الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإفتاء
(1)
قال ابن القيم رحمه الله: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول:"يا معلم إبراهيم علمني" ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته وقد رآه يبكي، فقال: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما.
اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: جاءني بعض الفقهاء من الحنيفة فقال: أستشيرك في أمرك، قلت: ما هو؟ قال:
(1) وتقدم في المجلد الثاني من أصول الفقهاء كثير مما يتعلق بالإفتاء والمستفتين فلينظر هذا ويرجع إلى هذا فهو مستوفى هناك.
(2)
إعلام الموقعين (4/257) ، ف (2/ 410) .
أريد أن انتقل عن مذهبي، قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرا تخالفه، واستشرت في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي، فقال لي: لو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب، ورجوعك غير مفيد، وأشار علي بعض أصحاب التصوف بالافتقار إلى الله والتضرع إليه، وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه فماذا تشير به أنت علي؟ قال: فقلت له: اجعل المذهب ثلاثة أقسام: قسم الحق فيه ظاهر بين موافق للكتاب والسنة فاقض به، وافت به طيب النفس، منشرح الصدر وقسم مرجوح ومخالفه مع الدليل، فلا تفت به، ولا تحكم به، وادفعه عنك، وقسم من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإن شئت أن تدفعه عنك، فقال: جزاك الله خيرا، أو كما قال (1) .
قال ابن القيم رحمه الله في دلالة العالم للمستفتي على غيره: وهو موضع خطر جدا، فلينظر الرجل ما يحدث من ذلك فإنه متسبب بدلالته إما إلى الكذب على الله ورسوله في أحكامه، أو القول عليه بغير علم فهو معين على الإثم والعدوان، وإما معين على البر والتقوى، فلينظر الإنسان إلى من يدل عليه وليتق الله ربه.
فكان شيخنا قدس الله روحه شديد التجنب لذلك، ودللت مرة بحضرته على مفت أو مذهب فانتهزني وقال: ما لك وله؟ دعه، ففهمت من كلامه أنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم ولمن أفتاه (2) .
وسمعت شيخنا رحمه الله تعالى يقول: حضرت عقد مجلس عند نائب السلطان في وقف أفتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين فقرأ
(1) إعلام الموقعين (4/ 236) ، ف (2/ 410) .
(2)
إعلام الموقعين (4/ 207) ، ف (2/ 410) .
جوابه الموافق للحق، فأخرج بعض الحاضرين جوابه الأول، وقال: هذا جوابك بضد هذا، فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم، فقلت: هذا من علمه ودينه أفتى أولاً بشيء ثم تبين له الصواب فرجع إليه، كما يفتي إمامه بقول ثم يتبين له خلافه فيرجع إليه، ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة، فسر القاضي بذلك وسري عنه (1) .
وقال شيخنا مرة: أنا مخير بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لا يستفتون للدين بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إلي، بخلاف من سأل عن دينه، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حق من جاءه يتحاكم إليه لأجل غرضه لا لالتزامه لدينه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [42/5] فهؤلاء لما لم يلتزموا لدينه لم يلزمه الحكم بينهم والله تعالى أعلم (2) .
وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر. فقلت له: ما هذه الحكومة؟ قال: هذا حكم الله فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم الله، أو نحو هذا من الكلام (3) .
قال ابن القيم رحمه الله: من أفتى الناس وليس بأهل الفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا، وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي
(1) زاد المعاد (4/ 232، 233) ، ف (2/ 410) .
(2)
إعلام الموقعين (4/ 259) ، ف (2/ 410) .
(3)
إعلام الموقعين (4/ 176) ، ف (2/ 410) .
بعض هؤلاء: أجعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى، فيكتب، يجوز كذا، أو يصح كذا، أو ينعقد بشرطه فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه فإما أن تبين شرطه وإما ألا تكتب ذلك.
وسمعت شيخنا يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط؛ فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها، يجوز بشرطه، أو يصح بشرطه أو يقبل بشرطه، ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم ولا يفيد فائدة أصلا سوى حيرة السائل وتنكدة (2)(3) .
قال ابن القيم رحمه الله: ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع، ولا يجوز له إذا كان في المسألة قولان: قول بالجواز، وقول بالمنع أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع.
وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه: يكون عندهم في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل (4) .
وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله شيخنا على الحاجة (5) .
(1) إعلام الموقعين (4/ 217) ، ف (2/ 410) .
(2)
وفي نسخة وتبلده.
(3)
إعلام الموقعين (4/ 178) ، ف (2/ 410) .
(4)
إعلام الموقعين (4/ 211) ، ف (2/ 410) .
(5)
فروع (6/ 422) ، ف (2/ 411) .
ويقلد العامي من ظنه عالما، فإن جهل عدالته فوجهان، وميتا في الأصح، والعامي يخبر فقط، فيقول: مذهب فلان كذا، ذكره ابن عقيل وغيره، وكذا قال شيخنا: الناظر المجرد يكون حاكيا لما رآه، لا مفتيا (1) .
وله رد الفتيا إذا كان بالبلد قائم مقامه، وإلا لم يجز، وإن كان معروفا عند العامة بالفتيا وهو جاهل تعين الجواب على العالم، وقال شيخنا: الأظهر لا يجب في التي قبلها (2) .
فائدة: يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعًا، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعًا، ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له أو عليه إجماعًا، قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله (3) .
(1) فروع (6/ 428) ، ف (2/ 411) .
(2)
فروع (6/ 433) وإنصاف (11/ 190)، ف (2/ 411) وعبارة الإنصاف: الأظهر لا يجوز في التي قبلها.
(3)
إنصاف (11/ 179) ، ف (2/ 411) ويأتي هذا في القضاء أيضا.