الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على جانبيه فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل؛ فإذا تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته؛ فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب؛ لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم؛ فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى؛ فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هى ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء. الذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقر قاطنيها فيها، ألّا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها، في عمل جسورها وترعها؛ فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال؛ والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.
فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لله درك يا بن العاص! لقد وصفت لي خبراً كأني أشاهده.
وقال المسعودي في تاريخه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بأهل مصر خيراً فإن لهم نسباً وصهراً» أراد بالنسب: هاجر زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وأم ولده إسماعيل. وأراد بالصهر: مارية القبطية أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم التى أهداها له المقوقس اهـ.
ذكر ما ورد في نيل مصر
روى يزيد بن أبي حبيب: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال: إى والذي فلق البحر لموسى
عليه السلام! إني لأجد في كتاب الله عز وجل أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين:
يوحي إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري، فيجري ما كتب الله؛ ثم يوحي إليه بعد ذلك: يا نيل عد حميداً.
وروى ابن يونس من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة» .
وعن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب الأحبار أنه كان يقول: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، وسخر الله له كل نهر من المشرق إلى المغرب، فإذا أراد الله تعالى أن يجري نيل مصر أمر الله كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونًا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله عز وجل أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وقد ورد أن مصر كنانة الله في أرضه.
وعن أبي جنادة الضبىّ: أنه سمع عليا يقول: النيل في الآخرة عسل أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل؛ ودجلة (يعني جيحان) في الآخرة لبن أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل؛ والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل؛ وسيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل.
وقال بعض الحكماء: مصر ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، فإن في شهر أبيب (وهو تموز) ومسرى (وهو آب) وتوت (وهو أيلول) يركبها الماء فيها فترى الدنيا بيضاء
وضياعها على رواب وتلال مثل الكواكب، وقد أحاطت بها المياه من كل وجه؛ وثلاثة أشهر مسكة سوداء، فإن في شهر بابه (وهو تشرين الأول) وهاتور (وهو تشرين الثاني) وكيهك (وهو كانون الأول) ينكشف الماء عنها فتصير أرضها سوداء وفيها تقع الزراعات؛ وثلاثة أشهر زمردة خضراء، فإن في شهر طوبة (وهو كانون الثانى) وأمشير (وهو شباط) وبرمهات (وهو آذار) تلمع ويكثر حشيشها ونباتها، فتصير مصر خضراء كالزمردة؛ وثلاثة أشهر سبيكة حمراء وهو وقت إدراك الزرع وهو شهر برمودة (وهو نيسان) وبشنس (وهو أيار) وبؤونة (وهو حزيران) ، ففي هذه الشهور تبيض الزروع ويتورد العشب فهو مثل السبيكة الذهب.
وقيل: إنه لما ولي عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر أتاه أهلها حين دخل بؤونة من أشهر القبط المذكورة فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا عادة أو سنة لا يجري إلا بها؛ فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان في اثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر (يعني بؤونة) عمدنا إلى جارية بكر من عند أبويها وأرضينا أبويها وأخذناها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل فيجري؛ فقال لهم عمرو ابن العاص: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجري النيل قليلاً ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء؛ فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر بن الخطاب: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.
فلما قدم الكتاب على عمرو بن العاص رضي الله عنه فتح البطاقة فإذا فيها:
«من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر.
أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك» .
فعرّفهم عمرو بكتاب أمير المؤمنين وبالبطافة؛ ثم ألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقيم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة القبيحة عن أهل مصر ببركة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ونظير ذلك أمر قرافة مصر ودفن المسلمين بها. فقد روينا بإسناد عن ابن عبد الحكم حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث بن سعد: سأل المقوقس عمرو ابن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: سله لم أعطاك به ما أعطاك، وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها! فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة؛ فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنا لا نعلم غراس الجنة ألا للمؤمنين، فاقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أول من قبر فيها رجل من المعافر يقال له:
عامر [فقيل عمرت «1» ] .
قلت: والقرافة سميت بطائفة من المعافر يقال لهم القرافة، نزلوا هناك.
