الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب تعليق الطلاق بالشروط
قال أبو الحسن التميمي: سئلت عن رجل له أربع نسوة قال لواحدة منهن وهو مواجه لها: متى بدأت بطلاق منكن فعبدي حر، وقال للثانية: إن طلقتك فعبداي حران، وقال للثالثة: إن طلقتك فثلاث من عبيدي أحرار، وقال: إن طلقت الرابعة فأربعة من عبيدي أحرار، ثم طلقهن كم يعتق عليه؟ قال: فأجبت على ما حضر من الحساب أنه يعتق بطلاقهن عشرة أعبد.
قال أبو العباس: هذه المسألة لم تجتمع الصفات في عين واحدة، ولكن طلاق كل واحدة صفة على انفرادها، وهذا اللفظ إن كان طلقهن متفرقات فالمتوجه أن يعتق عشرة أعبد، كما قال الحسن، وإن طلقهن بكلمة واحدة توجه أن يعتق ثلاثة عشر عبدا.
وأصح الطرق في الاكتفاء ببعض الصفة إن كانت حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا فهي كاليمين، وإلا فهي علة محضة فلا بد من وجودها بكمالها (1) .
ولو علق الطلاق على صفات ثلاث فاجتمعن في عين واحدة، لا تطلق إلا طلقة واحدة، لأنه الأظهر في مراد الحالف، والعرف يقتضيه، إلا أن ينوي خلافه (2) .
يصح تعليق الطلاق مع تقدم الشرط، وكذا إن تأخر، وعنه يتنجز إن تأخر الشرط.
قال الشيخ تقي الدين: وتأخر القسم كأنت طالق لأفعلن كالشرط وأولى بأن لا يلحق.
(1) اختيارات (264، 265) ، ف (2/ 315) .
(2)
اختيارات (365) ، ف (2/ 314) .
وعنه: يتنجز إن تأخر الشرط. وعنه صحة قوله لزوجته، من تزوجت عليك فهي طالق.
وعنه: تطلق مع تيقن وجود الشرط قبل وجوده، وخص الشيخ تقي الدين هذه الرواية بالثلاث، لأنه الذي يضره كمتعة (1) .
وإن قال: عجلت ما علقته لم يتعجل، هذا المذهب لأنه علقه فلم يملك تغييره، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقيل: يتعجل إذا عجله وهو ظاهر بحث الشيخ تقي الدين فإنه قال: فيما قاله الجمهور نظر (2) .
ومن قال: فلانة كلما تزوجتها على مذهب مالك فهي طالق، فهذا التزام مذهب بعينه فلا يلزمه، بل له أن يقلد مذهبًا غيره (3) .
وبالواو: كأن قمت وقعدت، أو لا قمت وقعدت تطلق بوجودهما.
وعنه: أو أحدهما: كأن قمت، وإن قعدت، وكالأصح في لا قمت ولا قعدت، وذكره شيخنا في هذه اتفاقًا (4) .
ولو قال: كلما أكلت رمانة فأنت طالق، أو كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة طلقت ثلاثا بلا نزاع، ولو جعل مكان كلما إن أكلت لم تطلق إلا اثنتين وهو المذهب وعليه الأصحاب، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: لا تطلق إلا واحدة (5) .
(1) إنصاف (9/ 59) وانظر الفروع (5/ 424) ، ف (2/ 314) .
(2)
إنصاف (9/ 60) ، ف (2/ 314) .
(3)
فروع (5/ 432) ، ف (2/ 314) .
(4)
مختصر الفتاوى (436) ، ف (2/، 315) .
(5)
الإنصاف (9/ 64) ، ف (2/ 314) .
إذا علق الطلاق على شرط لزم وليس له إبطاله، وفي الانتصار والواضح، رواية بجواز فسخ العتق المعلق على شرط، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، لو قال إن أعطيتني أو إذا أعطيتني أو متى أعطيتني ألفًا فأنت طالق، أن الشرط ليس بلازم من جهته كالكتابة عنده، قال في الفروع ووافق الشيخ تقي الدين على شرط محض كإن قدم زيد فأنت طالق، قال الشيخ تقي الدين: التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، ثم إن كانت لازمة فلازم، وإلا فلا يلزم الخلع قبل القبول ولا الكتابة، وقال: قول من قال: التعليق لازم دعوى مجردة (1) .
