الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر فتح مصر لابن عبد الحكم وغيره
قال المؤلف: أخبرنا حافظ العصر قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي مشافهة عن أبي هريرة بن الذهبي قال:
أخبرنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي روى خليفة عن غير واحد: «أن في سنة عشرين كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر، فسار وبعث عمر الزبير بن العوام مردفاً له ومعه بسر بن أبى «1» أرطاة وعمير بن وهب الجمحي وخارجة بن حذافة العدوي حتى أتى بابليون «2» ، فحصنوا، فافتتحها عنوة وصالحه أهل الحصن؛ وكان الزبير أول من ارتقى سور المدينة ثم تبعه الناس، فكلم الزبير عمرًا أن يقسمها بين من افتتحها، فكتب عمرو إلى عمر بذلك ثم رقي إلى المنبر وقال:«لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد، إن شئت قتلت، وإن شئت بعت، وإن شئت خمست» . انتهى كلام الذهبىّ.
وقال علي- وعليّ مصغر- بن رباح: المغرب «1» كله عنوة، فتدخل مصر فيها اهـ.
وقال ابن عمر: افتتحت مصر بغير عهد. وقال يزيد بن أبي حبيب:
مصر كلها صلح إلا الإسكندرية.
وأما فتوح مصر لابن عبد الحكم فقد أخبرنا به حافظ العصر شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي مشافهة قال: قرأت على أبي المعالي عبد الله بن عمر بن علي أخبرنا، إجازة إن لم يكن سماعًا، عن زهرة بنت عمر أخبرنا الكمال أبو الحسن عليّ بن شجاع أخبرنا أبو القاسم هبة الله ابن علي البوصيري أخبرنا أبو صادق مرشد بن يحيى المديني أخبرنا أبو الحسن علي بن منير الخلال وأبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج الأنصاري أخبرنا أبو القاسم علي بن الحسن بن خلف بن قديد الأزدي أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم قال:
لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية «2» قام إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه فخلا به وقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي أن أسير إلى مصر، وحرضه عليها وقال: إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا وأعجز [ها]«3» عن القتال والحرب، فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عنده ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها، حتى ركن إليه عمر وعقد له على أربعة آلاف رجل [كلهم من «4» عك]، ويقال:[بل]«5»
ثلاثة آلاف وخمسمائة، وقال له عمر: سر وأنا مستخير الله في مسيرك، وسيأتيك كتابي سريعًا إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئاً من أرضها فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره.
فسار عمرو بن العاص من جوف الليل ولم يشعر به أحد من الناس فاستخار عمر «1» وكاتبه يتخوف على المسلمين بالرجوع، فأدرك الكتاب عمرا وهو برمح؛ فتخوف عمرو إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل [عنها] «2» فقيل: إنها من أرض مصر، فدعا بالكتاب وقرأه على المسلمين؛ فقال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من أرض مصر؟ قالوا: بلى، قال:
فإن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله. وقيل غير ذلك: وهو أن عمر أمره بالرجوع وخشن عليه في القول.
وروي نحو مما ذكرنا من وجه آخر، من ذلك: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقال عمر له: كتبت إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر من الشأم، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، إن عمراً لمجرأ وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدرى تكون أم لا، فندم عمر على كتابه إلى
عمرو إشفاقاً على المسلمين، ثم قال عثمان: فاكتب إليه: إن أدركك كتابي هذا قبل أن تدخل مصر فارجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت فامض لوجهك.
فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر توجه إلى موضع الفسطاط، فكان يجهز على عمرو الجيوش وكان على القصر (يعني قصر الشمع الذي بمصر القديمة) رجل من الروم يقال له الأعيرج والياً عليه، وكان تحت يد المقوقس، واسمه:
جريج بن مينا، وأقبل عمرو حتى إذا كان بالعريش، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما «1» قاتلته الروم قتالاً شديدًا نحواً من شهر ثم فتح الله على يديه، وكان عبد الله ابن سعد على ميمنة عمرو منذ خروجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه؛ ثم مضى عمرو نحو مصر وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له: أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو إلى مصر كتب إلى قبط مصر يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة وأن ملكهم قد أنقطع، وأمرهم بتلقي عمرو.
ويقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعواناً؛ ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الأخف حتى نزل القواصر، فسمع رجل من لخم نفراً من القبط يقول بعضهم لبعض: ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم وإنما هم في قلة من الناس! فأجابه رجل منهم فقال: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه حتى يقتلوا أخيرهم؛ ثم تقدم عمرو أيضا لا يدافع إلا بالأمر
الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتل نحواً من شهر حتى فتح الله عليه؛ ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين «1» ، فقاتلوا من بها قتالاً شديداً وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر رضي الله عنه يستمده فأمده بأربعة ّآلاف تمام ثمانية آلاف مع عمرو، فوصلوا إليه إرسالاً يتبع بعضهم بعضاً ثم أحاط المسلمون بالحصن وأميره يومئذ المندقور الذي يقال له الأعيرج من قبل المقوقس وهو ابن قرقب اليونانيّ وكان المقوقس ينزل بالإسكندرية وهو فى سلطان هرقل غير أنه كان حاضراً الحصن حين حاصره المسلمون، فقاتل عمرو بن العاص من بالحصن، وجاء رجل إلى عمرو وقال: اندب معي خيلاً حتى آتي من ورائهم عند القتال، فأخرج معه عمرو خمسمائة فارس عليهم خارجة بن حذافة، في قول، فساروا من وراء الجبل حتى وصلوا مغار بني وائل قبل الصبح، وكانت الروم قد خندقوا خندقاً وجعلوا له أبواباً وبثوا في أفنيتها حسك «2» الحديد، فالتقاهم القوم حين أصبحوا وخرج خارجة من ورائهم فانهزموا حتى دخلوا الحصن وقاتلهم قتالا شديدا بصبحهم وعشيهم، فلما أبطأ الفتح على عمرو كتب إلى عمر رضي الله عنه يستمده ويعلمه بذلك، فأمده بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم رجل مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود»
، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد- في قول- وقيل: خارجة بن حذافة الرابع، لا يعدون مسلمة. وقال عمر له: اعلم أن معك أثنى عشر ألفًا ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة.
وقيل غير ذلك، وهو أن الزبير رضي الله عنه قدم إلى عمرو في اثني عشر ألفاً وأن عمراً لما قدم من الشأم كان في عدة قليلة فكان يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم، فلما انتهى إلى الخندق بادره رجل بأن قال: قد رأينا ما صنعت وإنما معك من أصحابك كذا وكذا فلم يخطئوا برجل واحد، فأقام عمرو على ذلك أياماً يغدو في السحر فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح، فبينماهم على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام في اثني عشر ألفًا فتلقاه عمرو، ثم أقبلا فلم يلبث الزبير أن ركب وطاف بالخندق ثم فرق الرجال حول الخندق وألح عمرو على القصر ووضع عليه المنجنيق.
ودخل عمرو إلى صاحب الحصن فتناظرا في شيء مما هم فيه، فقال عمرو:
أخرج وأستشير أصحابي، وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مر به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله، فمر عمرو وهو يزيد الخروج برجل من العرب فقال له: قد دخلت فأنظر كيف تخرج، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له:
إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، فقال العلج في نفسه: قتل جماعة أحب إلي من قتل واحد، فأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره من أمر عمرو ألا يتعرض له رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم، فخرج عمرو.
وبينما عبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده رآه قوم من الروم فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة، فلما دنوا منه سلم من الصلاة ووثب على فرسه ثم حمل عليهم، فلما رأوه ولوا هاربين وتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، فصار لا يلتفت إليه حتى دخلوا إلى الحصن، ورمي عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع ولم يتعرض لشيء مما طرحوه من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان فيه فاستقبل الصلاة؛ وخرج الروم إلى متاعهم وجمعوه.
فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير: إني أهب نفسي لله تعالى وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلماً إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمرهم إذا سمعوا تكبيره يجيبونه جميعا؛ فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفاً أن ينكسر السلم، وكبر الزبير تكبيرة فأجابه المسلمون من خارج، فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعاً الحصن فهربوا وعمد الزبير بأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه واقتحم المسلمون الحصن. فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو ابن العاص الصلح ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم، فأجابه عمرو إلى ذلك.
وكان مكثهم على القتال حتى فتح الله عليهم سبعة أشهر. انتهى كلام ابن عبد الحكم باختصار.
وقال غيره في الفتح وجهاً آخر قال: لما حصر المسلمون بابليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم شهراً، فلما رأى القوم الجد من العرب على فتحه والحرص، ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر الأقباط وخرجوا من باب القصر القبلي وتركوا به جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة (موضع «1» الصناعة اليوم) وأمروا بقطع الجسر وذلك في جري النيل. ويقال: إن الأعيرج تخلف بالحصن بعد المقوقس؛ فأرسل المقوقس إلى عمرو:
«إنكم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد
أحاط بكم هذا النيل. وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن يغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه.
ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء» .
فلما أتت عمراً رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل [ويحبسونهم «1» ] ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بذلك أنهم يرون حال المسلمين.
فرد عليهم عمرو مع رسلهم: إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال:
إما أن دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا. وإن أبيتم فأعطيتم «2» الجزية عن يد وأنتم صاغرون. وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين. فلما جاءت رسل المقوقس إليه قال: كيف رأيتموهم؟ قالوا:
رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد؛ يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.
فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد! ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.
فرد إليهم المقوقس رسله يقول لهم: ابعثوا إلينا رسلاً منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم وألا يجيبهم إلى شيء دعوه اليه إلا إحدى هذه الثلاث الخصال، فإن أمير المؤمنين قد تقدم إلي في ذلك وأمرني ألا أقبل شيئا إلا خصلة من هذه الثلاث الخصال، وكان عبادة أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسواده وقال: نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني؛ فقالوا جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه وقد أمره الأمير دوننا بما أمره وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله.
فقال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلا! إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً وليس ينكر السواد فينا؛ فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإنني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة، فتقدم إليه عبادة فقال:
قد سمعت مقالتك وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سواداً مني وأفظع منظراً ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم مني، وأنا قد وليت وأدبر
شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله وأتباع رضوانه، وليس غزونا عدواً ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها، وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقتصر على هذه «1» بيده ويبلغه ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه.
فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط! لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فقال:
أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنكم لم تقووا
عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.
فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك. أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم، لأن ذلك أعذر لنا عند الله إذا قدمنا عليه إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا من رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين، إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساء أن يرزقه الشهادة وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا [ما «1» ] أمامنا.
وأما قولك إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن فيه، فانظر الذي تريد فبينه لنا فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث،
فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله إلينا.
إما إجابتكم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره وهو دين نبينا وأنبيائه ورسله وملائكته- صلوات الله عليهم- أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الإسلام، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ورجعنا عن قتالكم ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم؛ وإن أبيتم إلا الجزية فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضاه نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم فى ذمّتنا وكان لكم به عهد علينا؛ وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن أخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.
فقال المقوقس: هذا لا يكون أبداً، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا. فقال عبادة: هو ذلك فاختر ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا الى خصلة غير هذه الثلاث الخصال؟ فرفع عبادة يديه وقال: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك لأصحابه وقال: قد فرغ القوم فما ترون؟ فقالوا:
أو يرضى أحد بهذا الذل! أما ما أرادوا من دخولنا إلى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا، نترك دين المسيح بن مريم وندخل في دين لا نعرفه! وأما ما أرادوا من أن
يسبونا ويجعلونا عبيداً فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مراراً كان أهون علينا.
