم عنها أو كما قال:
غطى على الألباب منا سحرها
…
فنرى الحقيقة في الوجود خيالا
ولابن الخطيب أحيانًا ولع بعبارات الفلسفة والمنطق، فربما كدر ذلك بعض صفاء ديباجته شيئًا وقد يعلم القارئ الكريم أصلحه الله طعن ابن خلدون على تعاطي مذاهب الفلاسفة في الشعر حتى لم يعف من نقد بها قاله أبا الطيب المتنبي بله أبا العلاء فهل ضمن مقاله في ذلك بعض التعريف بابن الخطيب؟
يا ليت شعري هل أرى متوسدا
…
كوماء تخبط سبسبا ورمالا
من كل حالية الطلى تفرى الفلا
…
ظلمان جو ما عرفن كلالا
صارت قسيًا بالضمور وفوقها
…
أنضاء صيرها النحول نبالا
ما أرى إلا أنه (وفوقها الأنضاء) إذ ليس هذا مما يمنع من الصرف ويناسب مكان الألف واللام هنا مكانهما من قوله (بالضمور)
ما زلن في تعب وشدة لوعة
…
حتى بلغن بنا النبي فزالا
ثم أخذ في مدحه عليه الصلاة والسلام فقال:
خير الأنام ومعدن النور الذي
…
نسخ الضلالة بالهدى وأزالا
وغياث أهل الأرض يفرج عنهم
…
ربق الذنوب ويرفع الأغلالا
وطبيب أدواء النفوس إذا شكت
…
داء يعز على النفوس عضالا
يا من إذا ركض الجواد بمدحه
…
ملء الأعنة لا يقال تغالى
يا من ملائكة السماء به اقتدت
…
هديًا وصلت خلفه أرسالا
إني وصلت بجاهك الأحمى يدي
…
وتخذت حبك عروة وثمالا
أنت العزيز حقيقة وبضاعتي
…
قد أملت أن توفي المكيالا
حاشا جلالك أن تخيب قاصدا
…
حاشا نوالك أن ترد سؤالا
وعليك يا خير الأنام تحية
…
كالروض صافح عارضًا هطالا
تختص أربعك المعطرة الشذى
…
والصحب والملأ الرضى والآلا
ثم ذكر الخلفاء الأربعة وأعانته الملكة الجيدة واندفاعة صدق الإيقاع فأتقن نظم أسمائهم مع ما يناسب من حسن ثنائهم:
وعلى أبي بكر خليفتك الذي
…
كشف الخطوب ودافع الأهوالا
وعلى أبي حفص خليفته الذي
…
فتح الفتوح ونفل الأنفالا
وعلى أبي عمرو بن عفان الذي
…
أغرى بجيش العسرة الأموالا
وعلى على خير من صرع العدا
…
يبغى رضاك وجندل الأبطالا
ما فجر الفجر النهار فخلته
…
نهرًا على مرج الدجنة سالا
ما لاح إصباح وأشرق كوكب
…
وتعاقبت ريح صبًا وشمالا
ما غردت ورقاء حتى أطربت
…
ألحانها غصن الرياض فمالا
لعلك فطنت إلى نفس طبيعة الأندلس ههنا.
يا هل يبلغني السرى أم القرى
…
فأهل من ميقاتها إهلالا
لعقيلة الدين التي قد أطلعت
…
من مسكة الحجر المقبل خالا
يعنى الكعبة، فجعل الحجر كأنه بخدها وهي عقيلة كريمة، خال- وقد كان الخال مما يستحسن في خدود البيض الملاح.
لله من حلل تشوق وأربع
…
تهدي بطيب نسيمها الضلالا
ما استنشقت نفحات هبات الصبا
…
إلا لأن جرت بها الأذيالا
طابت معاهدها بأكرم مرسل
…
فاق الأنام شمائلًا وخلالا
صلى عليه الله ما ذكر اسمه
…
فجلا السنا وكسا الوجود جمالا
فهذه كما ترى ديباجة جزلة عليها من البديع رونق، مع حرارة نفس ونصوع بيان وجودة رنين.