الحلف بالطلاق
قال ابن القيم رحمه الله:
قال شيخ الإسلام: والقول بأنه يمين مكفرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق بل بطريق الأولى؛ فإنهم إذا أفتوا من قال: إن لم أفعل كذا فكل مملوك لي حر بأنه يمين تكفر فالحالف بالطلاق أولى.
قال: وقد علق القول به أبو ثور، فقال: إن لم تجمع الأمة على لزومه فهو يمين تكفر.
وقد بين أن الأمة لم تجمع على لزومه، وحكاه شيخ الإسلام عن جماعة من العلماء الذين سمت هممهم وشرفت نفوسهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض إلى أوج النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له
(1) الإنصاف (9/ 60، 61) ، ف (2/ 315) .
برد هذه الحجة قبل، وأما ما سواها فقد بين فساد جميع حججهم ونقضها أبلغ نقض، وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره من الأئمة زهاء أربعين دليلا، وصار إلى ربه وهو مقيم عليها، داع إليها، مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه وأوقاته لمستفتيه فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا، فتعطلت لفتاواه مصانع التحليل، وهدمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشعت سحائب اللعنة عن المحللين والمحلل لهم من المطلقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حبس تقليد المذهب المعين به من كُرمت عليه نفسه من المستبصرين، فقامت قيامة أعدائه وحساده ومن لا يتجاوز ذكر أكثرهم باب داره أو محلته، وهجنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين، فمن استخفوه من الطعام وأشباه الأنعام قالوا: هذا رفع الطلاق بين المسلمين، وكثر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنده مسكة عقل ولب قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلق بالشرط.
وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حل بيعة السلطان من أعناق الحالفين، ونسوا أنهم هم الذين حلوها بخلع اليمين؛ وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، فلا يحل لمسلم حل بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين، ولعمر الله لقد مني من هذا بما مني به سلف من الأئمة المرضيين، فما أشبه الليلة بالبارحة للناظرين.
ولا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي
يعلي -فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتي بها في الإسلام، ويحكم بها الحكام، فالاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها، إن لم ترجح، عليها والله المستعان وعليه التكلان (1) .
وقوله: وهو يهودي إن فعلت كذا، والطلاق يلزمني ونحوه، يمين باتفاق العقلاء والفقهاء والأمم (2)(3) .
وقال الشيخ تقي الدين فيمن قال: الطلاق يلزمه لأفعل كذا وكرره لم يقع أكثر من طلقة إذ لم ينو (4) .
تعليقه بالولادة
إذا قال: إن ولدت ذكرًا فأنت طالق واحدة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكرًا ثم أنثى طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به.
ونقل ابن منصور، هذا على نية الرجل إذا أراد بذلك تطليقه وإنما أراد ولادة واحدة، وأنكر قول سفيان أنه يقع عليها بالأول ما علق به وتبين بالثاني ولا تطلق به كما قاله الأصحاب، قال ابن رجب في القواعد: ورواية ابن منصور أصح، وهو المنصوص، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله، لأن الحالف إنما حلف على حمل واحد وولادة
واحدة، والغالب أن لا يكن إلا ولدًا واحدًا، لكنه لما كان ذكرًا مرة وأخرى أنثى نوع التعليق عليه، فإذا ولدت هذا الحمل ذكرًا وأنثى لم
(1) إعلام الموقعين (114-117) ، ف (2/ 315) .
(2)
إنصاف (9/ 22، 27) ، ف (2/ 315) ،.
(3)
اختيارات (264) ، ف (2/ 317) .
(4)
قلت: أما تعليقه بالحمل، فيأتي في جملة مسائل برقم الفهرس العام (2/ 320، 321) .
يقع به المعلق بالذكر والأنثى جميعًا، بل المعلق بأحدهما فقط؛ لأنه لم يقصد إلا إيقاع أحد الطلاقين، وإنما ردده لتردد المولود ذكرًا أو أنثى، وينبغي أن يقع أكثر الطلاقين إذا كان القصد تطليقها بهذا الوضع سواء كان ذكرًا أو أنثى لكنه أوقع بولادة أحدهما أكثر من الآخر فيقع به أكثر المعلقين اهـ (1) .