قال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون. فقام عبادة وأصحابه.
فقال المقوقس لأصحابه: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة! ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين. فقالوا: وأي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به؛ وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم؛ ولا بد من الثالثة؛ قالوا: فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم، تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم [خير «1» لكم من أن تموتوا من آخركم وتكونوا عبيداً تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبداً أنتم وأهلكم وذراريكم] . قالوا: فالموت أهون علينا. وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة؛ وبالقصر من جمع القبط والروم كثير.
فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر منهم وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل وجه لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم، ما تنتظرون! فو الله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعاً أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم من ذلك كرهاً، فأطيعوني من قبل أن تندموا. فلما رأوا منهم ما رأوا وقال لهم المقوقس ما قال أذعنوا بالجزية ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه.
وأرسل المقوقس الى عمرو بن العاص رضي الله عنه: إني لم أزل حريصاً على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إلي بها، فأبى علي من حضرني من الروم والقبط، فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم وقد عرفوا نصحي لهم وحبي صلاحهم ورجعوا إلى قولي؛ فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم [لنا «1» ] ذلك جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه في ذلك، فقالوا: لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا [وتصير «2» الأرض كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه] فقال: قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.
فاجتمعوا على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء؛ وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك، كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرض لهم في شيء منها.
فشرط ذلك كله على القبط خاصة. وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة من بلغ منهم الجزية وفرض عليهم الديناران؛ رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة.
فكان جميع من أحصي يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا وكتبوا أكثر من ستة آلاف «1» نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف دينار في كل سنة؛ وقيل غير ذلك.
وقال عبد الله بن لهيعة عن يحيى بن ميمون الحضرمي: لما فتح عمرو مصر، صالح أهلها عن جميع من فيها من الرجال من القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبي، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف. قال: وشرط المقوقس للروم أن يخيروا، فمن أحب
منهم أن يقيم على مثل هذا أقام على ذلك لازما له مفترضا عليه ممن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج؛ وعلى أن المقوقس له الخيار في الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه بما فعل؛ فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه.
قلت: وقد اختلف بعد ذلك في فتح مصر: هل فتحت صلحاً أم عنوة، فمن قال: إن مصر فتحت بصلح، احتج بما ذكرناه ونحوه بمثل ما ذكره القضاعي وغيره، وقالوا: إن الأمر لم يتم إلا بما جرى بين عبادة بن الصامت وبين المقوقس؛ وعلى ذلك أكثر علماء أهل مصر، منهم عقبة بن عامر ويزيد بن أبى حبيب والليث ابن سعد وغيرهم.
وذهب الذي قال إنها فتحت عنوة إلى أن الحصن فتح عنوة وكان حكم جميع الأرض كذلك؛ وهم عبيد الله بن المغيرة الشيباني ومالك بن أنس وعبد الله ابن وهب وغيرهم.
وذهب قوم إلى أن بعضها فتح عنوة، وبعضها فتح صلحاً، منهم عبد الله ابن لهيعة وابن شهاب الزهري وغيرهما.
قال عبيد الله بن أبي جعفر حدثني رجل ممن أدرك عمرو بن العاص قال: للقبط عهد عند فلان، وعهد عند فلان؛ فسمى ثلاثة نفر. وفي رواية: إن عهد أهل مصر كان عند كبرائهم.
قال: وسألت شيخاً من القدماء عن فتح مصر، قلت له: فإن ناساً يذكرون أنه لم يكن لهم عهد؛ فقال: ما يبالي ألا يصلّى من قال إنه ليس لهم عهد؛ فقلت:
فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند طلما صاحب إخنا،
وكتاب عند قزمان صاحب رشيد، وكتاب عند يحنس صاحب البرلس؛ قلت:
كيف كان صلحهم؟ قال: دينارين على كل إنسان جزية وأرزاق المسلمين؛ قلت:
أفتعلم ما كان من الشروط؟ قال: نعم، ستة شروط: لا يخرجون من ديارهم، ولا تنزع نساؤهم، ولا أولادهم، ولا كنوزهم، ولا أراضيهم، ولا يزاد عليهم.