*** وقال بعض علماء الهيئة: إن مصر واقعة من المعمورة في قسم الإقليم الثاني والإقليم الثالث، ومعظمها في الثالث.
وقال أبو الصلت: هي مسافة أربعين يوماً طولاً في ثلاثين يوماً عرضاً.
وقال غيره: هي مسافة شهر طولاً في شهر عرضاً. وطولها من الشجرتين اللتين ما بين رفح والعريش إلى مدينة أسوان من صعيد مصر الأعلى؛ وعرضها من آيلة إلى برقة، ويكتنفها جبلان متقاربان من مدينة أسوان المذكورة إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط (يعني إلى مصر) ، ثم يتسع بعد ذلك ما بينهما وينفرج قليلا، ويأخذ الجبل المقطم منهما مشرقاً والآخر مغرباً على وراب متسع من مصر إلى ساحل البحر الرومي، وهناك تنقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أوغلها فى الجنوب وأوغلها في الشمال.
وقال بعض الحكماء: ليس في الدنيا نهر يصب في بحر الروم والصين والهند غير النيل. وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال غير النيل. وليس فى الدنيا نهر يزيد فى أشدّ ما يكون من الحر غير النيل. وليس في الدنيا نهر يزيد وينقص على ترتيبٍ فيهما غير النيل. وليس في الدنيا نهر يزيد إذا نقص مياه الدنيا غير النيل.
وبهذا النيل أشياء لم تكن في غيره من الأنهار، من ذلك: السمكة الرّعّادة التي إذا وضع الشخص يده عليها اضطرب جسمه جميعه حتى يرفع يده عنها، ومنها التمساح ولم يكن في غيره من المياه؛ وفي مصر أعاجيب كثيرة.
وقال الكندي في حق مصر وأعمالها: جبلها مقدس، ونيلها مبارك، وبها الطور حيث كلم الله تعالى نبيه موسى، وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه وبها فلق الله البحر لموسى، وبها ولد موسى وهارون عليهما السلام ويوشع بن نون ودانيال وأرميا ولقمان وعيسى بن مريم، ولدته أمه بأهناس، وبها النخلة التي ذكرها الله تعالى لمريم؛ ولما سار عيسى إلى الشأم وأخذ على سفح المقطم ماشياً، عليه جبة صوف مربوط الوسط بشريط وأمه تمشي خلفه، فالتفت إليها وقال: يا أماه،
هذه مقبرة أمة محمد؛ وكان بمصر إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعقوب ويوسف واثنا عشر سبطاً.
ومن فضائلها: أنها فرضة الدنيا يحمل من خيرها إلى سواحلها؛ وبها ملك يوسف عليه السلام؛ وبها مساجد إبراهيم ويعقوب وموسى ويوسف عليهم السلام؛ وبها البرابي العجيبة والهرمان، وليس على وجه الأرض بناء باليد حجراً على حجر أطول منهما.
وقال أبو الصّلت: طول كل عمود منهما ثلثمائة وسبعة عشر ذراعاً، ولكل أربعة أسطحة ملسات متساويات الأضلاع، طول كل ضلع أربعمائة وسبعون ذراعاً؛ واختلف فيمن بناهما، فقيل: شداد بن عاد «1» ، وقيل: سويرد، وقيل: سويد، بناهما في ستة أشهر وغشاهما بالديباج الملون، وأودعهما الأموال والذخائر والعلوم خوفاً من طوفان يأتي.
وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب: بناهما سويرد بن سلهوق بن سرياق بن ترميل دون بن قدرشان بن هو صال، أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون مدينة الاشمونين. والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوة سحرهم. وهذا يؤيد قول من قال بعدم بناء شداد بن عاد لهما. قال: وسبب بناء الهرمين العظيمين اللذين بمصر أنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة قد رأى سو يرد في منامه كأن الأرض قد انقلبت بأهلها، وكأن الناس قد هربوا على وجوههم، وكأن الكواكب تتساقط ويصدم «2» بعضها بعضاً بأصوات هائلة، فأغمه ذلك ولم يذكره
لأحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم؛ ثم رأى بعد مدة مناماً آخر أزعجه أكثر من الأول، فدخل إلى هيكل الشمس وتضرع ومرغ وجهه على التراب وبكى، فلما أصبح جمع رؤساء الكهنة من جميع أهل مصر، وكانوا مائة وثلاثين كاهناً، فخلا بهم وذكر لهم ما رآه أولاً وآخراً، فأولوه بأمر عظيم يحدث في العالم؛ ثم حكى بعض الكهنة أيضاً: أنه رأى مناماً أعظم من هذا المنام في معناه، ثم أخذوا الارتفاع وأخبروه بالطوفان وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد؛ فقال: انظروا، هل تلحق هذه الآفة بلادنا؟ فقالوا: نعم، فأمر ببناء الأهرام وجعل في داخله الطلسمات والأموال وأجساد ملوكهم، وأمر الكهنة أن يزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء، فزبروا فيها وفي سقوفها وحيطانها جميع العلوم الماضية، وصوروا فيها صور الكواكب وعليها الطلسمات، وجعل طول كل هرم مائة ذراع، بالذراع الملكي (وهو خمسمائة ذراع بذراعنا الآن «1» ) . ولما فرغت كساها الديباج الملون وعمل لهم عيداً حضره أهل ملتهم؛ ثم عمل فى الهرم الغربىّ حجارة صوان ملونة ملئت بالأموال الجمة، والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة، وآلات الحديد الفاخرة، والسلاح الذي لا يصدأ، والزجاج الذي ينطوى ولا ينكسر، وأصناف العقاقير والسموم القاتلة؛ ثم عمل في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب، وما عمله أجداده من أشياء يطول شرحها اهـ.
[ويقال «2» : إنّ هرمس المثلث بالحكمة وهو الذي تسميه العبرانيون خنوخ وهو إدريس عليه السلام استدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان، فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم، وما يخاف عليه الذهاب والدّثور؛ وكل
هرم منها ارتفاعه ثلثمائة ذراع وسبعة عشر ذراعاً، يحيط به أربعة سطوح متساويات الأضلاع، كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعاً، ويرتفع إلى أن يكون سطحه مقدار ستة أذرع في مثلها. ويقال: إنه كان عليه حجر شبه المكبة فرمته الرياح العواصف، وطول الحجر منها خمسة أذرع في سمك ذراعين. ويقال: إن لهما أبوابا مقبية في الأرض، وكل باب من حجر واحد يدور بلولب إذا أطبق لم يعلم أنه باب، يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت، كل بيت على اسم كوكب من الكواكب السبعة، وكلها مقفلة بأقفال حديد؛ وحذاء كل بيت منها صنم من ذهب مجوف إحدى يديه على فيه، وفي جبهته كتابة بالمسند إذا قرئت انفتح فوه، فيوجد فيه مفاتيح ذلك القفل فيفتح بها. والقبط يزعمون أنهما والهرم الصغير قبور ملوكهم وأكابرهم.
ولما ولي المأمون الخلافة وورد مصر أمر بفتح واحد منها ففتح بعد طويل، واتفق لسعادته أنه وقع النقب على مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب وهو زلاقة ضيقة من الحجر الصوان المانع الذي لا يعمل فيه الحديد بين حاجزين ملتصقين بالحائط، قد نقر في الزلاقة حفر يتمسك السالك بتلك الحفر ويستعين بها على المشي في الزلاقة لئلا يزلق، وأسفل الزلاقة بئر عظيمة بعيدة القعر؛ ويقال: إن أسفل البئر أبواب يدخل منها إلى مواضع كثيرة وبيوت ومخادع وعجائب، وانتهت بهم الزلاقة إلى موضع مربع في وسطه حوض من حجر مغطى، فلما كشف عنه غطاؤه لم يوجد فيه إلا رمة بالية، فأمر المأمون بالكف عما سواه. وهذا الموضع يدخله الناس إلى وقتنا هذا. ويقال: إن المأمون أنفق على النقب جملة اختلف المؤرخون في كميتها.
فلما انتهى به النقب إلى الموضع المربع المذكور وجد فيه جاماً من زمرد مغطى، فكشف فوجد فيه ذلك المقدار الذي أنفقه من غير زيادة على ذلك- واستمر ذلك
إلجام في ذخائر الخلفاء إلى وقعة هولاكو ببغداد- فقال: الحمد لله الذي رد علينا ما أنفقناه] .