ويذكر عن أحد أمراء الإفرنج الإسبان أنه عجب من سادة المسلمين كيف أقدموا على قتل ابن الخطيب مع فضله الباهر وبيانه الساحر؟ وقد كان رحمه الله من أخريات إشراقات الأندلس، ومن أشدها وهج ضياء، وفخرًا لغرناطة ما أحسبها أخرجت بعده من يضاهيه أو يدانيه، وما كان ابن زمرك على تجويده لصناعته إلا انعكاسة ضوء لمحة من بارقه- تأمل مثلًا قوله:
إليك رسول الله دعوة نازح
…
خفوق الحشا رهن المدامع هيمان
غريب بأقصى الغرب قيد خطوه
…
شباب تقضي في مراح وخسران
يجد اشتياقًا للعقيق وبأنه
…
ويصبو إليه ما استجد الجديدان
فهذا يحاكي فيه ابن الخطيب، وليس فيه نفحات صدقه. وله همزية جاري بها:
أرج النسيم سرى من الزوراء
…
سحرًا فأحيا ميت الأحياء
أهدى لنا أرواح نجد عرفه
…
فالجو منه معنبر الأرجاء
وكان أمر ابن الفارض آنئذ معروفًا، وعندي أن شعر ابن الفارض وسط إلا ما ندر وفيه بعد نظر، ثم ليس فيه من المديح النبوي شيء ومن عجب الأمر أن الجزالة إنما تعطى
قيادها مع المديح وما بمجراه فتأمل. وقد يجوز أن يكون ابن زمرك نظر إلى ما ثم من همزيات مجرورة الروي قديمة ككلمة حبيب:
قدك اتئب أربيت في الغلواء
…
كم تعذلون وأنتم سجرائى
ومهما يكن من ذلك فإنه ما جاوز نهجًا خطابيًا قليل الرونق، أشبه شيء بمنظومات المناسبات التي لا يكون لها قوة تأثير بعد مناسبتها الأولى. ومطلعها:
زار الخيال بأيمن الزوراء
…
فجلا سناه غياهب الظلماء
وأكثر أبيات القصيدة على غرار هذا المطلع لا تكون أجود منه إن لم تكن دونه.
وللسان الدين بن الخطيب شعر نبوي قاله على لسان سلطانه ملك غرناطة الغني بالله من بني الأحمر محمد بن سلطان بن الحجاج ربما ضمنه من خاص شعوره وصدق محبته مع الذي اعتذر به على لسان سيده من التقصير عن قضاء واجب زيارة القبر الشريف بما كان يعدوه من واجب المرابطة وجهاد العدو، وإنما قصد لسان الدين وسلطانه إلى وجه من الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم. من ذلك بائيته التي مطلعها:
دعاك بأقصى المغربين غريب
…
وأنت على بعد المزار قريب
والضمير يخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستغيث هو لسان الدين على لسان سلطانه كما تقدم وجلي أيضًا أنه مستغيث بلسان نفسه أيضًا:
مدل بأسباب الرجاء وطرفه
…
غضيض على حكم الحياء مريب
يكلف قرص البدر حمل تحية
…
إذا ما هوى والشمس حين تغيب
لترجع من تلك المعالم غدوة
…
وقد ذاع من رد التحية طيب
ويستودع الريح الشمالي شمائلا
…
من الحب لم يعلم بهن رقيب
لعلها الشمال بفتح الشين وهو أشبه من أن تقع في بيته شبه ضرورة إذ حق الياء هنا ظهور الفتحة عليها. وفي الأبيات التالية لهذا البيت أخطاء نسخ أو طبع يشبن ما لا ريب فيه من روائها واستوائها وصفائها.