فولدت ذكرًا ثم أنثى، احترازًا مما إذا ولدتهما معا فإنها تطلق ثلاثًا والحالة هذه بلا نزاع أعلمه، غير الشيخ تقي الدين رحمه الله ومن تبعه (2) .
تعليقه بالطلاق
قال في المحرر: إذا قال: إذا طلقتك فأنت طالق أو فعبدي حر لم يحنث في يمينه إلا بتطليق ينجزه أو يعلقه بعدهما بشرط فيؤاخذ.
وقال أبو العباس: يتوجه إذا كان الطلاق المعلق قبل عقد هذه الصفة أو معها معلقًا بفعله ففعله باختياره أن يكون فعله له تعليقًا، وأن التطليق يفتقر إلى أن تكون الصفة من فعله أيضًا، فإذا علقه بفعل غيره ولم يأمره بالفعل لم يكن تطليقًا.
وإن حلف لا يطلق فجعل أمرها بيدها أو خيرها فطلقت نفسها، فالمتوجه أن تخرج على الروايتين في تنصيف الصداق.
وإن قلنا يتنصف جعلناه تطليقًا، وإن قلنا: يسقط لم نجعله تطليقا، وإنما هو تمكين من التطليق (3) .
(1) إنصاف (9/ 78، 79) ، ف (2/ 318)
(2)
إنصاف (9/ 80) ، ف (2/ 318) .
(3)
اختيارات (268) ، ف (2/319) .
تعليقه بالحلف
قال جماعة: اليمين المطلقة إنما تنصرف إلى الحلف بالله، قال أبو يعلى الصغير: ولهذا لو حلف فعلق طلاقًا بشرط أو صفة لم يحنث، وقال شيخنا: إن قصد اليمين حنث بلا نزاع أعلمه، قال: وكذا ما علق لقصد اليمين (1) .
إذا حلف بطلاقها ثم أعاده أو علقه بشرط وفي ذلك الشرط حث أو منع والأصح أو تصديق خبر أو تكذيبه سوى تعليقه بمشيئتها أو حيض أو طهر تطلق في الحال طلقة في مرة، ومن الأصحاب من لم يستثن غير هذه الثلاثة ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله، واختار العمل بعرف المتكلم وقصده في مسمى اليمين، وأنه موجب نصوص الإمام أحمد رحمه الله وأصوله (2) .
تعليقه بالكلام
وإن حلف على غيره ليكلمن فلانًا، ينبغي أن لا يبر إلا بالكلام الطيب، كالكلام بالمعروف ونحوه، دون السب ونحوه، فإن اليمين في جانب النفي أعم من اللفظ اللغوي، وفي جانب الإثبات أخص، كما قلنا فيمن حلف ليتزوجن ونظائره فإنه لا يبر إلا بكمال المسمى.
ولو علق الطلاق على كلام زيد فهل كتابته أو رسالته الحاضرة كالإشارة فيجيء فيها الوجهان، أو يحنث بكل حال؟
تردد فيه أبو العباس، قال: وأصل ذلك الوجهان في انعقاد النكاح بكتابة القادر على النطق.
(1) فروع (5/ 452) ، ف (2/ 319) وانظر في الحلف برقم الفهرس العام (2/ 406، 404، 315، 321) .
(2)
إنصاف (9/ 80) ، ف (2/ 319) .
وإذا قال: إن عصيت أمري فأنت طالق ثم أمرها بشيء أمرًا مطلقًا فخالفت حنث، وإن تركته ناسية أو جاهلة أو عاجزة ينبغي ألا يحنث، لأن الترك ليس عصيانا.
وإذا أمرها أمرا بين أنه ندب بأن يقول: آمرك بالخروج وأبيح لك القعود، فلا حنث عليه، لحمل اليمين في الأمر المطلق على مطلق الأمر والمندوب ليس مأمورًا به أمرًا مطلقًا، وإنما هو مأمور به أمرًا مفيدًا (1) .
تعليقه بالإذن
ولو قال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فهو على كل مرة، لأن خرجت فعل والفعل نكرة وهي في سياق الشرط تعم نحو قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [8/99] وكذا إذا قال: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، يقتضي تعليق المسمى على تحقق الشرط فهو على كل مرة تعطيه ألفًا وهذا المسمى موجود في جميع أفراده فيقع الطلاق به إذا وجد فلو أعطته ما ينقص عن ألف ثم أعطته الألف وقع الطلاق، لكن العموم تارة يكون على سبيل البدل، وهو العموم المطلق وهو الذي يقال فيه تعليق الطلاق، لا يقتضي التكرار، وتارة يكون على سبيل الجمع، وهو العموم على سبيل الاستغراق، وهو يقتضي التكرار في تعليق الطلاق، هذا الجواب هو الصواب.
