الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب القضاء
والواجب اتخاذ ولاية القضاء دينا وقربة، فإنها من أفضل القربات، وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه (1) .
والولاية لها ركنان، القوة والأمانة، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم والعدل في تنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى (2) .
وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا (3) .
وأما سؤال الولاية فقد ذمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأما سؤال يوسف قوله:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [55/12] فلأنه كان طريقا إلى أن يدعوهم إلى الله، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير ما لم يكونوا يفعلوه، مع أنهم لم يكونوا يعرفون حاله، وقد علم بتأويل الرؤيا ما يئول إليه حال الناس، ففي هذه الأحوال ونحوها ما يوجب الفرق بين مثل هذه الحال وبين ما نهى عنه.
وأيضا: فليست هذه إمارة محضة إنما هي أمانة، وقد يقال: هذا شرع من قبلنا.
(1) اختيارات (332) ، ف (2/ 414) .
(2)
اختيارات (332) ، ف (2/ 414) .
(3)
فروع (6/ 423) واختيارات (332) ، ف (2/ 414) .
وقد تنازع العلماء في سؤال الإنسان القضاء ونحوه، فقال أكثرهم: يكره وإن كان صالحا له، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقال بعضهم، ينبغي أن يسأل إذا كان متعينا له، وربما قيل: إذا كانت ولايته أفضل له، وأما الإمام فينبغي ألا يولي من سأل الولاية إذا أمكن أن يولي المستحق بغير سؤال.
ونهيه لأبي ذر عن تولي الحكم وترك الولاية على مال اليتيم لما رآه ضعيفا لا أنه نهاه مطلقا (1) .
ومن باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية وأصر على ذلك عاملا بالجهل والظلم فهو فاسق، ولا يجوز أن يولى خطبة ولا تنفذ أحكامه ولا عقوده كما تنفذ أحكام العالم العادل؛ بل من العلماء من يردها كلها، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وأحمد، ومن العلماء من ينفذ ما وافق الحق لمسيس الحاجة، ولما يلحق الناس من الضرر، والحق يجب اتباعه سواء قام به البر والفاجر، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة ومالك وطائفة من أصحاب أحمد وهو الراجح (2) .
ويشترط في القاضي أن يكون ورعا.
والحاكم فيه ثلاث صفات، فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفتي، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان.
وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد، لأنه لا بد أن يحكم بعدل، ولا يجوز الاستفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل.
وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان.
(1) مختصر الفتاوى (564) ، ف (2/ 416) .
(2)
مختصر الفتاوى (353) ، ف (2/ 416) .
ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد، وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيها قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم.
ومن أكثر من سبر أهل العلم من المتوسطين (1) إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام: ترجح عنده أحدهما: لكن قد لا يثق بنظره يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه فالواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده، والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين، وعلم الناس (2) بترجيح قول على قول أيسر من علم أحدهم بأن أحدهما أعلم وأدين، لأن الحق واحد ولا بد.
ويجب أن ينصب الله على الحق دليلا.
وأدلة الأحكام من الكتب والسنة والإجماع وما تكلم الصحابة والعلماء به إلى اليوم بقصد حسن؛ بخلاف الإمامية.
وقال أبو العباس: النبيه إذا سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة عنده ما يعرف به رجحان القول.
وليس لحاكم وغيره أن يبتدأ الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ وإلزامهم برأيه واعتقاده اتفاقا، ولو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف (3) .
(1) وعبارة الفروع: وأكثر من تميز في العلم من المتوسطين.
(2)
عبارة الفروع وعلم أكثر الناس.
(3)
اختيارات (332، 333) فروع (6/ 425) ، ف (2/ 416) .
قال شيخنا: قال بعض العلماء: إذا لم يوجد إلا فاسق عالم أو جاهل دين قدم ما الحاجة إليه أكثر إذن (1) .
قال في المحرر وغيره: ويشترط في القاضي عشر صفات.
قال أبو العباس: إنما اشترطت هذه الصفات فيمن يولى، لا فيمن يحكمه الخصمان.
وذكر القاضي: أن الأعمى لا يجوز قضاؤه، وذكر محل وفاق، قال: وعلى أنه لا يمتنع أن يقول إذا تحاكما إليه ورضيا به جاز حكمه.