ومنها:
وما هاجني إلا تألق بارق
…
يلوح بفود الليل منه مشيب
فبت وجفني من لآلي دمعه
…
غني وصبري للشجون سليب
ومنها
أيا خاتم الرسل المكين مكانه
…
حديث الغريب الدار فيك غريب
عدت عن مغانيك المشوقة للعدا
…
عقارب لا يخفى لهن دبيب
حراص على إطفاء نور قدحته
…
فمستلب من دونه وسليب
بنصرك عنك الشغل من غير منة
…
وهل يتساوى مشهد ومغيب
أي شهودي لا بد منه لمباشرة الجهاد، فإن غبت للزيارة ناب عني غيري فليس ذلك في القيام بواجب الجهاد كما لو أشهد. ولعل القارئ يفطن إلى جانب البديع في الاستعارة والطباق والتورية- قوله غريب من قولهم حديث غريب أي نادر نفيس من طرق إسناده وقوله مستلب وسليب تضمين من بائية علقمة وإشارة إلى قوله:
رغا فوقهم سقب السماء فداحض
…
بشكته لم يستلب وسليب
يريد بالإشارة معنى عذاب الله الذي صبه على ثمود.
ولولاك لم يعجم من الروم عودها
…
فيعود الصليب الأعجمي صليب
وجاهك بعد الله نرجو فإنه
…
لحظ مليء بالوفاء رغيب
عليك صلاة الله ما طيب الفضا
…
عليك مطيل بالثناء مطيب
وما أفتر قد للغصون مرنح
…
وما أفتر ثغر للبروق شنيب
على جزالة ابن الخطيب فيه تصنيع ووشي كثير وله غرام بذكر النسائم والأغصان والغيث، مما هو، على أصالته في العربية، ذو نفحات أندلسية مغربية. ومن بديعه المصنوع في هذه البائية قوله:
فقول حبيب إذ يقول تشوقا
…
عسى وطن يدنو إلى حبيب
يعني حبيب بن أوس في أول البيت. وقوله:
ويا قادح الزند الشحاح ترفقا
…
عليك فشوقي الخارجي شبيب
أي الذي لا أستطيع رده قد شب- ويشير إلى شبيب زعيم الخوارج على زمان الحجاج. ومما قاله على لسان سلطانه الغني بالله:
إذا فاتني ظل الحمى ونعيمه
…
فحسب فؤادي أن يهب نسيمه
وهي أجود وأصفى ديباجة من البائية وأحر أنفاسًا وأخفى صناعة بديع
ويقنعني أني به متشبه
…
فزمزمه دمعي وجسمي حطيمه
المطلع مشعر كما ترى بأرب الشاعر، وهو ما تقدم من شوقه إلى الحجاز، وما يعدو دون ذلك من أمر الجهاد. وجعله دمعه زمزمًا لملوحة الدمع وجسمه حطيم بالشوق والحطيم من أسماء البيت الحرام تسمية كل بجزء.
ومنها:
ولم أر شيئًا كالنسيم إذا سرى
…
شفى سقم القلب المشوق سقيمه
نعلل بالتذكار نفسًا مشوقة
…
ندير عليها كأسه ونديمه
وما شفني بالغور قد مرنح
…
ولا شاقني من وحش وجرة ريمه
ولا سهرت عيني لبرق ثنية
…
من الثغر يبدو وموهنًا فأشيمه
تأمل رصانة هذه الأبيات مع عذوبة لفظها. وما خلا ابن الخطيب من نظر إلى قول أبي العلاء:
وما شاق قلبي بارق نحو بارق
…
ولا هزني شوق لجارة هزان
والمعري يشير لخبر الأعشى مع الهزانية وقد جاء به في رسالة الغفران. والذي أخذه ابن الخطيب نهج الصياغة وصدى إيقاعها ومنها:
ألا يا رسول الله ناداك ضارع
…
على النأي محفوظ الوداد سليمه
مشوق إذا ما الليل مد رواقه
…
تهم به تحت الظلام همومه
إذا ما حديث عنك جاءت به الصبا
…
شجاه من الشوق الحثيث قديمه
أيجهر بالنجوى وأنت سميعها
…
ويشرح ما يخفى وأنت عليمه
وتعوزه السقيا وأنت غياثه
…
وتتلفه الشكوى وأنت رحيمه
تأمل انسياب هذا الكلام وما فيه من شبه بأنفاس فحول المولدين حبيب والوليد وأبي الطيب.
