الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فسدوا جسورها وزرعوها ونمت واستمرت في زيادة إلى يومنا هذا، وبقي ذلك اسما عليها لا تعرف إلا بالبحيرة.
ذكر ما قيل في سبب تسمية مصر بمصر
قيل: إنه كان اسمها في الدهر الأول زجلة «1» من المزاجلة، وقال قوم: سميت بمصريم بن مركائيل «2» بن دواييل بن غرياب بن آدم، وهذا هو مصر الأول؛ وقيل:
بل سميت بمصر الثاني، وهو مصرام بن نقراوش «3» الجبار بن مصريم الأول المقدم ذكره؛ وقيل: سميت بعد الطوفان بمصر الثالث، وهو مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وهو اسم أعجمي لا ينصرف؛ وقيل: هو اسم عربي مشتق، ولكل قائل دليل؛ وقيل:
غير ذلك أقوال كثيرة يأتي ذكر بعضها.
قال المسعودي في تاريخه: إن بني آدم لما تحاسدوا وبغى عليهم بنو قابيل بن آدم ركب نقراوش الجبار ابن مصريم المقدم ذكره في نيف وسبعين راكباً من بني غرياب بن آدم، جبابرة كلهم يطلبون موضعاً من الأرض ليقطنوا فيه، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل فأطالوا المشي عليه، فلما رأوا سعة هذا البلد أعجبهم، وقالوا: هذا بلد زرع وعمارة، فأقاموا فيه واستوطنوه وبنوا فيه الأبنية المحكمة والمصانع العجيبة، وبنى نقراوش بن مصريم [مصر «4» وسماها باسم أبيه مصريم] ثم لما ملك قال لبنيه: إني أريد أن أصنع مدينة، ثم أمرهم ببنيان مدينة في موضع خيمته، فقطعوا الصخور من الجبال، وأثاروا معادن الرصاص، وبنوا دورا وزرعوا وعمروا الأرض، ثم أمرهم ببناء المدائن والقرى وأسكن كل ناحية من الأرض من
رأى، ثم حفروا النيل حتى أخرجوا ماءه إليهم، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري، وإنما كان ينبطح ويتفرق في الأرض، فهندسوه وشقوا منه أنهاراً إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها، وشقوا منه نهراً إلى مدينتهم أمسوس يجري في وسطها، ثم سميت مصر بعد الطوفان بمصر بن بيصر بن حام بن نوح على ما نذكره هنا أيضاً. ويقال: إن مصر هذا غرس الأشجار بيده فجاءت ثمارها عظيمةً بحيث إنه كان يشق الأترجة نصفين لنوح يحمل البعير نصفها، وكان القثاء يومئذ في طول أربعة عشر شبراً؛ ويقال: إنه أول من وضع السفن وإنّ سفينته كانت ثلثمائة ذراع في عرض مائة ذراع. ويقال: إن مصرايم نكح امرأة من بنات الكهنة فولدت ولداً يقال له قبطيم، ونكح قبطيم بعد سبعين سنه من عمره امرأة ولدت له أربعة نفر: قفطريم، وأشمون، وأتريب، وصا؛ فكثروا وعمروا الأرض وبورك لهم فيها.