وكان فتح مصر يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة.
وقال ابن كثير في تاريخه: قال محمد بن إسحاق: فيها (يعني سنة عشرين من الهجرة) كان فتح مصر. وكذا قال الواقدي: إنها فتحت هي والإسكندرية فى هذه السنة. وقال أبو معشر: فتحت مصر سنة عشرين والإسكندرية في سنة خمس وعشرين. وقال سيف: فتحت مصر والإسكندرية في ربيع الأول سنة ست عشرة. ورجح ذلك أبو الحسن بن الأثير في الكامل لقصة بعث عمرو الميرة من مصر عام الرمادة. وهو معذور فيما رجحه. انتهى كلام ابن كثير.
وقال أيضاً في قول آخر: فتحت الإسكندرية في سنة خمس وعشرين بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة، وقيل: صلحاً على اثني عشر ألف دينار، وشهد فتحها جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن عبد الحكم: وكان من حفظ من الذين شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم ومن لم يكن له برسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة، وذكرهم جملة واحدة، فقال: الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وكان أمير القوم، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وخارجة بن حذافة العدوي، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيس بن أبى العاص السهمي، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح العامرىّ، ونافع
ابن عبد قيس الفهري، وأبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عبدة، وعبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة، ووردان، مولى عمرو ابن العاص، وكان حامل لواء عمرو بن العاص، رضي الله عنهم. وقد اختلف في سعد بن أبي وقاص فقيل: إنما دخلها بعد الفتح.
وشهد الفتح من الأنصار عبادة بن الصامت، وقد شهد بدراً وبيعة العقبة، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وقد شهد بدرا، وهو الذي أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى مصر فقاسم عمرو بن العاص ماله، وهو أحد من كان صعد الحصن مع الزبير بن العوام، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، يقال: له صحبة، وأبو أيوب خالد بن زيد «1» الأنصاري، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، وقيل: عويمر بن زيد.
ومن أحياء القبائل: أبو بصرة «2» حميل بن بصرة الغفاري، وأبو ذرّ جندب ابن جنادة الغفاري.
وشهد الفتح مع عمرو بن العاص هبيب بن مغفل، وإليه ينسب وادي هبيب الذي بالمغرب، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وكعب بن ضنة «3» العبسي،
ويقال: كعب بن يسار بن ضنة، وعقبة بن عامر الجهني، وهو كان رسول عمر ابن الخطاب الى عمرو بن العاص حين كتب إليه [يأمره «1» ] أن يرجع إن لم يكن دخل أرض مصر، وأبو زمعة «2» البلوي، وبرح «3» بن عسكل ويقال: برح بن عسكر، شهد فتح مصر واختط بها، وجنادة بن أبي أمية الأزدي، وسفيان بن وهب الخولاني وله صحبة، ومعاوية بن حديح الكندىّ، وهو كان رسول عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، وقد اختلف فيه، فقال قوم: له صحبة، وقال آخرون: ليست له صحبة، وعامر، مولى حمل الذي يقال له: عامر حمل، شهد الفتح وهو مملوك، وعمار بن ياسر، ولكن دخل بعد الفتح في أيام عثمان، وجهه إليها في بعض أموره. انتهى كلام «4» ابن عبد الحكم باختصار.
وقال ابن كثير: في فتح مصر وجه آخر على ما أخبرنا به شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقيني الشافعي مشافهة بإجازته من الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير مجموعاً من كلام ابن إسحاق وغيره، قالوا:
لما استكمل المسلمون فتح الشأم، بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص إلى مصر. وزعم سيف: أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بسر بن أبي «1» أرطاة وخارجة بن حذافة وعمير «2» بن وهب الجمحي، فاجتمعوا على باب مصر، فلقيهم أبو مريم جاثليق «3» مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل البنيات، بعثه المقوقس صاحب الإسكندرية لمنع بلادهم.
