الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فانهزم جيش محمد أيضاً، وأقامت شيعة عثمان بخربتا إلى أن قدم معاوية بن أبي سفيان من الشأم إلى مصر، فخرج إليه محمد بن أبي حذيفة بأصحابه ومنعوه من الدخول إلى الفسطاط، ثم اتفقا على أن يجعلا رهناً ويتركا الحرب، فاستخلف محمد ابن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت وخرج فى الرهن هو وابن عديس وعدة من قتلة عثمان، فلما وصلوا إلى معاوية قبض عليهم وحبسهم وسار إلى دمشق فهربوا من السجن، فتتبعهم أمير فلسطين حتى ظفر بهم وقتلهم في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فلما بلغ الخبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمصاب محمد بن جذيفة ولى على مصر قيس بن سعد بن عبادة الأنصارى رضى الله عنه.
ذكر ولاية قيس بن سعد بن عبادة على مصر
هو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي المدني؛ قال الذهبي: كان من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة، وله عدة أحاديث، روى عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وعروة بن الزبير والشعبىّ وميمون بن أبى شبيب وغريب ابن حميد الهمدانىّ وجماعة، وكان ضخما جسما طويلاً جداً سيداً مطاعاً كثير المال جواداً كريماً يعد من دهاة العرب. قال عمرو بن دينار: كان ضخماً جسيماً صغير الرأس ليست له لحية، وإذا ركب الحمار خطت رجلاه الأرض؛ روى عنه أنه قال:
لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المكر والخديعة في النار» لكنت من أمكر هذه الأمة. وقال الزهري: أخبرنا ثعلبة بن أبى مالك أنّ قيس ابن سعد كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جويرية بن أسماء:
كان قيس يستدين ويطعمهم، فقال أبو بكر وعمر: إن تركنا هذا الفتى أهلك مال
أبيه، فمشيا في الناس فصلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقام سعد بن عبادة خلفه، فقال: من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطاب يبخلان علي ابني اهـ.
وقال موسى بن عقبة: وقفت على قيس عجوز فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، فقال: ما أحسن هذه الكناية! املئوا بيتها خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً. وقال أبو تميلة «1» يحيى بن واضح: أخبرنا أبو عثمان من ولد الحارث بن الصمة قال: بعث قيصر إلى معاوية: ابعث إلي سراويل أطول رجل من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما أظن إلا قد احتجنا إلى سراويلك، فقام وتنحى وجاء بها فألقاها، فقال:
ألا ذهبت إلى منزلك ثم بعثت بها! فقال:
أردت بها أن يعلم الناس أنها
…
سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيس وهذه
…
سراويل عادي نمته ثمود
وإني من الحي اليماني لسيد
…
وما الناس إلا سيد ومسود
فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم
…
شديد وخلقي في الرجال مديد
فأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه، قال: فوقفت بالأرض اهـ.
ولما ولاه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على مصر لما ولي الخلافة بعد قتل عثمان وبعثه إلى مصر فوصل إليها في مستهل شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين فدخلها قيس ومهد أمورها واستمال الخارجية بخربتا من شيعة عثمان ورد عليهم أرزاقهم، وقدموا عليه بمصر فأكرمهم وأنعم عليهم، وكان عنده رأي ومعرفة ودهاء، فعظم على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ولايته لمصر فإنه كان من حزب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واجتهدا كثيراً ليخرجاه منها فلم يقدرا على ذلك
حتى عمل معاوية على قيس من قبل علي بن أبي طالب وأشاع أن قيساً من شيعته ومن حزبه، وأنه يبعث إليه بالكتب والنصيحة سراً، ولا زال يظهر ذلك حتى بلغ علياً، وساعده في ذلك محمد بن أبي بكر الصديق لحبه مصر أو لإمرتها وعبد الله بن جعفر، فما زالا بعلي حتى كتب لقيس بن سعد يأمره بالقدوم عليه، وعزله عن مصر، فكانت ولايته على مصر من يوم دخلها إلى أن صرف عنها أربعة أشهر وخمسة أيام وكان عزله في خامس رجب من سنة سبع وثلاثين، وولي عليها الأشتر النخعي.
