الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولده فإنها تستحق أجرها بلا ريبت، كما قال الله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [6/65] ، وهذا الأجر هو النفقة والكسوة، وقاله طائفة منهم الضحاك وغيره.
وإذا كانت المرأة قليلة اللبن وطلقها زوجها فله أن يكتري مرضعة لولده، وإذا فعل ذلك فلا فرض للمرأة بسبب الولد، ولها حضانته (1) .
المماليك
وقال الشيخ تقي الدين: ولو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه عن ملكه (2) .
باب الحضانة
لا حضانة إلا لرجل من العصبة أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو بوارث، فإن عدموا فالحاكم.
وقيل: إن عدموا تثبت لمن سواهم من الأقارب ثم للحاكم.
ويتوجه عند العدم أن تكون لمن سبقت إله اليد كاللقيط، فإن كفال اليتامى لم يكونوا يستأذونون الحاكم.
والوجه أن يتردد بين الميراث والمال (3) .
والعمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب أحق يقدمن على نساء الأم؛ لأن الولاية للأب وكذا أقاربه، وإنما قدمت الأم على الأب لأنه لا يقوم مقامها هنا في مصلحة الطفل.
(1) اختيارات (286) ، ف (2/ 342) .
(2)
إنصاف (9/ 412) وتقدم ف (2/ 343) .
(3)
فروع (5/ 614) واختيارات (288) فيه زيادة ف (2/ 343)
وإنما قدم الشارع عليه الصلاة والسلام خالة بنت حمزة على عمتها صفية لأن صفية لم تطلب وجعفر طلب نائبا عن خالتها فقضى لها بها في غيبتها (1) .
وضعف البصر يمنع من كمال ما يحتاج إليه المحضون من المصالح (2) .
قاعدة في حضانة الولد (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه.
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل
في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز هل هو للأب؟ أو للأم؟ أو يخير بينهما؟
(1) المصدر السابق.
(2)
اختيارات (288) ، ف (344) .
(3)
هذه القاعدة فيها زيادة عما في المجموع (ست صفحات وخمسًا صحيفة) وفيها تصحيحات للموجود منها في المجموع فلذلك نقلتها في هذا المستدرك كاملة.
فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبع سنين خير بين أبويه، وأما الجارية فالأب أحق بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعا.
وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة ولم يبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًّا، وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره وكثرة من كان يأخذ عنه العلم، فأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه.
وأما ما جمعه من نصوصه في أصول الدين، ومثل كتاب السنة، نحو ثلاث مجلدات، ومثل أصول الفقه والحديث، ومثل كتاب العلم، الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث، مثل كتاب العلل، الذي جمعه ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في الرجال والتأريخ، فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.
والمقصود هنا: أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما، في مسألة البنت، وفي مسألة الابن، وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال:
هل تكون مع الأم، أو مع الأب، أو تخير؟ لكن في الابن ثلاث روايات
وأما البنت فالمنقول عنه روايتان: هل هي للأم، أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجه مخرج في مذهبه، فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة وممن ذكرهن أبو البركات في محرره.
وعنه في الجارية روايتان: وممن ذكرهما أبو عبد الله بن تيمية في كتاب التلخيص، وترغيب القاصد.
والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب.
وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلى في تعليقه، نقل عن أحمد في الغلام، أمه أحق به حتى يستغنى عنها، ثم الأب أحق به، قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام واستغنى عن الأم فالأب أحق به، وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام إذا عقل واستغنى عن الأم، وهذا يشبه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قال: إذا أكل وحده، ولبس وحده، وتوضأ وحده، فالأب أحق به، ونقل ابن المنذر، أنه يخير حينئذ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور، والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجد في كتب أصحابه، وهو إحدى الروايتين عن مالك، فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى يثغر ولكن المشهور عنه أن الأم أحق به ما لم يبلغ.
وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد:
والرواية الثالثة عن أحمد: أن الأم أحق بالغلام مطلقا كمذهب مالك قال في رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار فالأم أعطف عليهم، مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأب أحق بهم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب أحق بولده غلاما كان أو جارية.
قال الشيخ أبو البركات: فهذه الرواية تدل على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضا عند الأم، لكن في وقت الأدب، وهو النهار يكون عند الأب.
وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه.
فصار في المسألة ثلاث روايات.
ومذهب مالك في المدونة: أن الأم أحق به ما لم يبلغ، وللأب تعاهده عندها، وأدبه، وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.
قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة، ورجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق، وأما الذين كانوا يسألونه مطلقا مثل: الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم فكثيرون.
وأما حضانة البنت -إذا صارت مميزة- فوجدنا عنه روايتين منصوصتين وقد نقلهما غيرواحد من أصحابه، كأبي عبد الله بن تيمية وغيره.
إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.
والثانية: أن الأم أحق بها.
قال في رواية إسحاق بن منصور، يقضي بالجارية للأم والخالة حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها، وقال في رواية مهنى بن يحيى: الأم والجدة أحق بالجارية حتى يتزوج الأب.
قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد" وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير تخيير، وعنه الأم أحق بها حتى تحيض.
وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك.
ففي المدونة: مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرا أو أنثى، فإذا بلغ -وهو أنثى- نظرت فإن كانت الأم في حرز
ومنعة وتحصين فهي أحق بها أبدا ما لم تنكح، وإن بلغت أربعين سنة، وإن لم تكن في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية في نفسها فللأب أخذها منها، وكذلك الأولياء، والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين.
ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ، فإذا كانت الأم غير مرضية في نفسها، وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت إلا أن تكون صغيرة لا يخاف عليها.
وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض. ومن سوى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهى، هذا هو المشهور.
ولفظ الطحاوي: حتى تستغني، كما في الغلام مطلقا، ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام، حتى تأكل وحدها، وتلبس وحدها، وتتوضأ وحدها، ثم تكون مع الأب.
وأبو حنيفة أيضًا يجعل الأب أحق بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في الابن، لكن يستثنى الأم والجدة خاصة.
وأما المشهور عن أحمد وهو تخيير الغلام بين أبويه فهو مذهب الشافعي وإسحاق بن راهوية، وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظهما ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما.
وعندهم أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث، وجمع بينهما في مسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة، وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في
موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.
وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا، لا عن أحمد ولا عن إسحاق، كما نقل عنهما التخيير في الغلام.
ولكن نقل عن الحسن بن حيَّ: أنها تخير إذا كانت كاعبا.
والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق للحديث الوارد في ذلك حيث خير النبي صلى الله عليه وسلم غلاما بين أبويه، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا، والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف مخالف لإجماعهم، والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة لا تخيير رأي ومصلحة كتخيير من يتصرف لغيره كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين ثم قد يصيب ذلك الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده، حاكما بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال:"ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم سعد بن معاذ" فرضوا بذلك وطمع من كان يحب استبقاءهم أن سعد يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة، فلما أتى سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر، وإن كان لا بد من إنفاذه.
ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه: "وإذا حاصرت أهل حصن، فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".
ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز إن كان رجلا مسلما حرا عدلا من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ للإسلام من قتل أو رق أو فداء، وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن فأباه الإمام هل يلزم حكمه، أو لا يلزم، أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال، وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ومصلحة بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه.
ولكن معنى قولنا: يخير أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة، وفعل هذا تارة، وقول الله تعالى في القرآن {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [4/47] يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تعين هذا في حال وهذا في حال، كما في قوله تعالى:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [52/9] فتربص أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عين علينا بعض الأوقات، فحينئذ يصيبهم الله بعذاب بأيدينا، كما في قوله:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [14-15/9] .
ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [33/5] لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير مشيئة فيفعل أي هذه الأربعة شاء؛ بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال.
ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، روي في ذلك حديث مرفوع، ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام كقول مالك فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل وإن لم يكن قد قتل.
ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيئا وجعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين، كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه.
فإنهم قالوا: إن رأى المصلحة في جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وإن رأى أن لا يقسمها جاز كما [لم] يقسم النبي صلى الله عليه وسلم مكة مع أنه فتحها عنوة كما شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة وكما قاله جمهور العلماء، ولأن خلافاءه بعده أبا بكر وعمر وعثمان فتحوا ما فتحوا من أرض المغرب والروم وفارس كالعراق والشام ومصر وخراسان ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين لا السواد ولا غير السواد،
بل جعلوا العقار فيئا للمسلمين داخلا في قوله {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ} [7/59] ، ولم يستأذنوا في ذلك
الغانمين، بل طلب أكابر الغانمين قسمة العقار فلم يجيبوهم إلى ذلك، كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير
أن يقسم أرض مصر فلم يجيبوهم إلى ذلك ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك، فضلا عن أن يستطيب أنفس جميع الغانمين.
وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيئا بنفس الفتح ومن نصر مذهبه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلة في الغنمية، فإن الله حرم على بني إسرائيل المغانم، وملكهم العقار، فعلم أنه ليس من المغانم، وهذا القول يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي، أنه يجب قسمة العقار والمنقول لأن الجميع مغنوم
وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة بل صلحا فلا يكون فيها حجة، ومن حكى عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة -كصاحب الوسيط وفروعه- فقد غلط عليه، وقال في السواد، لا أدري ما أقول فيه إلا أني أظن فيه ظنا مقرونا بعلم وظن: أن عمر استطاب أنفس الغانمين، لما روي من قصة المثني بن حارثة، وبسط هذا له موضع آخر.
وقول الجمهور أعدل الأقاويل وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوة ومشيئة، وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية كناظر الوقف ووصي اليتيم والوكيل المطلق لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب وتحري للأصلح كالرجل المبتلى بعدوين وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما فيبتدأ بما له نفع، وكالإمام في تولية من ولاه الحرب والحكم والمال يختار الأصلح فالأصلح، فمن ولى رجلا على عصابة وهو يجد فيهم من هو أرضى الله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين.
وهذا بخلاف من خير بين شيئين وله أن يفعل أيهما شاء: كالمكفر
إذا خير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول، وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل وإن كان أحدهما أفضل، وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره وإن كان أحدهما أفضل، وكذلك تخيير الأكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون الثلاثة، ويخير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور.
وأما من يقول لا يجوز أن يحج إلا متمتعا وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة فلا يجيء هذا على أصلهم، وكذلك القصر عند الجمهور الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين ليس له أن يصلي أربعا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين ولا أحد من أصحابه في حياته، وحديث عائشة التي تذكر فيه:«أنه -أو: أنها- صلت في حياته في السفر أربعًا» ، كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث كما قد بسط في موضعه.
إذ المقصود هنا: أن التخيير في الشرع نوعان
فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه أو بوكالة مطلقة لم يبح له فيها فعل ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح.
وأما من تصرف لنفسه فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء، بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر، وتارة يبيح له ما شاء من الأنواع التي خير بينهما كما تقدم، هذا إذا كان مكلفًا.
وأما الصبي المميز: فيخير تخيير شهوة حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال، فلم يمكن أن يعتبر (1) أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم، وأصبر في هذا الموضع فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.
ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال؟
وهذا فيه قولان للعلماء يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة والخالة ونحو ذلك، هذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد، وأرجح القولين في الحجة، وتقديم نساء العصبة فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره، وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من
الأصحاب.
وعلل ذلك من علله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم؛ فإن قرابتها فيها رحم وتعصيب، بخلاف قرابة الأم فإن فيها رحما بلا تعصيب، فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من
(1) لعله يتعين.
الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة، كما تقدم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال، بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وأن الحضانة لا تثبت إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم.