وقيل: إن الأمير أحمد بن طولون سأل بعض علماء الأقباط المعمرين ممن رأى الرابع عشر من ولد ولده عن الأهرام؛ فقال: إنها قبور الملوك، كان الملك منهم إذا مات وضع في حوض حجارة يسمّى الجرون، ثم يبنى عليه الهرم، ثم يقنطر عليه البنيان والقباب، ثم يرفعون البناء على هذا المقدار الذي ترونه ويجعل باب الهرم تحت الهرم، ثم يجعل له طريق في الأرض بعقد أزج، فيكون طول الأزج تحت الأرض مائة ذراع أو أكثر، ولكل هرم من هذه الأهرام باب مدخله على ما وصفت؛ فقيل له: كيف بنيت هذه الأهرام المملسه، وعلى أي شيء كانوا يصعدون ويبنون، وعلى أي شيء كانوا يضعون الآلات ويحملون الحجارة العظيمة التي لا يقدر أهل زماننا هذا على أن يحركوا الحجر الواحد إلا بجهد؟ فقال: كان القوم يبنون الهرم مدرجا فإذا فرغوا منه نحتوه من فوق إلى أسفل، قلت: وهذا أصعب من الأول، قال:
فكانت هذه حيلتهم، وكانوا مع هذا لهم قدرة وصبر وطاعة لملوكهم ديانة؛ فقيل له:
ما بال هذه الكتابة التي على الأهرام والبرابي لا تقرأ؟ قال: ذهب الحكماء الذين كان هذا قلمهم «1» ، وتداول أرض مصر الأمم، فغلب على أهلها القلم الرومي كأشكال أحرف القبط والروم؛ فالقبط تقرؤه على حسب تعارفها إياه وخلطها لأحرف الروم بأحرفها على حسب ما ولدوا من الكتابة بين الرومي والقبطي الأول، فذهب عنهم كتابة آبائهم السالفة وصاروا لا يعرفونها، وهي هذه الكتابة التي على الأهرام وغيرها. انتهى أمر الهرم.
[و «1» قد نظم عمارة اليمنىّ فيهما فقال:
خليلي ما تحت السماء بنية
…
تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه وكل ما
…
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها
…
ولم يتنزه في المراد بها فكري
وقال سعد الدين بن جبارة فى المعنى:
لله أي غريبة وعجيبةٍ
…
في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها
…
ونضت عن الإبداع كل نقاب
فكأنما هي كالخيام مقامة
…
من غير ما عمدٍ ولا أطناب
وبالقرب من الأهرام صنم على صورة إنسان تسميه العامة «أبا الهول» لعظمه، والقبط يزعمون أنه طلسم للرمل الذي هناك لئلا يغلب على أرض الجيزة] .
وأما السحرة الذين كانوا بمصر في زمان فرعون فكانوا، كما ذكر يزيد بن أبي حبيب، اثني عشر ساحراً رؤساء، وتحت يد كل ساحر منهم عشرون عريفاً، تحت يد كل عريف منهم ألف من السحرة؛ فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء والعرفاء.
وعن محمد بن المنكدر: كان السحرة ثمانين ألفاً، فلما عاينوا ما عاينوا أيقنوا أن ذلك من السماء وأن السحر لا يقوم أمر الله، فخر الرؤساء الاثنا عشر عند ذلك سجدا، فاتبعهم العرفاء واتبع العرفاء من بقي؛ قالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، وكانوا من أصحاب موسى ولم يفتتن أحد منهم مع من افتتن من بني إسرائيل فى عبادة العجل.
وأما ما بمصر من الأعاجيب والمباني- فبها عمود مدينة عين شمس الذي تسميه العامة «مسلة فرعون» . وبها «صدع أبي قير» ، وهو موضع في الجبل يجتمع إليه في يوم مخصوص في السنة جميع جنس الطير، وبالجبل طاقة يدخل فيها كل طير يأتي إليه ثم يخرج من وقته حتى ينتهي إلى آخر الطير فتقبض عليه ويموت فيها.
وبها «مجمع البحرين» وهو البرزخ، وهما بحر الروم والصين، والحاجز بينهما مسيرة ليلة واحدة ما بين القلزم والفرما. وبها ما ليس في غيرها، وهو حيوان السقنقور والنمس ولولاه أكلت الثعابين أهلها؛ وهو كقنافذ سجستان لأهلها. وبها «دهن البلسان» ، وليس ينبت عرقه إلا بمصر خاصة. وبها «معدن الذهب والزمرد» ، وليس في الدنيا معدن زمرد سواه. وبها «معدن النفط والشب والبرام والرخام» . وبها «الأفيون» ، وهو عصارة الخشخاش؛ وقيل: بها سائر المعادن؛ وبها «الأبنوس» . وبها «حجر السّنباذج» الذي بقطع به سائر الأحجار؛ وأشياء غير ذلك سكتنا عنها خوف الإطالة.