وروينا عن أبى المظفر شمس الدين يوسف بن قزأ وغلى كما أخبرنا أبو الحسن علي بن صدقة الشافعي أخبرنا القاضي الإمام تاج الدين أحمد الفرغاني الحنفي أخبرنا حيدرة بن المحيا العباسي حدثنا صالح بن الصباغ أخبرنا أبو المؤيد محمود قال حدثنا الحافظ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى إجازة بكتابه «مرآة الزمان» قال: خرج قيس ابن سعد بن عبادة من عند علي حتى دخل مصر في سبعة نفر وصعد المنبر وقعد عليه وقرأ كتاب علي على الناس، وفيه:«من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، أما بعد، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الأنبياء وأن الله توفى رسوله وأستخلف بعده خليفتين صالحين عملا بالكتاب والسنة وأحسنا السيرة ثم توفاهما الله تعالى على ما كانا عليه، ثم ولي بعدهما والٍ أحدث أحداثاً فوجدت عليه الأمة مقالاً [فقالوا ثم «1» ] نقموا عليه وغيروه، ثم جاءونى وبايعوني، ولله علي العمل بكتابه وسنة رسوله والنصح للرعية ما بقيت والله المستعان، وبعثت إليكم بقيس بن سعد بن عبادة أميراً، فوازروه وعاشروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان
إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته، وأسأل الله لنا ولكم عملاً صالحاً وثواباً جزيلاً ورحمةً واسعة والسلام عليكم. وكتبه عبد الله «1» بن أبي طالب في رابع صفر سنة ست وثلاثين» ثم قال قيس: أيها الناس قد جاء الحق وزهق الباطل، وبايعنا خير من نعلم بعد نبينا صلى الله عليه وسلم فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن نحن لم نعمل بذلك فلا بيعة لنا عليكم، فقام الناس وبايعوا واستقامت مصر، وبعث عليها عماله إلا قرية من قرى مصر يقال لها:«خربتا» فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان، وبها رجل من كنانة من بني مدلج يقال له: يزيد بن الحارث بن مدلج، فأرسلوه إلى قيس بن سعد: إنا لا نقاتلك فابعث عمالك فالأرض أرضك، ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر ما يصير إليه أمر الناس. ووثب مسلمة بن مخلد الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس بن سعد: ويحك! علىّ تثب! فو الله ما أحب أن لي ملك مصر إلى الشأم وأني قتلتك فبعث إليه مسلمة يقول:
إني كاف عنك ما دمت والي مصر، وكان قيس بن سعد له رأي وحزم، فبعث إلى الذين بخربتا: إني لا أكرهكم على البيعة وأكف عنكم، فهادنهم وهادن مسلمة ابن مخلد وأقام قيس يجبي الخراج ولا ينازعه أحد من الناس، وخرج أمير المؤمنين إلى وقعة الجمل ورجع إلى الكوفة وقيس مكانه، فكان قيس أثقل خلق الله على معاوية بن أبى سفيان لفربه من الشأم مخافة أن يقفل عليه علي بن أبي طالب من العراق ويقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع معاوية بينهما فأخذ يخدعه.
فكتب معاوية إلى قيس:
فلما جاءه كتاب معاوية أحب قيس أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل حربه؛ فكتب إليه:
«أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، فأما ما ذكرت من أمر عثمان فذلك أمر لم أقار «1» به ولم أتنطف «2» به؛ وأما قولك: إن صاحبي أغرى الناس بعثمان فهذا أمر لم أطلع عليه، وذكرت أن معظم عشيرتي لم يسلموا من دم عثمان، فأول الناس فيه قياماً عشيرتي ولهم أسوة غيرهم؛ وأما ما ذكرت من مبايعتي إياك وما عرضت علي فلي فيه نظر وفكرة وليس هذا مما يسارع إليه، وأنا كاف عنك ولن يبدو لك من قبلي شيء مما تكره والسلام» .
فلما قرأ كتابه معاوية لم يره إلا مباعداً مفارقاً فلم يأمن مكره ومكيدته، فكتب إليه ثانياً:
فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة والمماطلة أظهر له ما في نفسه، وكتب إليه:
] ولد ضالين مضلين طاغوت «2» من طواغيت إبليس، وأما قولك: معك أعنة الخيل وأعداد الرجال لتشتغلن بنفسك حتى العدم.
وقال هشام: ولما رأى معاوية أن قيس بن سعد لا يلين له كاده من قبل علي؛ وكذا روى عبد الله بن أحمد بن حنبل باسناده اهـ.
وقال هشام بن محمد: عن أبي مخنف وجه آخر في حديث قيس بن سعد ومعاوية، قال: لما أيس معاوية من قيس بن سعد شقّ عليه لما يعرف من حزمه وبأسه، فأظهر للناس أن قيساً قد بايعه، واختلق معاوية كتاباً فقرأه على أهل الشأم وفيه:
أما بعد، لما نظرت أنه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم محرماً مسلماً برأ تقيا مستغفرا وإنى معكم على قتله بما أحببتم من الأموال والرجال متى شئتم عجلت إليكم.
قال: فشاع في أهل الشأم أن قيساً قد بايع معاوية وبلغ علياً ذلك فأكبره وأعظمه، فقال له عبد الله بن جعفر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيساً عن مصر، فقال علي: والله ما أصدق هذا على قيس، ثم عزله وولى الأشتر، وقيل محمد بن أبي بكر الصديق في قول ابن سيرين، فلما عزله عرف قيس أن علياً قد خدع وتوجه إليه وصار معه؛ قال عروة: وكان قيس بن سعد مع علي في مقدّمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رءوسهم بعد موت علي، فلما دخل الجيش في بيعة معاوية أبى قيس أن يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم، إن شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموت الأعجل، وإن شئتم أخذت لكم أماناً، قالوا: خذ لنا ففعل؛ فلما ارتحل نحو المدينة جعل ينحر كل يوم جزوراً. قال الواقدي وغيره: إنه توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنهم أجمعين.
السنة التي حكم في بعضها قيس بن سعد بن عبادة على مصر وهي سنة ست وثلاثين- فيها كانت وقعة الجمل بين علي رضي الله عنه وبين عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ومعها طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وغيرهما، وكانت فيها مقتلةً عظيمة قتل فيها عدة من الصحابة وغيرهم؛ قال البلاذري: التقوا بمكان يقال له «الخريبة» في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين اهـ.
قلت: وممن قتل في هذه الوقعة طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة التيمي، أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى بعد موت عمر بن الخطاب قتله مروان بن الحكم