وعلى الوجه الثاني: فلا حضانة للرجال في أقارب الأم.
وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
فلو كانت جهة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح لرجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها.
وأيضا فمجموع أصول الشرع إنما تقدم أقارب الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من الأحكام فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة.
ولكن قدموا الأم لكونها امرأة وجنس النساء مقدمات في الحضانة على الرجال، وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد، كما قدمت الأم على الأب، وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله، هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.
وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول.
ولهذا كان من قال هذا في موضع يتناقض ولا يطرد أصله، ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من
هذا الجنس -فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب- كأحد القولين في
مذهب أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ثم يقدم الخالة على العمة كقول الشافعي في الجديد وطائفة من أصحاب أحمد، وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمات على العمات لكونهن من جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات من كانت لأبوين أولى، ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم.
وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرائب الأم ظهر التناقض، وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ولهذا قالوا في القول الآخر، إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب كقول الشافعي القديم، وهذا أطرد لأصلهم لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.
وطائفة أخرى طردت أصلها فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه حتى قدم الخالة على الأخت من الأب كقول زفر ورواية عن أبي حنيفة، وافقهم ابن سريج، ولكن أبو يوسف استتبع ذلك (1) فقدم الأخت للأب، ورواه عن أبي حنيفة.
وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم الأب، وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال، وحللتم الحرام، وكان يقول في القياس: قياس زفر أقبح من البول في المسجد، وزفر كان معروفًا بالإمعان في طرد قياسه، لكن الشأن في الأصل الذي
(1) كذا في الأصل، ولعله استبشع ذلك.
قاس عليه وفي علة الحكم في الأصل -وهو جواب- سؤال المطالبة -فمن أحكم هذا الأصل استقام قياسه، وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل التوقيت ويصح النكاح لازمًا، وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد، فكان مضمون هذا القول، إن نكاح المتعة يصح لازما غير مؤقت، وهو خلاف النصوص، وخلاف إجماع السلف والأمة إذا اختلفت في مسألة على قول (1) لم يكن لمن بعدهم أحداث قول يناقض القولين ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب، وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطل، أو يصح مؤجلا، فالقول بلزومه مطلقا خلاف الإجماع.
وسبب هذا القول: اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل وينعقد النكاح لازما بدون حصول غرض المشترط، فألزموه مالم يلتزمه ولا ألزمه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاح الشغار، ونحوه مما شرط فيه نفي المهر، وصححوا نكاح التحليل لازما مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك.
وقد ثبت في الصحيحين عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" فدل النص على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط فكيف بالشروط في النكاح؟
وأصل عمدتهم: كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
فقاسوا النكاح الذي شرط فيه نفي المهر على النكاح الذي ترك تقدير الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري
(1) كذا في الأصل ولعله: على قولين.
أصحاب أحمد، ثم طرد أبو حنيفة قياسه فصحح نكاح الشغار بناء على أن لا موجب لفساده إلا إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدًا.
وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بن الشغار وغيره بأن فيه تشريكا في البضع أو تعليقًا للعقد أو غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة، وأن الصواب مذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفساده هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد، فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول النكاح بلا مهر، فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن الله فيه فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بما له محصنا غير مسافح كما قال تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [24/4] فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله، وهذا بخلاف من اعتقد أنه لا بد من مهر لكن لم يقدره، كما قال تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} الآية [236-237/2] فهذا نكاح المهر المعروف وهو مهر المثل.
قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل وهو السعر أو الإجارة بثمن المثل لا يصح بخلاف النكاح.
وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في البيع، وأما في الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه، في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكراء، أو سكن في
خان أو حجرة جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة أو ركب دابة مكاري يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب الناس بالأجرة، فإن هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك، فهذه إجارة بأجرة المثل.
وكذلك لو ابتاع طعاما بمثل ما ينقطع به السعر أو بسعر ما يبيع الناس أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا القول الآخر، ففساد هذا العقود كقول الشافعي وغيره، وبسط هذه المسائل في مواضع آخر.