وقيل: إنه إذا أذن لها في الخروج انحلت يمينه بناء على القول بأن النكرة في سياق النفي لا تعم إلا إذا أكدت بـ من تحقيقًا أو تقديرًا نحو قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ} [62/3] محتجًا بقول سيبويه
أنه يجوز أن يقول: ما رأيت رجلاً بل رجلين، وهذا إنما هو فرق بين
(1) اختيارات (268) ، ف (2/ 319) .
الصيغتين في الجواز فقط، فإن قوله: ما رأيت من رجل، إنما هو نص في الجنس، لأن حرف من للجنس وأما نحو: ما رأيت رجلا فهو ظاهر في الجنس يقتضي العموم، ويجوز أن يراد به مع القرينة نفي الجنس الواحد، فيجوز للمتكلم أن يريد بكلامه ذلك، كما يريد به سائر الاحتمالات المرجوحة.
فإذا قال: إن خرجت إلا بإذني، ونوي خروجا واحدا نفعه ذلك، وحملت يمينه عليه، ولو كان السبب يتقضي ذلك مثل أن تطلب منه الخروج إلى لقاء الحجاج فيقول: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فهو كما لو حلف لا يتغدى إذا دعي إلى غداء، ففيه قولان: هما وجهان في مذهب أحمد، الصواب أنه يقتصر على ذلك الغداء؛ لأن المفهوم من كلام الناس عرفًا، والفرق بينه وبين ألفاظ الشارع أن العبرة في كلام الشارع بعموم لفظه لا بخصوص سببه، ذلك لأن هناك تعارض قصد التخصيص وقصد التأسيس بالحكم فيرجح التأسيس، لأن كلام الشارع منصوب له وهو موجب اللفظ، وهنا لم يعرف أن غرض الحالف تأسيس المنع من الفعل، فسلمت دلالة التخصيص من معارض، فظهر أن قوله: إن خرجت بغير إذني، مثل قوله: إن خرجت إلا أن آذن لك، هذا خروج مقيد، وهذا خروج مطلق، كقوله: لا أتغدى أو لا أخرج، ومع ذلك فإن تطلق نكرة، وهذه الأفعال كلها للعموم عند الإطلاق، لأنها نكرة في سياق غير موجب فيحمل عليه إذا نواه، وكان مع السبب للخصوص على أصح القولين، وهذا ظاهر في قلوب الناس (1) .
وإن علق الطلاق على خروجها بغير إذن ثم أذن لها مرة فخرجت مرة أخرى بغير إذن طلقت، وهو مذهب أحمد؛ لأن خرجت فعل، والفعل نكرة، وهي في سياق الشرط تقتضي العموم.
(1) مختصر الفتاوى (543) ، ف (2/ 319) .
وإن أذن لها فقالت: لا أخرج، ثم خرجت الخروج المأذون لها فيه، قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة؟ ويتوجه فيه ألا يحنث، لأن امتناعها من الخروج لا يخرج الإذن عن أن يكون إذنًا؛ لكن هو إذا قالت: لا أخرج فلما اطمأن إلى أنها لا تخرج ولم تشعره بالخروج فقد خرجت بلا علم، والإذن علم وإباحة.
ويقال أيضًا: إنها إذا ردت الإذن عليه فهو بمنزلة قوله: أمرك بيدك إذا أردت ذلك، وأصل هذا أن هذا الباب نوعان: توكيل وإباحة، فإذا قال له: بع هذا، فقال: لا أبيع، أن النفي يرد القبول في الوصية، والموصي إليه لم يملكه بعد، وإذا أباحه شيئا فقال: لا أقبل، فهل له أخذه بعد ذلك؟ فيه نظر.
ويتوجه أن الإنشاء كالخبر في التكرار.
وظاهر كلام أبي العباس: إذا حلف ليقضينه حقه في وقت عينه فأبرأه قبله لا يحنث، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقول في مذهب أحمد وغيره (1) .
تعليقه بالمشيئة
قال أصحابنا: إذا قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء زيد لم يقع إلا بمشيئة زيد لهما إذا لم ينو غيره.