بنورك نور الله قد أشرق الهدى
…
فأقماره وضاحة ونجومه
لك انهل فضل الله بالأرض ساكبا
…
فأنواره ملتفة وغيومه
في قوله «فأنواره» معنى الأزهار.
ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى
…
خليل الذي أوطاكها وكليمه
هنا إشارة إلى المعراج.
لك الخلق الأرضى الذي جل ذكره
…
ومجدك في الذكر العظيم عظيمه
يجل مدى علياك عن مدح مادح
…
فموسر در القول فيك عديمه
ويقول على لسان الغني بالله معتذرًا عن تقصيره عن الديار المقدسة:
عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا
…
جلالقة الثغر الغريب ورومه
تأمل تسميته الأندلس الثغر الغريب، وقد سبقت الإشارة إلى أن ابن زمرك من طريقة لسان الدين أخذ.
أجاهد منهم في سبيلك أمةً
…
هي البحر يعيى أمرها من يرومه
لا يخفى ما ههنا من تنبه إلى أن نصر المسلمين بالأندلس لا يتأتى لمن يريد نصرهم إلا بقوة البحر. وابن الخطيب قوي الإحساس بأن سبيل الأندلس، ما بقي منها، إلى ضياع، وكذلك كان إحساس ابن خلدون. ولمن قبلها أحس أبو مروان بن حيان على حين لم تزل قرطبة وطليطلة وإشبيلية كل أولئك تحت سلطان الإسلام، ولكن الفتنة التي طوحت بالخلافة الأندلسية وما تبعها من تفرقة دامية العراك هو الذي أوقع في نفسه هذا الحدس، وإلى الله تصير الأمور.
ويقول في آخرها يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام:
وأنت لنا الغيث الذي نستدره
…
وأنت لنا الظل الذي نستديمه
ولما نأت داري وأعوز مطمعي
…
وأقلقني شوق يشب جحيمه
بعثت بها جهد المقل معولا
…
على مجدك الأعلى الذي جل خيمه
وكلت بها همي وصدق قريحتي
…
فساعدني هاء الروي وميمه
فهذه طربة حبيبية النشوة.
فلا تنسني يا خير من وطيء الثرى
…
فمثلك لا ينسى لديه خديمه
عليك صلاة الله ما ذر شارق
…
وما راق من وجه الصباح نسيمه
وهنا ما تقدم ذكره من النفحة الأندلسية- شاهد ذلك أنك تحس نوع أحساس من
الشاعر بهذا النسيم الذي راق، لا أنه يقصد إلى تكثير عدد الصلاة بذكر النسيم ليس غير.