والمقصود هنا: كان مسائل الحضانة وأن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، بل الصواب بلا ريب أنها قدمت لكونها أنثى، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل، فتقدم الأم على الأب والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم، وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب فهذا لبسطه موضع آخر.
إذ المقصود هنا مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصيبة والصبي فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا كان تعيين الأب كما قال: مالك وأحمد في رواية والتخيير تخيير شهوة.
ولهذا قالوا: إذا اختار الأب مدة، ثم اختار الأم فله ذلك حتى.
قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إذا اختار ابتداء.
وهذا قول القائلين بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل.
وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلا، وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه.
هذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهده عندها وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.
قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارًا ولم يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل.
فأما البنت إذا خيرت -فكانت عند الأم تارة وعند الأب تارة- أفضى ذلك إلى كثرة بروزها وتبرجها وانتقالها من مكان إلى مكان، ولا يبقى الأب موكلا بحفظها ولا الأم موكلة بحفظها، وقد عرف بالعادة أن ما تناوب الناس على حفظه ضاع، ومن الأمثال السائرة، لا تصلح القدر بين طباختين.
وأيضا فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة فلا يبقى الأب تام الرغبة في حفظها ولا الأم تامة الرغبة في حفظها وليس الذكر كالأنثى، كما قالت امرأة عمران {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} إلى قوله:{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إلى قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا
مَرْيَمُ} [35-44/3] فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها حتى اقترعوا على كفالتها فكيف بمن سواها من النساء؟
وهذا أمر يعرف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكلما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها؛ ولهذا كان لباسها المشروع لباسا لها يسترها، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم:«من يلبس منهن لباس الرجال» ، وقال لأم سلمة في عصابتها:"لَيَّة لا لَيَّتَيْن" رواه أبو داود وغيره، وقال في الحديث الصحيح "صنفان من أمتي لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله".
وأيضا فأمرت المرأة في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها وفي الإحرام أن لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقى فوق الصفا والمروة، كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرها ومعرفتها فكيف إذا كانت صغيرة مميزة وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ وفي الحديث:"النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه".
فهذا مما يبين أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وترددها بين الأبوين، مما يخل بذلك من جهة: أنها هي التي لا يجتمع قلبها على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال حفظها وهو ذريعة إلى ظهورها وبروزها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين مطلقًا، ولا تمكن من تخيير، كما قال ذلك جمهور
المسلمين: مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم، وليس في تخييرها نص صريح ولا قياس صحيح.
والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لا سيما والذكر محبوب مرغوب فيه، فلو اختار أحدهما كانت محبة الآخر له تدعوه إلى مراعاته والبنت مزهود فيها فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه فكيف مع زهدها فيه؟ فالأصلح لها لزوم أحدهما لا التردد بينهما.
ثم هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما فمن عين الأم مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، لا بد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها، ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما، إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية، فللأب أخذها منها، وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعا، وقد عللوا ذلك بحاجتها إلى الحفظ والتزويج والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لا بد من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر، فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها أو يهمل حفظها لاشتغاله عنها أو لقلة دينه والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تقدم الأم في هذه الحال.
فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها واندفعت به مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن
لا يصونه والأم تصونه لم يلتفت إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصده الفجور ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر يذوده ويصلحه، ومتى كان كذلك فلا ريب أنه لا يمكن ممن يفسد معه حاله، ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه لا حضانة لفاسق، وكذلك قال الحسن بن حيي، وقال مالك: كل من له الحضانة من أب أو ذات رحم أو عصبة ليس له كفاية ولا موضعه بحرز، ولا يؤمن في نفسه فلا حضانة له، والحضانة لمن فيه ذلك وإن بعد، وينظر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز، فرب والد يضيع ولده، وكذلك قالوا، وهذا لفظ القاضي أبو يعلي في خلافه، إنما يكون التخيير بين أبوين مأمونين عليه يعلم أنه لا ضرر عليه من كونه عند واحد منهما، فأما من لا يقوم بأمره ويخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر لا يأمره كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر؛ لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص لله ورسوله فلا يقدم من يعصي الله فيه على من يطيع الله فيه بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله والآخر لا يفعل معه الواجب أو يفعل معه الحرام قدم من يفعل الواجب ولو اختار الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال. بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إما أن يرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب، فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين يحصل طاعة الله ورسوله في حقه، ومع حصوله عند الآخر لا يحصل له، قدم الأول قطعًا، وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم.
والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرا وعاجزا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لا بد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان، وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة وهو يتركها عند ضرة أمها لا تعلم مصلحتها بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها وأمها تعلم مصلحتها ولا تؤذيها فالحضانة هنا للأم قطعا ولو قدر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأم فكيف إذا لم يكن كذلك؟
ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام على تقديم أحد الأبوين مطلقا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر، لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل المحسن القائم بالواجب (1) .
وقد عللوا أيضا تقديم الأب بعلة ثانية، بأنها إذا صارت مميزة صارت ممن تخطب وتزوج واحتاجت إلى تجهيزها، فإذا كانت عند الأب كان أنظر لها وأحرص على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم.
وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة وسائر النساء؛ بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحق به مطلقا، لكن قال: الأم والجدة أحق من الأب فكلاهما قدم الأب وغيره من العصبة على النساء، لكن أحمد طرد القياس فقدمه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرق بين عمود النسب وغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"الخالة أم" فإذا قدم الأب على النساء اللائي يقدمن عليه في حال صغرها دل ذلك على أن الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء وتبين أن أصل هذا القول ليس من مفردات أحمد، بل هو طرد فيه قياسه.
(1) من هنا إلى آخر القاعدة غير موجود في المجموع ست صفحات وخمسا صفحة.
وبكل حال فهو قول قوي متوجه ليس بأضعف من غيره من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رجح الأم مطلقًا بأقوى
منه.
ومما يقوي هذا القول: إن الولد مطلقًا إذا تعين أن يكون في مدينة أحد الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنا في مصر والأم ساكنة في مصر آخر فالأب أحق به مطلقًا سواءً كان ذكرًا أو أنثى عند عامة العلماء كشريح القاضي وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إن الأب إذا أراد سفر نقلة لغير الضرار إلى مكان بعيد فهو أحق به؛ لأن كونه مع الأب أصلح له؛ لحفظ نسبه، وكمال تربيته، وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تضيع مصلحته، ولا يخير الغلام هنا عند أحدهما لا يخرج إلى الأحق، فالأب أيضا أحق لأن كونه عند الأب أصلح له، وهذا المعنى منتف في الابن لأنه يخير، ولأن تردد الابن بينهما لا مضرة عليه فيه بخلاف البنت.
واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادت أن تسافر بالذكر أو الأنثى من المصر الذي فيه عقد النكاح فالأب أحق به، فلم يرجح أحد منهم الأم مطلقا فدل على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى مخالف لهذا الأصل الذي اتفقوا عليه، وعلم أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذر الجمع بينهما، وهذا ثابت في الولد، وإن كان طفلاً يكون في بلد أبيه بخلاف ما إذا كان الأبوان في مصر واحد فههنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعا بين المصلحتين.
ومما يقويه أيضا: أن الغلام إذا بلغ معتوها كانت حضانته للأم كالصغير، وإن كان عاقلا كان أمره إلى نفسه يسكن حيث شاء إذا كان مأمونا على نفسه عند الأئمة الأربعة وغيرهم، فإن كان غير مأمون
على نفسه فلم يجعل أحد الولاية عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمة إليه
وتأديبه، والأب يمنعه من السفلة (1) .