وقيل: إنه كان عدد من وصل معهم ثلاثون رجلا فبنوا مدينة سموها مافة ومعين، (ومافة ثلاثون بلغتهم) وهي مدينة منف التي تسمى الأن:«منوف العليا» ، وكشف لهم أصحاب قليمون الكاهن عن كنوز مصر وعلومهم والطلسمات والمعادن، ووصفوا لهم عمل الصنعة «1» وبنوا على عبر البحر مدناً: منها رقودة «2» مكان الإسكندرية؛ ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد إلى ولده قبطيم، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه، فجعل لقفطريم من قفط إلى أسوان، ولأشمون من أشمون إلى منف، ولأتريب الحوف كله، ولصا من ناحية صا البحيرة إلى قرب برقة؛ وقال لأخيه فارق: لك من برقة إلى المغرب، فهو صاحب إفريقية وأولاده الأفارق؛ وأمر كل واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه، وأمرهم عند موته أن يحفروا له في الأرض سرباً وأن يفرشوه بالمرمر الأبيض ويجعلوا فيه جسده، ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه
من الذهب والجوهر، ويزبروا «1» عليه أسماء الله المانعة من أخذه «2» ، فحفروا له سرباً طوله مائة وخمسون ذراعاً، وجعلوا في وسطه مجلساً مصفحاً بصفائح الذهب، وجعلوا له أربعة أبواب على كل باب منها تمثال من ذهب، عليه مانع مرصع بالجوهر، وهو جالس على كرسي من ذهب، قوائمه من زمرذ، وزبروا في صدر كل تمثال آيات مانعة، وجعلوا جسده في جرن مرمر مصفح بالذهب، وكانت وفاة مصرايم المذكور بعد الطوفان بسبعمائة سنة، ومات ولم يعبد الأصنام، وجعلوا معه في ذلك المجلس ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف برنية مملوءة من الدر الفاخر والعقاقير والطلسمات العجيبة وسبائك الذهب، وسقفوا ذلك بالصخور وهالوا فوقها الرمال بين جبلين، وولي ابنه قبطيم الملك.
*** ودخل مصر من الصحابة ممن تقدم ذكرهم فى فتح مصر وغيرهم جماعة: الزبير ابن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة ابن عبيد، وعمرو بن العاص، وعمرو بن علقمة، وشرحبيل بن حسنة، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وخارجة بن حذافة، ومحمد بن مسلمة، وأبو رافع، ومسلمة بن مخلد، وأبو أيوب، ونافع بن مالك «3» ، ومعاوية بن حديج، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.
ودخلها من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين: يعقوب وأولاده، وهم:
يوسف، ويهوذا، وروبيل، ولاوي، وزبالون، وشمعون، ويسحر «4» ،
ودنيا، ودانا، وديفتابيل «1» ، وجاد، وبنيامين. ودخلها موسى وهرون؛ وبها ولد عيسى بن مريم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلدان وأخلاق سكانها، فقال: إن الله عز وجل لما خلق الأشياء جعل كل شىء لشىء؛ فقال العقل: أنا لاحق بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك؛ فقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك؛ وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك؛ وقال البخل: أنا لاحق بالمغرب، فقال سوء الخلق: وأنا معك.
ويقال: لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان، والحياء، والنجدة، والفتنة، والكبر، والنفاق، والغنى، والفقر، والذل، والشقاء؛ فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك؛ وقالت النجدة: وأنا لاحقة بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق:
وأنا معك؛ وقال الغنى: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك؛ وقال الفقر:
أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: المكر عشرة أجزاء: تسعة منها في القبط، وواحد فى سائر الناس. اهـ.