*** وأما مصر تلك الأيام فكان مبانيها وأماكنها في غير مصر الآن. وموضع مصر قديماً هي البقعة الآن الخراب عند حدرة ابن قميحة والكيمان التي عند قبر القاضي بكار إلى المشهد النفيسي.
وأما قطائع ابن طولون فيأتي ذكرها في ترجمته وبيان أماكنها. قال الشريف النسابة الثقة محمد بن أسعد الجوّانىّ فى كتابه المسمى «بالنّقط لمعجم ما أشكل من الخطط» : سمعت الأمير تأييد الدولة تميم بن محمد المعروف بالصمصام يقول:
في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة حدثني القاضي أبو الحسن علي بن الحسين الخلعي «1» عن
القاضي القضاعي «2» أبي عبد الله أنه قال: كان في مصر من المساجد ستة وثلاثون ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع مسلوك، وألف ومائة وسبعون حماما؛ وأنّ أبا الحسن ابن حمزة الحسني ذكر أنه عرض له دخول حمام سالم الذي عند درب سالم في أول القرافة، يعني حمام جنادة بن عيسى المعافري الذي عند مصبغة الحفارين المعروفة بفسقية ابن طولون- قلت: وفسقية ابن طولون هي عند المقبرة الكبيرة على يسرة المتوجه إلى القرافة بالقرب من قبر القاضى بكّارا هـ- قال: وإنه ما وصل إليه إلا بعد عناء من الزحام، وإنه كانت قبالة الحمام في كل يوم جمعة خمسمائة درهم. قلت: وكانت الخمسمائة درهم يوم ذاك نحو اثنين وأربعين دينارا إلا ثلثاً، لأن الدينار كان صرفه يوم ذاك اثني عشر درهماً. انتهى كلام الشريف.
قلت: وذهبت تلك الأماكن بأجمعها عند خراب قطائع ابن طولون لمّا أخر بها محمد بن سليمان الكاتب، لا سيما لما بنيت القاهرة فى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، على ما يأتي ذكر ذلك في ترجمة جوهر القائد.
*** وأما ظاهر القاهرة من جهاتها الأربع فقد تجدد ذلك كله في الدولة التركية، ومعظمه في دولة ابن قلاوون محمد، على ما يأتي بيان ذلك في ترجمته، لأننا نذكر كل مكان تجدد في أيام سلطانه كما شرطناه في أول هذا الكتاب. اهـ.
*** وأما محاسن مصر فكثيرة: من ذلك ما قاله الشيخ الإمام الفقيه أبو محمد الحسن ابن إبراهيم بن زولاق: إن من محاسن مصر اعتدال هوائها في حرها وبردها؛ وإن مزاج هوائها لا يقطع أحدا عن التصرف كما يقطع حر بغداد أهلها عن التصرف في معايشهم، ويخلو أكثر الطرقات بها نهاراً، وكذلك بردها، وإن برد مصر ربيع وحرها قيظ. وقدم رجل من بغداد إلى مصر فقيل له: ما أقدمك؟ فقال: فررت من كثرة الصياح في كل ليلة: «يا غافلين الصلاة» لاختفائهم من الحر والبرد، فإن حر بغداد وبردها يقطعان أهلها عن التصرف حتى إنهم يكمنون في بطن الأرض من شدة الحر في الصيف، وتطوف الحراس في بعض المواضع نهاراً لاختفاء الناس في بطون الأرض من شدة الحر. انتهى كلام ابن زولاق.
قلت: وأما برد الشمال والروم فلا حاجة لذكره لعظم البرد وكثرة الثلوج والأمطار وغير ذلك.
قال ابن زولاق أيضاً: ومن ذلك الأقوات والميرة التي لا قوام لأحد في بلد إلا بها، فإن مصر تمير أهلها والساكنين بها وبأعمالها، وتمير الحرمين الشريفين والوافدين إليها من الأقطار، وما تجد بلداً إلا وتصل إليها ميرة مصر؛ وبغداد لا تمير أهلها فضلاً عن غيرهم لأن طعامها وأقوات ساكنيها من الموصل وأعماله والفرات وأعماله وديار مضر وربيعة.