ويتوجه أن تعود المشيئة إليهما إما جميعًا وإما مطلقًا بحيث لو شاء أحدهما وقع ما شاء، وكذلك نظيرها في الخلع أنهما طلقتان.
ونظيره أن يقول: والله لا تؤمن (2) ولا آكل إن شاء الله تعالى فتبقى
(1) اختيارات (269، 270) ، ف (2/ 319) .
(2)
كذا في الأصل ولعله: لا أقومن.
على قياس قولهم أن يحنث بفعل الواحد، لأن التقدير إن شاء الله في الجميع المحلوف عليه فيحنث.
قال القاضي في الجامع: فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، فقد علق الطلاق بصفة هي عدم المشيئة فمتى لم يشأ وقع الطلاق لوجود شرطه وهو عدم المشيئة من جهته.
قال أبو العباس: والقياس أنها لا تطلق حتى تفوت المشيئة، إلا أن تكون نية أو قرينة تقتضي الفورية.
وإذا قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله أنه لا يقع به الطلاق عند أكثر العلماء، وإن قصد أنه يقع به الطلاق وقال: إن شاء الله تثبيتا لذلك وتأكيدا لإيقاعه وقع عند أكثر العلماء، ومن العلماء من قال: لا يقع مطلقا، ومنهم من قال: يقع مطلقا، وهذا التفصيل الذي ذكرناه هو الصواب.
وتعليق الطلاق إن كان تعليقا محضا ليس فيه تحقيق خبر، ولا حض على فعل كقوله: إن طلعت الشمس، فهذا يفيد فيه الاستثناء. ويتوجه أن تخرج على قول أصحابنا، هل هذا يمين أم لا؟
ومن هذا الباب توقيته بحادث يتعلق بالطلاق معه غرض كقوله: إن مات أبوك فأنت طالق، أو: إن مات أبي هذا فأنت طالق ونحو هذا.
وقياس المذهب أن الاستثناء لا يؤثر في مثل هذا؛ فإنه لا يحلف عليه بالله، والطلاق فرع اليمين بالله.
وإن كان المحلوف عليه أو الشرط خبرا عن مستقبل لا طلبا كقوله ليقدمن الحاج أو السلطان فهو كاليمين ينفع فيه الاستثناء.
وإن كان الشرط أمرا عدميا كقوله: إن لم أفعل كذا فأنت طالق إن شاء الله تعالى فينبغي أن يكون كالثبوت كما في اليمين بالله.
ويفيد الاستثناء في النذر كما في قوله: لا تصدقن إن شاء الله، لأنه يمين.
ويفيد الاستثناء في الحرام والظهار، وهو المنصوص عن أحمد فيهما.
وللعلماء في الاستثناء النافع قولان:
أحدهما: لا ينفعه حتى ينوية قبل فراغه من المستثنى منه، وهو قول الشافعي والقاضي أبي يعلى ومن تبعه.
والثاني: ينفعه وإن لم يرده إلا بعد الفراغ حتى لو قال له بعض الحاضرين، قل إن شاء الله، فقال: إن شاء الله، نفعه، وهذا هو مذهب أحمد الذي يدل عليه كلامه، وعليه متقدمو أصحابه، واختيار أبي محمد وغيره، وهو مذهب مالك، وهو الصواب.
ولا يعتبر مقارنة قصد الاستثناء، فلو سبق على لسانه عادة أو أتى به تبركا رفع حكم اليمين.
وكذلك قوله: إذا أراد الله، وقصد بالإرادة مشيئة الله، لا محبته وأمره.
ومن شك في الاستثناء وكان من عادته الاستثناء فهو كما لو علم أنه استثنى كالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييز ولا تجلس أقل الحيض، والأصل وجوب العبادة في ذمتها (1) .
ومن حلف بالطلاق فقيل له: استثن فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه، بخلاف الذي أوقع الطلاق، وقال: إن شاء الله، فإن ذلك لا
يرفعه سواء كان نوى الاستثناء قبل فراغه من اليمين أو بعده، هذا هو
(1) اختيارات (266-268) فيه زيادات كثيرة ف (2/319) .