*** ووصف ابن القرية مصر فقال: عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغارا وأجلّهم كباراً. وقال المسعودي في تاريخه: قال بعض الشعراء يصف مصر:
مصر ومصر شأنها عجيب
…
ونيلها يجري به الجنوب
قلت: وقد قيل في مصر عدة قصائد ومقطعات ذكرنا منها نبذة في تاريخنا «حوادث الدهور» عند وفاء النيل في كل سنة: منها ما قاله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ:
لم لا أهيم بمصرٍ
…
وأرتضيها وأعشق
وما ترى العين أحلى
…
من مائها إن تملق
وفي المعنى للشيخ زين الدين عمر بن الوردي رضي الله عنه:
ديار مصر هي الدنيا وساكنها
…
هم الأنام فقابلها بتقبيل
يا من يباهي ببغدادٍ ودجلتها
…
مصر مقدمة والشرح للنيل
وأبدع منه ما قيل في المعنى أيضا لابن سلّار:
لعمرك ما مصر بمصرٍ وإنما
…
هي الجنة العليا لمن يتذكر
وأولادها الولدان من نسل أدم
…
وروضتها الفردوس والنيل كوثر
وللقاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري في هذا المعنى:
ما مثل مصر فى زمان ربيعها
…
لصفاء ماءٍ واعتدال نسيم
أقسمت ما تحوي البلاد نظيرها
…
لما نظرت إلى جمال وسيم
وله أيضاً رضي الله عنه وأبدع:
لمصر فضل باهر
…
لعيشها الرغد النضر
في كل سفح يلتقي
…
ماء الحياة والخضر
[و «1» للصّفىّ الحلّى في القاهرة:
لله قاهرة المعز فإنها
…
بلد تخصص بالمسرة والهنا
أو ما ترى في كل قطر منيةً
…
من جانبيها فهي مجتمع المنى
ولأبي الحسن علي بن بهاء الدين الموصلي الحنبلي في المعنى:
بها ما تلذ العين من حسن منظرٍ
…
وما ترتضيه النفس من شهواتها
وتربتها تبر يلوح وعنبر
…
يفوح وتلقى بعد بعد حياتها
زمردة خضراء قد زين قرطها
…
بلؤلؤة بيضاء من زهراتها
ولابن الصائغ الحنفي في المعنى وأجاد:
ارض بمصرٍ فتلك أرض
…
من كل فن بها فنون
ونيلها العذب ذاك بحر
…
ما نظرت مثله العيون
وللشيخ برهان الدين القيراطي:
روت لنا مصر عن فواكهها
…
أخبار صدقٍ صحيحة الخبر
وكل ما صحّ من محاسنها
…
أرويه من خوخها عن الزهري
وله أيضا:
جلا نيل مصر وهو شهد ومن يذق
…
حلاوته يوما من الناس يشهد «1»
أيا بردى بالشأم إن ذبت حسرةً
…
وغيظاً فلا تهلك أسًى وتجلّد
وقال غيره فى المعنى «2» :
النيل قال وقوله
…
إذ قال ملء مسامعي
فى غيظ من طلب العلا
…
عم البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا
…
قلعتها بأصابعى]
وللشريف العقيلي في المعنى رضي الله عنه:
أحن إلى الفسطاط شوقاً وإنني
…
لأدعو لها ألا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجةٍ لجنابها
…
وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدت عروساً والمقطم تاجها
…
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
[فائدة «1» : إذا أردت أن تعلم كم تكون زيادة النيل في السنة فاحسب يوم عيد ميكائيل، وهو ثاني عشر بؤونة، كم يكون في الشهر العربي من يوم، وزد فوقه تسعين يوماً وخذ سدس الجميع، تكون عدّة أذرع النيل فى تلك السنة اهـ] .
ولولا خشية الإطالة لذكرنا من هذا نبذاً كثيرة؛ ومن أراد الإكثار من ذلك فليراجع تاريخنا «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» فإنني ذكرت من ذلك عدة مقطعات عند وفاء النيل في كل سنة. ونعود الآن إلى كلام المسعودي، قال:
وهي مصر، واسمها كمعناها، وعلى اسمها سميت الأمصار، ومنها اشتق هذا الاسم عند علماء المصريين. ثم ذكر المسعودي زيادة النيل ونقصانه نحواً مما ذكرناه، إلى أن قال: فإذا انتهت الزيادة إلى ست عشرة ذراعا ففيه تمام الخراج، وفي سبع عشرة ذراعاً كفايتها وري جميع أرضها، وإذا زاد على السبع عشرة وبلغ الثمان عشرة ذراعاً وأغلقها استبحر من أرض مصر الربع، وفي ذلك ضرر لبعض الضياع لما ذكرناه من وجه الاستبحار وغير ذلك، وإذا كانت الزيادة ثمان عشرة ذراعاً كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء بمصر، وأكثر الزيادات ثمان عشرة ذراعاً، وقد كان النيل بلغ في زيادته تسع عشرة ذراعاً سنة تسع وتسعين في خلافة عمر بن عبد العزيز.