فلما تصافّوا قال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذر إليكم، ليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد [فبرزا «4» إليه، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلاد] فاسمعا: إن الله بعث محمدًا بالحق وأمره به وأمرنا به محمد وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة. وقد أعلمنا أننا مفتتحوكم وأوصينا بكم حفظا لرحمنا منكم، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة؛ ومما عهد الينا أميرنا:«استوصوا بالقبطين خيراً» فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيراً، لأن لهم ذمة ورحماً.
فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل «5» مثلها إلا الأنبياء، معروفة شريفة كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف والملك منهم، فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم وأغربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام. مرحبا به وأهلا وأمنا حتى نرجع إليك.
فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثاً، لتنظرا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجزتكم؛ قالا: زدنا، فزادهم يوماً؛ فقالا: زدنا، فزادهم يوماً، فرجعا إلى المقوقس، فأبى أرطبون «1» أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، وقال لأهل مصر: أما نحن فنجتهد أن ندفع عنكم، لا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام؛ وأشار عليهم بأن يبيّتوا المسلمين؛ فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم! فألح الأرطبون فى أن يبيّتوا المسلمين؛ ففعلوا فلم يظفروا بشيء، بل قتل منهم طائفة، منهم الأرطبون. وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع، وارتقى الزبير عليهم سور البلد.
فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه؛ واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو. فأمضوا الصلح وكتب لهم عمرو كتاب أمان:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقض ولا تساكنهم النوبة. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم «2» ؛ فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزية بقدرهم؛ وذمتنا ممن أبى بريئة. وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك؛ ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم؛ ومن أبى [منهم «3» ] واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا؛ عليهم
ما عليهم أثلاثا [فى كل «1» ثلث جباية ثلث ما عليهم] على ما في هذا الكتاب، عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة «2» صادرة ولا واردة» . وشهد عليه الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.
فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط. وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة؛ فأبى عمرو أن يردها عليهما وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه.
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة الأيام التي آمنهم فيها أن يرد عليهم، وكل شيء أخذ ممن لم يقاتل فكذلك، ومن قاتل فلا ترد عليه سباياه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عتاب حدثنا عبد الله أخبرني عبد الله بن عقبة- وهو عبد الله بن لهيعة بن عقبة- حدثني يزيد بن أبي حبيب عمّن سمع عبد الله ابن المغيرة بن أبي بردة يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال: يا عمرو بن العاص، اقسمها، فقال عمرو:
لا أقسمها؛ فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر؛ فكتب إليه عمر: أقرها حتى يغزو منها حبل «3» الحبلة. تفرد به أحمد، وفي إسناده
ضعف من جهة ابن لهيعة لكنه عليم بأمور مصر ومن جهة المبهم الذي لم يسم، فلو صح لدل على فتحها عنوة ولدل على أن الإمام يخير في الأراضي العنوة، إن شاء قسمها، وإن شاء أبقاها.
قلت: قد رواه الطحاوىّ بسند صحيح.
وذكر سيف: أن عمرو بن العاص لما التقى مع المقوقس جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف، فجعل عمرو يذمرهم ويحثهم على الثبات؛ فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد! فقال له عمرو: اسكت، فإنما أنت كلب؛ فقال له الرجل: فأنت إذا أمير الكلاب! فأعرض عنه عمرو، ونادى بطلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة، قال لهم عمرو: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين؛ فهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر. انتهى كلام ابن كثير وغيره.
وقد سقنا ما ذكره ابن كثير هنا لزيادة فيما ذكره، ولكونه حافظاً محدثاً، فيصير بذلك ما ذكرناه من فتح مصر من طرق عديدة لتكثر في هذا الكتاب الفائدة إن شاء الله تعالى.