قال أبو العباس: هذا الوجه قياس المذهب، كما يجوز شهادة الأعمى؛ إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم، ويتوجه أن يصح مطلقا ويعرف بأعيان الشهود والخصوم، كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة؛ إذ معرفة كلامه وعينه سواء، وكما يجوز أن يقضي على غائب باسمه ونسبه.
وأصحابنا قاسوا شهادة الأعمى على الشهادة على الغائب والميت، وأكثر ما في الموضعين عند الرؤية والحكم لا يفتقر إلى الرؤية، بل هذا في الحاكم أوسع منه في الشاهد، بدليل الترجمة، والتعريف بالحكم دون الشهادة، وما به يحكم أوسع مما به يشهد.
ولا تشترط الحرية في الحاكم، واختاره أبو الخطاب وابن عقيل.
قال القاضي في التعليق: وعلى أن الحدود تدخل في ولاية القضاء فمن لا يصلح لبعض ما تضمنته الولاية لا يصلح لشيء منها، ولا تنعقد الولاية له.
قال أبو العباس: وكلام أحمد في تزويج الدهقان وتزويج الوالي صاحب الحسير يخالف هذا (2) .
(1) فروع (6/ 424) ، ف (2/ 416) .
(2)
اختيارات (335، 336) ، ف (2/ 416) .
وولاية القضاء يجوز تبعيضها ولا يجب أن يكون عالما بما في ولايته، فإن منصب الاجتهاد ينقسم، حتى لو ولاه في المواريث لم يجب أن يعرف إلا الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك.
وإن ولاه عقد الأنكحة وفسخها لم يجب أن يعرف إلا ذلك.
وعلى هذا فقضاة الأطراف يجوز أن لا يقضوا في الأمور الكبار والدماء والقضايا المشكلة.
وعلى هذا فلو قال: اقض فيما تعلم، كما يقول له، أفت فيما تعلم جاز، ويبقى ما لا يعلم خارجا عن ولايته، كما يقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار، وفي الحكمين في جزاء الصيد (1) .
وقال شيخنا: ما يستفيده بالولاية لا حد له شرعا، بل يتلقى من اللفظ والأحوال والعرف (2) .
قال في المحرر: ويجوز أن يولي قاضيين في بلد واحد، وقيل: إن ولاهما فيه عملا واحدا لم يجز.
قال أبو العباس: تولية قاضيين في بلد واحد: إما أن يكون على سبيل الاجتماع بحيث ليس لأحدهما الانفراد كالوصيين والوكيلين وإما على طريق الانفراد، أما الأول فليس هو مسألة الكتاب ولا مانع منه إذا كان فوقهما من يرد مواضع تنازعهما، وأما الثاني فهو مسألة الكتاب.
وتثبت ولاية القضاء بالأخبار، وقصة ولاية عمر بن عبد العزيز هكذا كانت (3) .
(1) اختيارات (336) ، ف (2/ 416) .
(2)
فروع (6/ 420) ، ف (2/ 416) .
(3)
اختيارات (334، 335) ، ف (2/ 416) .
والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي بالقول والفعل، والولاية نوع منها.
قال القاضي في التعليق: إذا استأذن امرأة في تزويجها وهي في غير عمله فزوجها في عمله لم يصح العقد، لأن إذنها يتعلق بالحكم، وحكمه في غير محله لا ينفذ.
فإن قلت: إذا حصلت في عمله فقد أذنت له، فزوجها في عمله: صح؛ بناء على جواز تعليق الوكالة بالشرط.
ومن شرط جواز العقد عليها، أن تكون في عمله حين العقد عليها، فإن كانت في غير عمله لم يصح عقده؛ لأنه حكم على من ليس في عمله.
قال أبو العباس: لا فرق بين أن تقول: زوجني إذا صرت في عملك أو إذا صرت في عملك فزوجني، لأن تقييد الوكالة أحسن حالا من تعليقها، نعم لو قالت: زوجني الآن أو فهم ذلك من إذنها فهنا أذنت لغير قاض، وهذا هو مقصود القاضي (1) .