وللسان الدين عدا ما ذكرنا مدائح يعرفها حذاق المنشدين وما زالوا يتغنون بها مع ما يتغنى به الذاكرون منهن على سبيل المثال رائيته التي يذكر فيها زيارته القبر الشريف:
الله أكبر حبذا إكباره
…
لاح الهدى وبدت لنا أنواره
لاحت معالم يثرب وربوعها
…
مثوى الرسول وداره وقراره
هذا النخيل وطيبة ومحمد
…
خير الورى طرأ وهأنا جاره
هذا المصلى والبقيع وههنا
…
ربع الحبيب وهذه آثاره
ومنها:
هدي مواضع مهبط الوحي الذي
…
تشفي القلوب من الحمى أسراره
والروضة الفيحاء هب نسيمها
…
وألبان بان ونم منه عراره
وتعطرت سلع بساطع طيبها
…
لم لا تطيب وحوله مختاره
بشراك يا قلبي فقد نلت المنى
…
وبلغت ما تهوى وما تختاره
ومنها:
أيخيب من قصد الكريم وعنده
…
حسن الرجاء شعاره ودثاره
أيؤم بابك مستقيل عاثر
…
فيرد عنك ولا تقال عثاره
حاشا جلالك أن يؤمله امرؤ
…
فيعود صفرًا خيبت أسفاره
رسمت حاشا بالألف بعد الشين في المطبوعة ولا أدري ما وجهه والعرب تقول حاشاك وحاشي لك وفي كتاب الله: {حاش لله ما هذا بشرًا} ، تعجب فيه معنى الإكبار قال أبو عبيدة: وقلن حاش لله الشين مفتوحة ولا ياء فيه وبعضهم يدخل الياء في آخره كقوله:
حاشي أبي ثوبان إن به
…
ضنا عن الملحاة والشتم
ومعناه معنى التنزيه والاستثناء من الشر. قلت أحسب أن من جاء بالألف بعد الشين في الرسم توهمه من قول أبي عبيدة ولا ياء فيه إذ عني أبو عبيدة ياء اللين التي لرسم الألف اللينة، وذلك أن رسم المصحف العثماني في هذا الحرف بالشين ليس بعدها شيء وكل القراء إلا أبا عمرو يقرأون بشين مفتوحة فهو المشار إليه بقوله بعضهم من كلام أبي عبيدة وذلك أن أبا عمرو إذا وصل مد فتحة الشين فجاء بألفها اللينة وتكتب ألفًا حمراء بعد الشين وأهل الأداء يعلمون ثباتها عند أبي عمرو وصلًا لا وقفًا
وليس بموضع وقف لكن من اضطر فوقف عنده سكن الشين، فأحسب رسم النبهاني لها «حاشا جلالك» أو رسم النساخ من قبل إن يك هكذا مراعاة لرسم المصاحف.
ومن هذه الرائية قوله في أواخرها:
فامنن علي وكن شفيعي والتفت
…
مستنصرًا بجلالك استنصاره
وكأن تأويله والتفت إلى مستنصر ونصب بنزع الخافض وهو «إلى» وعندي أنه قد وقع خطأ من الناسخ ههنا وأن الصواب:
فامنن علي وكن شفيعي ولتغث
…
مستنصرًا بجلالك استنصاره
أي ولتكن مغيثًا لي، وزعم بعضهم أنه لا يجوز مجيء لام الأمر مع المضارع المبدوء بتاء الخطاب بحجة أن فعل الأمر قد أغنى عن ذلك وليس هذا بشيء لقراءة أبي «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا» وهي عشرية في حرف يعقوب عن رويس ذكره صاحب النشر.
صلى عليك الله ما حيا الحيا
…
روض الربا وترنمت أطياره
وتأمل نفحة الأندلس في تحية الحيا روض الربي، وترنم الأطيار.
كان لسان الدين بن الخطيب رحمه الله شاعرًا مفلقًا ولعل النبهاني يشير إليه وإلى ابن نباته المصري وحازم وابن جابر إذ قال في مقدمته أنه يبدأ كل حرف بمديح الأئمة الثلاثة الأبوصيري فالبرعي فالصرصري «إن كان لهم كلام لأنهم أشهر مداحه صلى الله عليه وسلم وإن كان قد أتى من أئمة المشارقة والمغاربة من هو مثلهم أو أعلى نظمًا من بعضهم كما سنقف على ذلك من كلامهم إن شاء الله تعالى. أ. هـ» .
قلت لعل هذا من قول النبهاني رحمه الله أن يكون قد احترس به، ومن أجود من بالمجموعة ابن الخطيب وهو على براعته وصفاء ديباجته وما يتأتى له من الجزالة لا يبلغ مبلغ الثلاثة الأئمة في حاق المدح النبوي، إذ على صدقه فيه، لا يخلو من شائبة بعض أنفاس الدنيا خلاف ما عليه نظم الثلاثة، وقال تعالى جل من قال:{نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} .