وأما بغداد فإنها تميز نفسها أربعة أشهر، وتميرها الموصل أربعة أشهر، وتميرها واسط أربعة أشهر؛ وكذلك البصرة أيضاً لا تمير نفسها، وإنما تميرها واسط والأهواز؛ ولما حل الغلاء ببغداد نزح عنها أهلها وأثر فيها إلى اليوم، وكان بمصر
غلاء في سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وغلاء في سنة أربع عشرة وثلاثمائة، وغلاء في سنة عشرين وثلاثمائة، وغلاء في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وغلاء في سنه ست وسبع وثمان وخمسين وثلثمائة، فما أثر ذلك فيها.
قلت: هذا، وما وصل القائل إلى غلاء سني المستنصر بالديار المصرية من سنة ست وخمسين إلى سنة خمس وستين وخمسمائة التي شبهت بأيام يوسف عليه السلام، ولم يقع بمصر غلاء مثله قبله ولا بعده، وبعد ذلك تراجع أمر مصر فى مدّة يسيرة وعادت إلى ما كانت عليه أولاً. يأتي ذكر هذا الغلاء وغيره في ترجمة الخليفة المعز العبيدي في هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذا القياس الذي ذكرناه بين مصر وبغداد إنما كان تلك الأيام التي كان بها يومئذ عظماء خلفاء بني العباس، وكانت مصر تلك الأيام يليها عامل من قبل أمير من أمراء الخلفاء؛ وأما يومنا هذا فلا تقاس مصر بالعراق جميعه بل تزيد محاسنها على جميع أقطار الأرض، ولولا خشية الإطالة لبينا ذلك، ولكن فيما ذكرناه من محاسن مصر وما اشتملت عليه من الطرائف كفاية عن الإطناب فيها.
*** وأما خراج مصر قديماً فقيل: إن كيقاوس أحد ملوك القبط الأول جبى خراجها فجاء مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار، وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار، وجباه عمرو بن العاص رضي الله عنه في الإسلام اثني عشر ألف ألف دينار، ثم رذل «1» إلى أن جباه أحمد بن طولون في سنة ستين ومائتين أربعة آلاف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار مع ما يضاف إليه من ضياع الأمراء، ثم جباه جوهر القائد خادم المعز العبيدي ثلاثة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار فى سنة ستين وثلثمائة.
وسبب نزول خراج مصر أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في حفر ترعها وإتقان جسورها، وإزالة ما هو شاغل للأرض عن الزراعة كالقصب والحلفاء والقضاب وغير ذلك.
وحكى عبد الله بن لهيعة: أن المرتبين لذلك كانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل: سبعون ألفاً بصعيد مصر، وخمسون ألفاً بالوجه البحري.
وحكى ابن زولاق: أن أحمد بن المدبر لما ولي خراج مصر كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها، فقال: والله لو عمرها السلطان لوفت له بخراج الدنيا.
وقيل: إنها مسحت في أيام هشام بن عبد الملك فكان ما يركبه الماء الغامر والعامر مائة ألف ألف فدان، والفدان أربعمائة قصبة، والقصبة عشرة أذرع.
وقيل: إن أحمد بن المدبر المذكور اعتبر ما يصلح للزراعة بمصر فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان، والباقي مستبحر وتلف من قلة الزراعة، واعتبر أيضا مدة الحرث فوجدها ستين يوماً؛ والحراث يحرث خمسين «1» فدانا، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث، اهـ.
قلت: هذا خلاف ما رئي من الجزائر في الإسلام مثل جزيرة بني نصر وجزيرة الذهب وغيرهما قبلي وبحري؛ وأيضا خلاف إقليم البحيرة، والبحيرة كان أصلها كرماً لامرأة المقوقس، وكانت تأخذ خراجها الخمر بفريضة عليهم، فكثر الخمر عليها فقالت: لا حاجة لي بالخمر، أعطوني دنانير، فلم تجدها معهم، فأرسلت على الكرم الماء فغرقتها، فصارت بحيرة يصاد بها السمك حتى استخرجها بنو العباس،