الصحيح الذي دل عليه كلام الإمام أحمد وكثير من السلف وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفه صلى الله عليه وسلم وقوله: (لأغرون قريشا) ولم يغزها، وحلف سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه، وقوله للعباس:(إلا الإذخر) واستثناء سهيل بن بيضاء وغيره تدل على أن اليمين تنحل بالاستثناء المقارن لليمين (1) .
حكي عن أبي بكر رحمه الله أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق، وقال الشيخ تقي الدين: قول أبي بكر رواية منصوصة عن الإمام أحمد رحمه الله ولكن أكثر أجوبته كقول الجمهور (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: إذا استحلف على شيء فأحب أن يحلف ولا يحنث فالحيلة أن يحرك لسانه بقول: إن شاء الله، وهل يشترط أن يسمعها نفسه؟ فقيل: لا بد أن يسمع نفسه.
وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه، بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلما وإن لم يسمع نفسه وهكذا حكم الأقوال الواجبة (3) .
وإذا حلف على يمين وكان من عادته أن لا يحلف إلا ويستثنى فحلف يمينا وشك بعد مدة هل جري على عادته في الاستثناء أم لا؟ فالأظهر من قول العلماء إجراؤه على عادته وإلحاق الفرد بالأعم الأغلب (4) .
وإذا حلف فقال له رجل قال: إن شاء الله، فقال: حلفت ومضى، فقال مرة ثانية: قل إن شاء الله، فقالها، ففيه نزاع مشهور في مذهب أحمد وغيره، في الصحيح، مثل هذا الاستثناء كما ثبت في حديث
(1) مختصر الفتاوى (547) ف (2/320) .
(2)
إنصاف (9/ 28) ، ف (2/ 320) .
(3)
إعلام الموقعين (3/ 382) ، ف (2/ 320) .
(4)
مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) .
سليمان عليه السلام أنه قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل، فلو قالها لقاتلوا جميعًا في سبيل الله فرسانا أجمعين، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في المدينة: "لا يختلي خلاها" فقال له العباس: إلا الإذخر، فقال: "إلا الإذخر" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينقلبن أحد إلا بضرب عنق" فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خفت أن الحجارة تنزل علي من السماء ثم قال: "إلا سهيل بن بيضاء" وقال صلى الله عليه وسلم "
والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا" ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله ثم لم يغزهم".
وفي القرآن جمل قد بين فصل أبعاضها بكلام آخر كقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [72-73/3] ففصل بين الكلام المحكي عن أهل الكتاب، وله نظائر، والله أعلم (1) .
يعتبر للاستثناء والشرط ونحوهما اتصال معتاد لفظا وحكما كانقطاعه بتنفس ونحوه، ويعتبر أيضًا نيته قبل تكميل ما ألحقه به، وقيل: يصح بعد تكميل ما ألحقه به واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: دل عليه كلام الإمام أحمد، وعليه متقدمو أصحابه، وقال: لا يضر فصل يسير بالنية وبالاستثناء اهـ (2) .
(1) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) .
(2)
إنصاف (9/ 34، 35) زيادة إيضاح ف (2/ 320) .
وإذا حلف بالطلاق الثلاث لا يكسن هذه الدار، وقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه إذا سكن فيها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من مذهبه، وقول في مذهب مالك إذا قال: إن شاء الله على الوجه المعتبر (1) .
فصل
قال أبو العباس: تأملت نصوص كلام الإمام أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري أبار فيها أم حانث حتى يستيقن أنه بار، فإن لم يعلم أنه بار في وقت وشك في وقت اعتزالها وقت الشك، نص على فروع هذا الأصل في مواضع.
إذا قال لامرأته، إن كنت حاملا فأنت طالق، فإنه نص على أنه يعتزلها حتى يتبين أنها ليست بحامل، ولم يذكر القاضي خلافا في أنه يمنع من وطئها قبل الاستبراء إن كان قد وطئها قبل اليمين.
وتلخص من كلام القاضي: أنها إذا لم تحض ولم يظهر بها حمل فهل يحكم ببراءة الرحم بحيث يجوز وطئها، ويتبين أن الطلاق لم يقع بمضي تسعة أشهر أو ثلاثة أشهر؟ على وجهين، وهذا إنما هو في حق من تحيض أو تحمل، وأما الآيسة والصغيرة فإن الواجب أن تستبرأ بمثل الحيضة، وهو ثلاثة أشهر، أو شهر واحد على ما فيه من الخلاف.