ولا يجوز التقليد في معرفة الحكم اتفاقا، وقبله لا يجوز على المشهور إلا أن يضيق الوقت ففيه وجهان، فإن عجز عن معرفة الحق بتعارض الأدلة ففيه وجهان، فهذه أربع مسائل.
والعجز قد يعني به العجز الحقيقي، وقد يعني به المشقة العظيمة، والصحيح الجواز في هذين الموضعين (2) .
وإذا استناب الحاكم في الحكم من غير مذهبه، إن كان لكونه أرجح فقد أحسن وإلا لم تجز الاستنابة (3) .
(1) اختيارات (334) ، ف (2/ 416) .
(2)
اختيارات (334) ، ف (2/ 417) .
(3)
اختيارات (335) ، ف (2/ 417) .
والقضاة ثلاثة: من يصلح، ومن لا يصلح، والمجهول.
فلا يرد من أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل، ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلا ما علم أنه حق.
واختار صاحب المغني وغيره: إن كانت توليته ابتداء.
وأما المجهول فينظر فيمن ولاه، فإن كان لا يولي إلا الصالح جعل صالحا، وإن كان يولي هذا تارة وهذا تارة نفذ ما كان حقا، ورد الباطل، والباقي موقوف.
وبين من يصلح ومن لا يصلح إذا للضرورة ففيه مسألتان:
إحداهما: على القول بأن من لا يصلح تنقض جميع أحكامه هل ترد أحكام هذا كلها، أم يرد ما لم يكن صوابا؟ والثاني المختار، لأنها ولاية شرعية.
والثانية: هل تنفذ المجتهدات من أحكامه، أم يتعقبها العالم العادل؟ هذا فيه نظر (1) .
وحديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن الذي قال فيه: "فإذا لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: حكمت برأيي" طعن فيه جماعة، وروي في مسانيد ورواه أبو داود، واستدل به طوائف من الفقهاء، وأهل الأصول في كتبهم، وروي من طرق.
وبكل حال يجوز اجتهاد الرأي للقاضي والمفتي إذا لم يجد في الحادثة نصا من الكتاب أو السنة كقول جماهير السلف وأئمة الفقهاء كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم، واستدلوا على ذلك بدلائل مثل كتاب عمر لأبي موسى
(1) اختيارات (337) وانظر الإنصاف (11/ 225) ، ف (2/ 417) .
الأشعري، وفيه اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك.
وقد تكون تلك الحكومة في الكتاب والسنة على وجه خفي لم يدركه، أو تكون مركبة من مقدمتين من الكتاب والسنة لكنه لم يتفطن لذلك فيجوز له أن يجتهد برأيه حينئذ لكونه لم يجد تلك الحكومة في الكتاب ولا في السنة وإن كانت فيهما ثم قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [43/4] فقد يكون الماء تحت الأرض وهو لا يعرف، وكذلك قوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [92/4] وقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [286/2] .
والقياس الذي يسوغ مثل: أن يرد القضية إلى نظيرها الثابت بالكتاب والسنة.
أو لم يفهم علة الحكم التي حكم الشارع لأجلها ويجدها في الصورة التي في النص، وهذا من قياس التعليل، والأول قياس التمثيل.
وليس له أن يحكم بما شاء ومن جوز ذلك فهو كافر باتفاق المسلمين، وليس هذا مختصا بمعاذ (1) .
ونص الإمام أحمد على أن للقاضي أن يستخلف من غير إذن الإمام فرقا بينه وبين الوكيل، وجعلا له كالوصي (2) .
قال في المحرر: وفي العزل حيث قلنا به قبل العلم، وجهان كالوكيل؛ لأن الحق في الولاية لله، وإن قلنا: هو وكيل والنسخ في حقوق الله لا يثبت قبل العلم، كما قلنا في المشهور، إن نسخ الحكم لا يثبت في حق من لم يبلغه، وفرقوا بينه وبين الوكيل بأن أكثر ما في الوكيل ثبوت الضمان، وذلك لا ينافي الجهل بخلاف الحكم فإن فيه
(1) مختصر الفتاوى (554) ، ف (2/ 417) .
(2)
اختيارات (337) ، ف (2/ 317) .