وأما الجارية إذا بلغت فنقل عن مالك: الوالد أحق بضمها إليه حتى تزوج ويدخل بها الزوج، ثم هي أحق بنفسها وتسكن حيث شاءت إلا أن يخاف منها هوى أو ضيعة أو سوء موضع فيمنعها الأب بضمها إليه.
وقد تقدم في المدونة: أن الأم أحق بها ما لم تنكح وإن بلغت أربعين سنة، وكذلك قال أبو حنيفة في البكر قال: الأب أحق بها مأمونة كانت أو غير مأمونة، والبنت هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة، وقال الشافعي: هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة: بكرًا كانت أو ثيبًا.
وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في المحرر روايتين ووجهًا.
أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، وهذا هو الذي نصره القاضي وغيره في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت وكانت بكرًا فعليها أن تكون مع أبيها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، ولم يذكروا فيه نزاعًا.
والرواية الثانية: عن أحمد: تكون عند الأم، وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه على هذه الرواية نقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية، الأم والجدة أحق بالجارية ما لم تتزوج، فجعلهما أحق بها ما لم تتزوج في رواية مهنا، وقال في رواية ابن منصور، يقضي بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها، فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعد، وهذا يكون بالبلوغ.
(1) في الأصل: السلفة.
وأما القول الثالث في مذهبه: وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام فهذا يجيء على قول من يخيرها كما يخير الغلام، فمن خير الغلام قبل بلوغه كان بعد البلوغ أمره إلى نفسه كما قال الشافعي وأحمد وغيرهما، لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في محرره في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة وأحمد في رواية ومالكا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند الأب، وهذا يدل على أن الأب أحفظ لها وأصون وأنظر في مصلحتها، فإذا كان كذلك فلا فرق بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك.
فتبين أن هذا القول، وهو جعل البنت المميزة عند الأب، أرجح من غيره والله أعلم.
فصل
والتخيير جاء فيه حديثان، وأما تقديم الأم على الأب في حق الصغير فمتفق عليه، وقد جاءت فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعم مني، فقال:"أنت أحق به ما لم تنكحني" رواه أحمد وأبو داود، لكن في لفظه، وأن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم، على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى الأنصاري، والزهري، ومالك والثوري.
والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وبه نقول، وقد روينا عن أبي بكر الصديق: أنه حكم على عمر به، وبصبي لعاصم لأمه أم عاصم. وقال: حجرها وريحها ومسها خير له منك حتى يشب ويختار.
وأما التخيير فعن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلامًا بين أبيه وأمه» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، ورواه أبو داود وقال فيه:«إن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عتبة، وقد نفعني. فقال رسول الله: استهما عليه. قال زوجها: من يحاققني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به» ، ورواه النسائي كذلك، ولم يذكر:«استهما عليه» ، ورواه أحمد أيضًا لكنه قال فيه:«جاءت امرأة قد طلقها زوجها» ، ولم يذكر فيه قولها:«قد سقاني ونفعني» .
وقد روى تخيير الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة. فروى سعيد بن منصور، وغيره:«أن عمر بن الخطاب خير غلامًا بين أبيه وأمه» ، وعن عمارة الحريثي (1) أنه قال: خيرني عليٌّ بين عمي وأمي، وكنت ابن سبع أو ثمان، وروى نحو ذلك عن أبي هريرة، ولم يعرف لهم مخالف مع أنها في مظنة الاشتهار.
وأما الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده: «أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يبلغ. قال: فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب ههنا والأم ههنا ثم خيره، وقال: اللهم اهده. فذهب إلى أبيه» ، وهكذا رواه أحمد والنسائي، ورواه أبو داود عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان: «أنه
أسلم وأبتت امرأته أن تسلمَ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي وهي فطيم
(1) في الأصل: مهملة لا نقط فيها، فتحرر.
أو شيبة، وقال رافع: ابنتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقعد ناحية" وقال لها "اقعدي ناحية" واقعد الصبي بينهما ثم قال:"ادعواها" فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم اهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها.
وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم فقال ابن المنذر في إسناده مقال، وقال غيره هذا الحديث لا يثبته أهل النقل، وقد روي على غير هذا الوجه، وقد اضطرب فيه هل كان المخبر ذكرا أم أنثى ومن روى أنه أنثى قال فيه "إنها فطيم" أي مقطوعة وفعيل بمعنى مفعول إذا كان صفة يستوي فيه الذكر والمؤنث يقال: عين كحيل، وكف خضيب، فيقال للصغير، فطيم وللصغير، فطيم.
ولفظ "الفطيم" إنما يطلق على قريب العهد بالفطم فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يخير باتفاق العلماء.
وأيضا: فإنه خير بين مسلم وكافر وهذا لا يجوز بين مسلم وكافر كالشافعي وأحمد.
وأما القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يخيرون لكن أبو ثور يقول بالتخيير فيما حكاه عنه ابن المنذر، والجمهور على أنه لا حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوار وعبد الله بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الاصطخري من أصحاب الشافعي، وقد قيد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحق بولدها ما لم يعقل الأديان ويخاف أن يألف الكفر، والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلما باتفاقهم.
وكذلك إذا كانت الأم مسلمة عند الجمهور كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة فإنه يتبع عند الجمهور في الدين خيرهما دينا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو الرق يتبع الأم بالاتفاق،.
وحمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار الأب بدعائه، فكان ذلك خاصا في حقه.
وأيضًا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن الأب كان من الأنصار فأسلم والأم لم تسلم، وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار فلم يكن فيهن إلا مسلمة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار".
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا على الإسلام ولا ضرب الجزية على أحد، ولكن هادن اليهود مهادنة وأما الأنصار ففشى فيهم الإسلام وكان فيهم من لم يسلم، بل كان مظهرا لكفره فلم يكونوا ملتزمين لحكم الإٍسلام، وكذلك كان عبد الله بن أبي بن سلول وغيره قبل أن يظهروا الإسلام.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يعود سعد بن عبادة فمر بمجلس من الأنصار الحديث، ففي هذا الحديث وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير الإسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي صلى الله عليه وسلم إذا التزام حكمه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم يكن المشركون كذلك، فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن يهدي الصغير فاستجاب الله، ودعاؤه له أن يهديه: دليل على أنه كان طالبا مريدا لهداه، وهداه أن يكون عند المسلم، لا عند الكافر، لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه القبول، وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يجعل مع المسلم لا يجعل مع الكافر.
وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمون جريان حكم الله ورسوله عليهم يحكم بينهم بذلك، نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريان حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذ في تغليب الإسلام بالدعاء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان الاجتهاد في ظهور الإسلام دعاؤه واجبًا بحسب الإمكان.
وعلى هذا: فالحديث إن كان ثابتا دليل على التخيير في الجملة، لكن قد اختلف في المخير: هل كان صبيا أو صبية؟ فلم يتبين أحدهما، فلا يبقى فيه حجة على تخيير الأنثى، لا سيما والمخيرة كانت فطيمًا، وهذه لا تخير باتفاقهم، وإنما كان تخيير هذه إن صح الحديث من جنس آخر.
آخر ما وجد والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم وكتب في شهر ربيع الأول من شهور سنة أربع وستين وسبعمائة أحسن الله عاقبتها بمنة وكرمه، آمين يا رب العالمين.
وكتبها أضعف العباد عبد المنعم البغدادي الحنبلي عفا الله عنه بمنه وكرمه.
بلغ مقابلة بحوله ومنه، فصحح حسب الطاقة في ليلة صباحها خامس عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة الأربع والستين وسبع مائة أحسن الله عاقبتها بمنه وكرمه (1) .
(1) آخر قاعدة الحضانة الملحقة بمختصر الفتاوى المصرية (613-638) أصلها بدار الكتب الأزهرية رقم (182) خصوصي وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي في (26/ 3/ 76) وفيها زيادة على ما في الجموع وتصحيح لبعض أخطاء فيه كما تقدم.