قلت: وكلام المسعودي بهذا القول في عصر الأربعمائة من الهجرة قبل أن تعلو الأراضي ويحتاج إلى بلوغه إحدى وعشرين ذراعاً وأكثر؛ ولو رأى عصرنا هذا لكان يرجع فيه عن مقالته وطلب الزيادة. اهـ.
قال: ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثني عشر ذراعاً ثمان وعشرون إصبعاًِ، ومن اثني عشر ذراعاً إلى ما فوق يصير الذراع أربعاً وعشرين إصبعاً. قال: وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاث أذرع، وفى نيل تلك السنة يكون الماء قليلا.
قال: والأذرع التى يستسقى عليها هى ذراعان، تسميان بمنكر ونكير، وهى ذراع «1» ثلاثة عشر ذراعا وذراع أربعة عشر ذراعا، فإذا انصرف الماء في هذين الذراعين (أعني ثلاثة عشر وأربعة عشر) وزيادة نصف ذراع من الخمسة عشر واستسقى الناس بمصر، كان الضرر شاملاً لكل البلدان، وإذا تم خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعاً كان فيه صلاح لبعض البلاد ولا يستسقى فيه، وكان ذلك نقصاً من خراج السلطان.
قلت: ونذكر أيضاً من أخبار نيل مصر وما كان بها من المقاييس في الجاهلية والإسلام عند ما نذكر بناء المتوكل لمقياس مصر المعهود الآن في ترجمة يزيد بن عبد الله التركي لما ولي إمرة مصر في شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين هجرية بأوسع من هذا، فلينظر هناك، اهـ.
قال: والترع التي بغيضة مصر أربع أمهات، أسماؤها: ترعة ذنب التمساح، وترعة بلقينة، وخليج سردوس، وخليج ذات الساحل؛ وتفتح هذه الترع إذا كان الماء زائداً في عيد الصليب، وهو لأربع عشرة تخلو من توت، وهو أوّل أيلول.
قال: وكان بمصر سبع خلجانات: فمنها خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج سردوس، وخليج المنهى.
وكانت مصر فيما يذكر أهل الخبرة أكثر البلاد جناناً، وذلك أن جنانها كانت متصلة بحافتي النيل من أوّله الى آخره الى حد أسوان إلى رشيد، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسع أذرع دخل خليج المنهى وخليج الفيوم وخليج سردوس وخليج سخا.
وكان الذي ولي حفر خليج سردوس لفرعون عدو الله هامان، فلما ابتدأ في حفره أتاه أهل القرى يسألونه أن يجري الخليج تحت قراهم ويعطون على ذلك ما أراد من المال، فكان يعمل ذلك حتى اجتمعت له أموال عظيمة، فحمل تلك الأموال إلى فرعون، فسأله فرعون عنها، فأخبره الخبر، فقال فرعون: إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده ويفيض عليهم معروفه ولا يرغب فيما في أيديهم، ونحن أحق بمن يفعل هذا بعبيده، فاردد على أهل كل قرية ما أخذته منهم، ففعل هامان ذلك. وليس في خلجان مصر أكثر عطوفاً وعراقيل من خليج سردوس. وأما خليج الفيوم وخليج المنهى فإن الذي حفرهما يوسف بن يعقوب صلى الله عليهما وسلم. اهـ.
قلت: والآن نأتي بما وعدنا بذكره من أخبار من ملك مصر قبل الإسلام، على أنه ليس في شرطنا من هذا الكتاب، وإنما نذكره على سبيل الاختصار لتعلم بذلك أحوال مصر قديماً وحديثاً كما ذكرنا؛ هذا كله ليعلم الناظر فيه أمورها على سبيل الاستطراد إلى أن نذكر ما صنف هذا الكتاب بسببه وهم ملوك مصر، وأول من نذكر منهم عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم نسوق التاريخ من حينئذ على منواله دولاً دولاً، لا نخرج منه إلى غيره إلا ما مست الحاجة إلى ذكره استطراداً، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.