أو يقال يجوز وطء هذه قبل الاستبراء إلا أن تكون حاملا، هذا هو الصواب.
وكل موضع يكون الشرط فيه أمرا عدميا يتبين فيما بعد مثل أن
(1) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) .
يقول: إن لم يقدم زيد أو إن لم يقدم في هذا الشهر ونحو ذلك فلا يجوز الوطء حتى يتبين.
ومنها: إذا وكل وكيلا في طلاق زوجته فإنه يعتزلها حتى يدري ما فعل، وحمله القاضي على الاستحباب، والوجوب متوجه.
ومنها: إذا قال: أنت طالق ليلة القدر، فإنه يعتزلها إذا دخل العشر الأواخر، لإمكان أن تكون ليلة القدر أول ليلة، وحمله القاضي على المنع.
ومنها: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر، فإنه يعتزلها أبدا، وحمله القاضي على الاستحباب.
ومنها: مسألة إن كان هذا الطائر غرابا فامرأتي طالق ثلاثا، وقال آخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق ثلاثا، وطار ولم يعلم ما هو، فإنهما يعتزلان نساءهما حتى يتيقنا، وحمله القاضي على الاستحباب.
وما كان من هذه الشروط مما يئسا من استبانته ففيه مع العلم بوقوعه.
ذكر القاضي في مسألة الطائر أن ظاهر كلام أحمد الحنث، وتعليل القاضي في مسألة إن شاء الله صريح في ذلك، فإنه جعل الشرط الذي لا يعلم بمنزلة عدم الاشتراط، وهذا ظاهر في قول أحمد: أنت طالق إن شاء فلان فلو لم يشأ تطلق، لأن مشيئة العباد ومشيئة الله لا تدرك، هي مغيبة عنه، فإن هذا يقتضي أن كل شرط مغيب لا يدرك يقع الطلاق المعلق به.
وعلى هذا من حلف ليدخلن الجنة يحنث، لأنه مغيب لا يدرك.
لكن كلام الإمام أحمد في أكثر المواضع إنما فيه الأمر بالاعتزال فقط، وهذا فقه حسن، فإن الحلف بالطلاق محمول على الحلف بالله.
ولو حلف بالله على أمر وهو لا يعلم أنه صادق في يمينه كان آثما بذلك وإن لم يتيقن أنه كاذب فكذلك يمين الطلاق وأشد.
وقد نص على أنه إذا شك هل تطلق، أم لا؟ أنه لا يقع به الطلاق، ولم يتعرض للاعتزال، فينظر هل يؤمر بالاعتزال هنا، أم يفرق بأن هذا لم يحلف يمينا فهو بمنزلة من شك هل حلف أم لا؟.
قال في المحرر: وتمام التورع في الشك قطعه برجعة، أو عقد إن أمكن وإلا ففرقة متيقنة بأن يقول: إن لم تكن طلقت فهي طالق.
وقال القاضي: أما في الورع فإن كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنما يطلق واحدة لاعتقاده أن الزيادة عليها بدعة: ألزم نفسه طلقة ثم راجعها فإن كان الطلاق قد وجد فقد راجع، وإن لم يكن قد وجد فما ضره، وإن كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنما يطلق ثلاثا: ألزم نفسه ثلاثا، ومعناه أن يوقع عدد الطلقات الثلاث فتحل لغيره من الأزواج ظاهرًا وباطنًا.
قال أبو العباس: ومما يدل على أنه متى وقع الشك في وقوع الطلاق فالأولى استبقاء النكاح؛ بل يكره أو يحرم إيقاعه لأجل الشك، أن الطلاق بغيض إلى الرحمن، حبيب إلى الشيطان ويدل عليه قصة هاروت وماروت.
وأيضا: فإن النكاح دوامه آكد من ابتدائه كالصلاة، وإذا شك في الصلاة أحدث، أم لا؟ لم يستحب له أن ينصرف منها بالشك بنص الحديث، لما فيه من إبطال الصلاة بالشك، فكذلك إبطال النكاح بالشك؛ بل الصلاة إذا أبطلها أمكن ابتداؤها بخلاف النكاح (1) .
واختار شيخنا العمل بعرف المتكلم وقصده في مسمى اليمين وأنه
(1) اختيارات (259-261) ، ف (2/ 321) إلى (323) .